|
يقول بن قتيبة رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه ( أدبُ الكاتب ) :
* أمّا بعد حَمْدِ الله بجميع محامده ؛ والثناء عليه بما هو أهله ؛
والصلاة على رسوله المصطفى وآله فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا
عن سبيل الأدب ناكبين ، ومن اسمه متطيرين ، ولأهله كارهين أمّا
الناشئ منهم فراغبٌ عن التعليم ، والشّادي تاركٌ للازدياد ، والمتأدب
في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ ، ليدخل في جملة المجدودين ويخرج
عن جملة المحدودين فالعلماء مغمورون ، وبكرّة الجهل مقموعون ؛ حين
خوى نجم الخير ، وكسدت سوق البِرِّ ، وبارت بضائع أهله ، وصار العلم
عاراً على صاحبه ، والفضل نقصاً ، و أموال الملوك وقفاً على شهوات
النفوس ، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخَلَقِ ، وآضت المروءات
في زخارف النَّجْد و تشييد البنيان ، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر
ومعاطاة الندمان ؛ ونُبذت الصنائع ، وجُهِل قدر المعروف ، وماتت
الخواطر ، وسقطت همم النفوس ، و زهد في لسان الصدق و عَقْدِ
الملكوت فأبعد غايات كاتبنا في كتاباته أن يكون حسن الخط قويم الحروف
و أعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتاً في مدح قَيْنَة أو وصف كأس
و أرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئاً من تقويم الكواكب ، و ينظر في شيئ
من القضاء و حدِّ المنطق ثم يعترض على كتاب الله عزّ وجل بالطعن ؛ و
هو لا يعرف معناه ؛ وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتكذيب
وهو لا يدري مَن نقله ، قد رضي عوضاً من الله تعالى ومما عنده بأن يقال :
( فلانٌ لطيف ) و ( فلانٌ دقيق النظر ) يذهب إلى أن لُطْف النظر قد
أخرجه عن جملة الناس وبلغ به علمُ ما جهلوه ؛ فهو يدعوهم الرِّعاع
والغُثاء و الغُثْر ، وهو لعمر الله بهذه الصفات أَوْلى وهي به أَلْيَق لأنه جهل
و ظنّ أنه قد علم ؛ فهاتان جهالتان ، ولأنّ هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم
يجهلون ... ..... الخ
* فإنّي رأيتُ كثير من كُتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدَّعَة
و استوطؤوا مركب العجز و أعفوا أنفسهم من كد النظر و قلوبهم من تعب التفكر
حينَ نالوا الدّرك بغير سبب وبلغوا البِغْيَة بغير آلة ؛ ولعمري كان ذاك فأين همّة النفس ؟
و أين الأنفة من مجانسة البهائم ؟ و أيّ موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب
اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه و ارتضاه لسرّه فقرأ عليه يوماً كتاباً و في الكتاب :
( و مطرنا مطراً كثر عنه الكلأ ) . فقال له الخليفة ممتحناً له : و ما الكلأ ؟ فتردد في الجواب
و تعثّر لسانه ، ثم قال لا أدري ، فقال : سَلْ عنه .
* و ليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم و من الكتابة إلا بالإسم
و لم يتقدم من الأداة إلا بالقلم و الدواة ولكنها لمن شدا شيئاً من الإعراب : فعرف الصدر
و المصدر و الحال و الظرف وشيئاً من التصاريف و الأبنية و انقلاب الياء عن الواو و الألف عن
الياء و أشباه ذلك .
* و لابد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين ...... ....... ........ الخ
و كانت العجم تقول : من لم يكن عالماً بإجراء المياه و حفر فرض المشارب و ردم المهاوي
و مجاري الأيام في الزيادة و النقص و دوران الشمس و مطالع النجوم و حال القمر في
استهلاله و أفعاله و وزن الموازين و ذرع المثلث و المربع و المختلف الزوايا و نصب القناطر
و الجسور و الدوالي و النواعير على المياه و حال أدوات الصنّاع و دقائق الحساب
كان ناقصاً في حال كتاباته .
* و لابد له مع ذلك من النظر في جمل الفقه و معرفة أصوله ...... ....... ........ الخ
* و لابد له مع ذلك من دراسة أخبار الناس و تحفّظ عيون الحديث ليدخلها في تضاعيف
سطوره متمثلا إذا كتب و يصل بها كلامه إذا حاور .
* و نحن نستحب لمن قبل عنّا و ائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه
و يهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه و يصون مروءته عن دناءة الغيبة و صناعته عن شين الكذب
و يجانب قبل مجانبته اللحن وخطل القول شنيع الكلام و رفث المزح .
* وَ نستحبُّ له أن يَدَع في كلامه التّقْعِير وَ التَّقْعِيب ؛ كقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته
امرأته [ عنده ] : ( أَأَنْ سَأَلَتْكَ ثمن شَكْرَها وَ شَبْرِك ؛ أنشأت تَطُلّها و تَضْهَلُهَا ) و
كقول عيسى بن عمر ، و يوسف بن عمر بن هبيرة يضربه بالسياط :
( والله إن كانت إلاّ أُثَيَّاباً في أُسَيْفَاطٍ قَبَضَها عَشَّارُوك ) .
فهذا و أشباهه كان يُستثقل و الأدب غَضٌّ والزمان زمان ؛ و أهله يتحلون فيه بالفصاحة ؛
ويتنافسون في العلم ، و يروْنه تِلْوَ المقدار في درك ما يطلبون وبلوغ ما يؤمّلون ؛ فكيف
به اليوم مع انقلاب الحال ، وقد قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أبغضكم إليّ
الثرثارون المتفيهقون المتشدقون ) .
* ونستحبُّ له إن استطاع أَنْ يَعْدِل بكلامه عن الجهة التي تُلْزمه مستثقل الإعراب ،
ليسلم من الّلحن وقباحة التَّقعير ...... ... ..... الخ
* ونستحبُّ له أيضاً أن يُنَزِّل ألفاظه في كتبه فيجعلها على قدر الكَاتِب والمكتوب إليه ؛
و أن لايعطي خسيس الناس رفيع الكلام ، ولا رفيع الناس وضيع الكلام ؛ فإني رأيت الكُتّاب
قد تركوا تفقُّد هذا من أنفسهم ؛ و خلّطوا فيه ، فليس يُفرقون بين مَنْ يُكتب إليه
( فَرَأيك في كذا ) وبين مَنْ يُكتب إليه : ( فإن رأيتَ كذا )
و ( رأيك ) إنما يُكتب بها إلى الأكِفّاء و المساوين ؛ لا يجوز أن يُكتب بها إلى
الرؤساء و الأستاذين لأنّ فيها معنى الأمر و لذلك نُصِبت . ....... ..... الخ
* هذا منتهى القول فيما نختاره للكاتب ؛ فمن تكاملت له هذه الأدوات ؛
و أمدّه الله بآداب النّفس _ من العفاف و الحِلْم و الصبر ؛ والتواضع للحق ؛
وسكون الطائر ؛ وخفض الجناح _ فهذا المتناهي في الفضل ، العالي في
ذُرَى المجد ، الحاوي قَصَبَ السبق ؛ الفائز بخير الدّارين إن شاء الله تعالى .
________________________________________
باختصار شديد :
إذا كانت تلك المقتطفات في الأعلى هي بعضٌ مما يتزوّد به الكاتب ليصبح كاتباً
فكيف و على حين غرة في زماننا هذا صار الكل ( كاتباً ؛ أديباً ؛ شاعراً ؛ روائياً .. الخ ) ؟!!
و الكل تلك التي أعنيها هي لفيفٌ يزداد باطرادٍ عجيب و مخيف
زحفٌ محسوبٌ على [ ألقاب ] هي أبعد ما يكون عمّن لا يجيد التفريق بين موضع
الـ ( ض ) من الـ ( ظ ) ؛ و عمّن لا يعرف مواطن كتابة الهمزة ؛ و عمّن لا يدرك التاء
المربوطة من الهاء المربوطة ؛ إلى غير ذلك من الأخطاء الإملائية ؛ ناهيك عن الأخطاء النحوية و اللغوية
؛ هذا غير الفظاعات الأخلاقية التي تمس الدين و الأعراف و الأخلاق عند البعض من الكل و ليس الكل حتماً .
ألا يعتبر منح الألقاب لمن هو ليس لها أهلٌ فوضى عارمة تحيف بالكتابة و الأدب و تهوي بها إلى مكانٍ سحيق ؟
ألا يستحق الأمر وقفة صادقة و جادة ؟
ما رأيكم في ظاهرة المنح هذه ؛ و التصفيق و كيل المديح على عواهنه دون تبصّر أو قاعدة ؟
و أخيراً .. ..
عذراً لمن ( أزعجته ؛ أزعجتها ) صراحتي ^_^
فمقالي صرخة قلم غيور يؤثر أن تُسمى الأمور بمسمياتها الحقيقية
بعيداً كل البعد عن المجاملات المنبثقة من العلاقات الإنسانية
فللأخيرة محلها و قدرها و مكانتها في النفس و لكن الأولى كلمة حق تقال و إن لم ترق للبعض .
_ مع خالص وُدي _