و هو يقف أمام النافذة، نظر بعيدا و كأنه يسرق سحر المدى داخل عينيه المتعبتين.. أو أنه يبحث عن نسمات يفتقد إليها أكثر من أي وقت مضى .. أخرج من جيبه وردة جافة، دقق النظر فيها جيدا و كأنه يحاول استنباط السحر الذي يميزها رغم أنها عديمة الحياة ..
ـ "عندما تشعر بالضيق، تأمل هذه الوردة يا صديقي العزيز.. لكن عندما يكتسحك الجفاف، استنشقها أكثر .. أما عندما يلبسك الموت، لا تردد في أكلها" هكذا قالت له صديقته و هي تمازحه قبل أن ترحل بعيدا و في عينيها بريقا شفيفا لامعا لا يعلم حقيقته إلا هي ..
و هو يتأمل الوردة بعمق، يردد بصوت دفين " هل يعقل هذا..؟؟ هل ما قالته حقيقة أم مجرد مزحة..؟؟ حتى لو كانت صادقة، لقد فات الأوان.. فالوردة لم تعد ساحرة و يانعة كما كانت في سابق عهدها.. و حتى لو فعلت ذلك الآن، فلن تغير من حزني و آمالي شيئا.."
أعاد الوردة إلى جيبه.. ألقى جسده على السرير الرطب.. شعر بارتياح أكثر .. نام كما ينام الربيع على التراب.
استيقظ باكرا كعادته .. خفيف الوزن.. مرح الظل .. فتح النافذة:
ـ "أشعر بفرحة غير مسبوقة.. أريد أن أقفز من النافذة بعيدا هناك قرب الشمس، لأنام على خيوطها الدافئة و أستلهم منها الصفاء و الحب النقي .."
أخذ فطوره بسرعة، حمل حقيبته و خرج و هو يشدو ..
بعد وقت وجيز، توقفت الحافلة، ركب بخفة و طاب له الجلوس على المقعد الخلفي بالقرب من النافذة.. شعر بحرارة مفرطة .. أغمض عينيه .. بحركة لا إرادية يخرج الوردة من جيبه و يبدأ في استنشاقها بقوة ..
يشعر براحة عارمة .. بنسمات ما تطوقه .. لم يعد يدري أين هو .. و كأنه على ظهر كوكب جميل ساحر يطوف حوله كطائر يستنشق من قلبه و من جناحيه ..
لا يشبع .. يتمنى المزيد .. يردد بصوت لين:
ـ " ما سرك أيتها الوردة ..؟؟ ما هي الأسرار التي تخبئينها بين أوراقك الجافة.. هل أنت فعلا وردة أم إحساس حي؟؟ كلما شممتك أشعر أنني أسقط في قلب إنسانة ما تحلق حولي .. تلمس كتفي .. تنتظر مجيئي منذ مدة طويلة .."
كل من على متن الحافلة يرمقونه بنظرات استغراب .. هناك من يسخر و يتمتم كالأحمق.. هناك من يتأمل محاولا معرفة القصة.. كل إناء ينضح بما فيه ..
إلا واحدة جالسة بالقرب منه تبتسم ..