[align=justify]قال فتاح حوتب منذ خمسة آلاف عام: "انظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس؛ إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة"[1].
- تمهيــــــــــــــــــــــــــــــــــــد:
لما تيقنتُ أن أساتيذي قد رفعوا أقلامهم وجفّت صحائفهم عكفتُ على دراسة ما تفضلوا به ثم صنّفته وبوَّبته، فوجدت أن قسماً من ردودهم قد تناول البحثَ بالنقد من حيث الشكل، وقسماً آخر غاص لنقد مضمونه. ورأيت أنه لا بدَّ لي من استكمال البحث بطرح المزيد من الأدلة والشواهد ودفع الحُجَّة بالحُجَّة.. ومازلنا ندندن حول إشراقات (الأسماء) التي ألهمت ألوف الأقلام حتى يوم الناس هذا، وما فتئ حديثنا يدور حول نقاط بعينها:
- طريقة تحويل (الإصاتة) إلى (رمز/اسم) بفضل ما زوِّد به آدم من جهاز عصبي مركزي= تعدُّ قفزة نوعية في طرق الاتصال لم تألفها الملائكة لأنها غير مسبوقة في عالم الوجود قبل آدم.
- إلهام الله آدم وتمكينه من الترميز للأشياء بعناصر صوتية بسيطة يمكن إعادة جمعها وتوصيلها بحيث تولِّد ما يسمى (باللانهائية المعجمية)[2]، وأنه تعالى لم يلقن آدم الأسماء بعينها كما قال كثير من الأقدمين.
- الحديث حول الإصاتة التي حولها الإنسان إلى (رمز/علامة/اسم) وبأنها كانت الطريق إلى بناء منظومة اللغة البشرية التي مكَّنته من التواصل والتفكير والتحليل والتركيب والتمييز، ما أهَّله لتحمُّل تبعات التكليف الذي يُشترط فيه الاستطاعة والعقل. و التأكيد على أن الحضارة البشرية واستعمار الأرض ما كانا ليقوما على ساق بغياب منظومة اللغة البشرية.
- الحديث عن المتن الحكائي والمبنى الحكائي في القرآن.
- نقـــــــــــــد البحـــــــــــــث:
أ- من حيث الشـــــــــــــــكل:
1- المفردات والتراكيب والمصطلحات:
اعترض بعض الأساتذة على استخدامي بعض الألفاظ والتراكيب والمصطلحات اللغوية، فتداولت البحث مع أهل الاختصاص فما وجدنا فيه ما يؤخذ عليّ من تنطُّع أو استخدامٍ لحوشيّ ألفاظ، وأضافوا بأن البحث تخصصيّ ولغتُه لابد أن تجاري رتبة المخاطَبين. وأما استخدامي لمصطلح (التفكيك) في عبارتي: (تفكيك الحوارات المذكورة في القرآن)، فإنها لا تمت بصلة لمنهج (دريدا) التفكيكي وإنما هي من عكاكيز الكلام التي يتكئ المرء عليها لإيصال الفكرة.
2- أسلــــــــــــــوب التأليــــــــــــــف:
الناس مختلفون في ذائقة الأدب، فقد يروق للمرء ما لا يروق لغيره في كثير من الأحايين، والأمر في هذا لا يخرج عن موضوع الذائقة الأدبية لكنه لا يدخل في منهج النقد الأدبي حيث لا يُعتدُّ بقول(يعجبني) أو(لا يروق لي) دون بيِّنة ولا دليل. وقد يكون أسلوب الشيخ الطنطاوي- عليه رحمات من الله- الشيّق الماتع موسوماً بالسهل الممتنع =يسوغه جمهور عريض من القرّاء، إلا أن ذلك لا يقدح بخيار من انتمى إلى مدرسة العلاّمة محمود شاكر رحمه الله.
وأما ما رآه البعض من ضرورة استخدامي لغة (ملتون إريكسون) والعمل على توظيفها، فإني أجد البحث في البرمجة العصبية وتطبيقاتها يندُّ عما نحن بصدده.
3- تبويب الهوامش وثبت المراجع:
أُخِذَ عليّ عدم تبويب الهوامش والمصادر، والمراجع، وهذا أمرٌ لا يَدَ لي فيه – رغم الاختلاف حول ضرورة الالتزام به على النسق المشار إليه- ولا مفرَّ منه بسبب طريقة الحاسوب الآلية في تنسيق الهوامش.
ب- من حيث المضـــــــــمون:
1- نقد موضوع البحث:
يسألني البعض عن أهمية طرح مثل هذا الموضوع في خضمِّ ما نحن فيه، وعن الفائدة المرجوّة منه لخير البشرية، فأهمس في آذانهم وأنا أتجرَّع غُصَصَ ما يتجرعون: إن البحث العلمي لا يتوقف عندما تهطل السماء حجارة من سجّيل ويصبح السلاح حِرْفة من لا حرفة له. وقد تُسهم وعُورة البحث وإغرابه في حَجْب النافع من مقاصده عن بعض من قرأه، لكن رهاني يبقى على ما توقّد في أذهانهم من أسئلة، وما فُتح في عقولهم من نوافذ.
2- الرد على نقد فكرة القفزة النوعية في طرق التواصل:
ذهب البعض للتشكيك في قولي إن (جلّ) المتكلمين من السلف لم يتنبهوا لخطورة ما عبرت عنه بالقفزة النوعية في الوجود بتعليم آدم الأسماء، كما طالبوني باستبيان يؤكد زعمي. وأجيب بأن قولهم مردودٌ بحجة أن الإتيان بالدليل ليس بلازم إلا بعد المَنْع (الإنكار) في قواعد آداب البحث، والحقُّ أن يأتوني بدليل يشهدُ لهم ببطلان ما أدليت به. وقد ذكرت في الهامش[3] طائفة من كتب الأولين التي جعلتني أركن لهذا الاستنتاج فليرجع إليها من شاء التحقق أو فليأتني ببيِّنة تثبت عكس مقولتي. راجياً أن يكون في ذلك بُلْغَةٌ للمعترض ورفعٌ لتهمة المبالغة والتعميم فيما سطَّرت.
وقد بدا لي، من خلال ما قرأت من ردود، أن ما سقتُه من شواهد حول فرادة (القفزة النوعية) التي استحدثها الله في طرق تواصل الكائنات والتي خوَّلت آدم إطلاق (الأسماء) على أعيانها لم يوفِّ الفكرة حقها، وسأعمد للإتيان بمزيد من الأمثلة لتوضيحها.
أ- الحوار واللغة البشرية:
لعل وجود الإشارات الواضحة في القرآن لحوارات وخطابات غير إنسيّة: (حوارات وخطابات الملائكة، حوارات وخطابات إبليس، خطاب النملة، حوار الهدهد) = قادت جلَّ الباحثين اللغويين والمفسرين إلى القول بأن (لغة) ما كانت سُداة ذلك الحوار والخطاب، فخَلَصوا إلى أن اللغة البشرية لها ما يماثلها وإن اختلفت.
ورداً على هذا الزعم أقول بأن قياس الحوار والخطاب البشري مع الحوار والخطاب غير البشري قياس فاسد كونه قياس مع الفارق[4]. فالحوار والخطاب المنقولان لنا عبر التنزيل الحكيم بلسان عربي مبين هما ترجمة لأَصْلَيْن (غير إنسيين) دارا بطريقة تواصل(غير إنسيّة) لا نعرفها ولا علاقة لها ألبتة باشتراطات وآليات منظومة اللغة البشرية التي نتفاهم بها ونتناقل المعلومات عبرها. واستخدامنا لكلمة(لغة) في الإشارة لأنظمة التواصل عند الأحياء غير الإنسية (العجماوات، الجان، الملائكة) يظل استخداماً تُعوزه الدقَّة العلميَّة فيما لو قُصدَ منه لغة تحوِّل الإصاتة إلى رمز/اسم؛ الأمر الذي تتفرد به اللغة البشرية.
ب- الإصاتة والإشارة الرمزية عند العجماوات، ومنظومة اللغة عند الإنسان:
لنا في (منطق) النحل المستخدم للتواصل خير دليل على ما أذهب إليه في بيان الفرق بين منظومة اللغة عند البشر و(منطق) العجماوات؛ فالنحلة تقوم بنقل معلومات دقيقة عبر حركات رقص دائري أمام جمهور من أقرانها، تحدِّد بها الجهة والمكان. كما أن الرئيسيَّات معروفة بأنها تُحْدِثُ نداءات صوتية، وهذه النداءات تُولَّد من خلال دائرة في جذع الدماغ والجهاز الجوفي[5]. وقد ثبت علمياً أن القرود من نوع الشمبانزي يستخدمون منطقة (بروكا - Broca) للتحدث فيما بينهم [6]، وتَسمع بعضها من خلال استخدام هذه المنطقة من الدماغ، تماماً كالتي عند بني البشر[7] . وتعتبر دراسة التواصل في الغابة بين القرود من نوع (فرفت - Vervet) من أكثر الدراسات الواسعة النطاق[8]، فهذه القردة تستطيع استخدام عشرة أنواع مختلفة من (النطق)، ويُستخدم بعضها لتحذير أفراد القبيلة حين اقتراب حيوانات مفترسة "كنداء الفهد"، و"نداء الثعبان" و "نداء الصقر"؛ كلُّ نداء يحَفِّز القرود التي تسمعه لاتخاذ إستراتيجية دفاعية مختلفة، وقام العلماء بتحديد ردَّة فعل القرود باستخدام مكبرات الصوت العالية والأصوات المسجلة مسبقاً.
إذن فامتلاك العجماوات خصيصة الإصاتة واستثمارها في التواصل لم يخوِّلها إنتاج منظومة لغة [9]، ولا يعدو منطقها عن كونه وسيلة تفاهم فيما بينها. وهذا ما عزَّز لدي استخدام مصطلح (منطق) القرآني عوضاً عن (لغة) لبيان هذا الفارق الشاسع بين تواصل الحيوانات ولغة ابن آدم التي هي نظام مكتسب متجانس "من العلامات قوامه اتحاد المعنى بالمبنى"[10] وفق تعريف (دو سوسور). وقد تستجيب الحيوانات المدجَّنة لبعض المفردات وتأتمر بجمل معينة، بيد أنها تعجز عن توليد الأسماء والجمل من تلقاء نفسها؛ أي أنها تفتقد لما عبر عنه (تشومسكي) بإنتاجية اللغة (productivity) [11]. ولعل ما أوردتُه من شواهد من عالم العجماوات يساهم في حسم التداخل بين اللغة والنطق، وتحديد الخطوط الحمراء التي تفصل بينهما وعلى رأسها تفرد اللغة البشرية بإنتاج آليات التفكير المتمثلة بالتحليل والتركيب والترميز. وهذا يقودنا إلى استبعاد ما نسميه تجاوزاً لغة؛ كلغة الإشارة عند الصم والبُكم ولغة الإشارة التي تعلمَتْها الشامبنزي[12](واشو - Wshoe )، ولغة السيمافور والمورس والسيمبيان[13]، وينفي مقولة أن كل لغة نطق.
ولا أميل إلى القول بأن العناصر الصوتية للغة البشرية تحمل في داخلها قوة روحية كامنة، فالأسماء/ العلامات المتولدة منها اعتباطية ولا علَّة منطقية في اختيار جلّها، والقوة الروحية تقتضي القَصْد وتأبى العَبَثيّة، ويؤكد اعتباطية العلامة المؤلفة من عناصر صوتية ما قاله الجرجاني:" فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ربض) مكان (ضرب)، لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد"[14]. وقد "كان اللغويون قبل (دو سوسور) ينظرون إلى اللغة على أنها مجموعة من الأصوات(عناصر مادية يمكن سماعها، ونطقها، وتتسم بخصائص فيزيائية مميزة)؛ أي أنها جواهر، وليست أعراضاً. لكن (دو سوسور) ردَّ على من يعرِّف اللغة بأنها أصوات دون ذكر خصيصة النظام بقوله: "إن أخطاء مصطلحاتنا، وكل طرائقنا في تمييز أمور اللغة المعينة إنما تصدر عن افتراض مقصود مضمونه أن هناك جوهراً في الظاهرة اللغوية".[15]،[16]،
وقد استوقفت الحروف المقطَّعة في بعض أوائل سور الذكر الحكيم[17] - والتي تكتنفها أسرارٌ وأنوارٌ- كلَّ المفسرين وفي مقدمهم الإمام القشيري(630-711 هـ ) [18] الذي نقل لنا لطائف وإشارات رمزية حَوَتْها، لكنها لا تستند بمجموعها إلى أصل مُلزِم، وتبقى ضمن إطار التفسير الإشاري.
كما ذهب البعض إلى أن ذكر تلك الحروف المقطعة في أوائل السور دلالة على جلالها وقدسيتها لأن بعضها جاء بصيغة القَسَم، ولا يُقسم الله جلّ شأنه إلا بعظيم. وأنا لا أقول إلا بما قالوا، لكني أضيف بأن لا غرابة في أن يقسم الله جلَّ وعزَّ بالحرف الذي يشكل اللبنة الأولى في بناء اللغة التي كانت مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان البيولوجي والفكري على بقية ما خلق الله، وقَمينٌ أن يُقسم الله به منبِّهاً عقولاً أعماها الشرك عن رؤية الحقيقة الدامغة بأن إعجاز التنزيل قام على مثل هذه الحروف التي تتألف منها لغة القوم، فيتحداهم بالإتيان بمثله إن كانوا صادقين. لكنَّ تلك الحروفَ مَثَلهاِ كمثل تلك التي رُكِّبت منها كلمات القرآن والتي تكتسي قداسة المتكلم بها طالما أنها في سياق الآية أو ضمن صفحات الكتاب المنزل، وتُنْتَزَعُ عنها الصفة العلويَّة بمجرد استخدامها خارج السياق القرآني.
3- آدم والأسمــــاء - اللغة البشــــرية:
قال ابن منظور في (لسان العرب) [19]: " وقال أبو العباس[20]: الِاسْمُ رَسْمٌ وسِمَةٌ[علامة] تُوضَعُ على الشَيْءِ تُعْرَفُ به". ونقل ابن فارس في كتابه (الصاحبي) عن الكسائي(ت.189هـ) أن "الاسم ما وُصِف"[21]. ووجدت أن الزجَّاج (ت.311هـ)[22] كان رائداً في التنبيه للمقاطع الصوتية التي تؤلف الاسم حين سئل عن حدِّه فقال بأنه: "صوتٌ مُقَطَّعٌ مفهومٌ دالّ على معنى، غير دالّ على زمان ولا مكان"[23]، ووافقه ابن مالك (600-672هـ) بالتأكيد على دلالة الاسم على معنىً مفهوم في ألفيَّته:" كلامنا لفظٌ مفيدٌ..".[24]
وبِضَمِّ التعريفات السابقة إلى بعضها نخلص إلى أن الاسم (علامة) تتألف من مقاطع صوتية تدلُّ على معنى مفيد، والعلامة اعتباطية وفق ما نقلناه عن الجرجاني. وهذا يشكِّل المدخل الصحيح لتعريف اللغويين المسلمين والذي لا أجده مخالفاً بالمجمل لما أتى به اللغويون الغربيون، ويصلح كمدخل لنا في فهم سر عجز الملائكة إنباء ربها بأسماء الأعيان المعروضة عليها وليس عجزهم عن إدراكها، إذ إن عجزهم كعجز (حي بن يقظان)[25] عن تسمية أفراد ما حوله رغم إدراكه إيَّاها. وهكذا فإن قول الملائكة:" لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا "[26] هو إقرار بجهلهم لا بأعيان الأشياء والتعرف عليها، فهم يعرفونها ويميزونها كمعرفة العجماوات وتمييزها لما تراه= بل بإطلاق أسماء عليها، وهي الميزة الفريدة التي اختص بها الله بني البشر. ولا نستطيع نفي علم الملائكة (بكل) ما عُرِض عليها وإلا لأصبحت غير مدركة (كلَّ) ما عرض عليها وغير مميزة له وتعيش في عزلة تامة عما حولها. لكنها في واقع الأمر تفتقر إلى قدرة آدم على(تعيين) الأعيان عن طريق إطلاق رمز/اسم عليها. وفارقٌ بين تمييز الأشياء والتعرف عليها والتعامل معها(الأمر التي تشاركنا به كل المخلوقات الفاعلة) من ناحية، وبين الترميز لشيء بعلامة(sign) تستخدم في التواصل من ناحية أخرى، وبمجرد حصول آدم على هذه الخصيصة التي مكَّنه الله منها (علَّمه إياها) صار بوسعه تعيين أسماء/ علامات تولد جملاً لانهائية عبَّرَ عنها (تشومسكي) باللانهائية المعجمية. وهذا ما عنيته بالفارق بين علَّمه الأسماء، وأمكنه من تعلمها. وبهذا نفهم كيف أن الله علم آدم الأسماء (كلها) ونتفهّم عجز الملائكة عن الإتيان (برمز) لأعيان ما عُرض عليها رغم تمييزها ومعرفتها لهذه الأعيان.
4- آدم واللغــــــــة والتكليـــــــف:
"العقل و الاستطاعة مناط التكليف": قاعدة جليلة لم يختلف عليها الأصوليون.
وفي مقالي السابق بيَّنتُ أن آدم قد حاز مُكْنَة التمييز بين مفهوم (الحق) و(الباطل) بعد تعلّمه الأسماء – حسب السياق القرآني- فكانت الخطوة التمهيدية لتلقيه (المنهج). وبعد استكمال عدَّته من العقل المميِّز واللغة التي سيستوعب من خلالها الهدي الإلهي أُنزل إلى الأرض لممارسة دور الخلافة: " قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"[27]. ولهذا سقط التكليف عمن لم يصله مضمونه:" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"[28]؛ كالأبكم الذي لا يسمع ولا يُدرك مضامينه واستحقاقاته. وقد سبقت آدم إلى الأرض- وفق معطيات علم الأحياء(biology)- كل الكائنات الحيّة بدءاً من وحيدات الخلية إلى الديناصور والقردة، فكانوا يُفسدون في الأرض ولا يعمرونها، وكانت الملائكة تعلم بهم، فظنَّت أن آدم سيكون على شاكلتهم فقالت: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"[29]، وكان ردّ علام الغيوب " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"[29]. إن افتقار هذه الكائنات الحيَّة التي سكنت الأرض إلى جانب الإنسان للتفكير المتطور الذي يُنتج الحضارة(الخلافة) والمدنية(العمران) جعلها سجينة غرائزها، وحال بينها وبين التكليف. حتى إن تسبيحها كتسبيح الكافر؛ تسبح خلاياه وأعضاؤه الحيوية بحمد الله وتسير على سننه لا تحيد. أما ما قيل عن حشر هذه الحيوانات والفصل[القضاء] بينها يوم القيامة[30] فإني أجد بأن رأي المعتزلة فيه-إذا كان واقعاً- أقرب ما يكون إلى ما تطمئن به نفسي؛ فهم يذهبون إلى أن جوهر محاسبتها[بالاقتصاص ممن سبب أذيَّة لغيره من الحيوانات] هو إيصال الأعواضِ إليها. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سَبْقِ جِنِايَةِ لا يحْسُنُ إلا للعِوَض، ولما كان إيصالُ العِوَض إليها واجباً، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها. وباستبدال مصطلح (الواجب على الله) بمصطلح (رحمة الله) نكون قد تجاوزنا مخالفة المعتزلة لمذهب الأشاعرة، ولي في ابن عباس حَبْرِ الأمة ما يَعْضُدُ الرأي[31].
وأما الجان فهم كائنات نؤمن بها ولا ندرك كينونتها، ولا نعلم عنها إلا القليل مما أخبرنا الله به. وهي من إبداعات الله في الخلق التي لا تتوقف " وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"[32]، وقد حجبها الله عنا فلا فائدة ترجى من الغوص في أسرارها ومنهج تكليفها وعقد المقاربة بين تكليفها وتكليف آدم.
5- المتن الحكائي والمبنى الحكائي في القرآن:
نشرت مقالاً لي على صفحتي في الفيسبوك بتاريخ 2013/8/1 مقالاً تحت عنوان:" إعجاز القرآن في تغييب عنصري الزمان والمكان"= كنت قد نشرته على بعض المواقع الإلكترونية بتاريخ 2009/8/8. ولقد أَسَرَتني فكرةُ انتفاء الزمان والمكان في القرآن لسنين عديدة، وصدَّعت رأسي الذي لم يألف في أخبار ما صحَّ من التاريخ إلا الدقَّة التي يتوخاها الرواة في نقل المادة التاريخية؛ مَتْناً وزماناً ومكاناً. إلى أن هيّأ الله لي كتابة هذا البحث بفضله ومِنّته، فتحول الصداع إلى راحة عقل، وفُتح ما أوصد من أبواب الفهم لأسرار إعجاز الخالق الحكيم في كتابه الكريم.
و ما كتبتُه عن المتن الحكائي والمبنى الحكائي يدور في فلك ما تناولتُه في مقالي السابق ولا يغادره. فالمبنى الحكائي في القرآن لا يهتم بالقرائن الزمنية والمنطقية للأحداث قدر اهتمامه بكيفية عرض هذه الأحداث وظهورها في النص. فأين الزمن الذي يُدرك، وأين التاريخ الذي يمكن للعقل أن يستوعبه؟ إننا حين نقرأ النص القرآني نجد بأنه انتزع عنصر الزمن بالكليّة، وغادر بأرواحنا إلى الماضي السحيق تارة، وطار بها إلى نهايات الوجود البشري تارة أخرى. إنه معراج الأرواح، وهل يَضير الروح في تسفارها إغفال الزمن؟ إنه- أي القرآن الكريم- حين يتحدث عن ساعة غير ساعتنا، ويوم غير يومنا، وسنة غير مطابقة لما نعدّ من السنين= يكون قد تجاوز إسار الزمن الذي حُبسنا فيه: " وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"[33]، " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"[34]، " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"[35]، وحين يتحدث عن المشهد الذي يضم آدم والملائكة فإنه لا يشغلك بعمر آدم وكم من الوقت قضى في جنة الخلد حتى صلب عوده، وكم احتاج من الوقت لإتقان اللغة وإجادتها، لا بل يفْجَؤُكَ بهبوطه وسكناه في أرضنا التي نعيش بها وكأنها خاتمة لقصة استغرقت آلافاً من السنين. والأمر أكثر وضوحاً في قصة يوسف، ولولا خشية الإطالة لأتيت على تفاصيل الانتقالات الزمنية المبهرة التي حوتها.
- خاتمــــــــــــــــــــــــة:
إنني "لا أدعي في كل ما كتبت أني بلغت الغاية، وحسبي أني قد حاولت، والعذر إن كنت قد قصرت أو أخطأت أو نسيت". ولعلي خالفت البعض فيما ذهبت إليه، لكن " ليس كل من خالف قائلاً في مقالته فقد نسبه إلى الجهل وذلك أن الصدر الأول اختلفوا في تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً، ثم خلف من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقول وأخذ بعض بقول حسب اجتهادهم وما دلتهم الدلالة عليه" فلنا بهم أسوة...وإنني إذا تأملت هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف، والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غَلْوةِ السِحر. فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحَّة ما وفِّقوا لتقديمه منه، ولطفَ ما أُسعدوا به، وفُرِق لهم عنه..ثم أقول في ضدِّ هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة،. فأقف بين تين الخَلّتين حسيراً، وأكاثرهما فأنكفئ مكثوراً، وإن خطر خاطرٌ فيما بعد، يُعلِّق الكفّ بإحدى الجهتين، ويكفّها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق".[36]
- الهوامــــــــش وثبــــــــــت المراجــــــــــع:
1- ويل ديورانت، قصة الحضارة، ج1 من المجلد1، ص (ح)، ترجمة د.زكي نجيب محمود، طبعة4، جامعة الدول العربية، 1973.
2- مصطلح لعالم الألسنيات (تشومسكي) يعبر عن قدرة الإنسان على توليد جمل لا نهائية باستخدام المفردات المحدودة.
3- وهذا ما وقفت عليه من آراء أحمد بن فارس (ت 395هـ)في كتابه (فقه اللغة)، وعبد الكريم بن هوازن القشيري (375- 465ه) في (التيسير في علم التفسير)، وابن جني (322-392هـ) في (الخصائص)، وعبد القاهر الجرجاني(ت 471هـ) في (دلائل الإعجاز)، وابن الحاجب(570-646هـ) في (المختصر)، وتاج الدين السبكي(727-771هـ) في (رفع الحاجب)، وجلال الدين السيوطي(849-911هـ) في(المزهر في علوم اللغة وأنواعها)، ومما نقله هؤلاء عن أبي الحسن الأشعري(260-324هـ)، وابن فورك(ت 406هـ)، والآمدي(551-631هـ).. وغيرهم. ولعل في هذا ما يشفي غليل الدكتور محمد غسان الجزائري لمعرفة مصادري التي تخولني قول (جلّ)، والحمد لله أني لم أقل (كلّ).
4- القياس مع الفارق هو فيما جرى فيه القياس ولكن أُعِلَّ لوجود قادح وهو عدم مساواة الفرع للأصل المقيس عليه، إذ من شروط القياس وجود علّة الأصل بتمامها في الفرع، كما عبر عن ذلك صاحب (مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود) الشيخ عبد الله العلوي الشنقيطي، (ص39):
وجودُ جامع به مُتَمَّما *** شرطٌ وفي القَطْع إلى القطع انتمى
5- Freeman, Scott; Jon C. Herron., Evolutionary Analysis (4th ed.), Pearson Education, Inc.. (Two thousand and seven), ISBN 0-13-227584-8 pages 789 to 90.
6- Evolve (tv show): Communication.
7-RedOrbit: Primate and Human Language Use Same Brain Regions.
8-S. Carey, Mind Lang. 16, 37 (2001).
9- منظومة اللغة الطبيعية كما عرفها د. محمد محمد يونس علي: " نظام علاميٌّ مميز من بين الأنظمة العلاميّة الأخرى. فهي تختلف عن لغات الحيوانات، ولغات الإشارة الجسمية، ولغة الصم، والبكم، ولغة المرور. وإن كان هناك بعض الخصائص التي تجمع بين اللغة الطبيعية، والأنظمة العلامية الأخرى المذكورة تميزها عن الدلائل الطبيعية (كدلالة الغدران على نزول المطر، ودلالة الرماد على نار سابقة). وتستخدم الأنظمة العلامية لغرض الإبلاغ أي نقل المعلومات، وتستلزم وجود مخاطِب، ومخاطَب، ونظام رمزي يحتاج إلى تفكيك، وتركيب، وسياق تستعمل فيه.
10- F.de Saussure, (Cours de linguistic général ) Paris: Payot, 1968, p. 32.
11- N. Chomsky, (Syntactic Structures ) The Hague: Mouton, 1957, p. 13.
12- الشامبنزي واشو (Washoe chimpanzee) (1965-2007) استطاعت تعلم 350 كلمة من لغة الإشارة الأمريكية ASL وعلمتها لابنها بالتبني لوليس Loulis.
13- لغة السيمافور(semaphore ) لغة يستخدمها الكشافة للتخاطب عن بعد بواسطة الأعلام، ولغة السيمبيان( symbian) هي لغة برمجية، ولغة المورس( morse) شفرة حرفية لإرسال المعلومات تلغرافياً.
14- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص42، تحقيق رضوان وفايز الداية، ، دار قتيبة، دمشق، 1983.
15- F.de Saussure, (Cours de linguistic général)Paris: Payot, 1968, p. 169.
16- د. محمد محمد يونس علي، وصف اللغة العربية دلالياً، ص24، منشورات جامعة الفاتح، طرابلس، 1993.
17- الأحرف المجموعة: ألم، ألمر، ألمص، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، حم، عسق، والأحرف المنفردة: ص، ق، ن.
18- الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري(ت. 465هـ)، لطائف الإشارات، ج1، ص 17، تحقيق حسن عبد الرحمن، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007.
19- محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (630-711 هـ )، لسان العرب، باب السين، مج 4، ج24، ص2109، ط. الكترونية.
20- محمد بن يزيد المُبَرِّد(ت. 286 هـ)، من علماء البصرة في اللغة والنحو.
21- أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، ص48، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.
22- الزجَّاج: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحق، عالم بالعربية والنحو، مات ببغداد سنة 311 للهجرة.
23- أحمد بن فارس، الصاحبي، ص49.
24- ابن الناظم أبي عبد الله بدر الدين محمد بن محمد بن مالك(ت.686 هـ)، شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك، ص5، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م.
25- أسطورة تحكي قصة شخص يدعى حي بن يقظان نشأ في جزيرة وحده، وترمز للإنسان، وعلاقته بالكون والدين، كما تحتوي على العديد من القصص والأساطير الفرعية، أنشأها فلاسفة، واحتوت مضامين فلسفية. أول منشئ لقصة حي بن يقظان هو الفيلسوف ابن سينا، وفعل ذلك أثناء سجنه، ثم أعاد بناءها شهاب الدين السهروردي، وبعدها كتبها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، ثم كانت آخر رواية للقصة من قبل ابن النفيس الذي تنبه إلى بعض المضامين الأصلية الخاصة بابن سينا، والتي لم تكن توافق مذهبه، فأعاد صياغتها لتكون رواية حي بن يقظان عن صالح بن كامل. أشهر مؤلف من بين هؤلاء الأربعة التصقت القصة باسمه هو ابن طفيل. ومن شهرة هذه الرواية الفلسفية، فإن قصصا غربية مثل قصة روبنسون كروزو وطرزان قد استوحيت من هذه القصة. [عن ويكيبيديا]
26- سورة البقرة: الآية (32).
27- سورة البقــــرة: الآية (38).
28- سورة الإسراء: الآية(15).
29- سورة البقـــــرة: الآية (30).
30- قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب عطية الأندلسي(ت.546هـ) في تفسيره، (المحَرَّر الوَجيز) ج٥، ص٤٤١، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2001،في قوله تعالى( وإذا الوحوش حشرت):" وحشر الوحوش: جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع ما هو؟ فقال ابن عباس: (حشرت) بالموت لا تُبعثُ في القيامة، ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقال قتادة وجماعة:(حشرت) للجمع يوم القيامة، ويقتص للجَمَّاء من القَرْنَاء فجعلوا ألفا هذا الحديث حقيقة لا مجازاً مثالاً في العدل. وقال أبي بن كعب:(حشرت) في الدنيا في أول هول يوم القيامة فإنها تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تأنيساً بهم".
31- قال الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، (224-310ه) في تفسيره: جامع البيان في تأويل القرآن، ص241/ 24، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 2000: " القول في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) اختلف أهل التأويل في معنى قوله:( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)، فقال بعضهم: معنى ذلك: ماتت. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن مسلم الطوسي، قال: ثنا عباد بن العوّام، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله:( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: حَشْرُ البهائم: موتها، وحشر كل شيء : الموت، غير الجنّ والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة .حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: أتى عليها أمر الله، قال سفيان، قال أبي، فذكرته لعكرِمة، فقال: قال ابن عباس: حشرها: موتها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، بنحوه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا الوحوش اختلطت. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: ثني أُبيّ بن كعب ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: اختلطت .وقال آخرون: بل معنى ذلك: جُمعت. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) هذه الخلائق موافية يوم القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى حشرت: جمعت، فأميتت لأن المعروف في كلام العرب من معنى الحشر: الجمع، ومنه قول الله: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً يعني: مجموعة. وقوله: فَحَشَرَ فَنَادَى وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأنكر المجهول"أهـ.
32- ســـورة النحـــــــــل: الآية(8).
33- سورة الحـــــــج: الآية(47).
34- سورة السجدة: الآية (5).
35- سورة المعارج: الآية(4).
36- أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص،ج1، ص 47، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية.
[/align]
- تمهيــــــــــــــــــــــــــــــــــــد:
لما تيقنتُ أن أساتيذي قد رفعوا أقلامهم وجفّت صحائفهم عكفتُ على دراسة ما تفضلوا به ثم صنّفته وبوَّبته، فوجدت أن قسماً من ردودهم قد تناول البحثَ بالنقد من حيث الشكل، وقسماً آخر غاص لنقد مضمونه. ورأيت أنه لا بدَّ لي من استكمال البحث بطرح المزيد من الأدلة والشواهد ودفع الحُجَّة بالحُجَّة.. ومازلنا ندندن حول إشراقات (الأسماء) التي ألهمت ألوف الأقلام حتى يوم الناس هذا، وما فتئ حديثنا يدور حول نقاط بعينها:
- طريقة تحويل (الإصاتة) إلى (رمز/اسم) بفضل ما زوِّد به آدم من جهاز عصبي مركزي= تعدُّ قفزة نوعية في طرق الاتصال لم تألفها الملائكة لأنها غير مسبوقة في عالم الوجود قبل آدم.
- إلهام الله آدم وتمكينه من الترميز للأشياء بعناصر صوتية بسيطة يمكن إعادة جمعها وتوصيلها بحيث تولِّد ما يسمى (باللانهائية المعجمية)[2]، وأنه تعالى لم يلقن آدم الأسماء بعينها كما قال كثير من الأقدمين.
- الحديث حول الإصاتة التي حولها الإنسان إلى (رمز/علامة/اسم) وبأنها كانت الطريق إلى بناء منظومة اللغة البشرية التي مكَّنته من التواصل والتفكير والتحليل والتركيب والتمييز، ما أهَّله لتحمُّل تبعات التكليف الذي يُشترط فيه الاستطاعة والعقل. و التأكيد على أن الحضارة البشرية واستعمار الأرض ما كانا ليقوما على ساق بغياب منظومة اللغة البشرية.
- الحديث عن المتن الحكائي والمبنى الحكائي في القرآن.
- نقـــــــــــــد البحـــــــــــــث:
أ- من حيث الشـــــــــــــــكل:
1- المفردات والتراكيب والمصطلحات:
اعترض بعض الأساتذة على استخدامي بعض الألفاظ والتراكيب والمصطلحات اللغوية، فتداولت البحث مع أهل الاختصاص فما وجدنا فيه ما يؤخذ عليّ من تنطُّع أو استخدامٍ لحوشيّ ألفاظ، وأضافوا بأن البحث تخصصيّ ولغتُه لابد أن تجاري رتبة المخاطَبين. وأما استخدامي لمصطلح (التفكيك) في عبارتي: (تفكيك الحوارات المذكورة في القرآن)، فإنها لا تمت بصلة لمنهج (دريدا) التفكيكي وإنما هي من عكاكيز الكلام التي يتكئ المرء عليها لإيصال الفكرة.
2- أسلــــــــــــــوب التأليــــــــــــــف:
الناس مختلفون في ذائقة الأدب، فقد يروق للمرء ما لا يروق لغيره في كثير من الأحايين، والأمر في هذا لا يخرج عن موضوع الذائقة الأدبية لكنه لا يدخل في منهج النقد الأدبي حيث لا يُعتدُّ بقول(يعجبني) أو(لا يروق لي) دون بيِّنة ولا دليل. وقد يكون أسلوب الشيخ الطنطاوي- عليه رحمات من الله- الشيّق الماتع موسوماً بالسهل الممتنع =يسوغه جمهور عريض من القرّاء، إلا أن ذلك لا يقدح بخيار من انتمى إلى مدرسة العلاّمة محمود شاكر رحمه الله.
وأما ما رآه البعض من ضرورة استخدامي لغة (ملتون إريكسون) والعمل على توظيفها، فإني أجد البحث في البرمجة العصبية وتطبيقاتها يندُّ عما نحن بصدده.
3- تبويب الهوامش وثبت المراجع:
أُخِذَ عليّ عدم تبويب الهوامش والمصادر، والمراجع، وهذا أمرٌ لا يَدَ لي فيه – رغم الاختلاف حول ضرورة الالتزام به على النسق المشار إليه- ولا مفرَّ منه بسبب طريقة الحاسوب الآلية في تنسيق الهوامش.
ب- من حيث المضـــــــــمون:
1- نقد موضوع البحث:
يسألني البعض عن أهمية طرح مثل هذا الموضوع في خضمِّ ما نحن فيه، وعن الفائدة المرجوّة منه لخير البشرية، فأهمس في آذانهم وأنا أتجرَّع غُصَصَ ما يتجرعون: إن البحث العلمي لا يتوقف عندما تهطل السماء حجارة من سجّيل ويصبح السلاح حِرْفة من لا حرفة له. وقد تُسهم وعُورة البحث وإغرابه في حَجْب النافع من مقاصده عن بعض من قرأه، لكن رهاني يبقى على ما توقّد في أذهانهم من أسئلة، وما فُتح في عقولهم من نوافذ.
2- الرد على نقد فكرة القفزة النوعية في طرق التواصل:
ذهب البعض للتشكيك في قولي إن (جلّ) المتكلمين من السلف لم يتنبهوا لخطورة ما عبرت عنه بالقفزة النوعية في الوجود بتعليم آدم الأسماء، كما طالبوني باستبيان يؤكد زعمي. وأجيب بأن قولهم مردودٌ بحجة أن الإتيان بالدليل ليس بلازم إلا بعد المَنْع (الإنكار) في قواعد آداب البحث، والحقُّ أن يأتوني بدليل يشهدُ لهم ببطلان ما أدليت به. وقد ذكرت في الهامش[3] طائفة من كتب الأولين التي جعلتني أركن لهذا الاستنتاج فليرجع إليها من شاء التحقق أو فليأتني ببيِّنة تثبت عكس مقولتي. راجياً أن يكون في ذلك بُلْغَةٌ للمعترض ورفعٌ لتهمة المبالغة والتعميم فيما سطَّرت.
وقد بدا لي، من خلال ما قرأت من ردود، أن ما سقتُه من شواهد حول فرادة (القفزة النوعية) التي استحدثها الله في طرق تواصل الكائنات والتي خوَّلت آدم إطلاق (الأسماء) على أعيانها لم يوفِّ الفكرة حقها، وسأعمد للإتيان بمزيد من الأمثلة لتوضيحها.
أ- الحوار واللغة البشرية:
لعل وجود الإشارات الواضحة في القرآن لحوارات وخطابات غير إنسيّة: (حوارات وخطابات الملائكة، حوارات وخطابات إبليس، خطاب النملة، حوار الهدهد) = قادت جلَّ الباحثين اللغويين والمفسرين إلى القول بأن (لغة) ما كانت سُداة ذلك الحوار والخطاب، فخَلَصوا إلى أن اللغة البشرية لها ما يماثلها وإن اختلفت.
ورداً على هذا الزعم أقول بأن قياس الحوار والخطاب البشري مع الحوار والخطاب غير البشري قياس فاسد كونه قياس مع الفارق[4]. فالحوار والخطاب المنقولان لنا عبر التنزيل الحكيم بلسان عربي مبين هما ترجمة لأَصْلَيْن (غير إنسيين) دارا بطريقة تواصل(غير إنسيّة) لا نعرفها ولا علاقة لها ألبتة باشتراطات وآليات منظومة اللغة البشرية التي نتفاهم بها ونتناقل المعلومات عبرها. واستخدامنا لكلمة(لغة) في الإشارة لأنظمة التواصل عند الأحياء غير الإنسية (العجماوات، الجان، الملائكة) يظل استخداماً تُعوزه الدقَّة العلميَّة فيما لو قُصدَ منه لغة تحوِّل الإصاتة إلى رمز/اسم؛ الأمر الذي تتفرد به اللغة البشرية.
ب- الإصاتة والإشارة الرمزية عند العجماوات، ومنظومة اللغة عند الإنسان:
لنا في (منطق) النحل المستخدم للتواصل خير دليل على ما أذهب إليه في بيان الفرق بين منظومة اللغة عند البشر و(منطق) العجماوات؛ فالنحلة تقوم بنقل معلومات دقيقة عبر حركات رقص دائري أمام جمهور من أقرانها، تحدِّد بها الجهة والمكان. كما أن الرئيسيَّات معروفة بأنها تُحْدِثُ نداءات صوتية، وهذه النداءات تُولَّد من خلال دائرة في جذع الدماغ والجهاز الجوفي[5]. وقد ثبت علمياً أن القرود من نوع الشمبانزي يستخدمون منطقة (بروكا - Broca) للتحدث فيما بينهم [6]، وتَسمع بعضها من خلال استخدام هذه المنطقة من الدماغ، تماماً كالتي عند بني البشر[7] . وتعتبر دراسة التواصل في الغابة بين القرود من نوع (فرفت - Vervet) من أكثر الدراسات الواسعة النطاق[8]، فهذه القردة تستطيع استخدام عشرة أنواع مختلفة من (النطق)، ويُستخدم بعضها لتحذير أفراد القبيلة حين اقتراب حيوانات مفترسة "كنداء الفهد"، و"نداء الثعبان" و "نداء الصقر"؛ كلُّ نداء يحَفِّز القرود التي تسمعه لاتخاذ إستراتيجية دفاعية مختلفة، وقام العلماء بتحديد ردَّة فعل القرود باستخدام مكبرات الصوت العالية والأصوات المسجلة مسبقاً.
إذن فامتلاك العجماوات خصيصة الإصاتة واستثمارها في التواصل لم يخوِّلها إنتاج منظومة لغة [9]، ولا يعدو منطقها عن كونه وسيلة تفاهم فيما بينها. وهذا ما عزَّز لدي استخدام مصطلح (منطق) القرآني عوضاً عن (لغة) لبيان هذا الفارق الشاسع بين تواصل الحيوانات ولغة ابن آدم التي هي نظام مكتسب متجانس "من العلامات قوامه اتحاد المعنى بالمبنى"[10] وفق تعريف (دو سوسور). وقد تستجيب الحيوانات المدجَّنة لبعض المفردات وتأتمر بجمل معينة، بيد أنها تعجز عن توليد الأسماء والجمل من تلقاء نفسها؛ أي أنها تفتقد لما عبر عنه (تشومسكي) بإنتاجية اللغة (productivity) [11]. ولعل ما أوردتُه من شواهد من عالم العجماوات يساهم في حسم التداخل بين اللغة والنطق، وتحديد الخطوط الحمراء التي تفصل بينهما وعلى رأسها تفرد اللغة البشرية بإنتاج آليات التفكير المتمثلة بالتحليل والتركيب والترميز. وهذا يقودنا إلى استبعاد ما نسميه تجاوزاً لغة؛ كلغة الإشارة عند الصم والبُكم ولغة الإشارة التي تعلمَتْها الشامبنزي[12](واشو - Wshoe )، ولغة السيمافور والمورس والسيمبيان[13]، وينفي مقولة أن كل لغة نطق.
ولا أميل إلى القول بأن العناصر الصوتية للغة البشرية تحمل في داخلها قوة روحية كامنة، فالأسماء/ العلامات المتولدة منها اعتباطية ولا علَّة منطقية في اختيار جلّها، والقوة الروحية تقتضي القَصْد وتأبى العَبَثيّة، ويؤكد اعتباطية العلامة المؤلفة من عناصر صوتية ما قاله الجرجاني:" فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ربض) مكان (ضرب)، لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد"[14]. وقد "كان اللغويون قبل (دو سوسور) ينظرون إلى اللغة على أنها مجموعة من الأصوات(عناصر مادية يمكن سماعها، ونطقها، وتتسم بخصائص فيزيائية مميزة)؛ أي أنها جواهر، وليست أعراضاً. لكن (دو سوسور) ردَّ على من يعرِّف اللغة بأنها أصوات دون ذكر خصيصة النظام بقوله: "إن أخطاء مصطلحاتنا، وكل طرائقنا في تمييز أمور اللغة المعينة إنما تصدر عن افتراض مقصود مضمونه أن هناك جوهراً في الظاهرة اللغوية".[15]،[16]،
وقد استوقفت الحروف المقطَّعة في بعض أوائل سور الذكر الحكيم[17] - والتي تكتنفها أسرارٌ وأنوارٌ- كلَّ المفسرين وفي مقدمهم الإمام القشيري(630-711 هـ ) [18] الذي نقل لنا لطائف وإشارات رمزية حَوَتْها، لكنها لا تستند بمجموعها إلى أصل مُلزِم، وتبقى ضمن إطار التفسير الإشاري.
كما ذهب البعض إلى أن ذكر تلك الحروف المقطعة في أوائل السور دلالة على جلالها وقدسيتها لأن بعضها جاء بصيغة القَسَم، ولا يُقسم الله جلّ شأنه إلا بعظيم. وأنا لا أقول إلا بما قالوا، لكني أضيف بأن لا غرابة في أن يقسم الله جلَّ وعزَّ بالحرف الذي يشكل اللبنة الأولى في بناء اللغة التي كانت مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان البيولوجي والفكري على بقية ما خلق الله، وقَمينٌ أن يُقسم الله به منبِّهاً عقولاً أعماها الشرك عن رؤية الحقيقة الدامغة بأن إعجاز التنزيل قام على مثل هذه الحروف التي تتألف منها لغة القوم، فيتحداهم بالإتيان بمثله إن كانوا صادقين. لكنَّ تلك الحروفَ مَثَلهاِ كمثل تلك التي رُكِّبت منها كلمات القرآن والتي تكتسي قداسة المتكلم بها طالما أنها في سياق الآية أو ضمن صفحات الكتاب المنزل، وتُنْتَزَعُ عنها الصفة العلويَّة بمجرد استخدامها خارج السياق القرآني.
3- آدم والأسمــــاء - اللغة البشــــرية:
قال ابن منظور في (لسان العرب) [19]: " وقال أبو العباس[20]: الِاسْمُ رَسْمٌ وسِمَةٌ[علامة] تُوضَعُ على الشَيْءِ تُعْرَفُ به". ونقل ابن فارس في كتابه (الصاحبي) عن الكسائي(ت.189هـ) أن "الاسم ما وُصِف"[21]. ووجدت أن الزجَّاج (ت.311هـ)[22] كان رائداً في التنبيه للمقاطع الصوتية التي تؤلف الاسم حين سئل عن حدِّه فقال بأنه: "صوتٌ مُقَطَّعٌ مفهومٌ دالّ على معنى، غير دالّ على زمان ولا مكان"[23]، ووافقه ابن مالك (600-672هـ) بالتأكيد على دلالة الاسم على معنىً مفهوم في ألفيَّته:" كلامنا لفظٌ مفيدٌ..".[24]
وبِضَمِّ التعريفات السابقة إلى بعضها نخلص إلى أن الاسم (علامة) تتألف من مقاطع صوتية تدلُّ على معنى مفيد، والعلامة اعتباطية وفق ما نقلناه عن الجرجاني. وهذا يشكِّل المدخل الصحيح لتعريف اللغويين المسلمين والذي لا أجده مخالفاً بالمجمل لما أتى به اللغويون الغربيون، ويصلح كمدخل لنا في فهم سر عجز الملائكة إنباء ربها بأسماء الأعيان المعروضة عليها وليس عجزهم عن إدراكها، إذ إن عجزهم كعجز (حي بن يقظان)[25] عن تسمية أفراد ما حوله رغم إدراكه إيَّاها. وهكذا فإن قول الملائكة:" لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا "[26] هو إقرار بجهلهم لا بأعيان الأشياء والتعرف عليها، فهم يعرفونها ويميزونها كمعرفة العجماوات وتمييزها لما تراه= بل بإطلاق أسماء عليها، وهي الميزة الفريدة التي اختص بها الله بني البشر. ولا نستطيع نفي علم الملائكة (بكل) ما عُرِض عليها وإلا لأصبحت غير مدركة (كلَّ) ما عرض عليها وغير مميزة له وتعيش في عزلة تامة عما حولها. لكنها في واقع الأمر تفتقر إلى قدرة آدم على(تعيين) الأعيان عن طريق إطلاق رمز/اسم عليها. وفارقٌ بين تمييز الأشياء والتعرف عليها والتعامل معها(الأمر التي تشاركنا به كل المخلوقات الفاعلة) من ناحية، وبين الترميز لشيء بعلامة(sign) تستخدم في التواصل من ناحية أخرى، وبمجرد حصول آدم على هذه الخصيصة التي مكَّنه الله منها (علَّمه إياها) صار بوسعه تعيين أسماء/ علامات تولد جملاً لانهائية عبَّرَ عنها (تشومسكي) باللانهائية المعجمية. وهذا ما عنيته بالفارق بين علَّمه الأسماء، وأمكنه من تعلمها. وبهذا نفهم كيف أن الله علم آدم الأسماء (كلها) ونتفهّم عجز الملائكة عن الإتيان (برمز) لأعيان ما عُرض عليها رغم تمييزها ومعرفتها لهذه الأعيان.
4- آدم واللغــــــــة والتكليـــــــف:
"العقل و الاستطاعة مناط التكليف": قاعدة جليلة لم يختلف عليها الأصوليون.
وفي مقالي السابق بيَّنتُ أن آدم قد حاز مُكْنَة التمييز بين مفهوم (الحق) و(الباطل) بعد تعلّمه الأسماء – حسب السياق القرآني- فكانت الخطوة التمهيدية لتلقيه (المنهج). وبعد استكمال عدَّته من العقل المميِّز واللغة التي سيستوعب من خلالها الهدي الإلهي أُنزل إلى الأرض لممارسة دور الخلافة: " قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"[27]. ولهذا سقط التكليف عمن لم يصله مضمونه:" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"[28]؛ كالأبكم الذي لا يسمع ولا يُدرك مضامينه واستحقاقاته. وقد سبقت آدم إلى الأرض- وفق معطيات علم الأحياء(biology)- كل الكائنات الحيّة بدءاً من وحيدات الخلية إلى الديناصور والقردة، فكانوا يُفسدون في الأرض ولا يعمرونها، وكانت الملائكة تعلم بهم، فظنَّت أن آدم سيكون على شاكلتهم فقالت: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"[29]، وكان ردّ علام الغيوب " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"[29]. إن افتقار هذه الكائنات الحيَّة التي سكنت الأرض إلى جانب الإنسان للتفكير المتطور الذي يُنتج الحضارة(الخلافة) والمدنية(العمران) جعلها سجينة غرائزها، وحال بينها وبين التكليف. حتى إن تسبيحها كتسبيح الكافر؛ تسبح خلاياه وأعضاؤه الحيوية بحمد الله وتسير على سننه لا تحيد. أما ما قيل عن حشر هذه الحيوانات والفصل[القضاء] بينها يوم القيامة[30] فإني أجد بأن رأي المعتزلة فيه-إذا كان واقعاً- أقرب ما يكون إلى ما تطمئن به نفسي؛ فهم يذهبون إلى أن جوهر محاسبتها[بالاقتصاص ممن سبب أذيَّة لغيره من الحيوانات] هو إيصال الأعواضِ إليها. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سَبْقِ جِنِايَةِ لا يحْسُنُ إلا للعِوَض، ولما كان إيصالُ العِوَض إليها واجباً، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها. وباستبدال مصطلح (الواجب على الله) بمصطلح (رحمة الله) نكون قد تجاوزنا مخالفة المعتزلة لمذهب الأشاعرة، ولي في ابن عباس حَبْرِ الأمة ما يَعْضُدُ الرأي[31].
وأما الجان فهم كائنات نؤمن بها ولا ندرك كينونتها، ولا نعلم عنها إلا القليل مما أخبرنا الله به. وهي من إبداعات الله في الخلق التي لا تتوقف " وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"[32]، وقد حجبها الله عنا فلا فائدة ترجى من الغوص في أسرارها ومنهج تكليفها وعقد المقاربة بين تكليفها وتكليف آدم.
5- المتن الحكائي والمبنى الحكائي في القرآن:
نشرت مقالاً لي على صفحتي في الفيسبوك بتاريخ 2013/8/1 مقالاً تحت عنوان:" إعجاز القرآن في تغييب عنصري الزمان والمكان"= كنت قد نشرته على بعض المواقع الإلكترونية بتاريخ 2009/8/8. ولقد أَسَرَتني فكرةُ انتفاء الزمان والمكان في القرآن لسنين عديدة، وصدَّعت رأسي الذي لم يألف في أخبار ما صحَّ من التاريخ إلا الدقَّة التي يتوخاها الرواة في نقل المادة التاريخية؛ مَتْناً وزماناً ومكاناً. إلى أن هيّأ الله لي كتابة هذا البحث بفضله ومِنّته، فتحول الصداع إلى راحة عقل، وفُتح ما أوصد من أبواب الفهم لأسرار إعجاز الخالق الحكيم في كتابه الكريم.
و ما كتبتُه عن المتن الحكائي والمبنى الحكائي يدور في فلك ما تناولتُه في مقالي السابق ولا يغادره. فالمبنى الحكائي في القرآن لا يهتم بالقرائن الزمنية والمنطقية للأحداث قدر اهتمامه بكيفية عرض هذه الأحداث وظهورها في النص. فأين الزمن الذي يُدرك، وأين التاريخ الذي يمكن للعقل أن يستوعبه؟ إننا حين نقرأ النص القرآني نجد بأنه انتزع عنصر الزمن بالكليّة، وغادر بأرواحنا إلى الماضي السحيق تارة، وطار بها إلى نهايات الوجود البشري تارة أخرى. إنه معراج الأرواح، وهل يَضير الروح في تسفارها إغفال الزمن؟ إنه- أي القرآن الكريم- حين يتحدث عن ساعة غير ساعتنا، ويوم غير يومنا، وسنة غير مطابقة لما نعدّ من السنين= يكون قد تجاوز إسار الزمن الذي حُبسنا فيه: " وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"[33]، " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"[34]، " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"[35]، وحين يتحدث عن المشهد الذي يضم آدم والملائكة فإنه لا يشغلك بعمر آدم وكم من الوقت قضى في جنة الخلد حتى صلب عوده، وكم احتاج من الوقت لإتقان اللغة وإجادتها، لا بل يفْجَؤُكَ بهبوطه وسكناه في أرضنا التي نعيش بها وكأنها خاتمة لقصة استغرقت آلافاً من السنين. والأمر أكثر وضوحاً في قصة يوسف، ولولا خشية الإطالة لأتيت على تفاصيل الانتقالات الزمنية المبهرة التي حوتها.
- خاتمــــــــــــــــــــــــة:
إنني "لا أدعي في كل ما كتبت أني بلغت الغاية، وحسبي أني قد حاولت، والعذر إن كنت قد قصرت أو أخطأت أو نسيت". ولعلي خالفت البعض فيما ذهبت إليه، لكن " ليس كل من خالف قائلاً في مقالته فقد نسبه إلى الجهل وذلك أن الصدر الأول اختلفوا في تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً، ثم خلف من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقول وأخذ بعض بقول حسب اجتهادهم وما دلتهم الدلالة عليه" فلنا بهم أسوة...وإنني إذا تأملت هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف، والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غَلْوةِ السِحر. فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحَّة ما وفِّقوا لتقديمه منه، ولطفَ ما أُسعدوا به، وفُرِق لهم عنه..ثم أقول في ضدِّ هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة،. فأقف بين تين الخَلّتين حسيراً، وأكاثرهما فأنكفئ مكثوراً، وإن خطر خاطرٌ فيما بعد، يُعلِّق الكفّ بإحدى الجهتين، ويكفّها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق".[36]
- الهوامــــــــش وثبــــــــــت المراجــــــــــع:
1- ويل ديورانت، قصة الحضارة، ج1 من المجلد1، ص (ح)، ترجمة د.زكي نجيب محمود، طبعة4، جامعة الدول العربية، 1973.
2- مصطلح لعالم الألسنيات (تشومسكي) يعبر عن قدرة الإنسان على توليد جمل لا نهائية باستخدام المفردات المحدودة.
3- وهذا ما وقفت عليه من آراء أحمد بن فارس (ت 395هـ)في كتابه (فقه اللغة)، وعبد الكريم بن هوازن القشيري (375- 465ه) في (التيسير في علم التفسير)، وابن جني (322-392هـ) في (الخصائص)، وعبد القاهر الجرجاني(ت 471هـ) في (دلائل الإعجاز)، وابن الحاجب(570-646هـ) في (المختصر)، وتاج الدين السبكي(727-771هـ) في (رفع الحاجب)، وجلال الدين السيوطي(849-911هـ) في(المزهر في علوم اللغة وأنواعها)، ومما نقله هؤلاء عن أبي الحسن الأشعري(260-324هـ)، وابن فورك(ت 406هـ)، والآمدي(551-631هـ).. وغيرهم. ولعل في هذا ما يشفي غليل الدكتور محمد غسان الجزائري لمعرفة مصادري التي تخولني قول (جلّ)، والحمد لله أني لم أقل (كلّ).
4- القياس مع الفارق هو فيما جرى فيه القياس ولكن أُعِلَّ لوجود قادح وهو عدم مساواة الفرع للأصل المقيس عليه، إذ من شروط القياس وجود علّة الأصل بتمامها في الفرع، كما عبر عن ذلك صاحب (مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود) الشيخ عبد الله العلوي الشنقيطي، (ص39):
وجودُ جامع به مُتَمَّما *** شرطٌ وفي القَطْع إلى القطع انتمى
5- Freeman, Scott; Jon C. Herron., Evolutionary Analysis (4th ed.), Pearson Education, Inc.. (Two thousand and seven), ISBN 0-13-227584-8 pages 789 to 90.
6- Evolve (tv show): Communication.
7-RedOrbit: Primate and Human Language Use Same Brain Regions.
8-S. Carey, Mind Lang. 16, 37 (2001).
9- منظومة اللغة الطبيعية كما عرفها د. محمد محمد يونس علي: " نظام علاميٌّ مميز من بين الأنظمة العلاميّة الأخرى. فهي تختلف عن لغات الحيوانات، ولغات الإشارة الجسمية، ولغة الصم، والبكم، ولغة المرور. وإن كان هناك بعض الخصائص التي تجمع بين اللغة الطبيعية، والأنظمة العلامية الأخرى المذكورة تميزها عن الدلائل الطبيعية (كدلالة الغدران على نزول المطر، ودلالة الرماد على نار سابقة). وتستخدم الأنظمة العلامية لغرض الإبلاغ أي نقل المعلومات، وتستلزم وجود مخاطِب، ومخاطَب، ونظام رمزي يحتاج إلى تفكيك، وتركيب، وسياق تستعمل فيه.
10- F.de Saussure, (Cours de linguistic général ) Paris: Payot, 1968, p. 32.
11- N. Chomsky, (Syntactic Structures ) The Hague: Mouton, 1957, p. 13.
12- الشامبنزي واشو (Washoe chimpanzee) (1965-2007) استطاعت تعلم 350 كلمة من لغة الإشارة الأمريكية ASL وعلمتها لابنها بالتبني لوليس Loulis.
13- لغة السيمافور(semaphore ) لغة يستخدمها الكشافة للتخاطب عن بعد بواسطة الأعلام، ولغة السيمبيان( symbian) هي لغة برمجية، ولغة المورس( morse) شفرة حرفية لإرسال المعلومات تلغرافياً.
14- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص42، تحقيق رضوان وفايز الداية، ، دار قتيبة، دمشق، 1983.
15- F.de Saussure, (Cours de linguistic général)Paris: Payot, 1968, p. 169.
16- د. محمد محمد يونس علي، وصف اللغة العربية دلالياً، ص24، منشورات جامعة الفاتح، طرابلس، 1993.
17- الأحرف المجموعة: ألم، ألمر، ألمص، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، حم، عسق، والأحرف المنفردة: ص، ق، ن.
18- الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري(ت. 465هـ)، لطائف الإشارات، ج1، ص 17، تحقيق حسن عبد الرحمن، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007.
19- محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (630-711 هـ )، لسان العرب، باب السين، مج 4، ج24، ص2109، ط. الكترونية.
20- محمد بن يزيد المُبَرِّد(ت. 286 هـ)، من علماء البصرة في اللغة والنحو.
21- أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، ص48، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.
22- الزجَّاج: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحق، عالم بالعربية والنحو، مات ببغداد سنة 311 للهجرة.
23- أحمد بن فارس، الصاحبي، ص49.
24- ابن الناظم أبي عبد الله بدر الدين محمد بن محمد بن مالك(ت.686 هـ)، شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك، ص5، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م.
25- أسطورة تحكي قصة شخص يدعى حي بن يقظان نشأ في جزيرة وحده، وترمز للإنسان، وعلاقته بالكون والدين، كما تحتوي على العديد من القصص والأساطير الفرعية، أنشأها فلاسفة، واحتوت مضامين فلسفية. أول منشئ لقصة حي بن يقظان هو الفيلسوف ابن سينا، وفعل ذلك أثناء سجنه، ثم أعاد بناءها شهاب الدين السهروردي، وبعدها كتبها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، ثم كانت آخر رواية للقصة من قبل ابن النفيس الذي تنبه إلى بعض المضامين الأصلية الخاصة بابن سينا، والتي لم تكن توافق مذهبه، فأعاد صياغتها لتكون رواية حي بن يقظان عن صالح بن كامل. أشهر مؤلف من بين هؤلاء الأربعة التصقت القصة باسمه هو ابن طفيل. ومن شهرة هذه الرواية الفلسفية، فإن قصصا غربية مثل قصة روبنسون كروزو وطرزان قد استوحيت من هذه القصة. [عن ويكيبيديا]
26- سورة البقرة: الآية (32).
27- سورة البقــــرة: الآية (38).
28- سورة الإسراء: الآية(15).
29- سورة البقـــــرة: الآية (30).
30- قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب عطية الأندلسي(ت.546هـ) في تفسيره، (المحَرَّر الوَجيز) ج٥، ص٤٤١، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2001،في قوله تعالى( وإذا الوحوش حشرت):" وحشر الوحوش: جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع ما هو؟ فقال ابن عباس: (حشرت) بالموت لا تُبعثُ في القيامة، ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقال قتادة وجماعة:(حشرت) للجمع يوم القيامة، ويقتص للجَمَّاء من القَرْنَاء فجعلوا ألفا هذا الحديث حقيقة لا مجازاً مثالاً في العدل. وقال أبي بن كعب:(حشرت) في الدنيا في أول هول يوم القيامة فإنها تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تأنيساً بهم".
31- قال الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، (224-310ه) في تفسيره: جامع البيان في تأويل القرآن، ص241/ 24، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 2000: " القول في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) اختلف أهل التأويل في معنى قوله:( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)، فقال بعضهم: معنى ذلك: ماتت. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن مسلم الطوسي، قال: ثنا عباد بن العوّام، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله:( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: حَشْرُ البهائم: موتها، وحشر كل شيء : الموت، غير الجنّ والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة .حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: أتى عليها أمر الله، قال سفيان، قال أبي، فذكرته لعكرِمة، فقال: قال ابن عباس: حشرها: موتها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، بنحوه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا الوحوش اختلطت. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: ثني أُبيّ بن كعب ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال: اختلطت .وقال آخرون: بل معنى ذلك: جُمعت. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) هذه الخلائق موافية يوم القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى حشرت: جمعت، فأميتت لأن المعروف في كلام العرب من معنى الحشر: الجمع، ومنه قول الله: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً يعني: مجموعة. وقوله: فَحَشَرَ فَنَادَى وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأنكر المجهول"أهـ.
32- ســـورة النحـــــــــل: الآية(8).
33- سورة الحـــــــج: الآية(47).
34- سورة السجدة: الآية (5).
35- سورة المعارج: الآية(4).
36- أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص،ج1، ص 47، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية.
[/align]