مقدّمة:
لا تنطلق البحوث التاريخيّة التي تتعلّق بالحضارات القديمة عادة من فراغ، إنّها تتطلّب كما كلّ علم، معرفة واطلاعا على كتابات المؤرّخين ووصف الرّحالة السّابقين ودراسات علماء الآثار الذين أجروا التنقيبات والاستكشافات في الأمكنة التي يراد الحديث حولها، فهي بحوث لا يمكن ان تنطلق من أحكام مسبقة بل من اطلاع على المراجع ومعرفة لمختلف الآراء والانطباعات السابقة.
أردت أن أقدّم في هذا البحث لمحة تاريخيّة تتناول معلومات عن ما يمكن أن نعرفه عن مدن بنزرت والشمال التونسي حتّى نرسم صورة ولو بسيطة عن المنطقة في العصور القديمة.
سأحاول أن أتجاوز المرحلة الوصفية في هذا البحث لإنشاء فهرس بسيط لأطلال ما قبل دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والبحث عن العلامات الدالة على موت أو بقاء مدينة أو قرية انطلاقا من موقع قديم بسيط قد لا نجد فيه غير بعض الحجارة.
سنرسم بحسب الخرائط القديمة والمراجع أهمّ التكتّلات المعروفة خلال الفترة القديمة في منطقة هيبو زياريتوس ، الاسم القديم لمدينة بنزرت؟
لمحة تاريخيّة:
كانت السفن الفينيقية تبحر في البحر الأبيض بين الشرق والغرب من مدينة صور في لبنان حاليّا والمدن الفينيقية المجاورة لها إلى المضيق بين تونس وصقلية، وقد كانوا في رحلاتهم يتخذون أمكنة للاستراحة والاتجار في المصارف ونعنى بها "الموانيء" العديدة التي أنشئوها على شواطئ البلاد التي كانت في طريقهم، وأخذت هذه الأمكنة تنمو بطول الزّمن حتى صارت مدنا لها بعض الشأن مثل أوتيك وسوسة وقرطاجنة.
وقد بلغت قرطاج من الأهمية وسعة السلطان ما جعلها تهيمن على المراكز الأخرى وتفرض عليها نفوذها وتقطع صلتها نهائيا بينها وبين وطنها الأم فينيقيا كما أشارت إلى ذلك عديد الدراسات والمراجع التاريخيّة.
استقل فينيقيو المهجر أو فينيقيو المغرب تحت لواء قرطاج إثر حملة الملك (نبوخذ نصر) المظفرة على المدائن الفينيقية وإخضاعها إلى سيطرته في القرن السادس ق.م. أطلق المؤرخون على تلك الحضارة الناّشئة اسم العهد البونيقي.
أخذت قرطاج تمدّ تجارتها البحريّة نحو الغرب وجاوزت سفنها مضيق جبل طارق بالمغرب وواصلت رحلاتها في المحيط الأطلسي نحو (انقلترا) بقيادة (عملاقون) وإلى (الكامرون) تحت قيادة (حنون) فغنم تجّار وأعيان قرطاج على أيديهما ثروات طائلة من الذهب والفضة ساعدتهم على توطيد سيادتهم في العالم الشاسع الذي مسكوا بزمامه.
كما أخذت قرطاج تتوسّع في التّراب التونسي خارج منطقتها المحدودة في خليج تونس متوغلة في البلاد جنوبا على المناطق الساحليّة وغربا أبعد من مدينة الكاف فبسطت أيديها على الأراضي الفلاحيّة.
بلغت قرطاج من سعة السلطان والعظمة في أواسط القرن السادس ق.م ما جعلها مطمعا للغزاة . حيث قام اليونانيون بحملة عنيفة على مستعمراتها بصيقليّة سنة 480 ق.م. واستمر الصراع بين الطرفين في صقلية لكنّه لم يسفر عن نتيجة واضحة إلى أن تنامت في القرن الثالث قوة أخرى جديدة هي قوة روما التي خاضت معها ما يعرف بالحروب البونيقية الثلاث والتي تواصلت من سنة 262ق.م إلى سنة 147 ق.م ونتج عنها تخريب قرطاج واحتلال مستعمراتها.
يشهد التاريخ أنّ الرومان بعد غلبتهم عملوا على تشويه الإرث القرطاجي وتدمير معالمه وقد وصل بهم الأمر إلى إحراق مكتبتها وكنوزها المعرفيّة وتواصل هذا التشويه مع بعض المدارس التاريخية الحديثة التي كانت تعتبر أن كل ما يعثر عليه في المواقع القرطاجية إنما هو إرث روماني معتبرين أنّ البونيقيين لم تكن لهم حضارة معروفة يمكن دراستها.
أثبتت التنقيبات الحديثة أنّ الرّومان تعسّفوا على حضارة قرطاج وأنّهم تقدّموا في عديد المجالات بفضل الارث البونيقي الذي استحوذوا عليه فقد تمّ العثور على عديد الاكتشافات المهمّة منها مثلا:
- المعبد البونيقي في (صلامبو) الذي قد يرجع إلى بداية القرن التاسع ق.م ولعله هو الموقع الذي انتحرت فيه (عليسة) مؤسسة قرطاجنة إذا صدقت الأسطورة نفورا من الملك البربري الذي أراد أن يتزوّجها وقرارها الانتحار.
- على مقربة من ذلك المعبد أكتشفت آثار المرسى القرطاجي القديم الذي يلوح مثل بركة مستطيلة تدخلها السفن التجارية ثم بركة مستديرة ترسو بها السفن الحربية وهي صورة تطابق الأوصاف التي جاءت في تواريخ القدماء مثل تيمى (Timée) وجوستان (Justin) وفرجيل (Virgile).
- تمكّنت بعض الصور الجوية أيضا من اكتشاف الخط الخارجي للاستحكامات والدفاعات المجعولة لتحصين مدينة قرطاج ويشتمل على أخدود قد رفعت حافته الداخلية بالتراب المخرج منه وهو الخط الخارجي الأول ويوجد وراءه سور أول من الحجارة ووراءه سور آخر أكثر ارتفاعا من الحجارة أيضا، ومثل هذا الترتيب قد اتبعه الرومان في إقامة خط الدفاع الذي أقاموه على حدود الصحراء في الجزائر وأسموه خط"ليماس" « limes » واتبعه الموحدون في مراكش بالمغرب في القرن السادس هجري (الثاني عشر ميلادي) لبناء أسوار مدنهم وقلاعهم وقصباتهم.
تشتمل الآثار البونيقية التي تمّ العثور عليها إلى حدّ هذا اليوم على المقبريات كالشواهد التي توضع على القبور والأدوات والأواني التي توضع مع الميّت داخل القبور.
يوجد على تلك الشواهد رسوم مشكّلة عن طريق الحفر أو النحت تمثّل صورا للأشخاص والآلهة والحيوان والطيور والنبات ورموز وزخارف هندسية أخرى لها أبعاد دينيّة تتعلّق بالطقوس والعادات والتراث الفنّي والمعمار البونيقي الذي لم نعرف عنه الكثير.
أما الأواني الحزفية فهي لا تحصى، وتتنوّع أشكالها وحجومها وأنواع زخارفها من موقع لآخر وفي بعض الأحيان في نفس الأمكنة وغير ذلك من الأدوات توجد الخواتم والفصوص من الحجارة الكريمة المنقوشة بالرموز والزخارف والصور، و القناديل والأقنعة والتماثيل الصغيرة المصنوعة جميعا من الفخار وقل منها ما لا يحمل زخرفة أو صورة ويمكننا أن نعاين في كثير منها رسما يشير إلى الإله (بعل عمون) وإلى الإلهة (تانيت).
أخذت قرطاج في فنونها وروحانياتها الكثير عن وطنها الأمّ "فينيقيا" كما استوحت مجسّمات عن مصر القديمة وعن اليونان وعن الشعوب التي اتّصلت بها في رحلات تجّارها وبحّارتها.
قاد امبراطور الرّوم قيصر حملة جديدة على البلاد في سنة 46 ميلادي فأخضعها لسلطته بعد أن هزم قبائل البربر وجعل منها مقاطعة رومانية إفريقية أطلق عليها اسم "أفريكا" (Africa) – وقد شاع هذا الاسم حتّى قدوم جيوش العرب والمسلمين.
دام النفوذ الروماني في هذه الربوع خمسة قرون تقريبا من أواسط القرن الثاني ق.م إلى سنة 440 م فازدهرت أثناءه معالم الحضارة بصورة تدعو إلى الإعجاب وربّما كان السر في ذلك استتباب الأمن مدة طويلة .
تمتلك بلادنا ثروة كبيرة من لوحات الفسيفساء التي صورت لنا المجتمع الروماني في مختلف أنشطته وحياته كما صورت لنا مشاهد كثيرة من المعتقدات والأساطير الإفريقية التي كانت نتاجا لتلاقح عديد الحضارات.
يمكننا أن نعاين بقايا عديد المدن الرومانية في كثير من المناطق حيث لا تزال أطلال بناءاتها ومسارحها وحماماتها موجودة، منها ما يوجد على الساحل مثل طبارورا في (صفاقس) وقمى (المهدية) وتابسوس الصغرى (لمطة) وروسبينا (المنستير) وهيبودياريتوس (بنزرت) أو في الوسط التونسي حيث نجد آثار مدن عظيمة منها تلابت (فريانة) وسيلوم (القصرين) وسبيطلة أو في الشمال والشمال الغربي من البلاد التونسية مدن أخرى لا تقل عظمة عن السابقة ومنها أمايدرا (حيدرة) وسيكا فينيريا (الكاف اليوم) و ألتيبوروس ومكثر ودقة وبولاريجيا وتوبوربو ماجوس.
يمكننا أن نرى أيضا في المواقع الأثرية التونسية التي تعود إلى العهد الروماني أبوابا ضخمة وأقواس نصر كثيرة مازالت تتمتع بحالة جيدة ومنها قوس طراجان في مكثر وقوس سبتيموس سيفيروس في سبيطلة.وتعتبر التحف الرومانية المنقولة من تماثيل وقناديل وأوان وآلات ومصوغ مادّة فنية وعلمية غزيرة إلى أبعد حد.
تمكّن الوندال سنة 439م وهم أقوام جرمانيون رحّل بعد أن اكتسحوا فرنسا وإسبانيا وعبروا مضيق جبل طارق من الانتصار على الرّومان واحتلال قرطاج فحكموا إلى سنة 534 م. وهي مدة عقيمة من حيث الانتاج الفني بالمقارنة مع الفترة البونيقيّة والرومانيّة تنحصر في بعض النقود التي لا تختلف كثيرا عن النقود الرومانية من حيث طريقة صنعها، وتصوّر لنا الملوك في لباسهم الرسمي أو امرأة تحمل سنبلة إشارة إلى خصب البلاد ورفاهيتها نقرأ عبارة "قرطاج السعيدة". كذلك بعض القناديل الزيتيّة والمصوغ وأما المعماريات فإنها تشتمل كنائس كانت تقام فيها طقوس الديانة الآرية.
وبزوال الحكم الوندالي دخلت البلاد التونسية تحت سيطرة بيزنطة فأعادوا النظام الإداري الذي أقامه الرومان من قبل، وجعلوا على البلاد واليا مدنيا ثم أبدل بعد مدة بحاكم عسكري، دام حكمهم من سنة 534 م إلى سنة 648م. وكان حافلا بالنشاط العمراني والمعماري والفني، حيث بنوا القلاع والأسوار بمهارة فائقة، وكثيرا ما جلبت الحجارة من المعالم الرومانية المجاورة، أو استغلّوا المعالم القديمة لتحويلها إلى حصون جديدة بعد بعض التعديلات الخفيفة، منها سد الأبواب والنوافذ وتعلية الجدران الخارجية.
ومن الآثار البيزنطية في البلاد التونسية تلك الكنائس الزاخرة بأنواع المفروشات الفسيفسائية، ورؤوس السواري البديعة الزخرف مع جدران مكسوة بألواح قد رسمت عليها أنواع المشاهد المستوحاة مواضيعها من الكتب المقدسة – ولدينا كثير من الأبسطة الفسيفسائية التي كانت تكسو القبريات وهي محلاة بأنواع الزخرف والنصوص الطريفة نثرا ونظما.
وبزوال الحكم البيزنطي استهلت البلاد التونسية عهدا جديدا، يحمل نفس الاسلام والحضارة العربية.
1- المدن التاريخيّة في ولاية بنزرت:
قبل تأسيس الفينينيقيين القادمين من صور لقرطاج في 814 قبل الميلاد ، شهدت منطقة بنزرت وجود هؤلاء التّجار قبل أربعة قرون من ذلك التاريخ المعروف اعتبارا لموقعها البحريّ الرّابط بين الحوض الشرقي والغربي للبحر الأبيض المتوسّط حيث أنشؤوا مصارفهم التّجارية ونعني بها الموانئ.
مثّلت مدينة أوتيك أول مصرف تجاريّ بحريّ فينيقيّ على شواطئ البلاد التونسيّة سنة 1100 قبل الميلاد ولكن قبل ذلك التاريخ تطلعنا المراجع التاريخيّة أنّ المنطقة تزخر بعديد العلامات الدالة على تواجد أنشطة بشريّة وتجمعات سكانيّة تعود إلى عصور ما قبل التّاريخ.
لم يبدأ الكتاب بالتحدّث فعليّا عن منطقة بنزرت إلاّ خلال القرن الثاني قبل الميلاد ، أهم المصادر الأولى كتبت باللغة اللاتينية واليونانية حيث عرفت بنزرت تحت اسم هيبو أكرا ؛ اسم تطور ليصبح دياريتوس Diarrhytus ، ثم في نهاية العصور القديمة Hippo Ziarrhytus.
تبقى أهم الأدلّة الأثريّة التي وصلتنا عن الاستقرار السكانيّ في منطقة بنزرت هي التي وصلتنا من بعثات أثرية خلال القرن التاسع عشر.قام بها العالم "غيران"و" تيسوت" وهما أوّل من حاول وضع أطلس المواقع الأثريّة بتونس ، ساعدهم في ذلك اطلاعهم على المصادر القديمة وقدرتهم على قراءة النقوش.
لا تنطلق البحوث التاريخيّة التي تتعلّق بالحضارات القديمة عادة من فراغ، إنّها تتطلّب كما كلّ علم، معرفة واطلاعا على كتابات المؤرّخين ووصف الرّحالة السّابقين ودراسات علماء الآثار الذين أجروا التنقيبات والاستكشافات في الأمكنة التي يراد الحديث حولها، فهي بحوث لا يمكن ان تنطلق من أحكام مسبقة بل من اطلاع على المراجع ومعرفة لمختلف الآراء والانطباعات السابقة.
أردت أن أقدّم في هذا البحث لمحة تاريخيّة تتناول معلومات عن ما يمكن أن نعرفه عن مدن بنزرت والشمال التونسي حتّى نرسم صورة ولو بسيطة عن المنطقة في العصور القديمة.
سأحاول أن أتجاوز المرحلة الوصفية في هذا البحث لإنشاء فهرس بسيط لأطلال ما قبل دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والبحث عن العلامات الدالة على موت أو بقاء مدينة أو قرية انطلاقا من موقع قديم بسيط قد لا نجد فيه غير بعض الحجارة.
سنرسم بحسب الخرائط القديمة والمراجع أهمّ التكتّلات المعروفة خلال الفترة القديمة في منطقة هيبو زياريتوس ، الاسم القديم لمدينة بنزرت؟
لمحة تاريخيّة:
كانت السفن الفينيقية تبحر في البحر الأبيض بين الشرق والغرب من مدينة صور في لبنان حاليّا والمدن الفينيقية المجاورة لها إلى المضيق بين تونس وصقلية، وقد كانوا في رحلاتهم يتخذون أمكنة للاستراحة والاتجار في المصارف ونعنى بها "الموانيء" العديدة التي أنشئوها على شواطئ البلاد التي كانت في طريقهم، وأخذت هذه الأمكنة تنمو بطول الزّمن حتى صارت مدنا لها بعض الشأن مثل أوتيك وسوسة وقرطاجنة.
وقد بلغت قرطاج من الأهمية وسعة السلطان ما جعلها تهيمن على المراكز الأخرى وتفرض عليها نفوذها وتقطع صلتها نهائيا بينها وبين وطنها الأم فينيقيا كما أشارت إلى ذلك عديد الدراسات والمراجع التاريخيّة.
استقل فينيقيو المهجر أو فينيقيو المغرب تحت لواء قرطاج إثر حملة الملك (نبوخذ نصر) المظفرة على المدائن الفينيقية وإخضاعها إلى سيطرته في القرن السادس ق.م. أطلق المؤرخون على تلك الحضارة الناّشئة اسم العهد البونيقي.
أخذت قرطاج تمدّ تجارتها البحريّة نحو الغرب وجاوزت سفنها مضيق جبل طارق بالمغرب وواصلت رحلاتها في المحيط الأطلسي نحو (انقلترا) بقيادة (عملاقون) وإلى (الكامرون) تحت قيادة (حنون) فغنم تجّار وأعيان قرطاج على أيديهما ثروات طائلة من الذهب والفضة ساعدتهم على توطيد سيادتهم في العالم الشاسع الذي مسكوا بزمامه.
كما أخذت قرطاج تتوسّع في التّراب التونسي خارج منطقتها المحدودة في خليج تونس متوغلة في البلاد جنوبا على المناطق الساحليّة وغربا أبعد من مدينة الكاف فبسطت أيديها على الأراضي الفلاحيّة.
بلغت قرطاج من سعة السلطان والعظمة في أواسط القرن السادس ق.م ما جعلها مطمعا للغزاة . حيث قام اليونانيون بحملة عنيفة على مستعمراتها بصيقليّة سنة 480 ق.م. واستمر الصراع بين الطرفين في صقلية لكنّه لم يسفر عن نتيجة واضحة إلى أن تنامت في القرن الثالث قوة أخرى جديدة هي قوة روما التي خاضت معها ما يعرف بالحروب البونيقية الثلاث والتي تواصلت من سنة 262ق.م إلى سنة 147 ق.م ونتج عنها تخريب قرطاج واحتلال مستعمراتها.
يشهد التاريخ أنّ الرومان بعد غلبتهم عملوا على تشويه الإرث القرطاجي وتدمير معالمه وقد وصل بهم الأمر إلى إحراق مكتبتها وكنوزها المعرفيّة وتواصل هذا التشويه مع بعض المدارس التاريخية الحديثة التي كانت تعتبر أن كل ما يعثر عليه في المواقع القرطاجية إنما هو إرث روماني معتبرين أنّ البونيقيين لم تكن لهم حضارة معروفة يمكن دراستها.
أثبتت التنقيبات الحديثة أنّ الرّومان تعسّفوا على حضارة قرطاج وأنّهم تقدّموا في عديد المجالات بفضل الارث البونيقي الذي استحوذوا عليه فقد تمّ العثور على عديد الاكتشافات المهمّة منها مثلا:
- المعبد البونيقي في (صلامبو) الذي قد يرجع إلى بداية القرن التاسع ق.م ولعله هو الموقع الذي انتحرت فيه (عليسة) مؤسسة قرطاجنة إذا صدقت الأسطورة نفورا من الملك البربري الذي أراد أن يتزوّجها وقرارها الانتحار.
- على مقربة من ذلك المعبد أكتشفت آثار المرسى القرطاجي القديم الذي يلوح مثل بركة مستطيلة تدخلها السفن التجارية ثم بركة مستديرة ترسو بها السفن الحربية وهي صورة تطابق الأوصاف التي جاءت في تواريخ القدماء مثل تيمى (Timée) وجوستان (Justin) وفرجيل (Virgile).
- تمكّنت بعض الصور الجوية أيضا من اكتشاف الخط الخارجي للاستحكامات والدفاعات المجعولة لتحصين مدينة قرطاج ويشتمل على أخدود قد رفعت حافته الداخلية بالتراب المخرج منه وهو الخط الخارجي الأول ويوجد وراءه سور أول من الحجارة ووراءه سور آخر أكثر ارتفاعا من الحجارة أيضا، ومثل هذا الترتيب قد اتبعه الرومان في إقامة خط الدفاع الذي أقاموه على حدود الصحراء في الجزائر وأسموه خط"ليماس" « limes » واتبعه الموحدون في مراكش بالمغرب في القرن السادس هجري (الثاني عشر ميلادي) لبناء أسوار مدنهم وقلاعهم وقصباتهم.
تشتمل الآثار البونيقية التي تمّ العثور عليها إلى حدّ هذا اليوم على المقبريات كالشواهد التي توضع على القبور والأدوات والأواني التي توضع مع الميّت داخل القبور.
يوجد على تلك الشواهد رسوم مشكّلة عن طريق الحفر أو النحت تمثّل صورا للأشخاص والآلهة والحيوان والطيور والنبات ورموز وزخارف هندسية أخرى لها أبعاد دينيّة تتعلّق بالطقوس والعادات والتراث الفنّي والمعمار البونيقي الذي لم نعرف عنه الكثير.
أما الأواني الحزفية فهي لا تحصى، وتتنوّع أشكالها وحجومها وأنواع زخارفها من موقع لآخر وفي بعض الأحيان في نفس الأمكنة وغير ذلك من الأدوات توجد الخواتم والفصوص من الحجارة الكريمة المنقوشة بالرموز والزخارف والصور، و القناديل والأقنعة والتماثيل الصغيرة المصنوعة جميعا من الفخار وقل منها ما لا يحمل زخرفة أو صورة ويمكننا أن نعاين في كثير منها رسما يشير إلى الإله (بعل عمون) وإلى الإلهة (تانيت).
أخذت قرطاج في فنونها وروحانياتها الكثير عن وطنها الأمّ "فينيقيا" كما استوحت مجسّمات عن مصر القديمة وعن اليونان وعن الشعوب التي اتّصلت بها في رحلات تجّارها وبحّارتها.
قاد امبراطور الرّوم قيصر حملة جديدة على البلاد في سنة 46 ميلادي فأخضعها لسلطته بعد أن هزم قبائل البربر وجعل منها مقاطعة رومانية إفريقية أطلق عليها اسم "أفريكا" (Africa) – وقد شاع هذا الاسم حتّى قدوم جيوش العرب والمسلمين.
دام النفوذ الروماني في هذه الربوع خمسة قرون تقريبا من أواسط القرن الثاني ق.م إلى سنة 440 م فازدهرت أثناءه معالم الحضارة بصورة تدعو إلى الإعجاب وربّما كان السر في ذلك استتباب الأمن مدة طويلة .
تمتلك بلادنا ثروة كبيرة من لوحات الفسيفساء التي صورت لنا المجتمع الروماني في مختلف أنشطته وحياته كما صورت لنا مشاهد كثيرة من المعتقدات والأساطير الإفريقية التي كانت نتاجا لتلاقح عديد الحضارات.
يمكننا أن نعاين بقايا عديد المدن الرومانية في كثير من المناطق حيث لا تزال أطلال بناءاتها ومسارحها وحماماتها موجودة، منها ما يوجد على الساحل مثل طبارورا في (صفاقس) وقمى (المهدية) وتابسوس الصغرى (لمطة) وروسبينا (المنستير) وهيبودياريتوس (بنزرت) أو في الوسط التونسي حيث نجد آثار مدن عظيمة منها تلابت (فريانة) وسيلوم (القصرين) وسبيطلة أو في الشمال والشمال الغربي من البلاد التونسية مدن أخرى لا تقل عظمة عن السابقة ومنها أمايدرا (حيدرة) وسيكا فينيريا (الكاف اليوم) و ألتيبوروس ومكثر ودقة وبولاريجيا وتوبوربو ماجوس.
يمكننا أن نرى أيضا في المواقع الأثرية التونسية التي تعود إلى العهد الروماني أبوابا ضخمة وأقواس نصر كثيرة مازالت تتمتع بحالة جيدة ومنها قوس طراجان في مكثر وقوس سبتيموس سيفيروس في سبيطلة.وتعتبر التحف الرومانية المنقولة من تماثيل وقناديل وأوان وآلات ومصوغ مادّة فنية وعلمية غزيرة إلى أبعد حد.
تمكّن الوندال سنة 439م وهم أقوام جرمانيون رحّل بعد أن اكتسحوا فرنسا وإسبانيا وعبروا مضيق جبل طارق من الانتصار على الرّومان واحتلال قرطاج فحكموا إلى سنة 534 م. وهي مدة عقيمة من حيث الانتاج الفني بالمقارنة مع الفترة البونيقيّة والرومانيّة تنحصر في بعض النقود التي لا تختلف كثيرا عن النقود الرومانية من حيث طريقة صنعها، وتصوّر لنا الملوك في لباسهم الرسمي أو امرأة تحمل سنبلة إشارة إلى خصب البلاد ورفاهيتها نقرأ عبارة "قرطاج السعيدة". كذلك بعض القناديل الزيتيّة والمصوغ وأما المعماريات فإنها تشتمل كنائس كانت تقام فيها طقوس الديانة الآرية.
وبزوال الحكم الوندالي دخلت البلاد التونسية تحت سيطرة بيزنطة فأعادوا النظام الإداري الذي أقامه الرومان من قبل، وجعلوا على البلاد واليا مدنيا ثم أبدل بعد مدة بحاكم عسكري، دام حكمهم من سنة 534 م إلى سنة 648م. وكان حافلا بالنشاط العمراني والمعماري والفني، حيث بنوا القلاع والأسوار بمهارة فائقة، وكثيرا ما جلبت الحجارة من المعالم الرومانية المجاورة، أو استغلّوا المعالم القديمة لتحويلها إلى حصون جديدة بعد بعض التعديلات الخفيفة، منها سد الأبواب والنوافذ وتعلية الجدران الخارجية.
ومن الآثار البيزنطية في البلاد التونسية تلك الكنائس الزاخرة بأنواع المفروشات الفسيفسائية، ورؤوس السواري البديعة الزخرف مع جدران مكسوة بألواح قد رسمت عليها أنواع المشاهد المستوحاة مواضيعها من الكتب المقدسة – ولدينا كثير من الأبسطة الفسيفسائية التي كانت تكسو القبريات وهي محلاة بأنواع الزخرف والنصوص الطريفة نثرا ونظما.
وبزوال الحكم البيزنطي استهلت البلاد التونسية عهدا جديدا، يحمل نفس الاسلام والحضارة العربية.
1- المدن التاريخيّة في ولاية بنزرت:
قبل تأسيس الفينينيقيين القادمين من صور لقرطاج في 814 قبل الميلاد ، شهدت منطقة بنزرت وجود هؤلاء التّجار قبل أربعة قرون من ذلك التاريخ المعروف اعتبارا لموقعها البحريّ الرّابط بين الحوض الشرقي والغربي للبحر الأبيض المتوسّط حيث أنشؤوا مصارفهم التّجارية ونعني بها الموانئ.
مثّلت مدينة أوتيك أول مصرف تجاريّ بحريّ فينيقيّ على شواطئ البلاد التونسيّة سنة 1100 قبل الميلاد ولكن قبل ذلك التاريخ تطلعنا المراجع التاريخيّة أنّ المنطقة تزخر بعديد العلامات الدالة على تواجد أنشطة بشريّة وتجمعات سكانيّة تعود إلى عصور ما قبل التّاريخ.
لم يبدأ الكتاب بالتحدّث فعليّا عن منطقة بنزرت إلاّ خلال القرن الثاني قبل الميلاد ، أهم المصادر الأولى كتبت باللغة اللاتينية واليونانية حيث عرفت بنزرت تحت اسم هيبو أكرا ؛ اسم تطور ليصبح دياريتوس Diarrhytus ، ثم في نهاية العصور القديمة Hippo Ziarrhytus.
تبقى أهم الأدلّة الأثريّة التي وصلتنا عن الاستقرار السكانيّ في منطقة بنزرت هي التي وصلتنا من بعثات أثرية خلال القرن التاسع عشر.قام بها العالم "غيران"و" تيسوت" وهما أوّل من حاول وضع أطلس المواقع الأثريّة بتونس ، ساعدهم في ذلك اطلاعهم على المصادر القديمة وقدرتهم على قراءة النقوش.
تعليق