قراءة سيميائية-إيحائية في مقولة سويفت: “الرؤية هي فن رؤية الأشياء غير المرئية”

Spread the love

في مقولته الشهيرة: “الرؤية هي فن رؤية الأشياء غير المرئية”، يرسم الكاتب الإيرلندي “جوناثان سويفت” حدودا جديدة لمعنى الرؤية، تتجاوز الإدراك البصري المباشر نحو أفق معرفي وتأويلي عميق، حيث لا تكون الرؤية فعلا حسيا خالصا، بل إنتاجا واعيا للمعنى من خلال ما لا يرى، تنطوي هذه العبارة على بنية دلالية مركبة يمكن مقاربتها من منظور سيميائي، بوصفها تعبيرا مكثفا عن جوهر العملية التأويلية التي تشكل نواة الفكر السيميائي.

في ضوء المفهوم السيميائي للعلامة، الذي يميز بين “الدال” و”المدلول”، تتضح قيمة الرؤية بوصفها علامة ذات طبقتين: فهي لا تقتصر على استقبال الصورة، بل تتجاوز ذلك إلى تأويلها وتحليل ما تحيل إليه من معان خفية.. حين نوظف الرؤية كأداة للفهم، فإننا لا نكتفي بما تتيحه لنا الحواس، بل ننفتح على البعد الرمزي للواقع، على ما لا يدرك بالعين المجردة، بل بما يبصر بالبصيرة. فالأشياء “غير المرئية” التي يشير إليها سويفت ليست مجرد وقائع غائبة عن الحواس، بل هي المعاني، القيم، البنى الرمزية، والأفكار المتوارية خلف الظواهر.

وعندما يصف سويفت الرؤية بأنها “فن”، فإنه يحررها من طابعها الغريزي أو التلقائي، ليجعل منها مهارة ذهنية تتطلب الوعي، والتمرين، والقدرة على التفسير العميق، فالفن لا يكون إلا بعد ممارسة، ولا يتحقق إلا بفعل إرادي يستبطن القصد، وبالتالي، فالرؤية بوصفها فنا تصبح مرادفة للتأويل، للقدرة على التقاط الدلالات التي لا تقال صراحة، بل تومئ وتلمح.

في هذا السياق، تبرز أهمية ثنائية “التقرير والإيحاء” عند رولان بارت، والتي تعد مدخلا أساسيا لفهم الفارق بين الرؤية التلقائية والرؤية التأويلية. فكما يميز بارت بين المعنى “التقريري” الذي تقدمه العلامة في ظاهرها، والمعنى “الإيحائي” الذي يستخلص من سياقها ودلالاتها العميقة، فإن سويفت يدعونا إلى ممارسة رؤية لا تكتفي بالتقرير، بل تتعمق في الإيحاء، في ما يلمح إليه ولا يُصرح به.. فالرؤية التي تتعامل مع العالم بوصفه شبكة من الإيحاءات ليست تلقيا سلبيا، بل نشاط تأويلي يستنطق الأشياء ويعيد تشكيلها ضمن بنى من المعنى.

في زمن أصبحت فيه الصورة طاغية والمظهر غالبا على الجوهر، تزداد حاجة الإنسان إلى هذه “الرؤية الإيحائية” التي تتجاوز الظاهر إلى ما تحته، إنها ليست رؤية سطحية لما هو كائن، بل بحث عن ما يمكن أن يفهم خلف الستار، وهنا تتقاطع المقولة مع جوهر السيميائيات المعاصرة، حيث يتحول العالم إلى نسيج من العلامات التي لا يدرك مغزاها إلا عبر الفهم التأويلي والتفكيك الرمزي.

الرؤية، بهذا المعنى، ليست ما نراه، بل ما نمنحه نحن من معنى لما نراه. إنها ليست فعل استقبال، بل فعل بناء للمعنى، إعادة تشكيل للواقع من خلال عين ناقدة وذهن متسائل. وفي ضوء هذا الوعي، لا تعد الأشياء واضحة إلا حين نفك رموزها ونفلت شفراتها. ولذلك، فإن “رؤية الأشياء غير المرئية” هي قدرة على اجتراح المعنى في قلب الصمت، وعلى التقاط الباطن وسط طغيان الظاهر..

هكذا، تصبح مقولة سويفت بمثابة ”مانيفستو تأويلي”، ودعوة دائمة إلى أن ننظر بعمق، وأن نؤمن بأن الحقيقة لا ترى إلا حين تقرأ.. فالعالم ليس ما يعرض علينا فحسب، بل هو ما نعيد نحن بناءه بوصفه نصا مفتوحا على التأويل، يكشف لنا عن وجهه الخفي كلما نظرنا إليه بعين لا تكتفي بالتقرير، بل تنفذ بالإيحاء إلى جوهر المعنى.

أحمد بنطالب

Related posts

Leave a Comment