الكوديكولوجيا وفهرسة المخطوطات:حين يستعيد التراث لغته العلمية

Spread the love

في رحاب المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بالعاصمة الرباط، حيث تصغي الجدران لخطى الباحثين وتحتفظ الرفوف بأسرار القرون، انعقدت ندوة علمية وازنة أطرها الأستاذ الدكتور “مصطفى الطوبي”، خصصت لموضوع الكوديكولوجيا وفهرسة المخطوطات؛ ولم يكن اللقاء مجرد عرض أكاديمي تقني، بل لحظة فكرية عميقة أعادت طرح سؤال التراث من زاوية علمية دقيقة، تستشرف المستقبل بقدر ما تحسن قراءة الماضي.

تعد الكوديكولوجيا من العلوم المساعدة الأساسية في مجال الدراسات التراثية، إذ تعنى بدراسة المخطوط في مادته وشكله وتكوينه الفيزيائي، من الورق والحبر والتجليد إلى الخط والتقييدات والهوامش كما جاء على لسان الدكتور الطوبي، وهي بذلك لا تكتفي بالنظر إلى النص بوصفه خطابا لغويا، بل تتعامل مع المخطوط ككائن تاريخي حي، يحمل في تفاصيله آثار العصور، وتحولات المعرفة، ومسارات التداول والنسخ والقراءة.

وقد أبرزت مداخلة الأستاذ الدكتور مصطفى الطوبي الأهمية المنهجية لهذا الحقل المعرفي، مبينة أن فهرسة المخطوطات لا يمكن أن تكون عملا إداريا أو وصفيا سطحيا، بل هي ممارسة علمية دقيقة، تتطلب تكوينا رصينا، وإحاطة شاملة بعلوم التراث، ومعرفة تقنية بمواصفات المخطوط وسياقه التاريخي والعلمي. فالفهرسة، في بعدها العميق، هي جسر بين المخطوط والباحث، وضمانة لتداول معرفي سليم، وحماية للنص من التهميش أو سوء الفهم.

كما توقفت الندوة عند الإكراهات التي تعترض مجال فهرسة المخطوطات في السياق العربي، من نقص في التكوين المتخصص، وتفاوت في المعايير المعتمدة، إلى غياب التنسيق المؤسساتي أحيانا، غير أن الخطاب لم يكن تشخيصيا فقط، بل حمل رؤية عملية مستقبلية، تؤكد على ضرورة الاستثمار في التكوين الأكاديمي، وتوحيد المعايير، والانفتاح على التجارب الدولية، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية للمخطوط العربي الإسلامي.

إن الرهان على الكوديكولوجيا وفهرسة المخطوطات ليس رهانا على الماضي بقدر ما هو رهان على المعرفة ذاتها، فالأمم التي تحسن قراءة ذاكرتها، وتحسن تنظيم تراثها، قادرة على بناء وعي علمي متوازن، يربط بين الأصالة والتجديد، وبين الوفاء للتاريخ والانخراط في أسئلة العصر.

كما شكلت هذه الندوة، لحظة إشعاع علمي حقيقي، أكدت أن المخطوط ليس أثرا صامتا، بل نص ينتظر من يحسن الإنصات إليه، وهو إنصات لا يتحقق إلا بعلم، ومنهج، ورؤية ثقافية واعية، كما جسّدها هذا اللقاء الأكاديمي الرفيع، الذي يظل إضافة نوعية في مسار التفكير في التراث، وصيانته، وإعادة إدماجه في الدورة المعرفية المعاصرة.

أحمد بنطالب

Related posts

Leave a Comment