“حين احترقنا ولم نمت”

Spread the love

“حين احترقنا ولم نمت”

من نافذتي أرى في كل صباح مبنى تصدّع من صاروخٍ أعمى، سقط على ساكنيه ذات كذبةٍ قالوا إنها إنذار خاطئ، لكن الرماد لا يكذب، ذاك الركام يروي حكاية من التهمتهم النيران ظلمًا لا سهوًا، يلوّح لي كل يوم بوجوه لم تأخذ وداعها.

الشارع المجاور ليس طريقًا، بل شهادة مكتوبة بدماء الصغار، رصيفه احتضن جثثًا بحجم الحكايات التي لم تكتمل، كنت أركض فيه سنواتٍ طويلة، لا حبًا في الحياة، بل خوفًا من نهايتها، كل خطوة كانت رجاءً أن لا يسبقني الرصاص.

الحيّ الذي قضيت به جزء من طفولتي، لم يعد صالحًا للزيارة، غادرته لا لأنني أردت، بل لأن الموت سكنه قبل أن تنضج أحلامي، لم أشتهِ العودة يومًا، فبعض الأماكن لا تصلح للحنين، بل للصمت.

كلما مرّ طيفه بي، جاء في مخيلتي كل من رحلوا فيه ظلمًا، وذاك الطفل الشقيّ، لا يزال يضحك في رأسي، رغم أن جثته قالت غير ذلك، لم يمت خطأ، بل لأن الحياة هنا لا تتقن العدالة، منظر جسده المحترق لم يزرع فيّ الشفقة، بل الحنق ليس عليه، بل على كل شيء، صوت أمه، وصدى الأمهات من بعدها، ليس صراخًا في أذني، بل ندبة في الذاكرة.

الخوف الذي مشى معي إلى المدرسة، لم يغادرني بعد، شاهدتُ الرصاص يصطفّ حولنا، كأنه نهاية الفيلم، ارتجاف يدي حينها لم يكن ضعفًا، بل وعيًا مبكرًا بأن الطفولة تُنتزع هنا بالقوة، كنا أنقى من هذا الخراب، وأصدق من أن يكون الحلم الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، لكنني كبرتُ، لا كما يُفترض أن يكبر الأطفال، بل كما تُجبرهم الحرب على النضج المبكر، تعلمتُ أن الحياة هنا لا تُعطى، بل تُنتزع، وأن النجاة ليست خيارًا، بل معركة يومية في الظلام.

أكنتُ أدرك أني سأصير شاهدة على كل ذلك؟
أنّي سأُجبر على حمل جثث أحلامي فوق ظهري؟
لو كنتُ أعرف أن الحياة ستجرفني هكذا، أكنتُ سأتمسك بها بكل ذلك العجز؟
أكنتُ سأخاف الموت حينها فعلًا؟ أم كنتُ سأحترمه أكثر من حياةٍ تُمارس القتل على مهل؟

أماني البريهي.

Related posts

Leave a Comment