حين ظهيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سميرة سلمان
    عصفورة لاتجيد الزقزقة
    • 13-07-2012
    • 1326

    حين ظهيرة

    لا ماكينة الخياطة، بعد انتصاف النهار بدقائق قليلة يدٌ ما تدوس على جرس الباب، فتتوزع آية مرتلة من سورة الاحزاب المسجلة في صندوق الجرس الملصق أعلى حائط الممر، قاطعة هدوء ظهيرة يمتد بحره ورتابة دقائقه على غرف البيت الغاطس بخضرة الأشجار، بعيدا عن أي شكل من اشكال الزحام، أقرب جار على بعد أكثر من ثلاثمائة متر، لم يطرق بابنا وقت الظهيرة سوى بضعة أطفال من القرية التي تقع بداية المنعطف أحيانا العوز يرغمهم بأي وقت طرق الباب والسؤال على أي شيء من فاكهة الأشجار، وخضرة الأرض.
    أفرغت حضني من قطع الدانتيل وقصاصات القماش الصغيرة التي تفيض عن حاجة أختي، واسرعت افتح الباب، لم يكن أي من الصبية، كانت امرأة عرقها وعطشها يدلان على أنها مشت مسافة طويلة، ترتدي تنورة طويلة بلون أسود وقميصا رصاصيا قليلا ويقترب من الركبة، تتوزع عليه دوائر فارغة مطبوعة بألوان منها الأحمر والأخضر كلونين ممدودين على طرف الشال الأسود الذي يغطي رأسها، وصندل كثر الاستعمال وتراب الطريق بالكاد يتضح لونه الرصاصي وحقيبة سوداء متقشر أغلب جلدها!
    ابتسمتُ لتحيتها "مساء الماس"، قبل اغمض عينيّ اشمئزازا من رائحة العرق وندى وجهها الدبق وهي تضع قبلة واحدة على خدي. ممتلئة الوجه والجسم ، حنطية البشرة، أثر لمسة المرح والخفة تبدو أصغر من أمي، ما ان شربت كأس الماء. قالت: المورد المكشكش المزدان بالضفائر الطويلة والخدود الممتلئة حلاوة الصبايا يسميك...
    ...ان أفتقدتي النور ليلا ما، غني غاب القمر، ان شعرتي عند عودتك من المدرسة، وسواس نبض يتبعك، لوذي خلف الشجرة رتبي ابتسامتك، أحفظي أغنيتك وغنيها بالنيلي والأبيض؛ بريق الألوان يربك طريق المدرسة. على الحائط ارسمي القلب وأغرسي السهم، ولا تلومين الطبشور؛ النظرات عصافير تبحث عن غصنٍ لتحط. راقبي ظلك وهو يذوب في مجرى النهر حين تقطفين أزهار الضفاف، تذكري وأنت تلاحقين ألوان الفراشات إن جرح الناعم الرقيق قد لا يشفى. تمسكين الريشة في مهب الريح لا بأس حاولي في كثير الأحيان للهاث متعة. لكن حاذري حين السكون وأنت ترددين وراء العصافير من غصة الزقزقة، كل الحمام الذي تربين أطلقيه إلا واحدة لقنيها أن صدرك ألهٌ معبودٌ. لا تركضين إمام النباح ستغرين الكلاب تتبعك، ارميها القطط كالصبيان بالحجارة، لا تثريب على درس المخلب
    قالت الأخيرة وهي تتلفت هنا وهناك
    اسرعت للمطبخ حيث أمي لم أجدها، قصدت أختي، من وراء ماكينة الخياطة قالت: لا بد تسأل شيئا هذه الأيام المتسولين وطالبي الحاجة كثر
    انتظري امي إذ خرجت من الباب الخلفي تعطي فلاح الحديقة شيئا ، الفاقة انهكت أسرته وما يحصل عليه من عمل الحديقة يذهب لعلاج والديه المريضين
    عدت وجدت المرأة تتقدم خطوات عن مكانها واقفة تنظر إلى انحدار الشلال الأبيض من أعلى جبل يغطيه بالكامل عشب داكن الخضرةِ، تطاير ماء الشلال يوحي هبوب ريح وقت إلتقاطها ومن إحدى الزاويتين القريبتين أغصان دفلى تمد أطرافا مفتحة بأزهار بيضاء اللون مع امضاء...
    لم يتبين في الإخضرار الفاحش وجود زهور برية أو حتى يعرف اسم عشب أو يبرز له شكلٌ؛ هي صورة كبيرة ملتقطة قبل عقد ونصف الآخر،
    لها من غرفة الاستقبال الجزء المضيء كالحيز الكبير في ذاكرة أبي.
    قلت: أبي أيضا كان يتطلع بهذا الاهتمام الشديد لها
    قالت: وكان يحكي أشياء كثيرة مسلية وحزينة، ومغامرات عن رفاقه أ ليس كذلك؟
    من أعطى الصورة مثلا: كان يترك البعوضة تمتص من جسده، ينظر للونها كيف يتحول إلى الأحمر قائلا: هي الآن على حافة نهر ماذا لو غرفت قطرة،
    على احتمال قوت فراشة هنا أو ريع نحلة أونملة هناك، يتحاشى الاماكن المعشوشبة ويحيد عن تفتح الأزهار.
    حتى نتأت بين قبعات الفطر جمرة، أنى للمطر يحيّ الجمر كما يحي الفطر والكمأ؟
    علا من أحدى الغرف صوت ماكينة الخياطة ليضيع السؤال. شعرت بالرائحة النتنة مع الحركة السريعة لمروحة السقف تزداد
    ثقل رأسي وارتخت يدي وداهمي نعاس شديد حاولت اتدارك الصينية، كل شيء يهتز، آخر ما أذكر رنين أساور الفتاة الهندية المطبوعة على كأس الزجاج وهو يتدحرج مكسورا إلى آخر التخت، والمرأة عملاق كبير يقترب من الشلال. قطرات الماء المتقطرة على وجهي، تعيدني إلى ضجيج الجلبة في رأسي : أبي.. الرفاق.. الهدايا.. الحكايا.. جرس الباب.. سورة الأحزاب.. رذاذ الشلال.. الصورة!
    الصورة آلة محشوة يخرج الصاد منها رصاصة تحيني من موتي، تفتح عينيّ المغمضتين على مكان الشلال المحفور بسيكن حاد، تحاصرني بين أربعة:
    تأخر أمي، فلاح الحديقة، تحية المرأة، العبارة المكتوبة مكان الشلال
    صرختُ حياة، علا صوت ماكينة الخياطة.
    التعديل الأخير تم بواسطة سميرة سلمان; الساعة 04-12-2017, 11:56.
يعمل...
X