" رود- بلغيث "
***
على طريقة الأفلام يحيا وطني الصغير " رود بلغيث " .. فتحت عيني في رحابه لأجد نفسي طفلاً ألهو مع من يكبرونني سنًّا في مواسم تكاد تكون كلها أفراح . بُعيد استقلال هتفت له الحناجر بصراخ زغاريد مردّدة فرحة انستنا عنجهية احتلال بغيض عاث فينا فسادًا وما زالت بعض الأكواخ الهشّة تشهد على همجيته .. و إلى الجيل الذي بعده.. يعود الفضل ربما إلى جيل ما بعد الاستقلال .. جيل " ذهبي " لم تفرّق الأيام بين أبنائه رغم التباين الواضح في الألقاب .. لكنه كان رحمة وانسجام بين شاوي فحل و قبائلي متمدّن و سوفي حاذق .. كلهم في النهاية كانت تجمعهم نرجسية الانتماء إلى نفس البلدة الهادئة المطمئنّة .. ولم تكن لتطمئن كثيرًا والبعض يرفع شعارات ضدّ فريقها الرياضي .. فلا يمكن لفريق الزّائر أن يفوز ولأيّ سبب من الأسباب ثم يعود أنصاره بعدها الى ديارهم سالمين.. والملعب لا يبعد كثيرًا عن الحي حتى أصبح مرماه هدفًا يسيرًا لأنواع الحجارة الصلبة الدّامغة مما تسبب في توّقف المباراة في كثير من الأحيان وكان سببًا وجيهًا في تسمية البعض له بـ " النهج المر ".. و لأنّه استعصى أيضًا على من يطاردون أبناءه الأشرار المنضوين تحت أجنحة الظلام حين يقرّروا مواصلة لعبة " الكارتا " الأوراق المفضّلة بعد غلق المقاهي ..لا مكانة لأحد أمامهم فهم عصبة من الأبطال يمارسون كل الهوايات تقريبًا ويقضون الأوقات في المشاجرة والاقتتال .. في الحي " العاقّ " الذي خرج عن الرقابة حين كانت الدولة كلها في يد دركي بمفرده ويحسب له ألف حساب .. فهو أكثر من رجل يحمل مسدّسًا من طراز " الروفلفير " القديم يهيّب به إلى كل من يخالفه ... وقد كنّا ننصاع لأوامره كالخرفان .. و شامبيط " قط " مشاكس يترصّد بالجميع .. يتسلّل بمهارة عبر الأزقّة بسوطه " الكرافاش " اللاّسع فيصبّ جام غضبه على كل شيء يتحرّك فوق الأرض . لكن يتحاشى الأشرار مواجهته خشية من زجر الآباء وكبار الحي لهم .. أولئك الأخيار ولم يعد لهم وجود بيننا .. كسبوا الرهان واستطاعوا امتلاك قلوب حتى أشرارنا بحكمتهم وبحسن تدبيرهم ..وفي النهار تجدهم يقتفون أثر البرّاح يتنابزون باسمه ويعايرونه بـ " المريوح " فيستفزّونه فيهرول وراءهم ويعيقه مكبّر - صوت قديم قد يعود إلى عهد الأتراك يفوق كل الأحجام تقريبًا .. للأخبار حينها تكاد تنعدم من تلفزيون به عمى الألوان ولا نجد أثرًا له إلاّ في بعض المقاهي ليبث لنا فلما واحدًا طيلة السهرة .... كما لقدوم موزّع البريد وقعٌ ويجذب فضولنا اليه وليس ثمّة غيره يزوّدنا بالأخبار الغالية .. تلك كانت قصّتنا معه .. فقد يحدث أن يغيب أيامًا ولا نراه يخرج طروده المفعمة بالأسرار من جِربة الكتف .. ثم لانجد بعد ذلك ما نشتغل به سوى انتظار " محموم " لقطار يأتي بغتة نضع قبل مجيئه أنواع القصدير والقضبان الحديدية ليدوسها بعجلات الفولاذ السميكة فنحصل على أسلاك نصنع منها الأمواس و الحلي مثل الخواتم .. ثم نعقد الأمل على سيول الأمطار خلال مواسم الرعود فقد تجرف لنا كرات الزجاج نلعب " البلى " في الحفر ... وليس بعد ذلك من موسم لصرف الأوقات غير الأعراس التي تقام هنا أو هناك لتزيدنا فرحة بالأصياف .
***