فقدان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حيدرعاشور
    أديب وكاتب
    • 10-08-2013
    • 28

    فقدان

    قصة قصيرة
    فقدان
    حيدر عاشور
    أطفأت النور وتركت جسدها المتعب يرتمي على السرير، امتدت يدها دون شعور منها إلى المذياع فتدفقت الأصوات واختلطت الإذاعات: قررت القوات الأمريكية سحب أخر لواء لها عبر الأراضي العراقية تطبيقا لاتفاقية الانسحاب.
    أدارت موجة المذياع: الفيضانات تشرد سبعة ملايين من سكان باكستان، الحرائق تجتاح روسيا والخسائر تقدر بثلاثمائة مليار وخشية من وصول النيران الى المحطات النووية، تهريب أثار عراقية عبر دول الجوار.استوقفها الخبر الأخير، وبدأت الأفكار والتداعيات تكبر كدوائر الماء في محيط عقلها، وتذكرت وهي تخرج من الجامعة تلك اللافتات الصغيرة المعلقة على الجدران أو قرب مظلة وقوف السيارات، وقد كتب عليها كلمة واحدة (فقدان): فقد شخص يدعى (ناظم مراد حمودي) يبلغ من العمر حفنة من الضياع ويرتدي الوجع اليومي، فمن يعثر عليه تسليمه الى اقرب دورية للقوات متعددة الجنسية.ظلت كلمة (فقدان) تئز بقوة تحت فروة رأسها الصغير وكأن جرسا بعث دقاته دون توقف، انقلبت إلى الجهة الأخرى وأغلقت المذياع، وارتسم أمام عينيها ووسط الظلام شريط يشبه الشريط ألتلفازي (سبتا يتل).. أعداد المفقودين في تزايد ولا احد ينتبه الى هذه الظاهرة، وتساءلت مع نفسها هناك من يفقد في حادثة، وأخر يفقد رغما عنه، وربما هناك من يختار الفقدان كمصير، ويقرر الاختفاء الأبدي كنوع من الاحتجاج على هذا المهرجان الجنائزي الذي يحاصر الجميع بكل أشكال الاندثار.نهضت بقوة وأزاحت الغطاء، أضاءت المصباح وامتدت يدها لتنسيق شعرها المتناثر بحثت عن وجهها في المرآة المعلقة على الجدار المقابل تحت صورة التخرج من الجامعة كلية الإدارة والاقتصاد، ثم تطلعت الى معطفها الجامعي وهي تؤدي طقوس الماجستير والدكتوراه، الآن يناديها الجميع هناء، دكتوراه بالاقتصاد وتسكن شقة مؤجرة مع والدتها، كائنان مقطوعان عن العالم، وهي تصر على الصدف والتلقائية، ولم تجرأ يوما على صبغ شعرها الأبيض وتحوله الى اصفر واحمر كما تفعل زميلاتها وحتى الطالبات يستخدمن الأصباغ والمكياج ويتحولن في نظرها الى دمى مزيفة، الإنسان يجب أن يكون على طبيعته دون تزويق أو تزييف، الوجوه الحقيقية أفضل وأجمل من الأقنعة المصطنعة.. قالت لها زميلتها الدكتورة وفاء: انك يا هناء تعيشين في كوكب أخر ليس له علاقة بكوكبنا، يا عزيزتي انتبهي الى نفسك، أنا أصبح لي أحفاد وأنت...وساد الصمت الثقيل بينما كانت هناء تتمنى أن تمتلك زميلتها الجرأة التامة وتقول لها انك عانس، مضت الحياة عنك، وأفل كل شيء واجتاح جسدك، وشعرك، وأسنانك قطار العمر ألاحتلالي، ولم يعد فيك ما يغري أحدا ليطلب يدك إلا من به طمع في شهادتك، راتبك يتبخر إزاء الأدوية التي تحتاجها أمك وما يتبقى تبعثين به إلى أختك وأطفالها الخمسة بعد تحول زوجها الى معاق لا يستطيع مغادرة المنزل إلا بعكازتين، ما لذي بقي لك من عالمك، وتلك السنين التي مرت بسرعة الضوء فلم تتمكن من إمساك شيء.. طفولة بائسة، ومراهقة محاصرة، ثم الانكباب على القراءة والتقاتل من اجل الدرجات، ثم الماجستير والدكتوراه، والمصادر والبحوث وذهابك الى طبيب العيون لفحص درجة النظر، ووضع نظارة طبية فوق الأنف زادت على عمرك سنين أخرى.هل أصبحت راهبة للعلم وممرضة للام ومرجعا اقتصاديا واجتماعيا لأختك أم رضا، ما الذي ينتظرك في الأفق؟ وهل يختلف مصيرك عن الأسر الباكستانية التي شردها الفيضان؟ وحرائق روسيا التي لا تختلف عن الحرائق اليومية التي تبتلع الحياة وضحكات وأجساد الناس في الشوارع والأسواق وأمام الدوائر الرسمية.. انه داء الفقدان وقد انتشر في كل مكان، وقد يكون الفقدان ماديا أو معنويا، وقد يكون الفقدان بحجم العمر الذي مضى دون هوادة، وبلا توقف أو مراجعة.انتابها شعور غريب يشبه المفارقة هل يمكن أن تعيد لعبة العمر مرة أخرى؟ فالإنسان يحتاج الى حياتين، الأولى يعيشها وفق فلسفة الأقدار، وأخرى يصنعها بنفسه بعد الوعي المتراكم ومساحة الاختيار. هل جرب العالم مقدار الوحشة الشرسة حين تنام امرأة في الخمسين وحدها بين جدران أربعة؟رن الهاتف النقال حاملا رسالة من رئيس القسم (غدا مناقشة رسالة الطالب ربيع كامل، فلا تنسي وأنت عضو في لجنة المناقشة). أثارت الرسالة رعبا داخليا في أعماقها كيف نسيت هذا الأمر، وهي الجادة والدؤوبة، والملتزمة، أخرجت الرسالة الجامعية، وبحثت عن نظارة القراءة السميكة، وأبحرت بين السطور والمباحث والهوامش واستغرقت في هم جديد لتبقى على قيد البقاء.

يعمل...
X