قراءة في قصيدة “وَشْمُ جَدّتِي” للشاعرة التونسية كوثر بلعابي بقلم سليمى السرايري

Spread the love

قراءة في قصيدة “وَشْمُ جَدّتِي”

للشاعرة التونسية كوثر بلعابي

بقلم سليمى السرايري

 

  • من الوهلة الأولى نلمسُ هذا الحبَّ الكبيرَ الّذي ما زال ينبضُ في قلبٍ الكاتبة نحو جدّتها كما نلمسُ أنّ الجدّةَ امرأة صالحة ومتديّنة وهي تبدأُ يومها بالدّعاء والصلاة.
  • تَشْرَعُ في الوُضُوءِ خَاشِعةً
  • تُشْرِعُ نَوافِذَ يَوْمِهَا بَالحَمْدِ والتّسبِيحِ
  • القَصِيدَةُ تَعتَمِدُ عَلَى ذِكرَيَاتِ الشاعرة كوثر بلعابي وَعَلاقَتِها الحَمِيمِيَّةِ بِجَدَّتِهِا، مِمَّا يُضفِي عَلَى النَّصِّ لَمسَةً عَاطِفِيَّةً قَوِيَّةً وَمُؤَثِّرَةً يستسيغها القارئ وتشدّه العبارات الصادقة المنبعثة من قلب يحمل شوقا كبيرا لجدّته.
  • كما يَحمِلُ النَّصُّ طَابِعًا عاطفيا يُبرِزُ فِيهِ الدَّورَ الرُّوحِي وَالتَّارِيخِي لِلجَدَّةِ. فَهِيَ لَيسَت مُجَرَّدَ شَخصِيَّةٍ أُسرِيَّةٍ، بَل تُمَثِّلُ امتِدَادًا لِلهُوِيَّةِ وَالتَّقَالِيدِ.
  • تَظهَرُ الجَدَّةُ فِي القَصِيدَةِ كَرَمزٍ لِلطِّيبَةِ، الحِكمَةِ، وَالقُوَّةِ. استِخدَامُ “ابتِسَامَةٍ رَاضِيَةٍ مَرضِيَّةٍ” وَ”شُمُوخِ وَقفَتِهَا” يَعْكِسان احتِرَامَ الشاعرة وَتَقدِيرَها لِدَورِهَا الرُّوحِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ.
  •  قد ركّزتْ الكاتبة على الوشم، والوَشمُ هنا أعتبره كَرَمزٍ لِلهُوِيَّةِ:
  • فهو لَيسَ مُجَرَّدَ زِينَةٍ، بَل رَمزٌ لِلانتِمَاءِ.
  •  تربِطُ الكاتبة بَينَ وَشمِ الجَدَّةِ وَامتِدَادِ تَأثِيرِهَا فِي نَفسِهِا وَفِي الوَطَنِ، مِمَّا يُعَكِسُ البُعدَ الثَّقَافِيَّ وَالاجتِمَاعِيَّ العَمِيق لِلوَشمِ فِي التُّرَاثِ العَرَبِيِّ.
  • ووَشْمِهَا المَرسُومِ عَلَى مِقْبَضِ السَّيفِ
  • أو:
  • “جَدّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ وَقْتَهَا أنّ وَشْمَهَا
  • سَيَظَلُّ عَالِقًا فِي خَبايَا الرُّوحِ بَعْدَهَا”
  • كما أشارت هنا:
  • “فِي الوَشْمِ الأخضرِ المَرقُومِ
  • يَلُوحُ مِن تَحتِ لِمَاهَا
  • وعَلى الخَدِّ المَليحِ”.
  • كمَا تُشِيرُ الكاتبة إِلَى أَنَّ الجَدَّةَ كَانَتِ امرَأَةً مُتَدَيِّنَةً، تَربِطُ حَيَاتَهَا بِالرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّفَانِي لِلَّهِ، وَهُوَ مَا يُعطِيهَا بُعدًا رُوحِيًّا يُعَزِّزُ مِن تَأثِيرِهَا الإِيجَابِيِّ عَلَى حَيَاةِ الشاعرة حفيدتها الكاتبة.
  • يُشِيرُ النَّصُّ أيضًا إِلَى عَبَثِ الوُجُودِ حِينَ نَبتَسِمُ لِلصُّوَرِ الَّتِي تُذَكِّرُنَا بِالمَاضِي، ثُمَّ يَعودُ الزَّمَنُ وَيُوقِظُ فِينَا مَشَاعِرَ الحُزنِ وَالشَّوقِ.
  • هُنَاكَ إِحسَاسٌ بِالحَنِينِ لِلأَوقَاتِ الجَمِيلَةِ الَّتِي وَلَّت، وَالتَّأمُّلِ فِي تَأثِيرِ الزَّمَنِ عَلَى الذِّكرَيَاتِ.
  • القَصِيدَةُ تَجمَعُ بَينَ الفَرَحِ الَّذِي كَانَتِ الجَدَّةُ تَبُثُّهُ فِي حَيَاتِهَا نحو أحفادها والمحيطين بها وَبَينَ الحُزنِ الَّذِي يَسِيطرُ عَلَى الشاعرة بَعدَ فَقدِهَا لمنبع هذا الحنان الكبير.

 

  • هَذَا التَّنَاقُضُ يُعَزِّزُ الشُّعُورَ العَاطِفِيّ العَمِيق بِالنَّصِّ.
  • أُسلُوبُ الكاتبة كوثر بلعابي فِي النَّصِّ سَلِسٌ وَعَاطِفِيٌّ، يُعَكِسُ الشَّجنَ وَالارتِبَاط العَاطِفِيّ بِالجَدَّةِ والاعتمَادُ عَلَى الرَّمزِيَّةِ وَالأَلفَاظِ المُوحِيَةِ مِثلَ “العِطرِ”، “الوَطَنِ الجَرِيحِ”، والوشم” يُخلِقُ إِحسَاسًا بِالاستِمرَارِيَّةِ وَالانتِمَاءِ الَّذِي لَا يَزُولُ.

——–&———

  • بهذه الطريقة قرأتُ أو تعرفتُ على هذه القصيدة.
  • أود أن أقول للشاعرة كوثر بلعابي إن أسلوبك نقي وعميق، وقد أعاد إلى ذاكرتي صورة جدتي وأثار فيّ مشاعر الحنين إلى تفاصيل كثيرة…

  • سليمى السرايري
  • تونس

القصيدة:

“وَشْمُ جَدّتِي”

 

كانَتْ جَدّتِي. تَستَقبِلُ الفَجرَ

بابتسامةٍ راضيةٍ مَرْضِيّةٍ

تَشْرَعُ في الوُضُوءِ خَاشِعةً

تُشْرِعُ نَوافِذَ يَوْمِهَا بَالحَمْدِ والتّسبِيحِ.

وَجهُهَا المُشرِقُ بِوداعَةِ الطّيّبينَ

يَأسِرُ قَلبِيَ الطّفْلَ

وسَائِرَ قُلوبِ اليَافِعِينَ

حتّى كأنها جَدّتُهُم جمِيعًا.

الجَميعُ نَامَ عَلَى رُكبَتَيْهَا

الجميعُ زاحَم للظّفَرِ بِلُقمَةٍ مَن يَديْهَا.

الجَميعُ بَكَى يَومَ وَداعِهَا

بِحُرْقَةِ الدّمْعِ السَّفِيحِ.

كَانتْ جَدّتِي.

أجملَ النّاسِ في عَيْنَيَّ وقَلْبِي

بِشُمُوخِ وَقفَتِهَا التي لَمْ يَحْنِهَا العُمْرُ.

بِحَكايَاهَا عَن مُغامَراتِ المَوتِ النّسائِيّةِ

عَن الجَازيةِ الهِلالِيّةِ

ووَشْمِهَا المَرسُومِ عَلَى مِقْبَضِ السَّيفِ.

عَن “الدزِيريّة الغِيلانِيّةِ”

وأُغنيةِ الابن المَغدُورِ فِي زَمَنٍ آخرَ لِلحَيْفِ.

كُنتُ أرَى وَجهَيْهِمَا فِي وَجْهِ جَدّتِي.

 فِي الوَشْمِ الأخضرِ المَرقُومِ

يَلُوحُ مِن تَحتِ لِمَاهَا

وعَلى الخَدِّ المَليحِ.

كَم أُحِبُّ وجْهَ جَدّتِي.

كَم أحِبُّ لَثْمَ وَشْمِهَا المَعجُونِ بِعُشْبِ الأرْضِ

بِضَوْعِ العَنبَرِ والقَرَنْفُلِ مِن سَخَابِهَا

بِرَائِحَةِ الطّينِ المُبَلَّلِ مِن طَيّاتِ ثِيَابِهَا.

لَكأنَّهَا جَاءَتْ مِن مَملَكَةِ “أنطَالاس” الذَّبِيحِ.

تُرسِلُ جَدّتِي بِالدُّعَاءِ لَنَا وللوطن تَمْتَمَاتِهَا

كُلّمَا أنهَتْ صَلاَتهَا

كلّمَا نَثَرَتْ بَقَايَا الخُبْزِ مِنْ تَنُّورِهَا

لِعَصَافِيرِ الصّباحِ

كلّمَا عَلّقَتْ عَيْنَيْهَا شَرْقًا

عَلَى حُمْرَةِ الغَسَقِ الفَسِيحِ.

وتُذَكّرُنِي الصُوَرُ القَدِيمَةُ

بِابْتِسَامَتِهَا الوَدِيعَةِ والحَكِيمَةِ

فَيَغرَوْرِقُ القَلبُ شَوْقًا.

يَا عَبَثَ الوُجُودِ بِنَا حِينَ نَبسِمُ لِلصُّوَرِ

وبَعْدَ طَيَّاتِ الزَّمَانِ نَعُودُ إلَيْهَا

فتَبعَثُ فِينَا النّشِيجَ والكَدَرَ

ونَرَى فِيهَا الزّمَانَ يَشِيخُ وعَن الفَرَحِ يُشِيحُ.

جَدّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ وَقْتَهَا أنّ وَشْمَهَا

سَيَظَلُّ عَالِقًا فِي خَبايَا الرُّوحِ بَعْدَهَا

وأنِّي أرَاهَا والبِلَادَ فِي رُقُومِهِ

دَوْمًا تَفُوحُ بِالعِطرِ. مَع أنفَاسِ كُلِّ فَجرِ

وأنِّي أحِنُّ إليها.

كُلّمَا غَصَّ فِي الحَلْقِ عَلْقَمُ الوَطَنِ الجَرِيحِ.

وَشمُ جَدّتِي مَا كَانَ أبَدًا لِلزّينَةِ

كَانَ رَسْمًا لِلهُوِيّةِ.

كَانَ وَسْمًا مِلْءَ رُوحٍ عَرَبِيّةٍ.

كَانَ رَمْزًا وعَلَامَةً. كَانَ لُغَةً وإلهَامًا

لِقَصِيدَةٍ لَمْ تُكتَبْ بَعدُ

تَبْتَنِي لِلحُلْمِ بَيْتًا فِي الأُفُقِ

رَاسِخًا كَالوَشمِ دَوْمًا فِي أَلَقٍ

أبَدًا لَنْ يُمْحَى لهُ مِدادٌ. ولَنْ يَسِيحَ…

——&—–

انطالاس:

قائد عسكري بربري (القرن 7 قبل الميلاد) حكم الدولة القبصية وهزم جيش الاحتلال الروماني في شمال افريقيا في عدة معارك الي أن اوقعوا به في كمين وقتلوه.

Related posts

Leave a Comment