من الشعري إلى السردي :إستراتيجيات التأسيس والتوليد والتحويل في أدب إ درغوثي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ابراهيم درغوثي
    نائب رئيس اتحاد الكتاب التونسيين
    أبو غسان
    مستشار في ملتقى الترجمة
    • 22-06-2008
    • 356

    من الشعري إلى السردي :إستراتيجيات التأسيس والتوليد والتحويل في أدب إ درغوثي

    من الشعري إلى السردي :
    إستراتيجيات التأسيس والتوليد والتحويل في أدب
    إبراهيم درغوثي القصصي

    أ.د . محمد صالح بن عمر
    معهد بورقيبة للغات الحية / تونس


    ينشأ الخطاب الشعري أو السردي أو الحجاجي وجوبا انطلاقا من نواة دلالية تأسيسية تكون إما صورة أو حدثا أو فكرة . ثم يتولد عن تلك النواة نسيج من الصور أو الأحداث أو الأفكار الفرعية المتعالقة الآخذ بعضها بتلابيب بعض وفق تصاميم وهيئات متنوعة تختلف من خطاب إلى آخر . وقد تجتمع عناصر من تلك المواد الثلاث أو من مادتين منها في خطاب واحد حين ينفتح الخطاب الشعري على السردي أو الحجاجي أو أحد ذينك الخطابين عليه أو أحدهما على الآخر . ويعني ذلك أن العملية الإنشائية الأدبية عملية توليدية تتخذ مسارات وتعرجات شتى إلى أن تستقر عند صيغة الخطاب النهائية التي يكون عليها لحظة فراغ المؤلف من إنشائه .
    ولقد اخترنا ، في هذه المداخلة ، أن نتوقف عند ظاهرة إنشائية عالية التواتر في أدب إبراهيم درغوثي القصصي . وهي ظاهرة تشكل الشعري وتحولاته السردية . وذلك انطلاقا من ثلاث عينات هي قصص " رجل محترم جدا "( 1 ) و" الكلب " ( 2 ) و " لمن تدق الأجراس "( 3).

    1 – من الشعري بنية عميقة إلى السردي بنية سطحية :

    في كل من العينات الثلاث التي اخترناها تنطلق العملية الإنشائية من صورة مجازية ، وعلى وجه التحديد من ، من استعارة .
    ففي قصة " رجل محترم جدا " يستعير البطل كهل الأربعين " الرجل المحترم جدا " ماضيه الشبابي أيام كان طالبا في العشرين ليحياه من جديد . وذلك بأن يزور المبغى العلني الكائن بنهج عبدالله قش بالعاصمة حيث يلتقي بالمومس نفسها المسماة صالحة التي كان يتردد عليها أيام سبابه الباكر وقد أصبحت بعد أكثر من عشرين عاما بحكم تقدمها في السن قوادة ، إلا أنه يصر على ممارسة الجنس معها وقد استولى عليه وإياها إحساس بأنهما استعادا ماضيهما بكل حيويته وتوقده وعنفوانه .
    فمنطلق هذه القصة ، إذن ، صورة شعرية . وهي استعارة تنهض على مشبه أو على الأصح " متشبه " – وهو الكهل المحترم جدا – ومشبه به أو بعبارة أدق " متشبه به " – وهو ذلك الشخص نفسه حين كان في شبابه – مع توفير قرائن عبر ثنايا الخطاب تمنع من الذهاب إلى المشبه به . وهي مجموعة الصفات الجسمية للرجل المحترم جدا ( خاصة منها تقدم الكرش وضخامة الأليتين ) وللقوادة صالحة ( عنقها التي ارتسمت عليه التجاعيد ) والاجتماعية
    ( لباس البطل ربطات العنق الحريرية والبدلات الباريسية – جلوسه في الكرسي الأخير من سيارة المرسيدس وراء السائق – وقوف العمال والموظفين عند مروره ...)
    وقد أسهمت الومضة الورائية التي استعاد الكاتب بمقتضاها شباب الشخصيتين الرئيسيتين : الرجل المحترم جدا وصالحة ، في إقامة مقابلة متعددة الأطراف بين الكهل والكهلة من جهة وبينهما حين كانا في شبابهما من جهة أخرى .
    وهكذا فإن الصورة الاستعارية التأسيسية قد تولد عن طرفيها : " المتشبه به " – وهو الطالب الشاب اليساري – و" المتشبه " – وهو" الرجل المحترم جدا " الشخصية السياسية الإدارية المرموقة – عالمان متقابلان أحدهما في الماضي والآخر في الحاضر لا يجمع بينهما سوى المكان التي تدور فيه جل الأحداث ، وهو المبغى . ووحدة الهوية الفيزيولوجية لكل من الرجل والشاب الذي كانه . ولكل من القهرمانة صالحة والمومس الشابة التي كانتها .
    ولما كانت الاستعارة تقتضي بقاء أحد طرفي التشبيه أي المشبه والمشبه به دون الآخر ، فقد أقصى المؤلف المشبه به بأن أجرى أحداث القصة في زمن كهولة البطل وجعل شبابه على هيئة ذكرى يستدعيها على نحو متقطع ليعيشها بكل جوارحه في الحاضر . وقد بلغ تقمص المستعير ( الرجل المحترم جدا ) لشخصية المستعار ( هو في شبابه ) درجة من التطابق أنست الأول ، في الخاتمة ، هويته الحالية . فإذا هو يخرج إلى الشارع ضاربا دفا والمرأة الكهلة ترقص على نغماته . وفي هذا الموقف عدول عن السائد على صعيد السلوك لا يقل شعرية عن مجانبة الكلام العادي في مستوى القول .
    أما قصة " الكلب " فإنها تنهض في مستوى بنيتها العميقة على استعارة مزدوجة تتحقق طردا على نحو ونحو على نحو مقابل . وذلك بأن كل من طرفيها مستعار ومستعار له في آن واحد
    فالبطل الراوي يستعير لكلبه صورة إنسان جاعلا منه في الحلم لا في الواقع عشيقا لزوجته التي تعترف له بهذه العلاقة وتبررها بغيابه عنها ، فتقول : " هو رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟ "
    من هذه الصورة الاستعارية تتولد معظم أحداث القصة من بدايتها إلى آخر مرحلة التأزم . فهي بمنزلة الشرارة التي منها يندلع حريق . فمنذ أن اتصل البطل الراوي ، وهو بعيد عن قريته ، برسالة من شاهد عيان على خيانة زوجته مع الكلب حتى اشتعلت في نفسه نار الغيرة وتلاحقت ردود فعله العنيفة على ما حدث .
    أما الوجه العكسي لهذه الاستعارة الناشئ عن التبادل المكاني بين المستعار والمستعار له ، فقد تشكل في مرحلة الانفراج حيث تتوج الأزمة ، في العادة ، بمفاجأة . وذلك بأن استعار المؤلف للبطل صورة كلب .
    يقول على لسانه ، " أخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح . "
    جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير وفتحت عيني . قال : " أدرت وجهي نحو الحائط وعدت أنبح من جديد . كنت يقظا هذه المرة . "

    وهكذا فإن القصة برمتها قد انطلقت من استعارة تولدت عنها أحداث مرحلة التأزم ثم انتهت بعكس طرفي تلك الاستعارة نفسها للحصول على المفاجأة الختامية .
    وفي قصة " لمن تدق الأجراس ؟ " يستعير الكاتب لخطيب سلفي يقدس القدامة ويعادي الحداثة صفات جسمية لحيوانات شتى : رأس ثور بقرنيه ولحية تيس وحافري بغل ووبر جمل على الصدر ، تقربه من صورة إبليس . وما أن لمحه البطل الراوي حتى تنتقل إليه في مثل لمح البصر وعلى نحو شبيه بالعدوى الشديدة السرعة جل تلك الصفات ما عدا الرأس .
    ففي هذه القصة ، أيضا ، استعارة مضاعفة . ففي مرحلة أولى أستعيرت صورة إبليس للخطيب . وفي مرحلة ثانية صورة الخطيب للبطل الراوي بعد أن مسخ مع شيء من التعديل ولقد تحكمت هاتان الصورتان أيما تحكم في السرد والوصف . فصدرت كل الحركات المروية عن الخطيب والبطل الراوي ، وأسندت جل الصفات المنقولة إليهما دون سواهما .
    وهنا ، أيضا ، يكشف انطلاق الكاتب من نواة دلالية تأسيسية على هيئة صورة استعارية رمزية عن هم فكري ونفسي تحيل إليه تلك الصورة . ففي استعارة شكل إبليس الجسدي للخطيب استهجان لهذا الصنف من الأشخاص واستفظاع لنمط التفكير الذي يمثله .
    وفي استعارة رأس البغل للبطل الراوي تنبيه إلى قوة العدوى التي ينتقل بمقتضاها ذلك التفكير الشيطاني من عقل إلى آخر ، مصيبا كل عقل ينتقل إليه بالبلادة والغباء .
    في كل هذه القصص الثلاث ينبع الشعري الذي يتجسم في صورة استعارية من هاجس واحد يهيمن على البطل الراوي وهو النزوع إلى التماهي .
    ففي قصة " رجل محترم جدا " يتماهى الكهل مع شخصيته الشبابية الآفلة . وفي قصة " الكلب " ، يماهي البطل بين الكلب وإنسان ويتماهى هو نفسه مع كلب . وفي قصة " لمن تدق الأجراس " يتماهى مع شيطان .
    هذا التماهي هو الذي هيأ المقام الملائم لتشكل الاستعارة باتخاذ المتماهي مستعارا له والمتماهي معه مستعارا . وثمة ينكشف لنا البعد الرمزي للشعر . ونقصد بالرمزية ،هنا ، الرمزية النمطية اللاواعية لا المقصودة الواعية . فالتماهي بحد ذاته يشي بهشاشة الذات النازعة إليه، سواء عن رغبة منها لاكتساب قوة تستعيض بها عن ضعفها مثلما هو الحال في قصة " رجل محترم جدا " أو رغم أنفها بأن تتلبس بها شخصية سلبية في قصتي " الكلب " و " لمن تدق الأجراس " .
    وفي كلتا هاتين الحالتين ينبع الشعري من أزمة نفسية يعاني منها البطل تترجم في مرحلة أولى إلى صورة استعارية ، ثم إلى أفعال ، فيكون الانتقال ، عندئذ ، شبه آلي إلى السردي .
    وهذا ما جعلنا نعد البنى العميقة لهذه القصص الثلاث بنى شعرية تفرز توليديا بنى سطحية هي البنى السردية .

    2 – انبثاث الشعري في السياق السردي :

    تقوم العملية الإنشائية في هذه القصص الثلاث ، إذن ، على توليد السردي من الشعري . ولكن الشعري لا ينحصر داخل النواة الدلالية التأسيسية للقصة بل ينساب في السياق الحكائي ممازجا السرد والوصف وملتحما بهما التحاما .
    ففي مقطوعات عدة من هذه النصوص ينتاب لغة الكاتب إيقاع سريع . فإذا هي أشبه ما يكون بقصائد نثرية أو هي – إن صح القول – قصائد سردية ، منها ، هنا ، على سبيل المثال ، المقطوعة التالية :
    هذه العيون التي تطل من وراء النظارتين
    أعرفها
    هذه العيون التي تذبح كالمدية
    أعرفها
    وأمشي
    البيوت على جانبي الطريق مفتوحة الأبواب
    واللحم معروض للفرجة
    وأكداس من الرجال أمام الأبواب
    يتفرجون على امرأة تعرض نهديها
    وأمشي
    صاحبتي كانت دائما ترسم خالا على صفحة خدها الأيمن
    فوق الشفة العليا
    وتلك القوادة الواقفة بالباب : هل كان لها خال ؟
    وأمشي
    أنتبه إلى أرجل المارة حتى لا أدوسها
    وأمشي
    ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق
    ويئز الباب وراءه
    وتصيح مطربة بأغنية ماجنة
    وتنبح الكلاب بين أفخاذنا
    وأمشي
    صاحبتي ما كانت تضع النظارات الطبية فوق عينيها
    و " وسع يا ولد .... اترك الطريق للمارين "
    يتفرق الشباب من أمام الأبواب
    يتركون المكان والحسرة تأكل قلوبهم
    ويتكدس مكانهم رجال آخرون
    وأمشي ...
    ويمشي معي الطريق .

    يتحقق الإيقاع في هذه المقطوعة بصريا وصوتيا .
    فبصريا ، وزعت الجمل فوق بياض الورق على نحو مماثل لتوزيع الأبيات في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر .
    أما صوتيا ، فالمظهر الإيقاعي الأول هو استخدام العبارة " وأمشي " بمنزلة الترديدة بإعادتها ست مرات بعد مسافات متقاربة تتألف الواحدة منها من أربع أو خمس جمل . وذلك بعد استعمال ترديدة أولى وردت في بداية المقطوعة مرتين . وهي العبارة " أعرفها " .
    والمظهر الإيقاعي الثاني هو التناسب التركيبي الجزئي الذي تحقق بتوالي جمل متشابهة تركيبيا . من ذلك الجملتان الاسميتان التاليتان :
    " هذه العيون السوداء التي تطل من وراء النظارتين أعرفها
    هذه العيون التي تذبح كالمدية أعرفها . "
    وهاتان الجملتان الفعليتان المتألفتان من فعل وفاعل ومفعول به للمكان :
    " ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق .
    ويئز الباب وراءه ".
    وهكذا ، فإن البنية التركيبية الإيقاعية لهذا النص القصيدة السردية هي التالية :
    جملتان اسميتان
    الترديدة " وأمشي ... "
    ثلاث جمل اسمية
    الترديدة " وأمشي ... "
    جملتلت اسميتان
    الترديدة " وأمشي ... "
    جملة فعلية
    الترديدة " وأمشي ..."
    أربع جمل فعلية ( أو مبدوءة بفعل ناسخ )
    الترديدة " وأمشي ..."
    جملة اسمية خبرها مركب إسنادي فعلي
    خمس جمل فعلية
    الترديدة " وأمشي ... "
    بيت ختامي بمثابة القفلة " ويمشي معي الطريق " .
    وهذه القفلة تنطوي على شحنة إشراق وإبهار مصدرها الجمع بين عنصر إيقاعي مقتبس من الترديدة " ويمشي " وعدول استعارت : " يمشي معي الطريق " .
    وهذا الضرب من العدول هو الذي يمثل المكون الثاني من الشعري . وهو شديد التواتر في القصص الثلاث . ومنه نقتطف هنا ، الأمثلة التالية :
    - " أرى الخال على صفحة الخد فيقرع القلب طبول الفرح " ص 24
    - " تدق أجراس كل الكنائس في رأسي " ص 19
    - " لذت بالأنهج الصغيرة إلى أن رأيت قرص الشمس يتدلى من سقف السماء " ص 22
    - " زغردت عصافير باب البحر في قلبي " ص 24
    - " عدت إلى للا صالحة
    - ما زالت بقايا فصل الربيع على وجهها " ص 24
    - " تفتح لي قلبها وتدسني فيه " ص 26
    - " وتعطل عقلي
    - " أدخلته في الثلاجة وأقفلت عليه الباب بسبعة أقفال " ص 29
    - " هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي " ص 32
    - " أقول وصراخي يخرج من كهوف الروح " ص / ص 33 / 34
    - " هذا معشوقها يعقر قلبي ويستوطنني داء بين الضلوع " ص 35
    - " هتك الغريب أسراري هناك وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح " ص 37
    وإلى جانب الإيقاع والعدول يزخر السياق الحكائي ، في القصص الثلاث ، بشحن كثيفة من الإيحاء وهو المكون الثالث الأساسي للشعري . فأسلوب إبراهيم درغوثي ينزع إلى انتقاء الموحي من الأحداث والوظيفي من صفات الشخوص والأشياء .وهو يجعل عمليتي السرد والوصف لديه بمنزلة وضع اللمسات من وضع رسام تجريدي . فالمبصرات جميعها من أمكنة وشخوص وأشياء هي بمثابة هياكل شفافة أو غائمة أو مجتزئة تحتاج من لدن القارئ إلى بذل جهد في التمثل والتبين لإكمال الصورة واستيضاح معالمها .
    ومن ثمة فليس من باب الصدفة أن اختار المؤلف في هذه القصص الثلاث مناخات تفي بشروط الإيحاء هي الذكرى في قصة " رجل محترم جدا " و الحلم في قصة " الكلب " و الوهم في قصة " لمن تدق الأجراس " .
    وبتضافر هذه العناصر الثلاث : الإيقاع والعدول والإيحاء داخل النص السردي اتسمت لغة الدرغوثي بشعرية عالية جعلت الخطاب فيها يتراوح بين الحكي والإنشاد ، بين رواية الواقع وتصوير العالم الداخلي للباث .

    خاتمة :
    يتبين لنا إذن ، من هذه العينات الثلاث أن مهجة السارد لدى إبراهيم درغوثي في كتابته القصصية تنبع من مهجة سارد وتتولد عنها . وذلك جلي في أن التصور الأولي لنواة القصة الدلالية يتأسس في شكل استعارة منها يتولد الفعل ورد الفعل بالمقابلة بين المستعار والمستعار له . ثم يتواصل شحن السياق الحكائي بالإيقاع والعدول والإيحاء حتى آخر القصة مع امكان تحويل الاستعارة الأولية إلى استعارة ثانية تتوج بها الخاتمة على هيئة مفاجأة .




يعمل...
X