البرعي .. وانا .. !

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ياسرسالم
    أديب وكاتب
    • 09-04-2011
    • 397

    البرعي .. وانا .. !





    أذكر أياما جميلة - لا أعادها الله علينا - تعرفت فيها إلى أخي الظريف جدا أبي الوليد محمود برعي الأسواني في زنزانة 10 عنبر 4 بمعتقل وادي النطرون بالصحراء الغربية فى عام 1997 على ما أذكر.. وكان (البرعي) - على قلة حظه من التعليم محباً للشعر .. ممجّداً لعصره العباسي .. حافظاً لدرره .. مما جعله لا يتذوق ما يقع دون ما يحفظ ، ففاته خير كثير بإهماله لشعري المنمق والذي لا يخلو بيت منه من خطأ ايقاعي أو بلاغي في عين برعي.. وقد كان كذلك .


    المهم .. بعد أشهر قليلة أفل نجم برعي .. ورويدا رويدا تحول برعي النشيط إلى كومة مهملة في أحد أركان الزنزانة ، عرفنا فيما بعد أن مدة صلاحيته فى أي زنزانة جديدة لا تزيد غالباً على شهرين ، بعدها يكون غير صالح للاستهلاك الاجتماعي ..وكان لابد له من زنزانة أخرى ووجوه جديدة لتدب في برعي حياة المرح الموسمية والتي سريعا ما يعقبها الجفاف الاستوائي المبير ..


    وبالفعل كان الفراق .. ذهب برعي بعيدا عنى ، ولكنني لم أعدم وسيلة ( سرية طبعا ) في الاتصال به لأنه احترمنى يوما فقال قولته المحفوظة ( الشاعر ابن برعي والوزّان ابن سالم ) طبعا لم ينس نفسه لما أرد أن يُطرينى بقولٍ ، فامتطي هو صهوة الشعر وأردفنى خلفه مجرد وزّان ..!
    فعقبت بالبيت الدائر وقتها :
    لا تشمئز إذا زُنبِقتَ يومئذٍ .: وابغ السكاسك إن الذنب مرتجع .. (1)


    المهم .. كانت شهادته بعبقريتي الموهومة فى الوزن تعنى إعطاء الضوء الأخضر لإخوانه الصعايدة وغيرهم من المتشاعرين المبتدئين (ليزنزا أبياتهم عندى ) وشعرت بالزهو إلى درجة العُجب لكثرة الوافدين الراغبين في تصحيح الأوزان .. فكنت - إذا شممت رائحة اعتراض من أحدهم على تقويمي له - أقول لهم بزهوٍ واختيال ومتكئا على مقولة برعي :" اللى مش عاجبو يروح يوزن برّه "... مع العلم أنه لامعنى بالمعتقل لكلمة ( برّة ) لأن (كلو جُوّه )..
    بعد ذلك جعل من حولي يرددون هذه المقولة في كلامهم ، حتى وإن خرج كلامهم بعيدا عن الشعر والوزن وبرعي .. يعنى صارت مثلا دائرا ..


    المهم ... بعد حين من الدهر عاودني الحنين إلى الأيام البرعية الصاخبة .. وبدا لي أن أكتب أبياتا لبرعي أعبرله بها عن مدى شغفي بعهده الدارس وحنيني إلى أيامه الخوالي .. فكان مما قلت له ومما أذكره ::

    لحُبكُمُ - وعمرو الله - نافعْ .:. ومن دعواتكم تُرجَى المنافعْ
    وقد قفزت محبتكم لقلبي .:. كما قفزت إلى الماء الضفادعْ
    وإن ودادكم يرعى فؤادي .:. كما ترعى البهائم في المزارع
    وهذا وصالكم يجري بجوفي .: كجرى الفحل لا يردعه رادع
    فزيّن قلبنا بجميل ودٍ .:. كما ازدانت على الحُمُرِ البرادعْ
    وقد يشبع فقير الحي لحما .:. وإني في هواكم محض جائع
    وقلبي إذ يفارقه هواكم .:. كمثل السوق من غير البضائع
    وإن الوجد ينفث فى هواكم .:. دُخَاناً مثل أدخنة المصانع
    مدحتك في كلام لا يُضاهَى .:. وتعجز عن معانيه المجامع
    :
    :
    : إلى :
    : أن :
    : قلت :
    :
    :
    أبث أبا الوليد إليك شعرا .:. كورد النيل معدوم المنافع
    فإن تكُ قد رضيت به لتسمع .:. وإلا فلتسد له المسامع ..
    بعد أيام جاءني رد برعي على قصيدتي الشمطاء في مدحه .. يقول في مطلعها :


    سمعت قريضكم بل خير سامع .:. وأعجبني الضفادع والبرادع ..
    وللأسف هذا هو البيت الوحيد الذي اختطفته من القصاصة التى أرسلها لي برعي ..
    فقد جاء في إثر رسالته تفتيش مفاجيء من القوة الضاربة بالسجن ، أهلك الحرث والنسل ، ولم يبارح زنزانتا حتى جعل عاليها سافلها .. تماما مثلما يحدث في كل مرة ..


    ذهب متاعنا ..
    وذهبت أيامنا ..
    وذهبت القصيدة ..
    وذهب المعتقل ..
    وذهب برعي ..




    منذ 19 عاما لا أعرف شيئا عن برعي ..
    ___________
    (1) أعياني الوقوف على قائل هذا البيت ، وأيضا تحرير معناه على وجهه الصحيح ، إن كان له وجه ... اشتهر بيننا زمنا وكنا نهرف به في أية مناسبة كموطن يحسن السكوت عليه عند انهاء الكلام في امر ما ... ولا أدري هل هو من قولي أم من منقولي ...
    التعديل الأخير تم بواسطة ياسرسالم; الساعة 14-04-2018, 10:57.
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    المشاركة الأصلية بواسطة ياسرسالم مشاهدة المشاركة




    أذكر أياما جميلة - لا أعادها الله علينا - تعرفت فيها إلى أخي الظريف جدا أبي الوليد محمود برعي الأسواني في زنزانة 10 عنبر 4 بمعتقل وادي النطرون بالصحراء الغربية فى عام 1997 على ما أذكر.. وكان (البرعي) - على قلة حظه من التعليم محباً للشعر .. ممجّداً لعصره العباسي .. حافظاً لدرره .. مما جعله لا يتذوق ما يقع دون ما يحفظ ، ففاته خير كثير بإهماله لشعري المنمق والذي لا يخلو بيت منه من خطأ ايقاعي أو بلاغي في عين برعي.. وقد كان كذلك .


    المهم .. بعد أشهر قليلة أفل نجم برعي .. ورويدا رويدا تحول برعي النشيط إلى كومة مهملة في أحد أركان الزنزانة ، عرفنا فيما بعد أن مدة صلاحيته فى أي زنزانة جديدة لا تزيد غالباً على شهرين ، بعدها يكون غير صالح للاستهلاك الاجتماعي ..وكان لابد له من زنزانة أخرى ووجوه جديدة لتدب في برعي حياة المرح الموسمية والتي سريعا ما يعقبها الجفاف الاستوائي المبير ..


    وبالفعل كان الفراق .. ذهب برعي بعيدا عنى ، ولكنني لم أعدم وسيلة ( سرية طبعا ) في الاتصال به لأنه احترمنى يوما فقال قولته المحفوظة ( الشاعر ابن برعي والوزّان ابن سالم ) طبعا لم ينس نفسه لما أرد أن يُطرينى بقولٍ ، فامتطي هو صهوة الشعر وأردفنى خلفه مجرد وزّان ..!
    فعقبت بالبيت الدائر وقتها :
    لا تشمئز إذا زُنبِقتَ يومئذٍ .: وابغ السكاسك إن الذنب مرتجع .. (1)


    المهم .. كانت شهادته بعبقريتي الموهومة فى الوزن تعنى إعطاء الضوء الأخضر لإخوانه الصعايدة وغيرهم من المتشاعرين المبتدئين (ليزنزا أبياتهم عندى ) وشعرت بالزهو إلى درجة العُجب لكثرة الوافدين الراغبين في تصحيح الأوزان .. فكنت - إذا شممت رائحة اعتراض من أحدهم على تقويمي له - أقول لهم بزهوٍ واختيال ومتكئا على مقولة برعي :" اللى مش عاجبو يروح يوزن برّه "... مع العلم أنه لامعنى بالمعتقل لكلمة ( برّة ) لأن (كلو جُوّه )..
    بعد ذلك جعل من حولي يرددون هذه المقولة في كلامهم ، حتى وإن خرج كلامهم بعيدا عن الشعر والوزن وبرعي .. يعنى صارت مثلا دائرا ..


    المهم ... بعد حين من الدهر عاودني الحنين إلى الأيام البرعية الصاخبة .. وبدا لي أن أكتب أبياتا لبرعي أعبرله بها عن مدى شغفي بعهده الدارس وحنيني إلى أيامه الخوالي .. فكان مما قلت له ومما أذكره ::

    لحُبكُمُ - وعمرو الله - نافعْ .:. ومن دعواتكم تُرجَى المنافعْ
    وقد قفزت محبتكم لقلبي .:. كما قفزت إلى الماء الضفادعْ
    وإن ودادكم يرعى فؤادي .:. كما ترعى البهائم في المزارع
    وهذا وصالكم يجري بجوفي .: كجرى الفحل لا يردعه رادع
    فزيّن قلبنا بجميل ودٍ .:. كما ازدانت على الحُمُرِ البرادعْ
    وقد يشبع فقير الحي لحما .:. وإني في هواكم محض جائع
    وقلبي إذ يفارقه هواكم .:. كمثل السوق من غير البضائع
    وإن الوجد ينفث فى هواكم .:. دُخَاناً مثل أدخنة المصانع
    مدحتك في كلام لا يُضاهَى .:. وتعجز عن معانيه المجامع
    :
    :
    : إلى :
    : أن :
    : قلت :
    :
    :
    أبث أبا الوليد إليك شعرا .:. كورد النيل معدوم المنافع
    فإن تكُ قد رضيت به لتسمع .:. وإلا فلتسد له المسامع ..
    بعد أيام جاءني رد برعي على قصيدتي الشمطاء في مدحه .. يقول في مطلعها :


    سمعت قريضكم بل خير سامع .:. وأعجبني الضفادع والبرادع ..
    وللأسف هذا هو البيت الوحيد الذي اختطفته من القصاصة التى أرسلها لي برعي ..
    فقد جاء في إثر رسالته تفتيش مفاجيء من القوة الضاربة بالسجن ، أهلك الحرث والنسل ، ولم يبارح زنزانتا حتى جعل عاليها سافلها .. تماما مثلما يحدث في كل مرة ..


    ذهب متاعنا ..
    وذهبت أيامنا ..
    وذهبت القصيدة ..
    وذهب المعتقل ..
    وذهب برعي ..




    منذ 19 عاما لا أعرف شيئا عن برعي ..
    ___________
    (1) أعياني الوقوف على قائل هذا البيت ، وأيضا تحرير معناه على وجهه الصحيح ، إن كان له وجه ... اشتهر بيننا زمنا وكنا نهرف به في أية مناسبة كموطن يحسن السكوت عليه عند انهاء الكلام في امر ما ... ولا أدري هل هو من قولي أم من منقولي ...
    جميلة هذه السيرة البرعية . كيف فاتتني ولم أقرأها في حينها .
    فعلا السخرية غالبة في كل ركن من أركان الزنزانة
    راقت لي " مدة الصلاحية " الحقيقة أنني لم أسجن إلى الآن كي أحدد
    مدة الصلاحية للسجون .
    أجمل تحية لك أخي ياسر سالم
    فوزي بيترو

    تعليق

    يعمل...
    X