فنية الوفاء في: “رسائل إلى بحّار ورسائل أخرى” للشّاعرة والكاتبة التونسية سليمى السرايري ** بقلم: الناقدة التونسية كوثر بلعابي

Spread the love

فنية الوفاء في: “رسائل إلى بحّار ورسائل أخرى”

للشّاعرة والكاتبة التونسية سليمى السرايري **

بقلم: الناقدة التونسية كوثر بلعابي

 

** تقديم :

في زمن التّكنولوجيا الرّقمية و الرّسائل الإلكترونية السّريعة والباردة ( والمكتوبة عربيّا بحروف لاتينيّة ) عبر شبكات التّواصل الاجتماعي، تطالعنا الشّاعرة و الفنّانة التّشكيليّة سليمى السرايري بمنجزها الجديد المختلف شكلا ومحتوى عن إصداراتها السّابقة التي مثّلت إضافة ذات قيمة في كتابة قصيدة النّثر؛ لتعود بنا إلى أدب الترسّل الذي خلدت أعلاقُه في موروثنا الأدبيّ العربيّ منذ رسائل الجاحظ والمعرّي وإخوان الصّفاء وابن شهيد الأندلسي قديما حتى رسالة أحمد أمين “إلى ولدو رسائل أبي القاسم الشّابّي إلى صديقه محمد الحليوي ورسائل جبران خليل جبران ومي زيادة و تلك الحكاية الفريدة…

غير أن رسائل أديبتنا سليمى ((إلى بحّارها)) تظلّ لها سِمتُها الخاصّة فتنزاح ولو جزئيا عما شملته وعما قامت عليه رسائل الأسلاف المذكورين.

 

      ** توصيف :

إنّ الرسالة في معناها العامّ خطاب يستوجب مصدرا هو المرسل ووجهة هي المرسل إليه. وظاهر رسائل أديبتنا التي يبلغ عددها 112 رسالة انعقد على هذا المعنى العامّ للرّسالة (أدبية كانت أو غير ذلك):

+ فالمرسل هي الذّات الكاتبة التي تعدّد حضورها وهيئاته في هذه الرّسائل (عاشقة _ ابنة مدللة حينا أو نزقة آخر _ حوريّة من حوريات البحر _ صديقة _ كاتبة _ إنسانة تائهة في هذا الوجود …) وتوحّد أيضا في ذات مفردة صاخبة مكتظّة بالمشاعر المتضاربة مفتونة بألوان الحياة وتدرّجاتها القزحية …

+ والمرسل إليه بدوره متعدّد فكان ذلك عاملا أساسيّا من عوامل ثراء هذه الرّسائل:

_ فهو حينا البحر الذي أهدت إليه رسالتَها الأولى باعتباره عشقها الأوّل حتّى وإن كانت ((شواطئه مُحاطة بفوانيس منسيّة من دموع الصّيادين)) فهو الذي تخاطبه قائلة: ((أعشقك أيها البحر… لم أكن أعرف أنّك وديع كطفل إلّا عندما قبّلتك حبيبتك السّماء العظيمة)) إلا أن هذا البحر تتّسع دوائر المجازات التي أحاطت به في متون الرّسائل: فهو بحر الهوى؛ وبحر الغياب؛ وبحر الحبر والكتابة؛ وبحر الأخيلة الشاردة أحلاما ورؤى؛ وهو أيضا بحر الأحزان ومصبّ العبرات السّخية والسّخينة …

هذا البحر الذي سجل حضورا أساسيا في أغلب الرسائل إما كموضوع أو كأبجدية مثّل أوّل موضوعات الوفاء الذي تحلّت به سليمى وأدّاه خطاب رسائلها تجاه رؤاها الوجوديّة وأحلامها الوجدانيّة التي وسعتها أبعاد البحر.

_ وهو أحيانا أخرى مرسل إليه آخر؛ هو البحّار / الحبيب الغائب الذي خصّته المؤلّفة بالنّصيب الأوفر من الرّسائل (من ص11 إلى ص124 من ضمن 239 صفحة: أي نصف الكتاب تقريبا). وقد تبدّى من رسالة إلى أخرى منحوتة لغويّة لكائن استثنائيّ مفقود تعلّقت به همّة الذّات المرسلة الحالمة وهي تواجه بأحلامها قضبانَ المعقول المُسيّج لروحها محاولة اختراقها والانطلاق نحو الآخر البعيد الذي يعكس ذاتها الأخرى في مراياها تلك التي ترى فيها خلاصها وتحرّرها مِن كلّ ما يزعجها في راهنها نحو أمنيّات روحها المغموسة في عطور الحبّ حلوها ومرّها… وذلك هو المعنى الحقيقي للحب المفقود في زمننا. لذلك ظلّ البحّار المرسَل إليه في حال الغياب لا يأتي وفي محلّ الحضور لا يغادر خيال الذّات المرسِلة وذلك يحمل أرقى مراتب الوفاء تجاه الإحساس الصّادق والعميق الكامن فيها حتّى وإن كان قيد الخيال والأحلام. كتبت في ص 76: ((حبيبي … ما زلت أذكر ذلك الشّاطئ المهجور إلاّ من النوارس التي ملأت السماء بأصواتها المختلفة وكنت تمسك بيدي وذراعك حولي تقيني الرّياح التي هبت فجأة من جهة الشّمال كان المكان مقفرّا تماما في ذلك الوقت من السّنة والخريف يحتاج الشّاطئ ويلهو برماله لم يكن غيرنا هناك فقط صمتنا الجميل وبعض صدفات تختلس النّظر إلينا وتبتسم))

هكذا رسمت سليمى للحبّ المنشود القائم على الاحتواء مشهدا من عالم المُثل (هو في الحقيقة متواتر في كتاباتها) انتعش في الذّاكرة وذاك مُنتهى الوفاء في الحبّ لحبيب قد يكون حاضرا غائبا أو مفقودا منشودا.

_ مرسل إليه آخر هو: الصّديقات والأصدقاء من ميدان الفنّ والأدب خاصّة الشّعر الذين تحدّثت إليهم سليمى بإحساس المبدعة الباحثة دوما عن تجربة جماليّة جديدة …

 ذاك الإحساس النّاعم الرّقيق بما انعكس من ذواتهم في مرآة ذاتها، وبما أحدثته صداقتهم ومودّتكم في ذهنها ووجدانها من وقع جميل؛ منهم في الشّعر سوف عبيد، حاتم الإمام غصباني، قليعي بوخاري، لطفي السنوسي، منية جلال، وغيرهم  وأنا كوثر البلعابي (الرّسالة الخاصّة بي موجودة ف ص176) … وفي السّرد الرّوائية وفاء غربال وفي الموسيقى الفنّان هشام الكاري… وهي في الأثناء تخلّد ذكرهم ونبل مواقفهم  فكان ذلك منتهى الوفاء للصّداقة والأصدقاء ليس غريبا عمّا عرفنا عليه سليمى من اللّباقة والرّقيّ في التّعامل مع أصدقائها ممّا جعلها محلّ مودّة مع الجميع في السّاحة الثّقافية داخل تونس وخارجها في الواقع وفي العالم الافتراضي الذي تمثّل الرّسائل وسيلة التّواصل الأساسية مع الآخرين من خلاله.

_ المرسل إليه الآخر هو السّلف الكريم: الأمّ ذاك الجوهر الحاضر بالضّياء لا تبدّده أبدا حلكة الخيبات… حبل الحب الخالد الذي تعتصم به فيقيل عثراتها وكما تراه سليمى ((الشجرة المثمرة التي لم تسقط ثمارها ولا ضلالها)) فهي دوما تقتات من حبّات حُبّها الخالص كي تقدر على مواصلة السّير نحو المدى؛ وهو كذلك الأب الفقيد ((الحبيب الكبير… الوطن الكبير الذي لا ظلم فيه ولا ضياع …)) حظي برسائل أربع (ص 227 وما بعدها) سبقت الرّسالة الأخيرة ((إلى الحياة)) تلك التي تضمّنت

تمثّلا مأساويّا حزينا لثنائيّة الحياة و الموت من خلال جدليّة حضور الأب الغائب في ذاتها حضور الموت في الحياة و موت الحياة الحقيقيّة بعده بما تعنيه من فرح و أمان ممّا جعلها تجتاز بخيالها منطق الوجود و تستشرف مراسم موتها و لحاقها به وهي تتّجه راقصة مع الملائكة نحو (( مدينتها البيضاء)) تاركة وراءها قصائدها و أشياءها الجميلة و (( مخطوطات تعذّر عليها نشرها )) في خضمّ صعوبة ترويج الكتاب وتوزيعه تحت (( سطوة اللّوبيات)) … وهذا طبعا يتدرّج ضمن الوفاء للجذور والهويّة والعائلة هي الهويّة الأولى التي لا يمكن أن يكون دون الوفاء لها وفاء لوطن ولا لكتابة  ولا لأحبّة و لا حتّى  للإنسانية .

_

 هناك مجموعة من الرّسائل الأخرى المرسَل إليه فيها مجازيّ رمزيّ؛ إنّها رسائل الجزء الخامس: منها رسالة إلى الذّات في عيد البنات ص 216

((في عيد البنات… اختفيت وحدي وتمرّدت عليّ قليلا؛ أخرجت لساني أمام المرآة القابعة في ركن إحدى غرف المنزل وبعثرت أدوات كثيرة هنا وهناك وغنّيت عاليا حتّى فرّت قطّتي مهرولة تحت السّرير)) لقد طفقت هذه الذّات تنبش في أعماقها وتكتشف أناها عساها تظفر بما بقي من الطّفلة الكامنة فيها فتحتفظ به ذخرا لتجاربها القادمة مع الحياة ومع الكتابة وكأنّها بذلك تُسدي وفاء كبيرا إلى نقاء الكتابة وصدقها وعمق إنسانيتها النّابع من بقايا تلك الطّفولة الكامنة فينا …

هذا المرسل إليه المتعدّد في الحقيقة لم يكن إلا رؤى الكاتبة تتشكّل في الكتابة طقسا خاصّا تمارسه سليمى على طريقة كرة التّنس في رمية مسدّدة تبلغ وجهتها أو هدفها ثمّ تعود إلى منطلقها في حركة لغويّة ملولبة خدمتها المجازات والتّشبيهات الموحية والراشحة شاعرية أساسا… منها ما ورد في ص221 ((كلّ الزّوايا تنهض فجأة وتصعد الكلمات المكتب … ترتفع بها الأرض إلى السّقف.))  فيُضفي المجاز العقليّ مواصفات الحياة وحركتها على الأشياء الجامدة محقّقا جماليّة الصّورة الاحتفالية.

كل ذلك لتصوير فعل أصابع الحبيب وهي تلامس خدّ محبّته في هذا المثال … كما خدمتها أيضا الجمل المركّبة الممتدّة التي وسعت بتعقيد تراكيبها مدرات المعنى المكثّف في ذهابه وإيّابه بين الذّات والآخرين ومن أمثلة ذلك ما ورد في ص 78: ((كم يلزمني من دهر كي أستوعب أنّني هنا الآن وقد تخلّصت من صمتي وتحرّرت مِن وجومي فانحدرت دموعي سيولا دونك وتركتها بخرّيّك تتدفّق على وجهي تشقّ لها أخاديد وتطرّز بصماتها على قميصي الأبيض الذي يشبه سُحب الصّيف؟)). كلّ ذلك في جملة استفهاميّة واحدة مركّبة جعلت المعنى يتجلّى في منزلة بين الحقيقة والحلم أجادت سليمى سكبه حبرا من دموع باسمة في محراب البحر بأبعاده المتنوعة؛ زوارقه رسائل ورقيّة دافئة تدفع بعيدا برودة الرّسائل الإلكترونية وصلابة الرّسائل التّراثيّة بما فيها من تدبيج اللّغة وتعقيد البنية وتكريس المواضيع للتندّر والتّفكر. رسائل ورقيّة تفلت من القوالب في تقاطعها المتناغم مع لغة الشّعر التي حرصت كاتبتها على شكلها شكلا تامّا احتراما لسلامة لغتنا الفصيحة ودقّتها؛ ومع منطلقات الخاطرة ومحتوياتها؛ وكذلك مع بُنى السّرد في صياغة المشاهد في سكونها وحركتها؛ ومع ترصيف الفنّ التّشكيلي وترصيعه في طريقة اختيار المعاجم وتركيب الجمل…

 

      ** تأليف:

بذلك نبّهتنا سليمى السرايري إلى رحابة فنّ التّرسل في سعة استيعابه لمختلف أنماط الكتابة وأشكال التعبير؛ وفي قابيليّته للإحياء والتّجديد عبر الزّمن؛ مّما يتيح عبورا آخرا نحو الإبداع الجميل الذي ما فتئت تلاحقه أديبتنا لتظفر به حيثما يكون سواء في مجال اللّغة أو غيرها من مجالات الإبداع.

فكان ذلك وجه آخر من وفائها لسماتها وروحها الشّفيفة الحالمة الميّالة إلى الفخامة في الحياة وفي الكتابة شعرا ونثرا كما في الرّسم وغيره بروح الفنّانة المغرمة الباحثة قُدما عن الجديد لا تقتدي ولا تقلّد ولا تنسخ. إنّما تشعر فترسم وترقم …

 

                                                                      الناقدة التونسية كوثر_بلعابي

Related posts

Leave a Comment