حلمٌ على جسر البوسفور
****************************************
قال لي : سنسافر..أعدّي حقائب السفر، لم يبقَ في أوطاننا ظلّ لنا، لا شجر، لا قمر..لاشحارير تنقر نوافذنا..لم يعد شيء يغرينا بالبقاء..حتى الخبز له طعم مرارة لا تحتمل..
مثخنة القلب كنتُ.تصرخ الآلام بي لا تتردّدي...فالغربة صارت واحدة: هنا..هناك..لافرق بين بوابات الحزن، وإن اختلف اتساعها، فلنغيّر ريشة الألوان، وظلالها الباهتة، ولنحاول أن نرسم لوحة من أمانينا المحترقة، قبل أن تصير رماد حزن...لنجرّب أن نلقي بمواجعنا، على ضفاف البوسفور...علّ موجاته تبعثر العبرات فوق رمال صاخبة، لا تعرف النوم.
سمعته يحدّد موعداً لاستلام عربون المزرعة من الشاري..عند الثامنة من مساء اليوم...ليتفقا على بقية التفاصيل...
هناك ألم كالمخدر، يقتل الحواس، والمشاعر، ويقطع صلته بضجيج أوردة الحياة، واستمراريتها، فيقذف اليمّ القارب المثقوب حيث يشاء,,,من غير مقاومة..حدّ الغرق.
نظرت إلى وجهه..ثمة غلالة من دمع تكسو مآقيه..يحاول ألا تسّاقط، فيعتريه ضعف يثنيه عن قراره الحاسم، أما أنا...فاستعرت قمم الجليد، أكسو بها ملامحي، كي أسير معه، حيث شاءت لنا الأقدار...وقد آن الأوان..كي نستريح من تفاصيل كابوس مرعب..أحال أيامنا كأس علقم..، ممجوج المذاق.
.فليكن ... قلتُ في نفسي..كلّ الأحبة هاجروا، والأصدقاء صاروا بقايا صور...والسكون غلّف الشوارع..وختمها بشمعٍ، من صمت الفراغ..والوحدة..والنسيان..
...وقبيل الغروب..اقترحتُ عليه أن نقصد المزرعة للمرة الأخيرة، نودعها ونخطو فوقها خطواتنا التذكارية، مثل عدسة كاميرا..توثّق ساعة الفراق..في ليلة غارقة بالعتم..بين بائع، ومشترٍ...وقلب يضيع، يتعثّر..
ترجّلنا من السيارة...صرير الباب الحديدي الكبير..أشبه بنايٍ جريح...كأنه استشعر مراسم وداعنا..
.قطعنا المدخل الواسع الذي يفضي إلى الأرض الترابية الكبيرة، المشجّرة، تطأ أقدامنا الأوراق الصفراء المتراكمة، فيصدر عنها رائحة رطوبة مزمنة ...يا الله ألهذا الحدّ نسينا المكان...!!الأشجار عشوائية الأغصان، من فترة طويلة لم تشذّب، أكوام الحطب متناثرة هنا، وهناك...وبعض أشجار تقف عارية ، متيبّسة، وسط الصقيع، نسيها الزمن، ولم تعد تصلح إلا أن تكون قربانا يحترق، في مواقد الشتاء الباردة..
طلبت إليه أن يعدّ كأس شاي على الحطب..بالطريقة التي أحبها...فانشغل بجمع الأغصان اليابسة، يكسرها، يراكمها فوق بعضها، و يلقمها بأعواد صغيرة في خوافيها، تساعدها على الاشتعال..
بينما رحت أتنقّل بين الغرف القديمة..ذات الأعمدة الخشبية، المتقاطعة في السقف، تيك الغرف التي شهدت ْ أحلى ذكرياتنا، المصفوفة بشكل متتابعٍ، والتي تتواصل من الداخل، بنوافذَ مفتوحة على بعضها ..بين جدرانها السميكة، المقاومة للزمن، .. كأنها تتدفّأ ببعضها بعضاً...
هنا الأواني التي كنا نستخدمها في تحضير القهوة، واللقيمات الطيبة، وحفلات الشواء المرحة التي نصطحب فيها الأهل، والأصحاب.
على هذه الأرض هنا ... هنا تماما ..كم افترشنا الثرى..!!!.نتوزّع على امتدادها...على هذه البسط العتيقة..الملقيّة الآن بإهمال تشكو الضجر، تعلوها الغبار...كنا فوقها.ننثر أطباق الفطور الشهية أيام الإجازات...
هنا توضّع أثاث بسيط، لم نكن نشعر بأن ألوانه صارت باهتة، لفرط سعادتنا، وساعات مرحنا، وضحكات كانت لا تعتمد على فخامة المظهر..كالذي تنوء بأحماله بيوتنا الفارهة.
...هنا قنديل، هنا خرطوم سقي، هنا دلو بئر، وقربه عدة الزراعة، والقطاف، والحصاد..وسلال فارغة تنتظر عطاء المواسم...
أسمع الآن ضحكات الأطفال، وهم يتراشقون الماء في مسبح صغير..معدّ للسقاية، تظلّله شجرة توت ثخينة الجذع، كثيفة الأغصان، شهية الثمار..
وهنا رجع أغنيات، ودبكات لأصدقاء أولادي حين يدعونهم لقضاء أوقات جميلة معهم.
.يرنّ الآن في أذني صوت الكبار الذين رحلوا عن عالمنا...وسكنوا أثير النور...وأورثونا هذه الأرض بمواثيق عشق مقدس، تحمل أنفاسهم التي ما زالت تردّد في هذا المكان.
قدّم إليّ كأس شاي ساخن...تأملته بين صورتين... نفس الكأس الذي قدمه لي..عندما كنا في بداياتنا...وأنا أترنّح متعبة من إرهاق الحمل ..ماشية مراراً... أتأبّط ساعده إلى حيث هنا..أستعدّ لاستقبال مولودي الجميل.. وبين صورته الآن ...متعب مثلي أنت يارفيق العمر..تعب المشوار. وطارت عصافير الدار....وما زلنا نبحث عن الراحة الأكبر... وكم هي ضنينة..!!
تنقّلتُ بين الأشجار المتنوعة بين تين، وجوز، ومشمش، وعنب، ورمان، وزيتون....كم أكلنا من خيرات هذه الأرض...ووزّعنا غلالها على الأهل، والأصحاب...تضحك مواسم القطاف فيها...بطقوس تشبة لمّة الأعياد... ونحن نهدي سلال رزق السماء قائلين: تذوقوها.. فإنّ فاكهة الدار.. تطيل الأعمار..
بكيت من جحودنا.....اليوم ستصير غلالها في يدٍ غريبة، ستطرح ثمارها في يدٍ خشنة ..ربما تقتلعها يوماً...تدوسها..يخترقها منشار شرس الفكّ، .يحيلها إلى حطبٍ، يحترق، ويحرق معه الذكريات..
.فلقد استشفّيت من حديث الشاري بأن لديه مشروع بناء ضخم في هذا المكان المميز..المطلّ على شارع (بيروت)، قرب محطة القطار، عند مفرق (الهامة).....حيث كان الطريق هنا لايهدأ ، أضواء السيارات تكاشف أرصفته، و تقلق راحة شبابيك البيوت، بضجيج العجلات، والأبواق التي تنفلت بين حين، وحين ٍ..حتى الصباح.
.و حيث كان قطار السكة الحديدية بصوته المحبّب.. وبخاره الأنيس، يقطع بمرحٍ، الخطّ الواصل بين دمشق، ومصايف (وادي بردى)، و(الزبداني)...وما يتفرع عنها من بلدات مضيئة كالجمان...قبل أن تحطّ الغربان السود على أغصاننا.
تتالت الصور في قلبي، وتزاحمت الأصوات، ووهج نار الحطب يشعل في الروح دفئاً يقتل الصقيع. ذاك الصقيع الذي لن تطفئه ألف نار في مواقد الغربةا...غربة الروح، والجسد، والوجوه، والدم...واللسان....
لست أدري كيف انفلتت عن لساني صرخة خرجت من عقالها:....لااااااااااا ..لن نبيع...قل لهم لن نبيع...هنا باقون...هنا ولدنا...وهنا المثوى الأخير..
ــــ شلّتْ ردة الفعل لسانه...ماذا؟؟ كيف؟؟؟ هاهو على الخط يطلبني لتأكيد الموعد...بماذا أجيب...؟!
قل له: ــــ ...هنا أرض الكرام..والكريم لا يهين أرضه...والعصافير سوف تؤوب يوما إلى تيك الديار..وتستلم عنا مواثيق العهود.
أجابني: وقد انفرجت أسارير قلبه، والتمعتْ حدقتاه ببريق الرضا، وكأنني قلت عنه ماتنوء به ذاته: ـــ ومشروع السفر...!!!
ــ دعه .حلماً يروي عن مجانين عشاق الشام، قصص حبّ لاتنتهي...دعه حلماً معلّقاً على جسر البوسفور...يتأرجح مع موج البحر، بين مدّ، وجزر، ...ثم يذهب جفاء كالزبد.
****************************************
قال لي : سنسافر..أعدّي حقائب السفر، لم يبقَ في أوطاننا ظلّ لنا، لا شجر، لا قمر..لاشحارير تنقر نوافذنا..لم يعد شيء يغرينا بالبقاء..حتى الخبز له طعم مرارة لا تحتمل..
مثخنة القلب كنتُ.تصرخ الآلام بي لا تتردّدي...فالغربة صارت واحدة: هنا..هناك..لافرق بين بوابات الحزن، وإن اختلف اتساعها، فلنغيّر ريشة الألوان، وظلالها الباهتة، ولنحاول أن نرسم لوحة من أمانينا المحترقة، قبل أن تصير رماد حزن...لنجرّب أن نلقي بمواجعنا، على ضفاف البوسفور...علّ موجاته تبعثر العبرات فوق رمال صاخبة، لا تعرف النوم.
سمعته يحدّد موعداً لاستلام عربون المزرعة من الشاري..عند الثامنة من مساء اليوم...ليتفقا على بقية التفاصيل...
هناك ألم كالمخدر، يقتل الحواس، والمشاعر، ويقطع صلته بضجيج أوردة الحياة، واستمراريتها، فيقذف اليمّ القارب المثقوب حيث يشاء,,,من غير مقاومة..حدّ الغرق.
نظرت إلى وجهه..ثمة غلالة من دمع تكسو مآقيه..يحاول ألا تسّاقط، فيعتريه ضعف يثنيه عن قراره الحاسم، أما أنا...فاستعرت قمم الجليد، أكسو بها ملامحي، كي أسير معه، حيث شاءت لنا الأقدار...وقد آن الأوان..كي نستريح من تفاصيل كابوس مرعب..أحال أيامنا كأس علقم..، ممجوج المذاق.
.فليكن ... قلتُ في نفسي..كلّ الأحبة هاجروا، والأصدقاء صاروا بقايا صور...والسكون غلّف الشوارع..وختمها بشمعٍ، من صمت الفراغ..والوحدة..والنسيان..
...وقبيل الغروب..اقترحتُ عليه أن نقصد المزرعة للمرة الأخيرة، نودعها ونخطو فوقها خطواتنا التذكارية، مثل عدسة كاميرا..توثّق ساعة الفراق..في ليلة غارقة بالعتم..بين بائع، ومشترٍ...وقلب يضيع، يتعثّر..
ترجّلنا من السيارة...صرير الباب الحديدي الكبير..أشبه بنايٍ جريح...كأنه استشعر مراسم وداعنا..
.قطعنا المدخل الواسع الذي يفضي إلى الأرض الترابية الكبيرة، المشجّرة، تطأ أقدامنا الأوراق الصفراء المتراكمة، فيصدر عنها رائحة رطوبة مزمنة ...يا الله ألهذا الحدّ نسينا المكان...!!الأشجار عشوائية الأغصان، من فترة طويلة لم تشذّب، أكوام الحطب متناثرة هنا، وهناك...وبعض أشجار تقف عارية ، متيبّسة، وسط الصقيع، نسيها الزمن، ولم تعد تصلح إلا أن تكون قربانا يحترق، في مواقد الشتاء الباردة..
طلبت إليه أن يعدّ كأس شاي على الحطب..بالطريقة التي أحبها...فانشغل بجمع الأغصان اليابسة، يكسرها، يراكمها فوق بعضها، و يلقمها بأعواد صغيرة في خوافيها، تساعدها على الاشتعال..
بينما رحت أتنقّل بين الغرف القديمة..ذات الأعمدة الخشبية، المتقاطعة في السقف، تيك الغرف التي شهدت ْ أحلى ذكرياتنا، المصفوفة بشكل متتابعٍ، والتي تتواصل من الداخل، بنوافذَ مفتوحة على بعضها ..بين جدرانها السميكة، المقاومة للزمن، .. كأنها تتدفّأ ببعضها بعضاً...
هنا الأواني التي كنا نستخدمها في تحضير القهوة، واللقيمات الطيبة، وحفلات الشواء المرحة التي نصطحب فيها الأهل، والأصحاب.
على هذه الأرض هنا ... هنا تماما ..كم افترشنا الثرى..!!!.نتوزّع على امتدادها...على هذه البسط العتيقة..الملقيّة الآن بإهمال تشكو الضجر، تعلوها الغبار...كنا فوقها.ننثر أطباق الفطور الشهية أيام الإجازات...
هنا توضّع أثاث بسيط، لم نكن نشعر بأن ألوانه صارت باهتة، لفرط سعادتنا، وساعات مرحنا، وضحكات كانت لا تعتمد على فخامة المظهر..كالذي تنوء بأحماله بيوتنا الفارهة.
...هنا قنديل، هنا خرطوم سقي، هنا دلو بئر، وقربه عدة الزراعة، والقطاف، والحصاد..وسلال فارغة تنتظر عطاء المواسم...
أسمع الآن ضحكات الأطفال، وهم يتراشقون الماء في مسبح صغير..معدّ للسقاية، تظلّله شجرة توت ثخينة الجذع، كثيفة الأغصان، شهية الثمار..
وهنا رجع أغنيات، ودبكات لأصدقاء أولادي حين يدعونهم لقضاء أوقات جميلة معهم.
.يرنّ الآن في أذني صوت الكبار الذين رحلوا عن عالمنا...وسكنوا أثير النور...وأورثونا هذه الأرض بمواثيق عشق مقدس، تحمل أنفاسهم التي ما زالت تردّد في هذا المكان.
قدّم إليّ كأس شاي ساخن...تأملته بين صورتين... نفس الكأس الذي قدمه لي..عندما كنا في بداياتنا...وأنا أترنّح متعبة من إرهاق الحمل ..ماشية مراراً... أتأبّط ساعده إلى حيث هنا..أستعدّ لاستقبال مولودي الجميل.. وبين صورته الآن ...متعب مثلي أنت يارفيق العمر..تعب المشوار. وطارت عصافير الدار....وما زلنا نبحث عن الراحة الأكبر... وكم هي ضنينة..!!
تنقّلتُ بين الأشجار المتنوعة بين تين، وجوز، ومشمش، وعنب، ورمان، وزيتون....كم أكلنا من خيرات هذه الأرض...ووزّعنا غلالها على الأهل، والأصحاب...تضحك مواسم القطاف فيها...بطقوس تشبة لمّة الأعياد... ونحن نهدي سلال رزق السماء قائلين: تذوقوها.. فإنّ فاكهة الدار.. تطيل الأعمار..
بكيت من جحودنا.....اليوم ستصير غلالها في يدٍ غريبة، ستطرح ثمارها في يدٍ خشنة ..ربما تقتلعها يوماً...تدوسها..يخترقها منشار شرس الفكّ، .يحيلها إلى حطبٍ، يحترق، ويحرق معه الذكريات..
.فلقد استشفّيت من حديث الشاري بأن لديه مشروع بناء ضخم في هذا المكان المميز..المطلّ على شارع (بيروت)، قرب محطة القطار، عند مفرق (الهامة).....حيث كان الطريق هنا لايهدأ ، أضواء السيارات تكاشف أرصفته، و تقلق راحة شبابيك البيوت، بضجيج العجلات، والأبواق التي تنفلت بين حين، وحين ٍ..حتى الصباح.
.و حيث كان قطار السكة الحديدية بصوته المحبّب.. وبخاره الأنيس، يقطع بمرحٍ، الخطّ الواصل بين دمشق، ومصايف (وادي بردى)، و(الزبداني)...وما يتفرع عنها من بلدات مضيئة كالجمان...قبل أن تحطّ الغربان السود على أغصاننا.
تتالت الصور في قلبي، وتزاحمت الأصوات، ووهج نار الحطب يشعل في الروح دفئاً يقتل الصقيع. ذاك الصقيع الذي لن تطفئه ألف نار في مواقد الغربةا...غربة الروح، والجسد، والوجوه، والدم...واللسان....
لست أدري كيف انفلتت عن لساني صرخة خرجت من عقالها:....لااااااااااا ..لن نبيع...قل لهم لن نبيع...هنا باقون...هنا ولدنا...وهنا المثوى الأخير..
ــــ شلّتْ ردة الفعل لسانه...ماذا؟؟ كيف؟؟؟ هاهو على الخط يطلبني لتأكيد الموعد...بماذا أجيب...؟!
قل له: ــــ ...هنا أرض الكرام..والكريم لا يهين أرضه...والعصافير سوف تؤوب يوما إلى تيك الديار..وتستلم عنا مواثيق العهود.
أجابني: وقد انفرجت أسارير قلبه، والتمعتْ حدقتاه ببريق الرضا، وكأنني قلت عنه ماتنوء به ذاته: ـــ ومشروع السفر...!!!
ــ دعه .حلماً يروي عن مجانين عشاق الشام، قصص حبّ لاتنتهي...دعه حلماً معلّقاً على جسر البوسفور...يتأرجح مع موج البحر، بين مدّ، وجزر، ...ثم يذهب جفاء كالزبد.
تعليق