غشي جبينه المقطب سحابة رقيقة من الحزن ، وهو يقطع بناظريه صفحات من الأوراق المكدسة أمامه، خلع نظارته ودسها في فتحة قميصه الأرجواني ،ثم أرسل نظرات دقيقة لسيل من الأشعة والتحاليل قد تمددت أمامه على منضدة الفحص ،زرع الطريق مابين غرفة الفحص والأشعة ذهاباً وأياباً ،عرك جبهته المقطبة، وقد ندت من محياه نظرات إستياء وألم ، ارتدى نظارته على عجل ، ثم أشار لشاب صغير برفقة زوجته التي كانت متلهفة للأطمئنان على صحة طفلها ،وقد نضح الخوف واستولى على وجهها..
..
- إجلسا ..لا أخفى سراً عليكما ..الثقب لم يلتئم بعد ..وهناك إحتمالية حدوث تجلط للدم ..إضافة للضمور الناتيء في المخ، وهو المسبب للطاقة الزائدة وحالة الصرع التي تنتابه .. خلع نظارته وأطلق زفرة ساخنة، ثم مط شفتيه الغامقتين .. واستطرد قائلاً :
- على كر الأيام والليالي سيذبل الصغير ويذوي مثل الزهرة التى اصطلحت عليها الرياح والأعاصير ..لن تتحمل العضلة القلبية ظمأ الدماء المحمل بالأكسجين .. سيتجلط الدم ويطفو كالصفائح الثلجية فوق المياة الساخنة ..كان وقع الكلمات على الأم كالنصل الحاد الذي يطعن الأمعاء ويمزق الأحشاء، كسكين حاد يقشط الدماء والعظام شرائح ثم ينشرها على منشار الألم ..كانت كلماته النازفة ...
كمن يقطر ألماً وينشب سكين غائراً، يقتلع لحم قلبها بأظافره ..وقد إنكفأ الطبيب يسرد تفاصيل دقيقة عن الحالة الصحية المتردية للطفل، ويشرح بأسلوب صلف تداعيات المرض وتفاقم الحالة الصحية داخل الجسد ..أخذتها العبرات والزفرات
.. فأغرورقت عيناها بالدموع السواجم،وهي ترنو إلى طفلها المسكين الممدد كالملاك الوديع على منضدة الفحص لاحول له ولا قوة .. يجول ببصره في أرجاء الغرفة ،يرسل إشارات وابتسامات لامعنى لها .. ثم منحته الأم المكلومة بسمة باهته مسبغة بالحسرة والألم ، وانكفأت تخنق صوتها عن النحيب والبكاء .. أطلقت تنهيدة مشوبة بالغصة والمرارة كأن ثقل يطء صدرها ويسري إلى عظامها، فيهشم ماتبقى من أضلاع ، أطلقت غصات ناشبة في حلقها، ثم أجهشت بالبكاء وجرت الدموع على خدها ونحرها ،وطفق لسانها يلهج بسيل من الدعاء يستدر الرحمات والبركات ..تماسك الأب الذي ارتجف جسده ، وتحلب العرق من مسامه، وترشح حتى ابتل قميصه ، انسابت دمعة حارة ابتلعها بطرفه قبل أن تمرق وتهيج العبرات سيل الدموع في مآقيه .. نظر الطبيب إلى الطفل ..ثم أشار لوالديه ..أرجو أن تغفرا لي صفاقتي ،فلست أقل منكم جزعاً على حالته ، لم يكن لدي خيار ..حتى تُثمنوا اللحظات التي سيعيشها معكم... من الأن قد انتهى دور الطبيب ...
- لامزيد من الفحوص .. لامزيد من السفر ،دعوه يهنأ بحياته ..لقد توقف دور العلم هنا... وليس لدينا خيار سوى أن تستدر السماء برحماتها ..وهناك دور الإيمان واللجوء إلى الخالق العظيم ..
ولم ينتهي زمن المعجزات بعد.. تلاشت الصور والأمنيات الوردية التي رسمها لمستقبل طفله المسكين ،وتوارت خلف أشرعة السراب، ليحل مكانها لوحة رمادية قاحلة .
سار مسافة طويلة لا يألو على شيء ، وعقله الساهم عالق في فضاء الحيرة عاجزاً عن فعل شيء لإنقاذه، يحمل ولده المسكين المُترع بالألم كما القربان يسوقه على مذبح القَدَر ، !!..غادرا المشفى وقد استسلما لخطى القدر، وطفقا يطلقان الزفرات ،ويجتران أثقال الحزن والألم الموبؤ على عاتقيهما ..انكفأت الأم تلثم وجه طفلها وابلا مدراراً من القبلات، كشؤبوب فاض من الغيث .. مرت شهور قليلة ..والأب يخط في كتيب صغير بضعة أسطر يصف المعاناة التي يعيشونها وهما يعتصران ألما ،ويسيلان شوقاً لما بعد الفراق، فما بقي في قلبيهما من مهجة إلا ذابت شجى ،ولا مقلة إلا أسبلت أسى وإنهما ليسيلان كالشمعة تحت اللهيب ... عكفا على إستغلال تلك اللحظات المتبقية من حياته ، فشرعا يروحان عنه بالذهاب تارة لمدينة الملاهي ،يمرحان سوياً ،ويرتشفا العصائر ،ويهرولان في الحديقة ، ثما يتمددا فوق العشب الأخضر ،ويختبأ بين ألفاف الأشجار والدوح ... وتنكفأ الأم في البحث عنهما ثم يفترشا العشب بكساء أبيض ،فتوضع أمامه أطايب الطعام من صحائف الفاكهة ،والمشويات من الأسماك والدجاج المتبل، ثم يشرعا في إلتهام الطعام ،فتحلق السعادة فوق رؤوسهما ، فيحدج إلى أبيه ويرمقه بنظرة ماكرة ،تعودا على صنعها ثم يبتسما سوياً ..ينهض الصغير من مجلسه ،ليحضر الكرة ، فتمرق الدموع من عينيه وتنساب إلى نحره وهو يلحظ إلى طفله يتمنى أن تقف عجلة الزمن عن دورانها ، فتحاول الأم أن تهديء من روعه فيقول متأوهاً بصوت مسبغ بالألم : آه
- وددت لو لا يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورته مخبأة ،فلا أرى غيره .. ثم يهرول الصغير إليهما ،يتأبط الكرة يلحظ إلى بقايا الدموع ،وقد برقت على نحره ..فيلقي بنفسه في أحضان والده..وتمتزجا دموعهما ...
وبينما يتأهب أول خيط أبيض ينسال من عباءة الليل الداجية ،كان "فريد" ذو الثانية عشر من عمره رابض خلف النافذة الزجاجية، يرقب بزوغ الشمس من خدرها الأرجواني ،وزخات المطر الخفيفة تلثم زجاج النافذة ،وتنساب على جدرانها، ثم يمرق رشاحها
إلى قعر الفناء الملاصق للحديقة، ويتسرب كالخيوط في جداول صغيرة حتى يتجمع في بؤر راكدة قد احتفرها العشب الأخضر ،يداعب "فريد" زخات المطر بأنامله، ثم يدلي لسانه القاني ليرتشف قطرات المطر، وهي تنزلق على جدران الزجاج ،يعرك مابين عينيه ، ثم تغشاه ابتسامة شاحبة ، ويطلق ضحكة واهنة من صدره الموبؤ بالعلل ثم يدلف إلى فراشه ينتظر جنية الأحلام .. هنيهات وتتسرب خيوط الضوء شيء فشيء تُزيل الفوضى التي طالت من تثاؤب الليل الثقيل ،ثم ينشق جلباب البحر ،ليرتقي قرص الشمس منصة الأفق ..كان الوالدان ينتظران ذلك اليوم المشئوم ويحصيان الأيام والشهور، يعدان العدة ليوم سيسود فيه النعيب المتقطع وتُظلم الدنيا إلى الأبد ،وقد احتفرا قبره داخل حديقتهما الغناء ..وأظلاه بسور من أشجار الدوح العالية ونثر على حافتيه زهور الأضاليا، وأجرى جدول من الماء قد تهادى فوق العشب الأخضر ليروي العشب ودالية الحديقة والنخيل الباسق ،وقد نبتت الألفاف واستطال بعضها وتوسدت كالأرائك المرمرية بعدما نشبت أوراقها في لحاء الدوح السامق ، وتسامى بعضها وتسور جدران وأسوار الحديقة ..
.كل يوم يغدو إلى الشاطيء الرابض خلف فنائهم الفسيح برفقة والديه ..يملأ رئتيه بنسيم البحر ويتمطى من ترهل الليل ثم يتجرد من ملابسه وقد
أرخى جسده مقرفصاً يحزم ركبتيه بيديه ،ويقتعد الرملَ البليل وينظر للشمسِ التي سكبت حمرتها على صفحة الماء..تحوطه نظراتهما ،ويحصيان أمتع اللحظات برفقته .. ثم تنسال الكاميرا بين أيد والده وهو يلتقط مشاهد الذكريات ،قرب الشاطيء ،وبين الموج ،وفوق الرمال المبتلة ..والدموع تنساب كالخيوط فوق عدسة الكاميرا ،فيكفكفها ببنان أنامله الذابله ..ثم يحمله فوق عنقه يركل الأمواج العصية، ويعبث بأعرافها وذوائبها ،وسيل من الضحكات البريئة ينطلق عالياً يُمخر في عباب الفضاء، ثم يرتد حاسراً كالغصص إلى فؤاده المكلوم ،لتلثم الغصص الناشبة في أعماقه المترعة بالحنان ،لهيب الحزن وألم الفراق ..سالت نفسيهما حزنا وكمداً وضنيت على كر الأيام وهو يرنو إلى والده بإبتسامة باهتة في وداعه الأخير ممدداً على فراش الألم : سأظل أُحبك يا أبي ،و سرعان ما فاضت روحه البريئة ، وحلقت إلى بارئها ،وأسبلت الدموع على خديهما وابلاً مدراراً .. ومضت السنون في خرطها للزمان والأحداث، حتى ضج فناء المنزل بالأطفال ،وبريق السعادة يغشى جبينهم وهما يرمقان خلف النافذة تلك الغيمة المثقلة بالمطر ،وقد ألقت طرحها فوق دالية الحديقة ، فاغتبطا وتشابكت أيديهما ، وهما يشاهدان أطفالهما يرقصا تحت المطر ، غاصت يده في جيبه، فاستخرج صورة طفله الفقيد ،وتأمل إبتسامته الذكية، وضحكته البريئة، فندت دمعة حزينة انسابت على نحريهما ،وأخذتهما العبرات فدخلا معاً في نشيج مرير والدموع الساخنة تختلج في جوف مآقيهم الشاحبة ،حتى اخضلت ملامح الصورة بين يديه ، فدسها في حنايا صدره، ولثماته الحارة تسح عليها كشؤبوب فاض من الغيث ، وطفق يلهج لسانه بكلمات لايفتأ أن يعيدها مراراً: أيها الراحل الغالي ..وددت لو لم يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورتك مخبأ ة داخل فؤادى ،فلا أرى أحداً غيرك.ولن أنسى دائماً أبدا
..
- إجلسا ..لا أخفى سراً عليكما ..الثقب لم يلتئم بعد ..وهناك إحتمالية حدوث تجلط للدم ..إضافة للضمور الناتيء في المخ، وهو المسبب للطاقة الزائدة وحالة الصرع التي تنتابه .. خلع نظارته وأطلق زفرة ساخنة، ثم مط شفتيه الغامقتين .. واستطرد قائلاً :
- على كر الأيام والليالي سيذبل الصغير ويذوي مثل الزهرة التى اصطلحت عليها الرياح والأعاصير ..لن تتحمل العضلة القلبية ظمأ الدماء المحمل بالأكسجين .. سيتجلط الدم ويطفو كالصفائح الثلجية فوق المياة الساخنة ..كان وقع الكلمات على الأم كالنصل الحاد الذي يطعن الأمعاء ويمزق الأحشاء، كسكين حاد يقشط الدماء والعظام شرائح ثم ينشرها على منشار الألم ..كانت كلماته النازفة ...
كمن يقطر ألماً وينشب سكين غائراً، يقتلع لحم قلبها بأظافره ..وقد إنكفأ الطبيب يسرد تفاصيل دقيقة عن الحالة الصحية المتردية للطفل، ويشرح بأسلوب صلف تداعيات المرض وتفاقم الحالة الصحية داخل الجسد ..أخذتها العبرات والزفرات
.. فأغرورقت عيناها بالدموع السواجم،وهي ترنو إلى طفلها المسكين الممدد كالملاك الوديع على منضدة الفحص لاحول له ولا قوة .. يجول ببصره في أرجاء الغرفة ،يرسل إشارات وابتسامات لامعنى لها .. ثم منحته الأم المكلومة بسمة باهته مسبغة بالحسرة والألم ، وانكفأت تخنق صوتها عن النحيب والبكاء .. أطلقت تنهيدة مشوبة بالغصة والمرارة كأن ثقل يطء صدرها ويسري إلى عظامها، فيهشم ماتبقى من أضلاع ، أطلقت غصات ناشبة في حلقها، ثم أجهشت بالبكاء وجرت الدموع على خدها ونحرها ،وطفق لسانها يلهج بسيل من الدعاء يستدر الرحمات والبركات ..تماسك الأب الذي ارتجف جسده ، وتحلب العرق من مسامه، وترشح حتى ابتل قميصه ، انسابت دمعة حارة ابتلعها بطرفه قبل أن تمرق وتهيج العبرات سيل الدموع في مآقيه .. نظر الطبيب إلى الطفل ..ثم أشار لوالديه ..أرجو أن تغفرا لي صفاقتي ،فلست أقل منكم جزعاً على حالته ، لم يكن لدي خيار ..حتى تُثمنوا اللحظات التي سيعيشها معكم... من الأن قد انتهى دور الطبيب ...
- لامزيد من الفحوص .. لامزيد من السفر ،دعوه يهنأ بحياته ..لقد توقف دور العلم هنا... وليس لدينا خيار سوى أن تستدر السماء برحماتها ..وهناك دور الإيمان واللجوء إلى الخالق العظيم ..
ولم ينتهي زمن المعجزات بعد.. تلاشت الصور والأمنيات الوردية التي رسمها لمستقبل طفله المسكين ،وتوارت خلف أشرعة السراب، ليحل مكانها لوحة رمادية قاحلة .
سار مسافة طويلة لا يألو على شيء ، وعقله الساهم عالق في فضاء الحيرة عاجزاً عن فعل شيء لإنقاذه، يحمل ولده المسكين المُترع بالألم كما القربان يسوقه على مذبح القَدَر ، !!..غادرا المشفى وقد استسلما لخطى القدر، وطفقا يطلقان الزفرات ،ويجتران أثقال الحزن والألم الموبؤ على عاتقيهما ..انكفأت الأم تلثم وجه طفلها وابلا مدراراً من القبلات، كشؤبوب فاض من الغيث .. مرت شهور قليلة ..والأب يخط في كتيب صغير بضعة أسطر يصف المعاناة التي يعيشونها وهما يعتصران ألما ،ويسيلان شوقاً لما بعد الفراق، فما بقي في قلبيهما من مهجة إلا ذابت شجى ،ولا مقلة إلا أسبلت أسى وإنهما ليسيلان كالشمعة تحت اللهيب ... عكفا على إستغلال تلك اللحظات المتبقية من حياته ، فشرعا يروحان عنه بالذهاب تارة لمدينة الملاهي ،يمرحان سوياً ،ويرتشفا العصائر ،ويهرولان في الحديقة ، ثما يتمددا فوق العشب الأخضر ،ويختبأ بين ألفاف الأشجار والدوح ... وتنكفأ الأم في البحث عنهما ثم يفترشا العشب بكساء أبيض ،فتوضع أمامه أطايب الطعام من صحائف الفاكهة ،والمشويات من الأسماك والدجاج المتبل، ثم يشرعا في إلتهام الطعام ،فتحلق السعادة فوق رؤوسهما ، فيحدج إلى أبيه ويرمقه بنظرة ماكرة ،تعودا على صنعها ثم يبتسما سوياً ..ينهض الصغير من مجلسه ،ليحضر الكرة ، فتمرق الدموع من عينيه وتنساب إلى نحره وهو يلحظ إلى طفله يتمنى أن تقف عجلة الزمن عن دورانها ، فتحاول الأم أن تهديء من روعه فيقول متأوهاً بصوت مسبغ بالألم : آه
- وددت لو لا يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورته مخبأة ،فلا أرى غيره .. ثم يهرول الصغير إليهما ،يتأبط الكرة يلحظ إلى بقايا الدموع ،وقد برقت على نحره ..فيلقي بنفسه في أحضان والده..وتمتزجا دموعهما ...
وبينما يتأهب أول خيط أبيض ينسال من عباءة الليل الداجية ،كان "فريد" ذو الثانية عشر من عمره رابض خلف النافذة الزجاجية، يرقب بزوغ الشمس من خدرها الأرجواني ،وزخات المطر الخفيفة تلثم زجاج النافذة ،وتنساب على جدرانها، ثم يمرق رشاحها
إلى قعر الفناء الملاصق للحديقة، ويتسرب كالخيوط في جداول صغيرة حتى يتجمع في بؤر راكدة قد احتفرها العشب الأخضر ،يداعب "فريد" زخات المطر بأنامله، ثم يدلي لسانه القاني ليرتشف قطرات المطر، وهي تنزلق على جدران الزجاج ،يعرك مابين عينيه ، ثم تغشاه ابتسامة شاحبة ، ويطلق ضحكة واهنة من صدره الموبؤ بالعلل ثم يدلف إلى فراشه ينتظر جنية الأحلام .. هنيهات وتتسرب خيوط الضوء شيء فشيء تُزيل الفوضى التي طالت من تثاؤب الليل الثقيل ،ثم ينشق جلباب البحر ،ليرتقي قرص الشمس منصة الأفق ..كان الوالدان ينتظران ذلك اليوم المشئوم ويحصيان الأيام والشهور، يعدان العدة ليوم سيسود فيه النعيب المتقطع وتُظلم الدنيا إلى الأبد ،وقد احتفرا قبره داخل حديقتهما الغناء ..وأظلاه بسور من أشجار الدوح العالية ونثر على حافتيه زهور الأضاليا، وأجرى جدول من الماء قد تهادى فوق العشب الأخضر ليروي العشب ودالية الحديقة والنخيل الباسق ،وقد نبتت الألفاف واستطال بعضها وتوسدت كالأرائك المرمرية بعدما نشبت أوراقها في لحاء الدوح السامق ، وتسامى بعضها وتسور جدران وأسوار الحديقة ..
.كل يوم يغدو إلى الشاطيء الرابض خلف فنائهم الفسيح برفقة والديه ..يملأ رئتيه بنسيم البحر ويتمطى من ترهل الليل ثم يتجرد من ملابسه وقد
أرخى جسده مقرفصاً يحزم ركبتيه بيديه ،ويقتعد الرملَ البليل وينظر للشمسِ التي سكبت حمرتها على صفحة الماء..تحوطه نظراتهما ،ويحصيان أمتع اللحظات برفقته .. ثم تنسال الكاميرا بين أيد والده وهو يلتقط مشاهد الذكريات ،قرب الشاطيء ،وبين الموج ،وفوق الرمال المبتلة ..والدموع تنساب كالخيوط فوق عدسة الكاميرا ،فيكفكفها ببنان أنامله الذابله ..ثم يحمله فوق عنقه يركل الأمواج العصية، ويعبث بأعرافها وذوائبها ،وسيل من الضحكات البريئة ينطلق عالياً يُمخر في عباب الفضاء، ثم يرتد حاسراً كالغصص إلى فؤاده المكلوم ،لتلثم الغصص الناشبة في أعماقه المترعة بالحنان ،لهيب الحزن وألم الفراق ..سالت نفسيهما حزنا وكمداً وضنيت على كر الأيام وهو يرنو إلى والده بإبتسامة باهتة في وداعه الأخير ممدداً على فراش الألم : سأظل أُحبك يا أبي ،و سرعان ما فاضت روحه البريئة ، وحلقت إلى بارئها ،وأسبلت الدموع على خديهما وابلاً مدراراً .. ومضت السنون في خرطها للزمان والأحداث، حتى ضج فناء المنزل بالأطفال ،وبريق السعادة يغشى جبينهم وهما يرمقان خلف النافذة تلك الغيمة المثقلة بالمطر ،وقد ألقت طرحها فوق دالية الحديقة ، فاغتبطا وتشابكت أيديهما ، وهما يشاهدان أطفالهما يرقصا تحت المطر ، غاصت يده في جيبه، فاستخرج صورة طفله الفقيد ،وتأمل إبتسامته الذكية، وضحكته البريئة، فندت دمعة حزينة انسابت على نحريهما ،وأخذتهما العبرات فدخلا معاً في نشيج مرير والدموع الساخنة تختلج في جوف مآقيهم الشاحبة ،حتى اخضلت ملامح الصورة بين يديه ، فدسها في حنايا صدره، ولثماته الحارة تسح عليها كشؤبوب فاض من الغيث ، وطفق يلهج لسانه بكلمات لايفتأ أن يعيدها مراراً: أيها الراحل الغالي ..وددت لو لم يغض طرفي طيلة حياتي ، فتظل صورتك مخبأ ة داخل فؤادى ،فلا أرى أحداً غيرك.ولن أنسى دائماً أبدا