المجموعة القصصية الثانية تحت الطبع : الحب في سم الخياط , للمراجعة والتقييم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الرحمن محمد الخضر
    أديب وكاتب
    • 25-10-2011
    • 260

    المجموعة القصصية الثانية تحت الطبع : الحب في سم الخياط , للمراجعة والتقييم

    المجموعة القصصية الثانية المعدة للطبع: الحب في سمّ الخياط
    آمل من جميع الزملاء التداخل والمراجعة والتقييم لأستفيد منكم جميعا وأراجع النصوص حسبما سيرد عليها منكم ... تقديري واحترامي
    ........................................
    المقدمة : ربُّ النصوص .
    عوّلت على الكتابة لي , أن أخلق كوني كائنات نصوص .
    لن يستثني كوني هذا أحدا لكنه كون ٌحيّ على كل حال يفكر ويتطور .
    هاأنذا قد بدأت الكتابة .. يتسابق الابطال إلى النص , يأتي أحدهم تامّاً يحمل في حقيبته سردا ممتلئا بحياته ويضعه بين يدي قلمي هذا الذي يتريث .
    أحدهم لايأتي ويبقى غائبا يتحين مكانه وزمانه المحمولين على سن القلم ضمن كائنات النص ,
    أوتر عيني وأنظر إلى مجاميع آخر تنتظر هناك على عجل أحر من الجمر وعلى آجل أبرد من الثلج .
    لازلت أغلق نصّي خالياً ولابد لي من إدارة هذا الحشد المتزاحم حول بابه .
    سأكون في حاجة إلى بناء منظومة من العلاقات بين كائنات النص هذه وأن أضع كل في مكانه وزمانه , ليس الزمان ولاالمكان بهذا المنظور الذي سيتداوله مجتمع نصوصي .
    سأتعامل مع الزمنكان الابتدائي كافتراض محمول على الاطلاق منذ مخاض الكون وقبل ولادة الحياة هذه التي نعيشها , ولاشك أن هناك مِثْلُ حياة في تلك العدمية بأي شكل من الاشكال ليس بالضرورة أن يلتقطها أبطال النص ولا أن تتمثلها طبيعته .
    وأنا الآن بصدد فرجة في باب النص ولاشك بتزاحم الكائنات هذه التي عليها أن تعلم بأنها ستكون على ذات صلة بسواها في موقع من مواقع النص التي تنبثق في أزمنة ليست بالضرورة أن تكون مرتبة , وسيتفاجأ البعض من هؤلاء باستدعائه إلى النص الآن أو بإهماله ربما لحين الخاتمة , ولن أقول بأحدٍ هذا الذي سيبقى خارج النص حين يغلق بابه انتهاءا ككائن جمعي تام .
    تلك حبيبتي , هي لحما ودما وهاأنذا اضرب بريشتي على وتر قلبها .
    هي فرصتي أن نكتب حكايتنا نحن , أن نصنع قدرنا بالقلم
    هل أستدعيها من بين هذا الجمع على باب النص ؟
    هذا مايعني أني سأكون أحد شخوص النص .
    هل عليّ أن أخرج من النص الخالي وأقفل الباب بعدي وأن أنتظر مع هذه الكائنات ؟ .
    · من سيكتبني ؟
    في وقت ما قالوا بموت المؤلف , وسأقول هنا بحياة المؤلف .
    أين سأضعني ؟
    لنعلم أني الآن واحد من ضمن كل هؤلاء الذين يتنظرون ليدخلوا إلى كون النص .
    وهاهم يدفعوني بكل قوتهم إلى الخلف وصرت الرقم بعد الأخير .
    هل يرفع كائن مثلي من كائنات النص يده عاليا ليقول :
    · هاأنذا ؟
    سأثير هؤلاء حولي :
    · لايجوز لهذا أن يغلق علينا النص وفق هواه وعلينا أن نكون مبادرين , النص بيتنا , النص وطننا , هلمّوا معي , وسأتقدم الصفوف إلى باب النص .
    · لن ننتظر مزاجك هذا المتردد أيها الكاتب وعليك أن تفتح الباب .. الآن الآن .
    من موضعي في النص أشاهد هذا الذي يتقدم الصفوف في زخم نحوي .
    الكاتب منفصم ولاشك حين يخلق تفاصيل نصه , القلم منفصم , والكلمات ...
    وأشاهد الآن مقصلة .
    هذا المؤلف الذي أدّعيه أنا ويصر على كائنه المستقل يبني سقيفة المقصلة وسيتقدم بعد قليل ليأخذني إلى هناك ويصلبني على الملأ .
    لاشك بأني لست المسيح حتى لو تقمصته أو انفصمت ثالثا
    المؤلف ينفصم إلى كل أبطاله في النص , لكن النص هنا ليس لاستعادة ذكرى ذلك المصلوب في أي صورة من الصور .
    وحبيبتي هناك ,
    تستدرجني لنكون فاتحة النص .
    · كيف أبدؤك ؟
    كانت يدها في يدى , علينا أن نذهب غير قافلين , أن ندخل في زمن هو لازمن هؤلاء , في مكان بعيد عن كل حصوات ومجرات الانفجار العظيم , وليس بين السماوات والأرض , مكان أزلي مختلف لاشبيه له , إلى نص الحب هذا الذي سقط منه الانسان في زمن ما ولم يتمكن من العودة إليه
    هاأنذا أغادر هذا النص الفارغ حين حبيبتي تغادرهؤلاء في خارجه .
    أترك النص وتترك الجماعة
    وهاهم يدخلون كلهم إلى النص مرة واحدة , وذاك مفصومي اشاهده الآن هو ذاته من قاد هذا الزخم وخلع باب النص فلم يعد من داخل أو خارج للنص ... كل الاشياء هناك تتم مرة واحدة , جميعهم يؤلفون ويكتبون , هاهي العلاقات تنشأ هناك نصّاً نصّاً , لقد خلعوا الباب وغادروا النص غير مرتهنين لكاتب ..
    وهاانذا عبد الرحمن الخضر أقضم أظافري في السماء كحين الإله فرغ من خلق كونه , غير آبه بمخلوقاتي هذه التي راحت تؤلف نصوصها على الأرض وتسكن هناك في علاقات نحو المستقبل :
    الحب في سم الخياط .. هدر الانسان .. خمس أصابع وطائرة .. حبٌّ وصاروخ .. الفجوة .. الغذراء والرعوي .. الحب الحافي ......
    .................................................. ..................
    حبٌّ وصاروخ
    ...................
    · هل ستظللن محجبات داخل الحجرة أيضا ؟ يكفيكن الحجاب حين الخروج على الغرباء , ماعاد النازح بغريب .
    كانت هناك ابتسامة خفيفة على شفتي مريم حين كانت ستضع الخمار على وجهها وهي تصغي إلى جديث أبيها .
    - كم أنت جميلة ياجارة , يتمتم وضاح .
    لم تكن من حجرة أخرى ليخلين الطريق للرجال إليها , كل المكان حجرة وممرّ , حجرة للنساء وممرّ للرجال , هذا كل مايتوفر عليه المستضيفون في القرية من سكن ليستقبلوا فيه أسرة وضاح وأسرة مريم النازحتين من المدينة .
    يمرّالتحالف العربي بطائراته تشق السماء بصوتها النفاث , الجميع يبحلقون في الجميع , كل شيئ أي شيئ محتمل , أن تقذف صاروخا هنا أو هناك من كل اليمن .
    تبحلق في وضاح تكاد تقفز إلى صدره حين هرولت أختاها نحو أبيها وجثتا عليه .
    تعود الطائرة أقرب وأقوى , لم تذهب , كانت تحوم حول القرية وكأنها تبحث عن هدف أوعن مكان مناسب لها لاصطياد الهدف
    · أطفئوا السراج . هكذا يفعلون عندما تغير الطائرة .
    كان خليطا من صفير وأزيز .
    · إنبطحوا على صدوركم جميعا وفورا .
    يدوّي الانفجار هائلا , ويهتز السقف , وتصفق النوافذ .
    كل شيئ يتم في الظلام ويده تمسك بيدها وصدراهما يحتكان بتراب الأرض في الحجرة .
    شعر وضاح بنبض أوردة مريم في كفه , كان يقبض على كفها بحياته كلها , أن يموت وتبقى .
    ينفجر صاروخ وثان وثالث .. وصواريخ أخر .
    بين الصاروخ والصاروخ فرصة كالسماء مفتوحة على الموت , كسم الخياط تضيق على الحياة .
    شَعرَتْ كشيئ ما بين كفها وكفه , كحرفشة , كقلم ذكوريّ أنيق يكتب على صفحة قلبها .
    وتغيب الطائرات ويتداول الناس خبرا فاحشا : عشرات القتلى في استهداف طائرات التحالف مصنع الشام للمياه المعدنية في شمالي القرية .
    كانتا طفلتاه تبكيان وتحلقان على عنقه وتضربان في صدره : أنزح بنا من هنا يابابا .
    - الطائرة .الطائرة . الطائرة , تردّدان طفلتاه وهما تبحلقان في كل السماء وتصرخان .
    قال أبوهما : سننزح فورا إلى مكان آخر , حين سرب من الطائرات كان يعبر السماء وسيضرب هنا أو هناك , كل سماءاليمن مفتوحة على الموت , وسيهربون إلى مكان آخر تحت كل هذا الموت , لم يعودوا ليملكوا غير أقدامهم ليختلسوا حياتهم بين غارة وأخرى .
    بحلق فيها وراح يتأملها كسحابة تنفرط نتفاٌ , كل نتفة تبقى وحيدة وتغيب ولاتعود .
    وكمن انتزعوا كلّه منه وأبقياه فضاءا فارغا .
    في المدينة لم يكن وضاح ليشاهد مريم رغم أنهما جاران , غير أن حجرة واحدة للنساء تفتح على ممر وحيد للرجال إلى الخارج خلال ثمانية أيام هنا قضتهما أسرتاهما كنازحين أتاح له وللمرة الأولى أن يشاهد مريم بدون نقاب .
    لم يعد يشاهد نفسه بعينه المجردة , شعر الآن بعد ذهابها بأنه كسر بقيمة واحد مقامه الخلق أجمعين , كان قد حمّل رقمه الخلوي على مزقة من ورق سيرمي بها أمام عينيها لتأخذها وتسجله لديها .
    حين صرخ أبوها : إنبطحوا الآن , كان الصاروخ يدوّي وسقطت القصاصة .
    لاحقا فتح جهازه الخلوي وقرأ الخبر التالي : كاتيوشا الحوثي وعفاش تحرق تعز وتقتل المدنيين .
    وفي رسالة أخرى وتحت رقم مجهول قرأ : أنا مريم , وكآنها حواء انبجلت من ضلع آدم الآن .
    لم تفكر بشيئ آخر حين وقعت عيناها عليها , لم تكن هناك تفسيرات غيره تفسير واحد يضرب في وريدها : هذه القصاصة ليست لأحد من كل الدنيا غيري , وطوتها خلف صديريتها .
    بعد خمسة أشهر عادت مريم مع أسرتها إلى المدينة .
    وفي اليوم التالي كانوا يستضيفون أولئك الذين استضافوهم في نزوحهم الثاني .
    في الظهيرة مدوا سفرة الغداء للضيوف .
    وفي المساء كان الضيوف يطلقون الألعاب النارية .
    كان ذلك إعلانا عن خطبتهم لمريم .
    في الصباح كان الجميع يعلمون بأنه وبعد إعلان الخطبة ليلة البارحة فقد تم عقد قران المستضيف عثمان على ضيفته النازحة مريم وأن مراسيم الزفاف قد تمت بجنح من الليل في الطريق إلى بلاد زوجها .
    لم يعد وضاح وأسرته إلى المدينة , كانت هناك شائعة لم يتم التأكد منها تقول بأنه وفي بيت جارهم ميمون والذي كان قد التحق بالحوثي وعلى مسافة لاتزيد عن مائة متر من منزلهم في نفس الحارة يخبّئ الحوثيون على الدوام صناديق ذخائر وينقلونها ليلا إلى جبهات القتال في الداخل أوإلى الحدود مع السعوية وبأن المكان مستهدف من قبل التحالف وسيتم قصفه إن عاجلا أم آجلا .
    كانت الحارة وسط المدينة التي عاد إليها النازحون خالية من ساكنيها غير ليلة العقد على مريم , ولم تقم في مسجدها صلاة , وتم نقل الطلاب من غير الحارة الملتحقين بمدرستها الأساسية إلى مدرسة قريبة منهم في الجهة الأخرى , وظل وإلى الآن بيت ميمون مغلق في أي مرة سيمر من هنا أحد كما هي كل البيوت في الحارة .
    وتمر طائرة تتبعها أخرى وأخرى
    ستضرب هنا أو هناك من المدينة .
    أو أنها ستستمر في طيرانها لتضرب أهدافها في منطقة آخرى من اليمن ..
    العيون إلى السماء و الجميع يشاهدون الطائرة , كانت قريبة وستفتح حاجز الصوت .
    كان صفيرا عظيما ويدوي إنفجار .
    في خبر عاجل تحت القصف وعلى صفحات التواصل الاجتماعي يتداول الناس منشورا صادرا عن الحوثيين وعفاش باسم الجيش واللجان الشعبية يزفون فيه إلى الجنة الشهيد ميمون والذي استشهد خلال التصدي لزحف المرتزقة والعملاء على فرضة نهم الجبلية الاستيراتيجة الواقعة بين مارب وصنعاء , وفي الجهة الأخرى كانوا يتداولون منشورا صادرا عن التحالف والرئيس هادي باسم الجيش الوطني والمقاومة الوطنية يزفون فيه إلى الجنة الشهيد وضاح والذي استشهد أثناء الزحف على مواقع ميليشيات الانقلابيين نحو مدينة ميدي الساحلية شمال غرب اليمن
    ولازالت الانفجارات تتوالى ... والشظايا تمطر المدينة .



    الحب في سم الخياط
    الصدر مطلق , كيف جاءا هكذا نهداها وتمردّا عليه .
    عيناه أبداً في صدرها , لو حكت صدرها للقيت نهداها وعينيه .
    · هات مثالا من مشاهداتك اليومية على حركة القلب حين يضخ الدم . سأل المدرس التلاميذ , رفع أحمد يده وأجاب : كحركة النهدين في صدر المرأة حين تمشي على الطريق .
    بحلق الزملاء في وجهه , وحدها فاطمة نظرت فوق طاولتها , أحس المدرس بالحرج أن يدخل في التفاصيل , قوّس عينه نحو أحمد وهو يقضم شديدا على شفته السفلى .
    هنا يكمن دائما , ويتربص , هاهي قادمة , قلبه هنا في جوف صدره ونهداها هناك على صدرها , حركة القلب هنا وهو يضخ الدم وتلكما النهدان هناك على صدرها وهي تمشي .
    يفتح كف يمينه على اليسار من صدره فوق قلبه : القلب هنا ينبض مرة .
    يفرد سبابته اليسرى يشيربها إليها : وهما هناك غير مرة , القلب وحده هنا وهما هناك متضامنان , القلب غائر هنا وهما هناك يبارزان .
    عيناه هناك على صدرها الذي يتقدم ويعود , وكأنه هو من يتقدم ويعود في أريحية طفولية في هندول أمه المتدلّي إلى طرفي السرير .
    .أحس بملمس صدرها في صدره , صار صدره بحساسية مقياس جهاز الترمومتر , لن تصل القشعريرة الآن في صدره إلى قياس محدد , حول صدره كالخريف , والربيع , والشتاء , والصيف , كلها معا , لم يكن هناك الفصل المستقر الواحد , كل الفصول هنا , وكل الفصول غير مرتبة , وغير متسلسلة , حوله مناخ ليس كمناخ , وطقس ليس كطقس , كل شيئ في طريقه إلى ابتكار , سينفذ كل شيئ الآن .
    يقترب منها , سيوحي لها بأنه لايراها .
    في كل مرة يكمن في الطريق , ليراقبها وهي تسير , لن يكمن هذه المرة , سيتقدم . كان عليه دائما أن يغرزفي يقينها أنه لاغرض له , وأنه عابر سبيل مثلما هي عابرة سبيل , ولاشيئ في الأمر سوى هذا , والجميع يمرون من هنا وليست وحدها , ويسيرون على الطريق , هذه المرة سيتقدم نحوها هي , وحدها هي , عيناه هنا على جانبي أنفه نحو صدرها هناك كالتلسكوب على الأرض وهو يشاهد السماء , ماذا لوأنه يهبط على السماء . هاهو يحوم , يقترب , يدنو , ستلاحظه , وستفرمنه , وستفسد عليه قشعريرته , هولا يريد أي عارض يفسد عليه قشعريرته , ليس إلا أن ينزلق نحوها , لكنه يخشى أن يفقد توازنه حقا , فينزلق بعيدا عنها , أو يصطدم بها فيؤذيها , لكنه لن يستطيع أن يهبط غير أن ينزلق , سينزلق الآن , وهاهو ينزلق . .
    نظرت إليه يقع ويتكئ بيديه فوق الأرض أسفل منها , حين كانت هي تتقهقرعن يديه اللتين كادتا أن تلمسا صدرها , أحست بعينيه تنفلقان من صدرها , وتظن أن ريح أصابع كفيه لفحت حلمتي نهديها , ولقد قال شيئا , تلك الأحرف التي خرجت من لسانه تبعثرت منه حين سقوطه ولكنها تعني ماتقول , لقد سمعت شيئا ما ذلف عميقا فيها .
    كانت قبل هذه تشاهده على جانبيها ليس قريبا بأي مقارنة كهذه المرة , ولا يقول شيئا , وحتى وإن لمحته ينظر إلى صدرها فإنها لن تؤكد حقيقة ذلك حين تنظر إلى عينيه فترى عينيه بين قدميه أو أمامه على الطريق وليستا في كل الأحوال فوق صدرها .
    في هذه المرة أحست وبشكل قاطع بعينيه تنغرزان في طرفي صدرها , وتظن حد التأكيد أن ريح أصابع كفيه لفحت حلمتي نهديها
    أحست بلحمتين في صدرها تنفلقان , وضعت كفيها عليهما مفتوحتين وأطلقت نهدةً عميقة .
    في المساء وقد أغمض جفنيه , ومن دون كل الناس هرلاء الذين اختفوا عن بكرة أبيهم كانت فاطمة قادمة نحوه تلوح بذراعيها كأقواس قزح , وعقود شفافة من نجمات تزغرد حول رمشيها , في الأثناء أحس بكتفيه كصخرتين عظيمتين حين كان أحدهم يضع مخلبيه فوق رأس فاطمة ويحتويه ويطير , عيناه تحلقان في فضاء خاو , أدرك بأنه لا يستند على شيئ , لاوزن له , والأرض تهوي من تحت قدميه , ووحده يدور في الفضاء حتى لا يتناثر ويصير عدما كونيا . أغمض عينيه حتى لايذوب في الظلمة الكونية , وبدأ يفيق وحده ممددا على السرير, ولا شيئ غير ظلمة الليل تحيط به .
    كان أحمد زميلا لفاطمة في الصف الثالث من المر حلة المتوسطة في القرية والتي لاتتوفربها مدرسة مستقلة للبنات , وكانت فاطمة يتيمة الأبوين , سوى أن أختها الأكبر منها بسبع سنوات أدخلتها المدرسة المتوسطة الوحيدة في القرية , لتواصل تعليمها وحيدة دون البنات اللائي ماكان إباؤهن ليسمحوا باختلاطهن مع البنين , وماكان بمقدور أحمد أن يلتقي فاطمة في مكان ما , داخل المدرسة أو بعيدا عن المدرسة , بسبب من الثقافة التي تختزل المرأة في مسمى العار الذي سيتدنس في اقرب فرصة تحين له , ولأن القرية صغيرة لاتتوفرعلى فرص لالتقاط لقاء طبيعي يفترض زمنا بعيدا عن أعين الآخرين , فقد كان احمد يتحين الفرصة ما أمكن بين بيتها وبيت جارتها , فالطريق بين بيتها والمدرسة مشغول بالزملاء , وكان عليها ألا تتحدث إلى زميل آو أحد سوى أهلها إلا في وجود أختها وأخيها الصغير , وهما جموع أهلها , واللذين لا يكونان إلى جانبها إلا حين تكون داخل المنزل , وكانت فاطمة تستجيب ابدا لمشاعرأختها , وتدرك مقدار الحب الذي تكنه أختها لها , والجهد الذي لا تتوانى عن بذله في سبيلها , حتى لأنها تسربت من دراستها إلى الأبد , رغم حبها ورغبتها في التعليم , لتتفرغ لرعايتها وأخيها الصغير , وهوما دفعها إلى المثابرة في دراستها , ولم يكن أحد ليتفوق عليها سوى تنافسها هي وأحمد , وكانت تتمنى في شعور حثيث أن تتفوق عليه في أي لحظة , ودائما ما تشعرانها في سباق معه , الأمر الذي خلق في وجهه الآخر استدعاءا دائما لكل منهما للتفكير في الآخر , ليس بمعنى محدد , وإنما هو استدعاء لابد أن يستجيب إليه الواحد منهما وهولا يدري ماوراء الأكمة .
    كانت تشعر به وهي الأنثى الوحيدة من بين زملائها منفردا متفردا , ليس لأنه ذكي , فلم يكن ذكاؤه ليمثل غير نسبة مضافة في أي استدعاء لمشاعرها نحوه .
    كان أحمد يتربص خارج المدرسة ليشاهدها بين بيتها وبيت جارتها وهي تسير , ويحاول الاقتراب منها مشدوها وهائما بحراك الأنثى الذي لايقر له قرار , وتلك النقلة حين السكون في صدرها فوق مقعدها في الفصل الدراسي يراه منذ اللحظة حين تنقل النقلة الأولي من جسدها على إحدى قدميها وقد دبت فيه الحياة كأعذب حياة يتخيلها يمكنه القبض عليها .
    وحتى وأنه لم يتحدث إليها فإنه ظل يشعر أن هناك أكبر من شعرة تربط بينه وبينها , وأن هذه الشعرة قد فتلت وقويت حتى أنها لم تعد في حقيقة الأمر شعرة , بل صارت شيئا آخر أسمك وأقوي ويمكن الوثوق إليه
    في هذه الإثناء , وقد تأكد لديه أنها أقرب إليه من أي وقت مضى , دنا منها , وتمكن أن يقول شيئا قريبا من أذنيها حين انزلق بين يديها , وتمكنت هي من سماعه , أحست أنه أقرب منها إليها , كانت كلماته هذه استدعاءا مهيمنا على استدعاء المنافسة , ذلف عميقا في روحها , صار أقرب إليها من أي كائن بشري آخر , أحست بقوة هذا الشعور وأنه مسيطر عليها , لم تكن ترغب في المقاومة , ولم تطلب تفسيرا , لان هذا الحضور الطاغي لأحمد ليس من بين زملائها فحسب , حتى أنها لم تسأل هل صار أقرب إليها من أختها وأخيها , لأنها وهي تدرك ذلك في عذوبة فارقة وحبور سحيق , تشعر أنها تحب أختها وأخاها الآن كما لم تحبهما في أي وقت مضى , وأنها وقبل أي زمن قادم يجب أن تحافظ عليه الآن , لتقول له في الفرصة التالية :
    · لن تراني هنا مرة أخرى .
    وكأنها حشدت فيه في لحظة واحدة كآبة من أقصى الكون إلى أقصى الكون , وكأن أحدا يقبض علي عنقه أبدا , وكأن كائنا خرافيا سحب كل الهواء من كل الكون بشهقة واحدة .
    · انأ سأ تدبر المكان . أضافت وكأنها خلقته مرة أخرى
    صارا يلتقيان عند أختها , لا يلتقيان معا منفردين , ودائما سيكون أخوها الصغير ملازما لهما متى اضطرت أختها للانفراد بنفسها لأي غرض لبضع دقائق , ولا يستطيع هوان ينتزعها وحدها , في ذات الوقت الذي ظلت أختها ترمى على التأكيد في شعورها أن المدرسة خير لها من أي شيئ آخر , فكل شيئ في المدرسة ,ولاشيئ في غير المدرسة , والإثبات واضح وجلي وناصع وحاسم في وجود هذا الكل شيئ والذي هو أحمد .
    · أريدك وحدك.
    بدأ أحمد سيقول لها وسيتراجع , كان قلبه يركض في جسده , ليتراجع غير مرة , ليعود سيقول لها غير مرة , وليتجرأ و يقول لها أخيرا :
    · أريدك .
    ولم يزد عليها ( وحدك ) . وكاد أن يتراجع إلى الأبد , بل أن يسحب ما قاله , إلا انه دحرج : ( وحدك ) ولم يستطع اللحاق بها فهوت , وراح يراقب كل شيئ من فاطمة , هل تجاوز حده ؟ هل تطاول عليها ؟ هل ارتكب إثما ؟ هل ستصرخ في وجهه وتهيل عليه الناس وأختها وأخاها ؟ لم يلتفت إلى الوجه الآخر : هل ستبادله الشعور والرغبة ؟ هل ستقول نعم ؟ راح يراقب كل شيئ ولا يستطيع فعل شيئ , كأن قلبه شيئ قابل للكسر ثمين سقط من بين يديه فجأة على أرض صلبة . هل سيتحطم ؟ كل شيئ سيتحقق الآن ليس لأكثر من ثانية خلال تفاصيل انفعالاتها الدقيقة على وجهها
    - أنا معك
    · لست معي يافاطمة , ألاترينه ؟ هاهويعود , أنت فاطمة يافاطمة لكن الذي معي فاطمة وأخوها وفاطمة وأختها وفاطمة وأخوها وأختها , أريدك فاطمة لاأكبرولاأصغر , لاأقل ولا أكثر .
    عندما تكون أختها منفردة لنفسها , أو أنهما يسرقان منها زمنا لهما وحدهما , مكانا لهما وحدهما , بعيدا عنها , سيكون أخوها الصغير تلميذ الخامسة ابتدائي ملتصقا بهما , أينما وحيثما وكيفما كانا , وحين يريدان تغييبه للاختلاء دونه فسيرسلانه لشراء شيئ ما : قنينة ماء . علكة لبان , قطعة بسكويت , لكنه سيعود كأن لم يذهب , ولعل أختها احتاطت للأمر فهي لن تمنع الصغير أن يلبي طلبهما , وستنبهه أن يعود سريعا , وألا يذهب إلى مكان بعيد يرسلانه إليه , وفي كل الأحوال فالقرية صغيرة , وليس في القرية من مكان بعيد , وستشاركهما في الاستذكار بما تبقى لها من معلومات حفظتها خلال دراستها حتى الثانية متوسط قبل أن تتفرغ لأختها وأخيها بعد أن توفي أبوهم ولحق بأمهم , كانت تتداول معهما حول خط الأعداد , والدائرة , والدورة الدموية , وهل الأرض تدور أم لا ؟ و القمر هل مضيئ أم معتم ؟ وتلاحظ أنهما يتحدثان غالبا عن خط الأعداد والمثلثات والدوائر حين تعود إليهما بعد أن تكون قد اختلت بعيدا عنهما ويكون أخوها الصغير ملازما لهما .
    وفي إحدى المرات حين لاحظت وهي قادمة نحوهما أن أخاها الصغير ليس معهما , ظنت أنها سمعت وقبل أن يتوقفا وهما في حالة من الإرباك عن الحديث لفظة مثل (النهدين ) أو مثل (القمر) , أو أنهما (النهدان والقمر) , ولم تتمكن من التأكيد على أن ما سمعته هو ذات ما تظن أنها سمعته , وكان عليها أن تفهم المعنى وفق تقديراتها هي وتتعامل معه بحذق , وكانت قد نبهت أخاها في الماضي ألا يتأخر عنهما , وان يعود إليهما سريعا , لتكتشف الآن أنها لابد وأن تضيف : ( ولا تذهب إلى مكان بعيد يرسلانك إليه ) ولم تزد. فأختها حبيبة إليها , وأختها تود أحمد , وأحمد وفاطمة مازالا طفلين , وأحمد تلميذ ذكي , وهو صغير , ولا ضير من العطف عليه , وفي كل الأحوال فليس هناك شيئ قد تحدد بعينه .
    كان أحمد يعلم هو وفاطمة أن أختها وأخاها ليسا رسمين يمكن إزالتهما بالممحاة , وهما لا يغيبان عن البيت , وان غابا فستغيب هي معهما .
    في الليل حين ينامان : أختها وأخوها , في تهامة ذات الطقس الحار , سيضطران في الشتاء , في يناير إلى النوم في داخل الكوخ , وستنام هي تحت السماء بجانب الباب عند مدخل الكوخ داخل حائط العيدان , ستقول لأختها أن تهامة منطقة حارة , وأنها ستدخل إلى جوف الكوخ إذا اشتد البرد وهي عادة أبناء القرية في الصيف , (وسيكون أو فستكون جفناها مغمضين أو مغمضتين ) ولا تنام , وتمديدها هذه أوتلك على عينيها تحشرجهما ولا تنام , وفي الساعة حين ينام الناس كل الناس يأتي هو إلى بيتهم , وسيكون باب البيت مغلقا , لكنها ستكون هي قد فتحت المغلاق الداخلي للباب متى تأكد لها أن كل شيئ على مايرام , فيدفع الباب إلى الداخل , فيدخل إن لقيه مفتوحا , ويعيد إغلاقه من الداخل , فتراه هي فتنهض وتتقدم نحوه كالهسيس , ويلتقيان داخل حائط العيدان في موقع يكون مقابلا لباب الكوخ ليشاهدا كل حركة بداخله , ولأنها لن تأخذ السراج معها ليتمكن هو بالذات من المشاهدة , وحتى وان أشعلا عود ثقاب فان أختها وأخاها سيريان شعلة السراج أو شعلة عود الثقاب وسيشاهدانهما , فلن يشعلا أي ضوء , وسيكون ضوء القمر , والقمر في السماء , وهما لا يحملانه , ولا ولن يشعلانه , فإذا نظر أحد إلى القمر , فسينظر إليه في السماء , وهما ليسا هناك ....
    السماء الليلة مقمرة . لازوردية . صافية . بهية . تحتوي الدنيا كلها وتضعها بين كفيهما .
    أرسلا أعينهما نحو باب الكوخ . السراج في داخل الكوخ مطفأ , وضوء القمر الباهر يحتد على باب الكوخ يحشر الظلام كثيفا في الداخل , وأختها وأخوها يذوبان في الظلام .
    أحسا بالأمان . كل الأمان . مطلق الأمان . فالقمر لهما وحدهما هنا تحت السماء , وليس من قمرفي داخل الكوخ , وحدهما يريان , ومن بالداخل لايرى غير الظلام
    أحست بخوف في نهديها شهي ..عذب .. ساحر ..
    كانت تقف أمامه , بحلق فيهما , وراح يفحصهما : لاصلب ولا سائل ولا غاز . شهق ولم يعد , وضع وجهه بين نهديها وانخطف .
    أحست فاطمة خلفها بملمس كف ثالث أليف فوق ظهرها .
    ليس من زمن متاح لتستدير فيه نحو أختها .
    كل شيئ من مثقال ذرة حتى الطوفان كان يحدث الآن .

    .............
    الفجوة
    .........................
    تَعِبٌ , والتعبُ يقظٌ , في ليلتي ويصرّ على التأرق .
    النومُ سافرٌ في تعامله معي , ألْمَحُهُ بين حينٍ وآخرَ يمرُّ مِنّي قريبا , لا يصافحُني مرَّةً , ولم يلمس البتّة علي كفي الممدوة إليه , وحتى أنّه لايردُّ السلامَ حين أشعرُ بلفحةِ ريحه تكادُ تلمسُ بي .
    لستُ في شكٍّ من الفجوةِ بيني وبينه , وأؤكّد أنني لم أتسبّب من جهتي بها , بل أني هيّئْتُ كلَّ الفرص التي ستسنح لي وله بإجراء التفاهمات وبترتيبٍ لعلاقةٍ طيبة .
    السكونُ بعيدٌ حدَّ المحيطات والسماوات يأتيني بغور الحياة , وأسمع الآن دقّاتِ قلبي جليّةً , وحشرجاتِ رئاتِ كلِ النائمين تهزجُ حولي .
    السماءُ في غيمٍ أصمّ , لا تنعكس على وجهه أيّةُ لمحةٍ من ضوء , والآفاقُ موصدة , وكلَ الأشياء أُفرِغَتْ لديّ , وأنا أملأُ الفضاء في مساحةٍ هي أنا , لا تتيح لي إضافةً لزفرة فأجتر زفراتي الكنونة ذاهبةً آيبة .
    الفجرُ بعيدٌ قريب , كأنّ بقدميّ جلبة الزمن على حوافر جمل , بتلك البقعة اللحمية الدائرية تسافر زمناً كي تهبط لتسجّلَ خطوةً ليس إلّا واحدةً على طريقٍ إلى الفجر تلزمه سرعةُ لا تعترضُ سبيلها حشرجة عائقٍ كان .
    صار تفكيري الآن كخفيّ الجمل , لن يصل إلى حسم لأمر من كل ماأفكر فيه , بطيئاً , وصار الآن طوداً عظيمَ الكيان , لا يذهب ولايحرّك ساكنا .
    سنذهب صباحاً كما قال صديقي فؤادٌ لزيارة بعضٍ من المراكز الامتحانية للشهادة الثانوية العامة في اليوم قبل الأخير .
    سأحدد فورا موقفا لا يشَقُّ له غبار .
    سأتعامل الآن بذات الاسلوب الذي يباشره النوم الليلة معي .
    وسأردّ الصاع صاعين .
    وعليّ أن أصير المتفوق .
    لن أصافحه حتى لو دفع بالتي هي أحشن ومدّ يده نحوي .
    لن ألقي السلام عليه .
    ولن أردّه له .
    سأشتغل على تغوير الفجوة بيننا .
    ليست الفجوة فحسب , كلِّ شيئ , كلِّ شيئ لن أتردّدَ عن فعله , يثير غضبه , ويقضُّ مضجعه , مثلما قضّ مضجعي .
    وأعرف أنّه لن يبالي , كإبليس بين يدي الله .
    ولكنّي سأجعله يقف معتوهاً , مدهوشاً , غيرَ مستوعبِ , وحتى ذليلاً , سأجعله صاغراً يدعوني أخيراً إليه , متوسلاً بكل مالديه من مغْوِيات , هاتِهِ التي بدأ الآن يدسُّها لي , وهاهو حين لم يفلح , يروح ليغدقها نحوي .
    سأكتب الآن أيها النوم ولن أنتظر .
    سأكتب الليلة قبل الغد .
    في الليل قبل أن ينجليَ بالنهار .
    ولتمتْ بغيظِك وحقدِك .
    لن أفكّر فيك , ولا في عطاياك , فأنا حين أكتب , أمتلك الإرادة والقدرة على خلق ما أريد , أن أصير ما أريد , حرّاً كما أريد , جليّاً كما أنا الآن .
    توسّل أيها النوم , وحطّ رأسك بين قدميّ .
    أمّا أنا , فإنّي أكتب , ولن أعيرك حتّى بعض التفاتة .
    " الكتابة كبريائي العظيم ".
    والمؤذن يصدح بالفرْض من فوق كل المآذن إلى آذاننا , وفلقةُ الضوء تزهر ثَمَّ , رويداً بالفجر ثُمَّ رويدا .
    لكنني أكتب , أنا من أملك الزمان - أسيطرُ حين أكتب , وسأتحكّم بك أيها النوم وبكل الأزمنة قبلك وبعدك حسب حبكة الكتابة , أملك أن أضعك في موقع من مخلوقاتي بعيدا بعيدا , وسأكتب النهارات فقط ولن تجد لك في عالمي حتى أن تندسّ مختبئا حين العيون كلها مني فاتحات على كل أزمنة وأمكنة كتاباتي .
    " كشْ أيّها النومُ لقد أسقطتُك ".
    وعمّا قليل سيأتي فؤادٌ لنذهب إلى مراكز الاختبارات .
    لن أنتظره حتي يأتي , سأتصل به الآن .
    لم تعد على الطاولة أيها النوم , لم تعد ضمن جدّي ولا ضمن هزلي , هاأنت تتمدد بلا أنفاس في وضح النهارعرض الطريق منبوذا - وبلا أحلام - كبيضة فاسدة .
    فلا أحقر ولا أنبذ من موضع كهذا أيها النوم لأضعك فيه .
    لن أتابع مستقبلك فلا مستقبل لك .
    .................................................. .....
    مهر الدم
    ......................
    أحمد : -
    عزَّزُوا قيوده , أَنْهَضوه هناك في زاوية من الغرفة .
    كان عليهم أن يشدوه من كتفيه بوسيلة لاتسمح للقيود بكسر عظمة منه , أن يصل إلى المقصلة محفوظامحفوفا بكل هؤلاء على حاله من السجن المركزي , أن يقتلوه سليماً وبصحة جيدة .
    العساكر يأتون , يتقدمون , يحيطون به , يعبرون عتبة الباب ذي القضبان ويحيطون به .
    عند البوابة الكبرى لأسوار السجن , إلى الأمام منها هناك , في أول طلّة للفضاء , عند أول نسمة حرّة , فوق أول خطوة طليقة على الأرض المسترخية خارج السجن , تربض سيارة تحمل سجنا متنقّلا على شكل صندوق من الحديد , تفتح مؤخرتها على باب فرعي في البوابة الكبرى , كفكّي أفعي ستبتلعه ملء عينيه هذا الذي يحيطون به نحوها مصلصلا بالقيود .
    شدّوه من كتفيه إلى الأعلى , حملوه نحو الفتحة من الصندوق الحديدي , ودفعوا به إلى الداخل , أطبقت الأفعى فكّيها وانطلقت نحو ساحة الاعدام .
    ..........................
    الصديق : -
    مضطرباً ينتظر سيارة أجرة لتقف , كان قد شاهد حلماً ليلة البارحة وأحمد يقف أمامه , يتقدم هو نحوه ليصافحه فلايصل إليه , لايزال يغطّ في النوم ومرة أخرى يعود الحلم ثانية , يتقدم إليه ليصافحه فلايصل إليه , إستيقظ ليعود لينام وليحلم ذات الحلم ليتقدم ليصافح أحمد ولايصل إليه .
    مرّت سيارة وسيارات , راح يقترب من كل سيارة تمرّ وكأن بينه وبينها زمناً لا يأتي أبدا ولن تقف .
    وقَفَتْ أخيراً سيارة أجرة حين تحركت يدُهُ أخيرا .
    لم يصعد للتو , كان مشوشاً , وخشِيَ أن تذهب كما ذهبت عنه السابقات , كادت أن تدهسه وهي تقف حين ضرب برأسه في الفريم الأيمن الأمامي ويداه تتحلقان عليها , وأصابع قدمه اليسرى تتحرفش في مطاط العجلة الأمامية في الأسفل كأنه سيقبض عليها قبل أن تفلت منه .
    فتح الباب وصعد أخيرا في جوف السيارة بجوار السائق والتفت نحوه , بحلق به ولم يعد , كمن يبحث عن ضالته في عينيه , وكالقطرة الأخيرة بعد كل القطرات من أنبوب مصمت مغموس في الماء وخرج الآن فلتت جملته كلها مرة واحدة وأخيرة : إلى السجن المركزي .
    نزل عند البوابة , المدينة خلفه تحلق في فضاء حر , وأمامه هذا المبني بأسواره المتحلقة ككف تقبض في إصرار على بشرهنا لتعزلهم عن المجتمع هناك .
    طلب من الضابط في العنبر خلف البوابة إلى الداخل تصريحا ليزورصديقه أحمد ككل مرة فردّ عليه الضابط بأن الزيارة اليوم غير ممكنة
    - لكن الوقت نهار , وهو الوقت المعتاد للزيارات , لماذا تمنعني ؟
    · صديقك لم يعد هنا .
    - هاه ؟ .
    · ستراه هناك فوق منصة الاعدام .
    وكأن كل السماء تنزل مطراّ ويصير هو الطوفان .
    أدرك بأنه يستطيع حمل كل الناس غيرواحد , هو صديقه : ياإلهي سيعدمونه .
    لم يعد إلى المدينة , لم ينتبه إلى أحد , كان الطوفان هادراً في الاعماق يعجز أن يحرك تيارا على السطح .
    لو أنه يتحدث إليه , يسمحون له بدقيقة , دقيقة واحدة , واحدة ليس إلّا .
    بكلمة , كلمة واحدة , واحدة ليس إلّا .
    حتى الكلمة لاتدعوها تتم بيننا .
    أن ينظر في عينيه , لايحدثه , ينظر في عينيه ليس إلّا .
    سينقلونك من السجن إلى الصندوق ياصديقي , إلى الميدان الواسع الكبير الذي ترتاده النسمات من كل الدنيا لتتنفّس حريتها في فضاءاته , وليشهد عذابك طائفة من المواطنين .
    وحدك لن تلقى نسمة من كل ضجيج النسمات إلى هذا الميدان . وحدك ستموت من كل الناس
    سيجتثون جذور آخر نسمة فيك تبقت لك , سيقتلونك الآن , يمتلكون كل الحرية أن يقتلوك جهرا وأمام الملأ .
    ..........
    القاضي :
    هل أملك حياة الناس ؟
    هل لي أن أصنع غير هذا ؟
    ماذا كان لي أن افعل لأجله ؟
    تدقّ المطرقة دقات متتاليات فوق المنصة وتشرئب الاعناق نحو القاضي ,
    .............
    أحمد : -
    تملك أن تبرِّأني .
    الشبهات أيها القاضي , كالمنّ والسلوى يضعها الله سهلة بين يديك , إصطد ماشئت منها .
    لاتصدني أنا .
    إنسان مثلك أنا .
    ضع جبهتك هنا فأنا مثلك على قدمين .
    إضغط على رسغك فهنا ينبض شرياني كما ينبض شريانك .
    إني أتنفس حيّا مثلك .
    وخلف صدري كل مشاعر الانسان .
    وكل الكلمات على لسانك وتملك أن تنتقي منها ماتساء .
    هبك مكاني هنا في قفص الاتهام وأنا القاضي هناك فوق منصة المحكمة , ماذا كنت سترجو منِّي ؟
    أن اقولها من على المنصة : إني أحكم ببراءتك
    إنها ترفس على لسانك , أطلقها أيها القاضي : إني أحكم ببراءتك .
    ... .....................

    القاضي : -
    إني أحكم عليك بالاعدام .
    ....................
    أحمد : -
    في جوف الصندوق المنطلق سريعا على ظهر سيارة الشرطة رجل سيقتلونه بعد قليل .
    الونّان لايتوقف ولا يهدأ ويصرخ على الدوام أقوى , في الناس , في الشوارع , في البيوت , في المارة , في المقاهي .
    على الطريق يلوي الناس أعناقهم بجهة سيارة الشرطة تحمل أحدهم في صندوق إلى ميدان الاعدام , ويتقاطرون ليشهدوا عذابه من هنا وهناك .
    تسلَّلَتْ عيناه وتركته إلى الفتحات الضيقة كالغربال من الصندوق التي يتنفّس منها في طريقه إلى الميدان , مرّت خلالها حيوات كبيرة وصغيرة , قريبة وبعيدة , لا معنى لها خلف النافذة , كان يشعر بالسماء مطبقة على الأرض وتطحنانه .
    حين الحياة تسير الآن بعد النافذة القضبانية , حتى تلك التي تبقّت لها ثانية واحدة ستحيا هذه الثانية ,
    هو من بينهم جميعا ستُبْتَرُ حياته , كل حيواته القادمات , الآن بعد قليل وفي لحظة واحدة . .
    البشر يحتشدون .. يفدون , يصفقون , يصرخون : أقتلوه .
    أَنْزَلُوهُ من الصندوق , لم يرَ شيئاً بعد هؤلاء , بشرٌ هادرٌ محيط يحجب كل شيئ في الخلف إلى هناك .
    ..................
    كاتب المحكمة :-
    يقرأ حكم القاضي .
    .............
    الجلّاد : -
    يتقدّم نحو أحمد , يقف في مواجهته ويعصب عينيه بخرقة سوداء .
    .............
    أحمد :-
    أين الله ؟ تدخّل يارب كحين نفخت في الطين لتخلق الانسان . في النار كي تخلق الجنّي
    ليس الآن سواي أحمدُ , بسطٌ من واحدٍ على مقامٍ من مخلوقاتك لمليارات السنين .
    إجراءٌ سهلْ , أنت المطلَق ياكلّي القدرة .
    أوقف ربّي هذا الجلّاد , ليست القيامة الآن ربّي .
    ...........
    الجلّاد :-
    تمنّ , ماهي أمنيتك قبل أن تموت ؟
    أيّ غبيّ أنا ؟
    ماذا يتمنّى الحر الذي انتزعت حريته لتقتله الآن الآن ؟ .
    سيتمنّى أن تناوله البندقية ليفرغ رصاصاتها في جسد الجلّاد .
    ............ .
    كاتب المحكمة : -
    أقتلوه فوراً , لالا .
    صلّ .. الصلاة قَبْلْ .
    .....
    أحمد : -
    هل الصلاة الآن صلاة ؟ هل الصلاة إلى الموت الآن ككل الصلوات الحيّة ؟
    تدخّل يارب , أوقف ربّي هذا الجلاد , ليست القيامة الآن ربّي .
    .....
    كاتب المحكمة : -
    أقتلوه .
    ....................
    أحمد : -
    هل له أن يحيا ليشهد كيف يموت
    أن يعود معهم إلى المدينة في إنسان آخر
    سيعود خلسة
    هم سيخترقون بالرصاص الآن كل منطقة منه , أيَّ منطقة منه .
    كل جزء منه . سيتأكدون من كل رقعة فيه .
    ويمزقونه , يمزقون كبده , رئتيه , قلبه .
    يناثرون مخّه ؟
    يفرطون عقد عموده الفقري ؟
    أين يحق لهم منه ؟ هل كل موضع منه حقٌّ مطلقٌ لهم ليعبثوا به ؟
    .........................
    الجلاد : -
    يتقدم ويكاد سيعود , وكأسرته تقف في طريقه بينه وأحمد , يتمتم وكأنه يتحدث إلى قرينه : لقد قلت لهم البارحة وهم يتحلقون حولي بأن هذه هي آخر مرة أنفذ فيها أمرا للقاضي بالاعدام , وسنكون أصدقاء للناس .
    دوّت الرصاصات , اخترقت أحمد , في جسده , في حيواته , القلب . الرئتين . الرأس . البطن . الكبد . اللسان . الحنجرة . الإثني عشر . المستقيم . القضيب . رجولته . حياته . حريته . المشاعر . القاضي . الجلاد . الأهل . الأصدقاء . الطبيعة . الفيزيقا . الميتافيزيقا . الناس . الزمان . المكان .
    مع كل زخّة من زخّات الرصاص كان جسده يصعد فوق الآرض ويعود , ويصعد ويعود .
    رفعوه , كان بعض نبض أخير منه لمّا يمت , نقلوه إلى المشفى على سيارة الاسعاف , كان لابد من قتل أحمد مرة ثانية .
    أنزلوه إلى غرفة من المشفى .
    إستدعوا الجلّاد .
    فتحوا الباب أمام الجلّاد .
    أغلقوا الباب بعد الجلّاد .
    صوَّب الجلاد بندقيته ثانية على رأسه وقتله .
    وصوّب بندقيتة إلى قلبه وقتله .
    ........
    أصابع خمس وطائرة
    ممدّدا ينظر في سقف حجرته لاإلى شيئ , في مكان ما .
    الخارطة تدور في رأسه بكل مااتفق من الاشياء والازمنة والامكنة , هناك وضوح في مكان ما وذكريات كنيروز تركها البحر في مدّه وذهب قافلا في جزره مرة أخرى .
    يصرخ طفلٌ في بيت الجيران فيقضُّ مضجع العالم , تنشرخ الذاكرة , وتتشظي الحيوات بكائناتها وطبيعتها وتبقى الميتافيزيقا كمحور ارتكاز .
    للمرة الأولى يلحظ خمس أصابع في السقف .
    لن يكون غيره المرنِّج تركها حينئذٍ .
    يعلم ولاشك برهافة المرنّج وبالذات المرنج محسن , ولازال يتذكر تأكيد محسن الدائم في كل مرة من اشتغاله على الرنج في حجرته بأنه سيتركها علامة فارقة على تفرده وفنِّيَّته لكل من يتشرف بالدخول إليها .
    ليس الأمر هنا فحسب إنما ومنذ عشرين عاماً لم يكن ليشاهد الأصابع الخمس هذه على السقف في أية مرة كانت , وأنَّ أحدا قط لم يقل - من كل الذين ارتادوا حجرته - بها .
    أصابع من هذه الخمس ؟ , شعر بحاجتة إلى سلّم مزدوج على هيئة مثلث قاعدته ضلع من ذات بلاط الحجرة .
    أصابع طفل تلك هي , هم الاطفال من يفعلون مالا يفكرون .
    أيّ طفل صعد إلى هناك ؟ لابد وأن يكون في ذات اليوم الذي كان فيه الرنج لايزال على هيئة كريمة فوق الخشبات حين كان محسن يشتغل في السقف .
    لم يكن له أطفال حينها ولازال , ثمّ أن محسن كان يشتغل على سقالة وليس على سلّم .
    هل رفع محسن طفل الجيران على يديه حتى السقف ؟ .
    ثمّ وهنا المسألة : هل الأصابع الخمس ذكورية أم أنثوية .
    إستهوته المفارقة على الصبغة في السقف وفكّر حقا في المجيئ بسلّم مزدوج , شعر بهطول حنان غزير من أصابعها هناك , كانت بقابق الحنان تطن فوق سطح بلوري عند قلبه .
    حدّق في ذاكرته بحدّة , هل هو من لمس السقف في ذلك الحين؟ .
    ولّد متواليات من الصور لكفيه ولأصابعه ملطخة بالرنج , كل الصور كانت صافية لارنج في أصابعه , لايمنى ولايسرى , ولا أصبع واحدة في هذه أو تلك .
    الأصيل يحمل إلى الحجرة لقطات من السماء .
    سحابة تلج في سحابة , ونجم يهيم عشقا في الهلال لايبارحه لكنه لايتمكن من تجاوز ذات المسافة المستحيل بينهما .
    وماء في سطل في القاع يترجرج فوق عينيه على السقف كحصوات جاليلو التي سقطت إلى الأعلى وسط فريق الكرادلة .
    وعلى يمينه جهاز التلفون المحمول والرنة تشير إلى رسالة .
    يتناول التليفون , يفتح الرابط ويقرأ : الرئيس السابق صالح متحالفا مع الحوثي على وشك الهجوم على عدن .
    وعلى ذات الرابط يقرأ رسالة أخرى : الرئيس هادي يستقبل قبائل شبوة الذين يتعهدون له بالدفاع عن عدن .
    لازالت إيقونة الرسائل تومض , هناك أخرى , فتح وقرأ : منذ البارحة أنتظرك , هل لأني أضعني بين يديك تسترخصني ؟ . وفي رسالة طازجة يقرأ : كم كنت رائعا , إني أحبك , كانت الأخيرة غير مذيلة بإسم .
    ترنّ أيقونة الرسائل أخرى فيقرأ : " عاجل " : قوات صالح مدعومة بميليشيا الحوثيين تستولي على حوطة لحج في طريقها إلى عدن " , وفي رسالة تالية ترّن الآن قالت له : أنت تعرفني .. أراهنك .
    يتناول قلما وورقة ويكتب : كانت يدها كعطرالجنة , ووجهها كأبيض الكاذي , وصدرها كهندول الأم , وشفتاها كفلقة الوردة , وحديثها كشيطان يتهوفن , وعيناها كهديل حمام , وحبات العنب المتسلسلة فوق عمودها الفقري تقبض على خمر يتعتق في كل لمسة ستأتي هنا .
    في الصباح منذ التاسعة كان الاحتفال باليوم العالمي للمرأة وكنّ حشداً من العيون تنبلجن من الأحجبة الزرقاء التي تتهذب عند رموشهن .
    لاحظ عينين بين العيون تهدل كالحمام خلف الخمار , سمعها تحمحم في دمه المضخوخ .
    منتصف الليل بين الأربعاء 25 والخميس 26 من مارس 2015م كان سقف غرفته يغوص في الظلام وفي هذه الأثناء كانت الطائرة تمرّ قريبة , ليست كعادتها تلك فوق قريته من صنعاء في طريقها إلى القاهرة , ربّما كارثة عمّا قليل .. صوت الطائرة يستمر دون انقطاع وكأنه بمجموعة من الطائرات تمر قريبة وليست واحدة ..
    كانت الأصابع الخمس هناك في السقف , وفي السماء أزيز الطائرات .
    في الصباح كان يصحو ولازالت عيناه مفتوحتين , فتح جهازه الخلوي ووجد ضالته , كان قد حفظ رقم تليفونها وبدأ سيقرأ : " إني .... , في هذه الاثناء استرعى إنتباهه الخبر العاجل الملاصق لرسالتها : الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود يعلن بدء عملية عاصفة الحزم فوق مطارات ومواقع الحوثيين العسكرية باليمن .
    عاد وأكمل قراءة الرسالة : " لقد تركت بي أثرا لاينمحي
    إني أحبك .. وسأحبك رغم كل الظروف
    حتى لو انفصل الوطن مرة أخرى إلى شطرين سأظل أحبك
    أنت شطري الذي لاينفصل ... أنت دمي ... أنت نبضي الذي دونه أموت "
    بدأ سيكتب إليها , لم يكن ليدري هل هو صاروخ طائرات التحالف أم كاتيوشا الحوثي وعفاش ,
    ولم يكن ليتمكن من الاقرار بوجوده ضمن الجنازات هذه التي يعرضها الآن تليفزيون البي بي سي في العاشرة من مساء الخميس 26 من آذار مارس 2015م ,
    كان قد سبقهم جميعا وذهب إلى الله
    ....................
    حضن الشيطان
    .......................
    لا ألوى على أمر ويداي خاويتان وعيناي لاتستقران في مكان ولاتذهب في مكان وسمعي تائه في صراخ الشارع .
    كان يحمل حزمة قات في يده لا أمر له غير أن يسير في الطريق غير آبه بكل هؤلاء وليس غير خارطة البيت تتحرك في ذاكرته عند كل نقطة يقف عليها .
    تقدمت نحوه من مسافة لازالت تفصل بيننا وقمت بذات التعرجات التي يقوم بها وهاأنذا الآن أعرّج يسارا إلى حيث خرج من الطريق التي أتقدم فيها نحوه وهاأنذا أحكّ كتفي في كتفه لينشّ بيده نحوى متضايقا من فعلتي ويروغ بوجهه إلى الجهة الأخرى ويواصل طريقه وهاأنذا أذكر اسمه كمن أضعه أمامه على الطريق ليلتفت نحو المشاة ليبحث فيمن أدلى باسمه غير قاصد لأحد منا وهاهي عيناه تحط في عينيّ ليرتد إليه بصره في لمحة واحدة ويذهب عنّي ليقف وقدمه مرفوعة إلى أمام في طريقه وليطرف نحوي بعينه مرة أخرى .
    كان بيته على عشر خطوات من قدمه المدلاة وهاأنذا أتابعه في مؤخرة رأسه ليقف أخيرا أمام باب بيته يدير المفتاح وينقرج الباب ويدخل .
    وهاهو وقبل أن يغلق الباب وراءه يعود فورا إلى الشارع , ولازال كل شيئ في يده ولم يضع شيئا منه بالداخل وليصرخ : ياعبد الرحمن . ياعبد الرحمن . أين ذهبت ياعبد الرحمن . استمر يصرخ بي حتى رست عيناه في عيني وهاهو قادم نحوي .
    - هذا أنت إذن . شدّ على يديّ كلتيهما وضمني وتبادلنا القبلات على الطريقة اليمنية .
    * لقد كبرت ياهاني .
    - كلانا يقرأ عمره في وجه صديقه ياعبد الرحمن , السنين محفوظة في وجوه الاصدقاء الذين ذهبوا عنا .
    هاني صديق عمري الذي لم يكن ليفرق بيني وبينه غير زمن النوم أو حين يسافر أحدنا إلى القرية مع أسرته في العيد الكبير .
    حتى أنّا في مرة وأخرى أحببنا البنت ذاتها وهي المرات التي عصفت بصداقتنا ولكنا لنعود لنبلغ رشدنا , ليس على طريقة لعبة اليانصيب بيني وبينه بل لأن الفتاة تتركني وتتركه ليس لأننا غير جديرين بالحب بل لأنها تعتقد بأنا طفلان وأننا حتى غير جديرين بنزوة من نزوات الشباب .
    كان يقاتل عني , كان صلباً مفتول العضلات وكاسحا كالنار حين سيعتدي احد على صديقه عبد الرحمن , لم يكن يكبرني على ماأظن بل وبكل تأكيد ,رغم أن كل منا مع بقية زملائنا سجل تاريخ ميلاده حسب تقديرات المدرس أو إدارة المدرسة حين سجلوا بياناتنا الشخصية عند التحاقنا بالمدرسة أول ثورة سبتمبر 1962م .
    حين حصلنا على شهادة السادس ابتدائي كنا قد تركنا المدرسة لكن أحدا منا لم يترك صاحبه .
    بكيت على يدي أبي : أنت متعب ياأبي ووظيفتك لاتعطيك ماتستحق مقابل تعبك , وكل أخوتي محرومون من العيش الكريم وأمّي تعطي لنا ولانعطيها من قبلنا أي شيئ , لن أستطيع ياأبي مواصلة دراستي وساكتفي بالابتدائية وسأذهب في أرض الله وسأهاجر .
    رفض أبي أن أترك المدرسة وقال في حنان أبوي بالغ : أنت صغير ياعبد الرحمن , لكني تركت المدرسة , سأضع لقمة كريمة في فم أمي وأفواه أخوتي الصغار وسأكرم أبي هذا الذي يفعل كل شيئ لأجلنا منذ صحوه وحتى منامه , يشتغل في الصباح من الثامنة حتى الثانية بعد الظهر مع الحكومة , ويعود في الرابعة مساءا وحتى الثامنة ليلا ليشتغل مع تاجر الحديد بأجرين حقيرين لايفيان بوجبات الغداء .
    كان هاني قد فعلها مثلى وحسبما اتفقنا وخططنا خلال الأيام والليالي التي خلت .
    كان علينا أن نجتاز الحدود في طريقنا إلى المملكة العربية السعودية .
    حين وصلنا إلى مدينة حرض الحدودية لم نعْيَ في البحث عن طريقة لاجتياز الحدود فكل شيئ يتم هنا بانتظام وخلال شبكة من المهربين للأشخاص والقات والكحول والمخدرات وفي تنسيق في أحايين كثيرة مع حرس الحدود السعودي .
    أحالنا كبير المهربين على مهرب سيقوم بتهريبنا مع آخرين في مجموعة واحدة خلال الليل .
    تفاجآنا أنا وهاني ببعض ممن عرفناهم في بلدتنا سيجتازون معنا الحدود في ذات المجموعة
    كانت قصة ممدوح مؤلمة فلقد ساقنا المهرب إلى واد بين جبلين ليلا وطلب منا الانتظار هناك حتى تأتيه الموافقة من الطرف السعودي .
    عاد المرشد وقال لنا : ستمضون سريعين ولاتتوقفوا لحظة واحدة فخلال خمس وعشرين دقيقة ستتغير المجموعة التي تراقب الحدود من الطرف السعودي والتي اتفقنا معها بشأنكم لهذه الفترة لتحرككم من هنا لتجتازوا خلالها الحدود وتصبحون في أرض المملكة , وأحذركم بأن دقيقة أو خطوة واحدة ستتأخرونها في الطريق ستضعكم في قبضة الجماعة الجديدة . لقد بدأت الخمسة والعشرون دقيقة .
    وكالمتسابقين على مسافة المائة متر حين انطلاق الاشارة في سباق ألعاب القوى تحركت أقدامنا مرة واحدة عدا ممدوح .
    كان ممدوح يشعر بالحمي ويشتكي من ألم في قدميه سيعيقه عن مواصلة السير نحو المملكة أو العودة إلى مدينة حرض , وأي محاولة لحمله على الاعناق ستزيد من الزمن اللازم لاجتيازالحد الفاصل بين البلدين وسيتم القبض على ممدوح ومن يحمله , وليس من أحد سيعود إلى حرض , وكان الوقت ليلا .
    تحركنا جميعا وبقي ممدوح في الوادي بين الجبلين
    حين وصلنا إلى الحدّ السعودي قرّرت أن أعود , لم أستطع تخيل النمور وهي تأكل ممدوح بأنيابها وبمخالبها أينما اتفق لها من جسده لتقتله مرات ومرات ومرات .
    لم أجد ممدوح في مكانه ولم تبلغ عنه السلطات السعودية بعد ذلك ولم يعثر عليه أهله حتى الآن .
    لن أحكي قصة عودتي مرة أخرى إلى المملكة فلقد قبضوا عليّ وأودعوني سجن المرحّلين لعشرة أيام وحشروني بين بقية المرحلين في سيارة من سيارات نقل البضائع وأعادوني إلى حرض وأفرغوني من جوفها على خط التماس من الحد اليمني كما يفرغون البضائع مع آخرين في سيارات أخر , كنت مع جميعنا على مرأى الحرس والجنود اليمنيين هؤلاء الذين لم يحركوا ساكنا أو يسوقوا نحونا سيارة عسكرية كانت أم مدنية .
    حين مررنا راجلين حافين في طريقنا عائدين إلى مدينة حرض كان كل شيئ يتم في وضعه الطبيعي وموظفوا جمارك حرض يمارسون عملهم اليومي في ترسيم البضائع الواردة من المملكة , وجنود الأمن يمضغون القات .
    مرضت مرضا شديدا قبل أن أعود إلى مدينتي الحديدة , ذهبت إلى بيت أحدهم كان والدي يحدثنا عنه كصديق يشتغل في جمارك حرض .
    تماثلت للشفاء , كنت كالمعتقل في بيت غير بيت أبي وعدت أخيرا إلى منزلي في مدينة الحديدة .
    وكما هي عادته فلقد أصر أبي على عودتي للدراسة وسجلت مرة أخرى في المدرسة سنة أولى متوسط .
    تسربت مرة أخرى
    كان كيس السمك والخضار وحزمة القات في يدهاني لم يضعها في الداخل من منزله حين استعاد هناك صورتي فجأة وكاملة تلك التي ظلت تائهة بين عينيه من كل عروضي بين يديه بطول الشارع .
    حسمتُ الأمر وإياه فوراًواتفقنا أن نذهب للحدود بين حرض اليمينية والطوال السعودية لنشتغل في المهربات .
    ليس من راتبٍ أو أجرٍ مجٍزٍ في بلادنا وكل الموظفين يسرقون ليضيفوا شيئا إلى الراتب الحقير ليتمكنوا من العيش مع أسرهم . وليس من مجزٍ غير العائد من التهريب على الحدود مع المملكة
    كان لابد أن نعيش حتى في حضن الشيطان .
    .........................................
    لازالوا يموتون

    -الطائرة . الطائرة . الطائرة .. قريبة ياأبي وستقصف .
    *بل هي جارتنا فاطمة , ليس من ماء في بيتهم وجاءت لتطلب ماءاً من بيتنا , إنها تسكب الماء من خزان المياه إلى دبّة البلاستيك , إنه صوت الماء يضرب في جدار البلاستيك وليس صوت الطائرة يازهراء .
    الجميع يحدقون في شاشة التلفزيون : اليمن .. مائة وسبعة عشر قتيلا بقصف الطائرات في مجزرة سوق الخميس بمديرية مستبا محافظة حجة .
    -الصاروخ , إنه قريب وسيسقط فوقنا ياأبي . تجثو فوق صدره , تحلق بيديها حول عنقه وتبحلق في وجهه .
    * بل هم يسحبون السرير في بيت الجيران يازهراء , هذا صوت احتكاك السرير بالبلاطة وليس صوت الصاروخ .
    في اتصال مع المتحدث باسم قوات التحالف العربي وهو يرد على سؤال للمذيع : نحن نعتذر عن هذا الخطأ , ويؤكد قائلا : سنحقق في الأمر مع الحكومة اليمنية في الخطأ الذي ارتكب من قبل طائراتنا وسط سوق الخميس مستبا بمحافظة حجة .
    يبصق قاسم فوق بلاطة الحجرة : في كل مرة يعتذرون ولايحاسبون أحدا , ولايتوقفون , هذه هي المجزرة الخامسة .
    يفتح الفيس بوك ويقرأ : قوات الحوثِيِّ والرئيس السابق صالح ترتكب مجزرة في تعز وتقصف المدنيين في وسط المدينة .
    يبصق فوق بلاطة الحجرة أخرى : تف , هؤلاء لايعترفون ولا يعتذرون , إنهم يفعلون مايريدون متى شاؤوا , كم أنت رخيص أيها الانسان .
    كان قد تابع سابقا الأخبار عن المجزرة التي ارتكبتها قوات الحوثيُّ وصالح بحق النازحين من مدينة عدن عبر البحر إلى دولة جيبوتي على الساحل المقابل هربا من الحرب .
    -بابا .. بابا , الطائرة الطائرة . وتبحلق فيه .
    *بل هو صوت الدراجة النارية يازهراء , إنه أخوك حسام قد عاد من المدرسة .عليك في المرات القادمة أن تطفئ دراجتك ياحسام قبل أن تقترب من البيت حتى لاترعب أختك .
    -أظن أننا لن نذهب إلى المدرسة منذ الغد , هناك أخبار بأن الحوثيين يخبئون في بيت مجاور لمدرستنا أسلحة وبأن طيران التحالف سيستهدفها . يقول حسام لأبيه وهو يستعد للعودة للفترة الثانية إلى المدرسة .
    - هل سمعت الانفجار ياأبي .
    * بل هو صوت اصضدام كفِّي بجدار خزان الماء يازهراء , كنت أتذكر حيلة أخيك حسام التي دبرها لصديقيه على الطريق العام وقد قال لهما بأن المكان الذي يقفان فوقه مستهدف من الطيران ثم رمى بحجر على خزان ماء من الحديد كان فارغا ومستهلكا هناك بجوارهما عرض الطريق فصرخا وانبطحا فوق الاسفلت في عز الظهيرة , آسف يازهراء فلن أتذكر مرة أخرى طرفة أخيك , أنت بحاجة إلى الترويح عن نفسك إذهبي وخذي لك استراحة مع بنات الجيران , .
    - بابا .. بابا .. بابا أين هذا الانفجار . كانت زهراء تصيح وهي تجري قادمة من بيت الجيران في حالة من هلع شديد , شاهدت أباهايبحلق فيها ولا يجيب .
    - بابا .. بابا
    * .........
    - بابا .. بابا .. بابا .. بابا .. بابا ........
    *......
    لازال قاسم يبحلق , أراد أن يقول شيئا لكنه فارق الحياة .
    تصرخ زهراء وتبكي وتذرف الدموع فوق صدر أبيها , وفي اللحظة تذكرت مشهد وفاة أمها وهي تنزع فوق السرير قبل عامين وأخذت تردد باكية : بابا .. ماما .. بابا .. ماما .. لتبق معي يابابا , أمي عند الله في السماء وأنا وحدي هنا .
    في هذه اللحظات كانت تسمع أصواتاً آتية من الشارع : لقد قصفوا البيت بجانب المدرسة .
    -حسام .. حسام .. هل ستموتون جميعا ؟ لا لا لا لا لا لا لا ...
    يتوافد الجيران على صوت بكاء زهراء . كان أبوها قاسم قد مات بشظية من الشظايا الطائرة القادمة من الانفجارات هناك في البيت بحانب المدرسة ولابد من نقل زهراء إلى المشفى فورا فحالتها تسوء .
    كان المشفى الريفي ممتلئا بالجثث وبالمصابين وبالعويل , ولازالوا يموتون
    ....................................
    سأكتب غداً :
    الليل صاخب بالصمت وأنفاس البشر , ووحدي أملأ الكون .
    القلم منهك يتمدد على الورقة معصوب الراس ويصدر شخيرا يقلقني , أوقظه , أتناوله وأخط بدمه الحبر على السطر من الورقة .
    كان متصلبا ولم يلفظ ببنت حرف على السطر غير أني رحت أشطب فوق السطر في الورقة البيضاء وهم الكتابة .
    طويت الورقة وأدخلت سن القلم في جوف غطائه وغرسته في جيب قميصي ولازالت الورقة بيدي ,
    عدت لاسحب القلم وسأكتب إني أتمزق ولاشيئ مني على رباط بشيئ , وصرت أجوفا ورميت بالقلم وبدأت سأمزق الورقة التي فلتت من يدي بقدرة قادر فوق طرف الفراش فوق السرير وسأنام .
    كانت الوسادة تحتل مساحة أكبر من الجهة اليسرى من جمجمتي وذهبت لأضع رأسي لأجدني من قمتي على طرف السرير وأكاد أسقط رأسا على بلاطة الحجرة فسحبت الوسادة إلى الجهة الأخرى لأذهب هناك معتدلا في استلقاءتي فوق السرير.
    ظللت على هذا المنوال المقلاق ولم يستقر رأسي وكأني معلق على مسافة سمك إبهامي من الوسادة إلى الأعلى , وبدأت أشعر بسخونة في عصب الرقبة .
    في كل هذه الأزمنة كانت الورقة تتحرفش في لحمة جمجمتي حسب الحال الذي أكونه في كل مرة .
    كنت قد أغلقت جهازي المحمول منذ سأكتب كي لايستدرجني وأغادرالكتابة لأستعيده الآن وأفتح كتاب وجهي وأكتب بأني لاوجه لي ولا أشياء أخرى .
    الصفحات فارغة ولاأحد ينشر أو يتداخل ولأول مرة يتحول الفيس بوك إلى جزيرة من لحم في وسط البحر ووحدي الآن وضعت قدمي على ترابها القشري .
    وتمر طائرة تشق حلقا في الصمت وتسكب كل أسرتي من هناك زوجتي وأبناءها بين يديّ : بابا إنها ستقصف ويتشبتون بيد أمهم هذه التي تأتي بأيديهم تقبض جميعها على يدي وكأنهم سيعودون إلى بطنها وينسلون إلى ظهري ..
    شعرت برفسات الانسان في جسدي على شاكلة لعب أطفالي في النهار وبرائحة النعناع ممزوجة بالبول وعطونة إبل
    حين سيفجرون منزلنا وسيأتون أخيرا بعد انتهاء الحرب ليدفعوا شيئا كتعويض لن يستطيعوا أن يعوضوني بأولادي ولا أن يعوضوهم بي ولن تذهب الدمعات من خدي ومن خدهم ... وبدأت ساكتب ..
    سقطت الورقة أسفل السرير فأدليت برأسي وأكاد أرتطم بقاع الحجرة وصرت بكلِّيْ في نقطة في منتصف الجبهة وتناولتها لأعود إلى السرير على غير اتزان وأكاد أهوي وأصيت :هاه هاه هاه .
    بحثت عن القلم في جيبي وتحت الفراش وفوق الفراش وتحت السرير وفوق السرير ولم أترك مساحة من قاع الغرفة عسى أن يكون قفز إلى هناك حين حراكي القلق فوق السرير وأظن أنني سمعت قلقلة حينئذ في مكان ما .. أخيرا كان القلم معلقا من خرطومه في طرف الجيب الخارجي من قميصي فنتفته من هناك وبدأت سأكتب
    ليست من كهرباء لكن القمر في الخارج كان في ذروة تجليه فخرجت إلى فضاء الحوش ... وبدأت سأكتب .
    كانت الورقة متصلبة بالحبر وليس غير بعض من 1/100 من كل سطر لازال صالحا للكتابة بعد أن شطبت الكلمات المفترضة تلك التي لم أبدأ كتابتها حينئذ وبعد .
    أشرعت كفي وبدأت سأكتب على ضوء القمر كي أضعه في غلاف من الورقة العمياء حتى الصباح للحفاظ على ماتيسر من الجمل على باطنه ... وبدأت سأكتب .
    لم يبت القلم ببنت حرف واحد ورحت أغمسه في المنطقة الرطبة من كفي وأحركه في كل اتجاه لكنه لم يتفضل على كفي بأي حرف لأرفعه وأحركه إلى الاعلى وإلى الاسفل واعود لاكتب , لكن الحبر كان قد كمل .
    تناولت جهاز اللابتوب وبدأت ساكتب إليكترونيا وفلقتُ جانبيه وقرعت المفتاح لتومض على الفور الاشارة الحمراء بعدم توفر الجهاز على الطاقة اللازمة للإضاءة للكتابة .
    تناولت سلك البطارية وأدخلت الكبس في الفيش في الجدار لشحن الكهرباء إلى جهاز اللابتوب ... وبدأت ساكتب
    وفي كل الاحوال فالكهرباء مقطوعة في كل بلادي منذ زمن .
    كان يلزمني أن أستريح حين المؤذن يصدح بأذان البشارة الأول من الفجر , لايعجبني الانتظار في المساحة بين الأذانين هذه كمن يضيئ أسرجة الشارع في منتصف النهار ...
    تمددت على الفراش ووضعت قلقي على الوسادة .
    ليست غير كسرات من الزمان وستنفلق قبضة هذا الليل وينبلج النهار .
    .................... وسأكتب غداً

    الحب الحافي

    لاحظ الأصدقاء والجيران اختفاء هديل , كانت قد بلغت الثالثة عشرة
    حين شاهدته للمرة الأولى بعد الحجاب لم يرها , شعرت بالعمى .
    لم يعد مباحاً لهما التحدث معا على انفراد أو بين ومع الآخرين .
    شعر بحزن لم يعهده في كل حياته : لن أراها مرة أخرى , لن أتحدث إليها , هكذا حتى نموت , ستتحدث فقط إلى أبيها وأمها وإخوانها ومحارمها الآخرين , لكني أحبها أكثر من كل هؤلاء , أقسم أني أحبها أكثر من أبيها وأمها .
    الله الله " هكذا يردد حسام ويكررها ثانية وبضوت مسموع حين يفتحون له الباب في بيت هديل كما هي العادة في بيوت اليمنيين كإعلان تفهم منه النساء بأن شخصا من غير المحارم سيدخل الآن ليختفين خلف الابواب حتى لاتقع عيناه عليهن أثناء دخوله أو خروجه .
    كانت هديل توارب الباب أخيرا بعد أن تتيح لحسام أن يختلس نظرة منها , وحين سيخرج مرددا وبصوت عال " الله الله " مرة أخرى تتأخر في البهو قريبا من باب غرفتها كي تتيح له أن يلتقط أكثر
    من نظره , وحين يغادرهم سيقف ليصافح أباها خلف عتبة الباب إلى الشارع أو يتحدث إلى أمها لتقف هي في مواجهته في الداخل قريبا من باب غرفتها إلى البهو وتبتسم إليه في الخلف منهما وتضم عينيه في عينيها , وحين سيلتفت أحد أبويها ستكون قد سحبت طرف ثويها إلى الداخل من الباب وتوارت . .
    على الباب الخارجي لبيت هديل يفتح ابن خالتها السائق سليم الباب الخلفي لسيارة صالون لاند كروزر , تطلق الخادمة زغرودة وهي تتناول من جوف السيارة ماخف من الهدايا التي حملها الشيخ عبد الملك إلى أسرة هديل والتي أطلقت قبل أسبوع إسم عبد الملك على مولودها الجديد , .. بعض الهدايا ملابس للرضيع عبد الملك , وأخرى لأمّه , بين الهدايا خاتم مرصع بالماس نحت فيه قلب يخترقه سهم ينتهي في طرفه بريشات غاية في الرقة والجمال , هذا لهديل ذات الأربعة عشر عاما , هذا ما خمنته أمها ونفذته دون حاجة إلى تفسير من سليم .
    .....................
    كان سليم وعلى الدوام يتحدث إلى الشيخ عبد الملك عن ابن خالته الصغيرة وكيف بجمالها يزدهر يوماً عن يوم, وكان الشيخ عبد الملك قد شاهد هديل في مناسبات مختلفة تلعب وتأكل مع بناته الصغيرات وتذهب معهن إلى المدرسة
    في هذه المرة رآها محجبة .....
    -هل كبرت هديل ؟ أحس بجاذبية , لم يكن قد شاهد هديل منذ انقطعت عن الدراسة ولم تعد لتعرّج على بناته في طريقها لترافقهم إلى المدرسة . تذكّر الحكاية الشعبية بأن نفاخا بعينين اثنتين ينفخ وبروية وفق قياس منتظم في الطفل حتى سنّ البلوغ في حين أن نفاخا أعور لايضبط القياس بعين واحدة فحسب هو من ينفخ في الطفلة فتنضج سابقة على الرجل .
    سيطر عليه شعور برغبة لاتقاوم نحوها
    والآن ومن هذه الانفراجة التي أحدثها قبل قليل في سترة باب غرفته يشاهد هديل تجلس فوق سرير صغير مع إحدى بناته وتنقشها بالحنّا ..
    منذ الآن سيستخدم سليم كمراسل . فهومن يستطيع أن يدخل في كل الأوقات , بحزمة القات (1) لأبيها وأمها , وبالعطر لهديل .
    يعلم سليم منذ اليوم الأول من مهمته بأن هديل لا تنجذب للشيخ عبد الملك وبأنها تهيم في جارها حسام , ولكن سليم لايعيد العطر بل يضعه بين يدي خالته .
    في هذه الأثناء وضعت فاطمة مولودا ذكرا أسمياه عبد الملك .
    · إذهب إلى خالتك , الأم هي فاتحة ابنتها , قل لها بأن سميّكم الشيخ عبد الملك سيأتي ليخطب ابنتكم هديل .
    كان قد بلغ الستين , وقرّر أن يطلق واحدة من زوجاته الأربع ليتزوج هديل , وحين يأتي سليم بنعم سيطلِّق , نعم سيطلِّقها هي زوجته الرابعة الأخيرة , وأصغرهن " مهديّة " هذه التي تطلّقت بسببها زوجته الأولى العجوز " محصنة " , لاتستوي صغيرتان لشيخ في الستين , واحدة ستكون هي الحضن الدافئ .الأخرى ستكون القاتلة , إهدها هذين الخاتمين , خالتك هي من ستتصرف بهما , سَتُبْقِىْ واحداً من الخاتمين لها لتعقده على أصبعها عند خروجها بعد انتهاء طقوس الولادة , هذا لها وهذا لهديل , لاتقل لها فهي من ستتصرف , الأم سر ابنتها وفاتحتها , خاتمين وخطبة ياسليم , هذه أولا , فلتأتني بالثانية , سأهديك شيئا ما على مجيئك بنعم , ليس غير نعم , لكنني سأكون كريما إليك , هل شاهدت ابنة خالتك تنقش الحنّا وكأن بستانا من ورد صاخب يدها , يد المرأة رسالة الرجل إلى جسدها ياسليم .
    كان سيسأله : هل رأيت ابنة خالتك كما يراها الرجال لكنه حبس سؤاله , ثم أنه يعلم بإن سليم إنسان بين الذكر والأنثى
    - من الطارق . ترفع صوتها فاطمة حين سمعت طرقات على الباب
    · إبن أختك ياأجمل خالة .
    تفتح الباب فاطمة , يدخل سليم , تلمح في يده علبة صغيرة مغلفة , كان مفتاح السيارة في يده الأخرى , هو قادم من لدنّ الشيخ عبد الملك إذن .
    - مرحبا يابِزي (2) تفضّل أنت لاتحتاج إلى استئذان .
    · لقد أرسلني الشيخ , ستسمعين على لساني مايسرك ياخالة , خذي هذه أولا . يقول لها وهو يضع الغلاف في يدها ويضيف : ليست واحدة بداخله , إنهما اثنتان , ستسمعين من الشيخ الآن على لساني مايسرك , أين خالي صالح ؟
    تتناول فاطمة الغلاف وعلى شفتيها ابتسامة عريضة :
    - -إبدأ معي لافرق بيننا , صالح يمضغ القات في الداخل . تقول فاطمة والبسمة ترقص على شفتيها وتنادي على صالح في الداخل .
    · الشيخ يطلب يد هديل ياخالة , ألف مبروك .
    أوّل الليل , حين سيذهبون لصلاة العشاء , لازال بعض من أصيل . الناس يقرون في بيتوتهم بين مغرب وغشاء , الشياطين تبدأ في الانفكاك عند الغسق .. الاطفال في أحضان أمهاتهم وفي الهناديل , الجميع يقرؤون سورة الغسق , وهديل تهدل الخطي إلى السقيفة بين بيتها وبيت حسام , هذه المرة ستقول له بأن الأرض ستنسحب من تحته وتحتها وسيهويان على الدوام .
    تأخر سمير بعض الوقت , هكذا شعرت هديل , سيأني قبل العشاء ولاشك , وهي تقدمت عن الموعد الذي اعتادا عليه في كل مرة ولاشك , لماذا لايأتي؟ ستهوي فوق الأرض واحدة من السموات , يجب أن يوقفها حسام وأنا , أن أتخلى عن كل شيئ , عنهم جميعا لأجلك ياحسام , أين أنت ياحسام , تلمح حسام يتلفت هنا وهناك ويأتي , ترفع كفها للأعلى وتلوح بذراعها من داخل السقيف , بالكاد يشاهدها حسام حين يقترب .
    · لماذا تلوِّحين ؟ , لم أتأخر , وأظن أنني تقدّمت في اليوم على مجيئي في أي يوم .
    كانت تبحلق في عينيه , وكطفل ضمته كما لم تضمه في حياتها , كما لم تضمها أمها أو تضمه أمه , وغاصت بوجهها في صدره وبكت
    · ما بك هديل ؟ ماذا جرى ؟ كان يضمها إليه , أرجو أن يكونوا جميعهم بخير , ماالذي يمكنني عمله ؟ يزيحها قليلا إلى الخلف , يقبلها , تذهب فيه وتذهب وتذهب , يرفع وجهها وينظر إليها .
    - قد أرسل ليخطبني
    · ماذا ؟.. وكأن أحدا اقتلعه وهوى به إلى السماء : متى ؟
    - لقد قالوا نعم أمي وأبي – وهي تنشج بالبكاء – وحددوا للشيخ موعدا هو اليوم التالي لخروج أمي من ولادتها على عبد الملك .
    · متى ستخرج أمك ؟
    - خمسة أيام ياحسام من الآن وتخرج أمي , ستة أيام من الآن ياحسام ويعلنون الخطبة , وشهرواحد بعد الخطبة ياحسام ويعقدون القران , لقد اتفقوا على كل شيئ .
    أحس بغثيان وبكل شيئ يدور من حوله ويدور , وبهديل تذهب عنه وتذهب , كاد أن يسقط , أمسك بهديل وضمها إليه .
    · لابد أن أتصرف ياهديل , قبلهم جميعا , أو أنني سأموت .
    يضمُّها إليه , يرفع كم قميصه ويمسح آثار الدموع فوق وجنتيها .
    يتناول كفها في كفه , يشد عليها , يشعر بسيل من الحنان يتدفق من كفها في أوردته .
    · سنهرب ياهديل . يقول لها حسام والإصرار يقدح في عينيه
    · في الجنة معاك وإلا النار نار ياسليم (3). تردّ عليه وكأنها ستقفز إليه الآن ويهربان .
    كانا يعلمان بأنهما لن يتمكنا من فعل شيئ بعد إعلان الخطبة , سيحرق الشيخ القرية إن هرب بها بعد خطبتها عليه , لن يمحو عار الشيخ غير الحريق .
    الساعة العاشرة ليلا وشجرةٌ تتعرَّى للندي والقمر , بعض قمر يتسرب من بين الأغصان , حبات عقد القمر المتساقطة خلال حفيف الأوراق تنتثر فوقهما كرسّام يتفنّن , يستوحي فكرة لوحة .
    خرجت هديل من البيت لتتسامر مع صديقاتها كما العادة .
    الرسام يمطُّ ظَلَّةَ السحابة على مساحة منهما تحت الشجرة حتى هنا , وهنا قمر , وهنا نثار من السحاب والقمر .
    العاشرة ولم تعد هديل , تذهب فاطمة إلى بيت جيرانها , وعن عمد تبدأ ببيت حسام , لاحظت بأن حسام لازال خارج البيت , تذهب إلى بتوت الجيران الأخرى وتمدّ قدمها إلى أخرى وأخرى .
    أوراق الشجرة تحفّ على الأغضان في الأعلى , تتموَّجُ في ضوء القمر على دندنة المعزوفة في الأسفل .
    · لن نعود ياهديل , علينا أن نمضي إلى الأمام , ألا نتيح لهم أي فرصة , أن نقطع وإلى الأبد أي صلة له بك ياهديل , أن نزرع ابننا الآن هذا الذي سيسبق أي عقد بك وسيسبقهم جميعا ولن يستطيعوا اللحاق به .
    يضمها إليه ويزرعه , كانا يبحلقان , في الشجر , في القمر , في الظلال , في البعيد , في الآفاق , في الجنين .
    تطرق على الباب , ينفتح الباب على فتاة تنظر نحو ضيفتها , تقرأ الرسالة في عيني هديل وتسمح لها بالدخول , يعود حسام أدراجه بعد أن تأكد له دخول هديل إلى بيت الشيخ عايض .
    · -إحبسني , لقد هَرَبْتُ بها وأودعتها بيت الشيخ . يقول حسام للسجان المتَّكئ يسارا على أكثر من وسادة على أرضية غرفة الحراسة ويمصغ القات .
    تعود زوجة الشيخ عايض إلى غرفتها وتترك فاطمة لتنفرد بابنتها هديل في الفناء.
    - لو مزقتموني مزقة مزقة لن أعود إلا على ذمة حسام .
    · لن يعقد بك أبوك على حسام لو تنطبق السماء على الأرض , إتقي الله فينا ياهديل , لم يخرج أيوك من البيت بوجهه أمام الناس منذ هروبك مع حسام , أين يضع وجهه منهم ؟ هل هذه هي خاتمة تربيتنا لك , هل هذا هو الجزاء الذي كنا ننتظره منك ؟
    - وهل ترضون لي رجلا في الستين وأنا لازلت بنتا ألعب مع بناته ؟
    · وهل كبرتِ لهذا الحسام فقط ؟
    - لأهرب معه من الشيخ عبد الملك , وقبل ذلك فأنا أحبه .
    · خلاص ياهديل الشيخ عبد الملك لن يتزوجك بعد الآن , لكنه لن ينسى أنك مسحت بوجهه في التراب
    - ولماذا لا أتزوج حسام ؟
    · لن تتزوجي حسام مادام الشيخ عبدالملك على قيد الحياة بعد الذي صنعتِه به .
    - ولن أتزوج غير حسام .
    كانت زوجة الشيخ عايض تخرج إلى الفناء في هذه الأثناء , تجري نحوها هديل وتركع على قدميها :
    - إنقذيني , الموت أرحم بي من تركي لحسام , لن أترك حسام .
    تمد زوجة الشيخ يدها إلى يد فاطمة , تأخذ كفها إلى كفها إلى الداخل , ويتركان هديل في الفناء :
    · الآن خرج الشيخ عبد ا لملك من عند الشيخ عايض .
    - هاه ! , لكنها قالت بأنها ستقتل نفسها .
    في هذه الأثناء تسمع فاطمة من زوجة الشيخ عايض ماكانت تخشاه , لقد فقدت هديل بكارتها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض .
    يصعد الشيخ عبد الملك إلى مقدمة السيارة , بتبعه العكفة * ويصعدون , يحرك سليم المفتاح إلى اليمين ويضغط على البنزين ,كان الشيخ عايض يلوح بيده عند الباب من العمارة .
    · خمس دقائق فقط . تقول الخادمة لهديل وهي تفتح الباب وتسمح لها بالخروج إلى الفناء لتقابل حسام .
    - لن أخرج من هذا المكان إلا إلى بيتك أو إلى القبر ياحسام .
    · خمس دقائق فقط . يقول الحارس لحسام وهو يفتح الباب الخارجي ليدخل إلى الفناء ليقابل هديل
    - لن يأخذونك مني إلا مقتولا أو فاقد العقل ياهديل .
    عشر دقائق ويغادرحسام بيت الشيخ عايض
    قبل أن يغادر حسام كانت هديل قد أمسكت بكفه وفتحته على جلدة بطنها : إنه هنا ياحسام . .
    يعلم الشيخ عبد الملك وأمها وأبوها وحسام والشيخ عايض وزوجته وبناته بأن هديل حامل في شهرها الأول , ليس مؤكدا فيما إذا كان سليم والمرافقون للشيخ عبد الملك وسكان القرية على علمٍ بحمل هديل . .
    الخادمة وزوجة الشيخ عايض وبناته وفاطمة وهديل وحسام هؤلاء وحدهم من سيؤكدون الخبر , الآخرون سمعوا به فحسب , لكن الخادمة في المقدمة هي من علمت بفض البكارة , هي من اكتشفت ذلك وبعد شهرين هي أيضا من تدري بأن هديل حامل في الشهر الثاني
    كان لابد من أن يحسم الأمر وأن تتزوج هديل قبل الشهر الثالث من الحمل , لن يتمكنوا من حجب الانتفاضة في بطن هديل , سيقولون لا مقابل كل الإشاعات لكنهم لن يستطيعوا ذلك مقابل النفخة في بطن هديل .
    بعد شهرين من هروبها أصيبت هديل بمرض تعثرعلاجه في الوحدة الصحية بالقرية فتفضل الشيخ عايض بإسعاف هديل إلى مدينة الحديدة وتناقل الناس بأن نفقة السفر والعلاج كانت على حساب سميّها الشيخ عبد الملك و قد تم نقلها إلى المدينة على سيارته رفقة أمها والخادمة وابن خالتها السائق سليم .
    بعد عودتها من المدينة تم عزلها عن الآخرين لمدة ثلاثين يوما .
    .في هذه الأثناء تناقلت النسوة في القرية خبرا مفاده بأن ماأثير حول حمل هديل من حسام أثناء هروبهما واختلائه بها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض لم يكن في الواقع غير إشاعة وأن البعض من النسوة قد شاهدن هديل في روبها الداخلي دون أي علامة على حمل رغم مرور أربعة أشهر إلى الآن منذ هروبها مع حسام .
    .إنقضى عام ولازال حسام قابعا داخل السجن , كان ينتظر قدومهم ليخرجوه ويعقدوا له على هديل إن لم ترفع القضية إلى القاضي أويقيموا عليهما الحد جلدا ثم يعقدوا بها عليه بموجب حكم من القاضي حسب العرف السائد , كان يعلم بأن الشيخ عبد الملك لن يوافق على زواجه من هديل وبأن الشيخ عايض لن يخالف رغبة الشيخ عبدا الملك وبأن مأمور المديرية لن يدخل في خلاف معهما وبأن القاضي لن يفصل في القضية إلا إذا رفعها إليه الشيخ عايض أو مأمور المديرية .
    لم يتمكن حسام من زيارة هديل منذ عودتها من المشفى وظلت عينا الشيخ عبد الملك تراقبانه داخل السجن .
    عادت ومرضت هديل بحمي الضنك , وكادت أن تقضي ,لم تكن تستطيع الوقوف على قدميها أو الذهاب إلى المرحاض إلا محمولة , وتآكلت ساقاها فنقلوها إلى بيت أبيها تحت عناية أمها .
    في هذه الاثناء تسلم حارس السجن أمرا خطيا يقضي بإطلاق سراح حسام وإخلاء سبيله .
    ركب حسام إلى الحدود ليشتغل في التهريب في المنطفة الحدودية المشتركة مع المملكة العربية السعودية , كان مع آخرين من اليمنيين هناك على الحدود يحمل فوق ظهره كيسا يحتوي على أقراف القات ينقله إلى الطرف الآخر على الحدود مقابل مائة ريال بالعملة السعودية عن النقلة الواحدة .
    تماثلت هديل للشفاء بعد شهر من المرض وكان الشيخ عبد الملك على رأس المرافقين للسائق سليم إلى بيت خالته لطلب يد ابنتهم هديل
    بعد شهر من الخطبة زفت هديل إلى ابن خالتها سليم .
    وبعد عام ونصف العام وضعت هديل إبنا أسماه أبوه بعبد الملك .
    كان سليم يأخذ ابنه ويضعه في حضن الشيخ عبد الملك قائلا في حبور : سبحان الخالق الناطق , إسم على مسمى ياشيخ , إنه نسختك .
    غادرت هديل بيت زوجها سليم , كانت تشتكي من مضايقات الشيخ عبد الملك , عضلت في بيت أبيها ولم تعد إلى سليم .
    في يوم ما سمعت هديل كغيرها من الناس بأن حسام قد قتله حرس الحدود السعودي في الخط المشترك بين البلدين حين كان يحمل فوق ظهره كيساٌ محشوا بأقراف القات (4) وأن الشيخ عبد الملك قد تحرك إلى المملكة ليقبض دية حسام من حكومة المملكة وليستلم جثته من ثلاجة الموتي ويعود به ليواري ثراه في بلاده اليمن
    .................................................. ............
    . 1- شجرة القات تزرع في اليمن وتدر كثيرا على مزارعيها في المناطق الجبلية الصالحة لزراعته , ويتناول اليمنيون أغصان القات ويمضعونها بعد وجبة الغداء عادة ويسهرون على مضغها ليلا وبعضهم حتى الصباح ويتم تهريب أغصان القات من اليمن إلى المملكة العربية السعودية والتي تحرم تناوله هناك وتعتبره صنفا من المخدرات .
    2- البزي هو إبن أو إبنة الأخ والأخت .
    3- في الجنة معاك وإلا النا نار : المقطع الأخير من الأغنية اليمنية المشهورة : " باهي الأوجان " وهي من التراث اللحجي كلمات الشاعر والملحن الشهير عبد الله هادي سبيت وغناء محمد صالح حمدون , وقد غناها ويتغنى به العديد من الفنانين في اليمن وفي دول الخليج .
    4- أقراف القات وهي أكياس من ورق الموز يتم لفها وحشوها بربط صغيرة من أغصان القات ويتم تهريبها من اليمن إلى السعودية , ويحظر تداولها في السعودية ويعاقب متناولها أو المتاجر بها .

    .................................................. .......
    متعة الجنون
    .................................
    *هل لديك جواز سفر ؟
    - نعم أميرتي .
    Ok*
    - أنت لاتعرفينني .
    * بل أعرفك .
    - ياإلهي , تلك صورة غاندي , ألا تعرفين من هو غاندي سموّ الأميرة ؟
    * بلى موهانداس كرمشاند غاندي الذي تضعه كصورة شخصية لك , إني أتتبع نشاطاتك كلها وأراقب نظرتك وحنينك الذي تخفيه هناك والذي لايخفى على أي امرأة
    - هاه ؟
    * حنيناً ليس كأي حنين .
    - هاه ؟
    * هل شاهدت مئات المتداخلين على منشوراتي .
    - بل الآلاف , منشوراتك راقية وهذا ماجذبني والآخرين إليك وإلى التداخل معك دائما .
    * هل لفتت منشوراتي انتباهك ؟
    - ولاشك .
    * لقد بعثت إليك بأكثر من صورة .
    - في غاية اللطف والجمال .
    * أيهما ألطف واحمل أنا أم منشوراتي
    - كلاهما منك وفيك وإليك
    * أعرف أنك تجيد التعبير .
    - لكنك تفوقينني
    * أنا أم منشوراتي ؟
    - كل شيئ منك يفوقني ويروقني أستاذة مريم
    * هل تنطقني مريم أم مريام ؟
    - الآن كما يحلو لك سأنطقها
    * هي مكتوبة بالانجليزية على صفحتي وتستطيع أن تنطقها في الحالتين , هل شاهدت صوري ؟
    - ولقد كتبت إليك عنها .
    * أريدك أن تراها لحما ودما ؟
    - هاه ؟
    * قلتَ بأنك تتوفر على جواز سفر أليس كذلك ؟
    - نعم و...

    أشارت لي نحو جناح ملاصق لنا وقالت : شهرزاد وشهريارجيراننا هنا . سنكون إحدى حكايات ألف ليلة وليلة .
    في الدور الواحد بعد الألف فوق سحاب الأرض . البحر ساكن في الأرض البعيدة هناك , إشتهيت الموج وقلت لها .
    تحدَّثَتْ مع أحد أم لا أحد ؟ لا أعلم , لتفتح بعد لحظات بابا شبيها بباب الطوارئ في الطائرات حين تحلق في السماء وأخذتني من خنصري نحوها وركبنا قاربا كان راسيا على حافة الف دور ودور في جناحنا وهبط بنا كما يهبط المصعد ولكن حسب سرعات كانت هي تختارها من مفتاح لديها , بدأت رقرقات الموج ترفُّ في الاسفل , قلت لها خففي سرعتنا دعيها كخطوة الجمل , دعيها موجات البحر تأتينا كطفل يكبر بين عينيك دائما فلا نفرق بين صغره وكبره بوضوح ,
    والآن دعي القارب الفضائي يقفز كرضيع تغيب عنه لتعود وهو يحبو , ثم يقف , ثم يمشي , ورحنا نلعبها .
    ولازالت تمسك بخنصري كطفل حين نحن الآن في جزيرة مهجورة وأنا أتبعها لنغطس في الماء حتى أرض صلبة في القاع , كانت الاجساد بين ثلج وماء ملساء ناعمة وموسيقى محمد الموجي تعزف قارئة الفنجان
    مقد ورك أن تمضي ابداً في بحر الحب بغير قلوع .
    تذكرت أوذيسة هوميروس وذهبت مع أميرتي في حلم صاخب عميق .
    حبن صحوت كنت وسط جموع من البشر المتوافدين من القرى والمحلات لبيع وشراء حاجاتهم في سوق قريتي الاسبوعي الذي يغص كل أسبوع بالبشر والبضائع واقفا على انتصاب قامتي كلها , حافٍ عارٍ من ملابسي سوى سترة صغيرة عاجزة عن إخفاء عورتي والناس يمرون بجانبي غير مكترثين بي , كان شعر رأسي شبيها بسلاسل غير منتظمة يصل بعضها إلى فوق كتفي ويتدلى بعضها أمام عينيّ
    أردت أن أصرخ أن أصمت أن أسأل أن أنصت أن اراقب أن .. أن .. أن ..
    كنت قذرا ورائحة النشادر تفوح مني ويداي متشققتان والدم يتخثر في واحدة من قدميّ .
    كانت سواتاي باديتين للعيان ورحت سأضع كفيّ فوقه وسأخصف علىهما من أكياس البلاستيك المستعملة المرجومة بها في كل مكان من السوق الذي يغص بالمتسوقين لكني توقفت , فأنا عاقل الآن وعليّ أن أكون عند مستوى الموقف وقررت أن أظل مجنونا وفي كامل جنوني وسأصير واحدا من المشاهدين . لابد أن ألعب الآن دوري هذا حتى وصولي إلى البيت .
    لاحظت نظرات الاستغراب على عيون الجميع من كنت أمر بهم في طريقي إلى البيت ولابد أن تكون هي المرة الأولى في طريقي إلى هناك منذ أصابني الجنون ولاشك أن حركاتي تخلف الآن عن كل ذلك الحين .
    كل ماأفكر فيه الآن كيف أبقى مجنونا في طريقي دون إثارة انتباه من أحد
    كان عليّ أن أبقى مجنونا تحت نظري ومسمعي وبكامل قواي العقلية .
    سأختبئ هنا حتى المساء وأعود دون أن يراني أحد وسأسوّي نفسي حين تكون أمي نائمة
    لكنني عار حاف كأي حيوان ولم أعد لأستطيع استنشاق رائحتي الكريهة
    - لا تستطيع ماذا ؟ ماذا بك ياأخي ؟
    ..........................................
    ماذا ؟ هل انكشف أمره ؟
    سيهرب .... لن أدعهم يعلمون .
    عاد يمشى .
    - وعندما أصل سأفتح باب بيتي وأدخل وأغلقه خلفي مرة أخرى .
    وعند باب بيته لايتوقف , يمشي ويمشي
    يذهب عن بيته ويعود
    ويذهب ويعود
    ولازال يذهب ويعود .
    .................................................. .................................................. ....................................

    " .العذراء والرعوي .... ساري وميسون "
    ..........
    على العشب الأخضر يكسو الأرض فوق متسّع السهل حتى الأفق ويتفلَّق مزدهرا بلطخات من الطيف هنا وهناك تتقاطر أسراب البنات من القرى حول البئر على جانبي الطريق جيئةً وذهاباً كزكرشة خيطٍ متقطع الالوان , ناصباتٍ جرارهن على لفة من قماش فوق رؤوسهن , مائجاتٍ على المنعطفات في الطريق , يتراقصن على إيقاعاتها لإحداث التوازن عند رجرجة الماء في الجرار .
    يَمْسكْنَ بالحبل متضامنات , ويجرِيْنَ كدرّات في عقد إنفطرن حافياتٍ لتصعيد الدلو من قعر البئر بعد أن امتلأ بالماء , ينتثرن حول إحداهنّ تملأ جرتها ويتبادلن الأحاديث والحكايات , تقترب إحداهن من أخرى لتهمس في أذنها بنبأٍ لايليق بها إباحته على الأخريات .
    خلال رحلته المكوكية بين منزله والمرعي يرد بغنمه الماء في الحوض الطيني عند البئر التي تتحلق حولها الفتيات , يقف تحت ظل شجرة على الطريق حتى ترتوي فيهش عليها بعصاه ويذهب .
    في هذه المرة رآها , نشبت عيناه فيها ولم تغادرها .
    جفّت الماء في الجبل , وانْغَزَلَ المطر خيوطا من ضباب في السماء , فهطلت مَيْسُوْنُ على السهل بجانب البئر لتجلب الماء .
    الطريق من قمة الجبل إلى البئر كسحبة ثعبان ولا مساحة لحركة على الطريق غير نقل القدم إلى أمام .
    منذ اليوم يرد بغنمه الماء في الحوض لا يهشُّ عليها , يتريّثُ حتى تملأ جرَّتها , تحملها فوق رأسها وتذهب , تصعد المنحدر وكأن طبولا ترافقها تقرع حولها لتشكيل خطاها فوق حدبات الصخور وعلى الفراغات بينها , عندها يسوق غنمه ويواصل سيره نحو المرعي .
    .كُنَّ يُقدّمنها , ويملأن جرتها قبل جرارهن , يتحالفن على سحب الحبل ورفع الدلو من قاع البئر ويتركنها تستريح , يمْلَأْنَ جرّتها , ويرفعنها فوق رأسها لتذهب وتصعد الجبل , ثم يقمن بملء جرارهن الواحدة تلو الأخرى على قاعدة الواردة أولاً تملأ أولا , سوى ميسون بنت حبيب شيخ الجبل فسيملأن جرّتها أولا في كل الأحوال .
    تمنّى أن يُعَطِّلَ هذا النظام وأن تتأخرهن جميعا ليتقدم ويسحب الحبل , حبل جرّتها فحسب , يملؤها , ثم يرفعها ويستطيل ويستطيل , وحين عيناه في عينيها يضع جرتها فوق رأسها وعلى مهل .
    فيما جرَّتها ممتلئة ستقتنص زمنا لايلحظْنَهُ للبقاء هنا , تلاعبهنّ , تمازحهنّ , وتراجمهنّ بحبات الطين بجانب الحوض والحصوات , حين الغنم ترد الحوض ,وترتوي , بينما ساري تحت الشجرة القريبة ينتظر غنمه حتى تقفل نحوه مرتوية .
    في الأيام التاليات بدأت الغنم تتأخر عند الحوض وترتوي على مهل , تتلمّس في ميسون التي تمسح على ضهورها برفق , فيما عيناها تذهبان إلى تحت الشجرة , وفيما هو يدع غنمه حيث عيناه تستريح تحت لمسات أناملها .
    كانت تسمتع إلى حكايات صديقاتها عن الرعوي والذي تمكن من دون غيره من الناس من فتح الطريق ليلاً أمام أهالي القرى عند المثلث الذي يربط بين السهل والجبل والذي يكمن فيه حيوان القشوي (1) ليباغت فريسته من المارة ليلا ويمارس عليها طقوسه كما يفعل القط مع الجرادة بين يديه , وأن الرعوي وحده من قرر أن يجتاز المثلث أثناء الليل ليلتقي القشوي وجها لوجه ويتغلب عليه ويصرعه في المنازلة الشهيرة بينهما والتي يتحدث عنها الجميع , وليفتح الطريق أمام الناس إلى كل القرى والمحلاّت .
    سُمِّيَ ساري لأنه يسري الليل في الخلوات غير آبهٍ بالوحوش والهوام , وقيل أنه ركب على النسر وذهب إلى بلاد بعيدة لايعلم بها أحدٌ سواه . .
    وأن النبَّاش (2) قد نادى عليه في إحدى الليالي , وتذكرت حكايات جدتها في ليالي طفولتها بان النباش ينادي في وقت متأخر من الليل على هذا الذي اختاره من بين الساكنين أجمعين بقولته الشهيرة : يافلان حلّيتني بك (3) وأن أحدا غيرمن تحلّى به النباش لايسمع النداء, وحين يموت ويتم دفنه يأتي النباش في الليل ويحفر القبر ويحمل جثة الميّت ويذهب به إلى بيته الذي لم يستطع أحد الوصول إليه على مرّ العصور فيضعه بين مخالب وأنياب صغاره فيأكلوه , وأن النادر من الناس هم من شاهدوا النباش وهو يحمل جثّةً على كتفيه متحلِّقاً على كفنها وأن رائحة الحنوط تظل تعبق في الطريق من القبر إلى بيت القشوي طوال الليل , ويصفونه بكائن ضخم من القرد والانسان , يمشي على قدمين ويكسوه شعر غزير , وله كفّان كصحني المحراث , وأظافر طويلة حادة كالمزاميل .
    .
    .........................
    في ليلة من ليالي القمر , وعند الساعات الأولى من الفجر كان قانص إبن عمة ميسون متقرفصا في الطرف من حافة الجبل المطلة على السهل فرأى وكأن شجرة خضراء تمشي وتصعد بجانب الطريق الطالعة من السهل نحو قمة الجبل فصعق , بسط كفّيه على صدره , وأحسّ بدوار , وكاد أن يغمى عليه , فاستعاذ من الشيطان وقرأ المعوذتين وعاد ودخل البيت مسرعا كي لايشاهده الشيطان فيخترقه ويسكن فيه .
    لم يخبر أحداً , سيتبيّن لهم بأنه قد فقد عقله فلم يكن قد تأكّد له بأن شجرة خضراء تدبّ على الأرض كما يدبّ الانسان .
    مرةً أخرى شاهد شجرة خضراء تتحرك على المنحدر هابطة , تمشي ثم تقف , ثم تمشي ثم تقف ثم تغيب , حمد الله أنها تذهب بعيدا عنه نحو السهل , لكنها تغيب قبل أن تصل إلى السهل وهكذا تفعل الشياطين .
    كاد أن يصاب بالجنون حقاً في هذه المرة حين شاهد شجرة ذات جذعين لا تتحرك على المنحدر فحسب , بل وتصعد نحو نافذة حجرة ميسون على الطرف من المنحدر .
    لم يتحقّق له ولوج الشيطان إلى حجرتها , كانت حجرة ميسون تنحدر نحو الجهة المقابلة , لكن الشيطان اختفى هناك , عند انحدار النافذة .
    عينا ساري تذهب في السماء , تسبح في غابة الأنجم التي اختطها حبريل طريقا في السماء حين كان يسحب الذبح العظيم من الله إلى إبراهيم ليفتدي به إبن هاجر إسماعيل (4) .
    سَحْبةُ الأضحية تخلف رغوة عظيمة من أنجم تغطي برذاذها السماء .
    وكل شيئ في بيته ينام الآن , الأنفاس تغوص , والديكة تصيح , تناول خنجره , شده إلى جنبه , رفع عصاه على كتفه , دفع الباب وخرج .
    الشفق يتوهج فوق الجبال , يشفُّ في الأسفل على السطح , ويتألق على أكتاف الأودية , يسافر في أجوافها منحدرا إلى الغرب في قماشة من الضباب شفافة , تبيح فتنة الماء الفاتحة على أحضان الفجر . ..
    الْعُشْبُ يرفل في الندى مغتبطا على السطح , ويعود رُوَيْداً رُوَيْداً , صاعداً على الجانبين من ضفاف الوديان نحو الجبال , تتخلله بعض شجيرات ككائنات بشرية نصف قائمة .
    وخرير الماء الهائم أبدا كفلقات صدرها يمر به دون توقف , وعلى كف الجبل العالي يتألق منزلها بين المنازل المعلّقة فوق أكف الجبال المجاورة ككائنات مستطرقة يتم عرضها في الشرق .
    وعيناها نحو القعر من المنحدر تتصيد ساري .
    انفلق جسدها في الأسفل حين أسندت مرفقها على فخذها المقوس فوق النافذة مستندة على قدمها في القاع من الحجرة .
    القمر يعبر السماء بين أرتال من السحب البهيجة , وهسيس الليل يزفر ويشهق في الفضاءات , وشعلة المصباح التي تنبلج الآن تتوهج من نافذة حجرتها حينا وتختفي حينا خلف ستارة شفيفة من الضباب تذهب وتعود .
    يعتمر فوق رأسه عشبة خضراء , خطوتان ثم يقف , هكذا لن يلحظه أحد ضمن خرير العشب المنسكب بالخضرة على كرمشة الجبل الصاعدة حتى حجرتها .
    لايمكنه الصعود إلى مستوى النافذة , كان منحدرا حادا .
    تشير إليه ميسون بالدوران حول جدران حجرتها حتى يناظر بابها ويتقرفص تحت عشبته الخضراء .
    تقف ميسون على أطراف أصابعها وتذهب نحو باب حجرتها لتفتحه رويدا رويدا تلافيا لأي صرير , ترسل عينيها في الأجواء حولها تترصّد أي قادم أو ذاهب في الزقاق , ثم تشير إليه قابعا كعشبة بالدخول , وتسحب الباب إليهما وتغلقه .
    الحبّ هنا ليس إلا .
    الحب ليس للفضاءات .
    الحب محاصر في الحجرات المغلقة .
    وفوق قمة الجبل المعتمرة بعمامة من الضباب يتحلّق بشر ..
    تصل جلجلة حديثهم من بين الظلام من بعيد كريح في صحراء .
    ولن تستطيع تمييز المتكلم منهم على الدوام
    جلبة الحديث المختلط لا تدلُّ على أمر بعينه , ولا تعلن عن أصحابها .
    للتو ينبلج الضوء فجأة من مصباح الغاز خلال رقرقة الضباب فيمن حوله ليفتح على الأوجه المتحلقة حول وجهه الوقور بلحيته الكثة الحمراء معتمرا فوق راسه شاله المنقوش .
    كان أحدهم في طريقه إلى هنا , لم يَلْوِ على أحد غير الشيخ حبيب ليقترب منه , يدنو ويسر في أذنه بقولٍ ما .
    · إنه أبي . تضع كفها الحنين بكلّ الذعر على صدرها وتبحلق في عينيّ ساري .
    تطوف عيناه في المكان , ليس غير الباب والنافذة , غير أبيها بعد الباب , غير السحيق بعد النافذة , ينظر في عينيها , في وجدها المعتقل في الاعماق , يضع يده على المصباح ماذا يريد بالمصباح ؟ يتركه ويذهب نحو النافذة , ستسمك به , تقبّله تضمّه ,تذوب فيه , تصير فيه , تَهْوِيْ فيه , في وجه آخر ستطويه في قلبها , ستحفظه حيث لاأحد يراه , في جوفها , لها من دون كل الناس , تحجبه هناك , بعيدا عن أبيها عن كل البشر , عن القدر , لن تدعه يهوي إلى القعر , لكن ساري يحلق حول النافذة ويرمي بالعشبة إلى السحيق , سيقتلهما معاً إن دخل عليهما , طرقات على الباب ساخطة , تفتح ميسون الباب , يقفز ساري من النافذة , كأنها ابتلعت الجبل والشجر وأباها ,
    كان يمسك به في يده وهو ينظر إليها :
    · ستتزوجين إبن عمتك قانص ياميسون , غدا سنعقد القران .
    .يتداول الناس بأن ساري وحين كان يركب فوق ظهر نسر عظيم صاعدا في طريقه من السهل إلى الجبل فقد نادى عليه النباش نداءه الشهير قائلا : " ياساري حلِّيْتَنِيْ بك " , وأن ساري قد سمع النداء وهو في السماء .
    في ليلة من الليالي مقمرة كان ساري يركب فوق ظهر النسر العظيم هابطا من نجد في الجبل إلى السهل في تهامة , وفي حين أرخى النسر مخلبيه استعدادا للهبوط فقد حان في تلك اللحظة أجل سامي في السماء , فلم يتأخر لحظة مثلما لم يتقدم لحظة فهوى من فوق ظهر النسر وتحطم فوق الصخور فجاء النباش وحمل جثته متحلِّقا عليها فوق ظهره دون كفن ودون حنوط إلى مكان غير معلوم .
    .
    ............
    1- القشوي :حيوان من فصيلة النمور
    2- النباش : في الحكاية الشعبية حيوان من قرد وإنسان صخم يكسوه شعر غزير وله كفان كصحني محراث وأظافر كالأزاميل ويمشي على قدمين ويتحدث كالانسان ويتغذى على الموتي الذين كان قد اختارهم ونادى عليهم بأسمائهم أحياء بنبش قبورهم وحمل جثثهم إلى بيته ليأكلهم مع أبنائه .
    3- حلّيتني بك : جعلتك لي خاصتي لايشاركني فيك أحد .
    4- هي " مجرّة أندروميدا وهي أقرب المجرات إلى درب التبانة , والتي ضمنها مجموعتنا الشمسية "
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الرحمن محمد الخضر; الساعة 10-04-2016, 09:15. سبب آخر: إضافة نص : سأكتب غدا
يعمل...
X