هدر الانسان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الرحمن محمد الخضر
    أديب وكاتب
    • 25-10-2011
    • 260

    هدر الانسان

    هدر الانسان
    ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ,,,,,,,,,,,,,,,,,
    أحمد :
    عزَّزُوا قيوده , أَنْهَضوه هناك في زاوية من الغرفة .
    كان عليهم أن يشدوه من كتفيه بوسيلة لاتسمح للقيود بكسر عظمة منه , أن يصل إلى المقصلة محفوظامحفوفا بكل هؤلاء على حاله من السجن المركزي , أن يقتلوه سليماً وبصحة جيدة .
    العساكر يأتون , يتقدمون , يحيطون به , يعبرون عتبة الباب ذي القضبان ويحيطون به .
    عند البوابة الكبرى لأسوار السجن , إلى الأمام منها هناك , في أول طلّة للفضاء , عند أول نسمة حرّة , فوق أول خطوة طليقة على الأرض المسترخية خارج السجن , تربض سيارة تحمل سجنا متنقّلا على شكل صندوق من الحديد , تفتح مؤخرتها على باب فرعي في البوابة الكبرى , كفكّي أفعي ستبتلعه ملء عينيه هذا الذي يحيطون به نحوها مصلصلا بالقيود .
    شدّوه من كتفيه إلى الأعلى , حملوه نحو الفتحة من الصندوق الحديدي , ودفعوا به إلى الداخل , أطبقت الأفعى فكّيها وانطلقت نحو ساحة الاعدام .
    ..........................
    الصديق :
    مضطرباً ينتظر سيارة أجرة لتقف , كان قد شاهد حلماً ليلة البارحة وأحمد يقف أمامه , يتقدم هو نحوه ليصافحه فلايصل إليه , لايزال يغطّ في النوم ومرة أخرى يعود الحلم ثانية , يتقدم إليه ليصافحه فلايصل إليه , إستيقظ ليعود لينام وليحلم ذات الحلم ليتقدم ليصافح أحمد ولايصل إليه .
    مرّت سيارة وسيارات , راح يقترب من كل سيارة تمرّ وكأن بينه وبينها زمناً لا يأتي أبدا ولن تقف .
    وقَفَتْ أخيراً سيارة أجرة حين تحركت يدُهُ أخيرا .
    لم يصعد للتو , كان مشوشاً , وخشِيَ أن تذهب كما ذهبت عنه السابقات , كادت أن تدهسه وهي تقف حين ضرب برأسه في الفريم الأيمن الأمامي ويداه تتحلقان عليها , وأصابع قدمه اليسرى تتحرفش في مطاط العجلة الأمامية في الأسفل كأنه سيقبض عليها قبل أن تفلت منه .
    فتح الباب وصعد أخيرا في جوف السيارة بجوار السائق والتفت نحوه , بحلق به ولم يعد , كمن يبحث عن ضالته في عينيه , وكالقطرة الأخيرة بعد كل القطرات من أنبوب مصمت مغموس في الماء وخرج الآن فلتت جملته كلها مرة واحدة وأخيرة : إلى السجن المركزي .
    نزل عند البوابة , المدينة خلفه تحلق في فضاء حر , وأمامه هذا المبني بأسواره المتحلقة ككف تقبض في إصرار على بشرهنا لتعزلهم عن المجتمع هناك .
    طلب من الضابط في العنبر خلف البوابة إلى الداخل تصريحا ليزورصديقه أحمد ككل مرة فردّ عليه الضابط بأن الزيارة اليوم غير ممكنة
    - لكن الوقت نهار , وهو الوقت المعتاد للزيارات , لماذا تمنعني ؟
    · صديقك لم يعد هنا .
    - هاه ؟ .
    · ستراه هناك فوق منصة الاعدام .
    وكأن كل السماء تنزل مطراّ ويصير هو الطوفان .
    أدرك بأنه يستطيع حمل كل الناس غيرواحد , هو صديقه : ياإلهي سيعدمونه .
    لم يعد إلى المدينة , لم ينتبه إلى أحد , كان الطوفان هادراً في الاعماق يعجز أن يحرك تيارا على السطح .
    لو أنه يتحدث إليه , يسمحون له بدقيقة , دقيقة واحدة , واحدة ليس إلّا .
    بكلمة , كلمة واحدة , واحدة ليس إلّا .
    حتى الكلمة لاتدعوها تتم بيننا .
    أن ينظر في عينيه , لايحدثه , ينظر في عينيه ليس إلّا .
    سينقلونك من السجن إلى الصندوق ياصديقي , إلى الميدان الواسع الكبير الذي ترتاده النسمات من كل الدنيا لتتنفّس حريتها في فضاءاته , وليشهد عذابك طائفة من المواطنين .
    وحدك لن تلقى نسمة من كل ضجيج النسمات إلى هذا الميدان . وحدك ستموت من كل الناس
    سيجتثون جذور آخر نسمة فيك تبقت لك , سيقتلونك الآن , يمتلكون كل الحرية أن يقتلوك جهرا وأمام الملأ .
    ..........
    القاضي :
    هل أملك حياة الناس ؟
    هل لي أن أصنع غير هذا ؟
    ماذا كان لي أن افعل لأجله ؟
    تدقّ المطرقة دقات متتاليات فوق المنصة وتشرئب الاعناق نحو القاضي ,
    .............
    أحمد :
    ليست هذه , لاتنطقها , ليست هذه , هي الكلمات كلها في لسانك , أنت تمتلك أن تتصرّف فيها أيها القاضي , أن تنقر بمطرقتك فوق أي كلمة تريد , ليست هذه فحسب , هْبكَ تقف على خلافها , على الحياة , كل الكلمات مطواعة بين يديك وتستطيع أن تنتقي منها كيف شئت , ليكن , ليكن ليست البراءة وليس الاعدام , ليكن أن القاضي يقول بديةٍ مسلمةٍ إلى أهله , لم يبق غير أن تنطقها , أن تقولها , إنطقْها , إلفِظْ بها , أخرجْها , قلها أيها القاضي . ..
    ... .....................

    القاضي :
    إني أحكم عليك بالاعدام .
    ....................
    أحمد :
    في جوف الصندوق المنطلق سريعا على ظهر سيارة الشرطة رجل سيقتلونه بعد قليل .
    الونّان لايتوقف ولا يهدأ ويصرخ على الدوام أقوى , في الناس , في الشوارع , في البيوت , في المارة , في المقاهي .
    على الطريق يلوي الناس أعناقهم بجهة سيارة الشرطة تحمل أحدهم في صندوق إلى ميدان الاعدام , ويتقاطرون ليشهدوا عذابه من هنا وهناك .
    تسلَّلَتْ عيناه وتركته إلى الفتحات الضيقة كالغربال من الصندوق التي يتنفّس منها في طريقه إلى الميدان , مرّت خلالها حيوات كبيرة وصغيرة , قريبة وبعيدة , لا معنى لها خلف النافذة , كان يشعر بالسماء مطبقة على الأرض وتطحنانه .
    حين الحياة تسير الآن بعد النافذة القضبانية , حتى تلك التي تبقّت لها ثانية واحدة ستحيا هذه الثانية ,
    هو من بينهم جميعا ستُبْتَرُ حياته , كل حيواته القادمات , الآن بعد قليل وفي لحظة واحدة . .
    البشر يحتشدون .. يفدون , يصفقون , يصرخون : أقتلوه .
    أَنْزَلُوهُ من الصندوق , لم يرَ شيئاً بعد هؤلاء , بشرٌ هادرٌ محيط يحجب كل شيئ في الخلف إلى هناك .
    ..................
    كاتب المحكمة :
    يقرأ حكم القاضي .
    .............
    الجلّاد :
    يتقدّم نحو أحمد , يقف في مواجهته ويعصب عينيه بخرقة سوداء .
    .............
    أحمد :
    أين الله ؟ تدخّل يارب كحين نفخت في الطين لتخلق الانسان . في النار كي تخلق الجنّي
    ليس الآن سواي أحمدُ , بسطٌ من واحدٍ على مقامٍ من مخلوقاتك لمليارات السنين .
    إجراءٌ سهلْ , أنت المطلَق ياكلّي القدرة .
    أوقف ربّي هذا الجلّاد , ليست القيامة الآن ربّي .
    ...........
    الجلّاد :
    تمنّ , ماهي أمنيتك قبل أن تموت ؟
    أيّ غبيّ أنا ؟
    ماذا يتمنّى الحر الذي انتزعت حريته لتقتله الآن الآن ؟ .
    سيتمنّى أن تناوله البندقية ليفرغ رصاصاتها في جسد الجلّاد .
    ............ .
    كاتب المحكمة :
    أقتلوه فوراً , لالا .
    صلّ .. الصلاة قَبْلْ .
    .....
    أحمد :
    هل الصلاة الآن صلاة ؟ هل الصلاة إلى الموت الآن ككل الصلوات الحيّة ؟
    تدخّل يارب , أوقف ربّي هذا الجلاد , ليست القيامة الآن ربّي .
    .....
    كاتب المحكمة :
    أقتلوه .
    ....................
    أحمد :
    هل له أن يحيا ليشهد كيف يموت
    أن يعود معهم إلى المدينة في إنسان آخر
    سيعود خلسة
    هم سيخترقون بالرصاص الآن كل منطقة منه , أيَّ منطقة منه .
    كل جزء منه .
    ويمزقونه , يمزقون كبده , رئتيه , قلبه .
    يناثرون مخّه ؟
    يفرطون عقد عموده الفقري ؟
    أين يحق لهم منه ؟ هل كل موضع منه حقٌّ مطلقٌ لهم ليعبثوا به ؟
    .........................
    الجلاد :
    يتقدم ويكاد سيعود , وكأسرته تقف في طريقه بينه وأحمد , يتمتم وكأنه يتحدث إلى قرينه : لقد قلت لهم البارحة وهم يتحلقون حولي بأن هذه هي آخر مرة أنفذ فيها أمرا للقاضي بالاعدام , وسنكون أصدقاء للناس .
    دوّت الرصاصات , اخترقت أحمد , في جسده , في حيواته , القلب . الرئتين . الرأس . البطن . الكبد . اللسان . الحنجرة . الإثني عشر . المستقيم . القضيب . رجولته . حياته . حريته . المشاعر . القاضي . الجلاد . الأهل . الأصدقاء . الطبيعة . الفيزيقا . الميتافيزيقا . الناس . الزمان . المكان .
    مع كل زخّة من زخّات الرصاص كان جسده يصعد فوق الآرض ويعود , ويصعد ويعود .
    رفعوه , كان بعض نبض أخير منه لمّا يمت , نقلوه إلى المشفى على سيارة الاسعاف , كان لابد من قتل أحمد مرة ثانية .
    أنزلوه إلى غرفة من المشفى .
    إستدعوا الجلّاد .
    فتحوا الباب أمام الجلّاد .
    أغلقوا الباب بعد الجلّاد .
    صوَّب الجلاد بندقيته ثانية على رأسه وقتله .
    وصوّب بندقيتة إلى قلبه وقتله .
يعمل...
X