ملهمون جدّ، هذا وصف ينطبق علينا، هو حقيقتنا، أنا يا أصدقائي ملهم بل الإلهام عنواني، وعلى مقاسي يفصّل الإلهام كسوته، على مقاس قدمي يقتني أحذيته، أمضيت معه يومي وبعد لحظات سيتناول فطوره الرمضاني معي، قال لي وحقّ الذّي خلقني لأفطرن على ذوقك اليوم، العديدون يحسدون شخصي الملهم، شخصي المحظوظ، شخصي الذي وقع الإلهام في حبّه، سيفطر الإلهام على ذوقي، سيكسر صومه بما به سأوقف إمساكي، قبّلت رأسه شاكرا له تكرّمه وتفضّله باتخاذي خليلا ورفيقا، منذ الصباح عرفت أنّني ملهم، بل ميمون، كل مفاتيح الأقفال بيدي، خليلي لا يريد مفارقتي، حتى إن تركني فهو فقط لجولة قصيرة فيعود قبل أن يرتدّ إليّ طرفي. ركبت تلك السيارة منذ أن جفّ ماء الوضوء على جبهتي، بل بعد ذلك بقليل حين سلّمت بعد سلام الإمام، كانت السيّارة تسير مسرعة تطوي المسافات طيّا سحريا، أناشيد صوفية ومواويل عذبة كان مذياعها يجود بها عليّ في هذا الصباح المعطّر بالذهول، السيارة تطير من الفرح إذ حملتني على ظهرها، قطعت سبعين ميلا ولا تزال تريد أن تترك وراء دخانها من سولت له نفسه أن يختبر عنادها، فجأة تغير صوتها، أصابها سعال، بل اختناق، التفتّ إلى صاحبي ليلهمني حلاّ فوجدته ذهب عنّي، فارقني في ساعة كنت في حاجة إليه، ركنها السائق بشقّ الأنفس بجانب الطّريق، هبطنا، وضعت على مرمى حجر علامة العطب في وجه العابرين، خشية أن تحطمها شاحنة ممتدة وهي غير عابئة بها ولا شاعرة، سألت الإلهام أن يلهمني فكرة أروع فقال اذهب صوب مأربك، واترك خادمك يعالج أمر العربة، أوقفت سيّارة أجرة بينما السائق يتصل بشركة التأمين.
ها أنا بين الملهمين، طافت عيناي على الوجوه قبل جلوسي، أريد شيئا تافها بئيسا يحول بيني وبين التفكير في مصابي، أحاول استرجاع صور الراكبين، عبثا لا تريد صورتها أن تصعد، رُميت في قاع الذاكرة وطمستها صور عديدة أتعبتني ولا جدوى من بقائها هناك، أفّ لهذا الإلهام الذي لم يلهمني التركيز عليها وحدها ما دامت قطب جاذبية بإمكانه أن يرفّه عن نفسي المحروقة، كيف سأفتعل الالتفات إلى الوراء لاستعادة صورتها التي ضاعت في لحظة إلهام غير صافية، هيا اشتغل أيها الإلهام، أأسألها عن الساعة؟ ما عادت تجدي أفكاري، شابت مثل شعر رأسي، هذا الشعر بالذات هو ما يجعلني لا أستطيع الالتفات، ما كان هذا الشيب وقارا بل عارا فاضحا، لجام سحري يشلّ عبقرية إلهاماتي. مددت أذنيّ للوراء، نغمتها لسانية رقيقة، حذاري أن لا يحضر إلهامي كلّه، فيفوتني شيء ممّا يقال بينها وبين رفيقها، نعم تتحدث عن الفيسبوك، تقدم له صور أخواتها، يقدم لها أيضا صورة أخته، أي نوع من التعارف هذا، هما غريبان، هما صديقان، ما أحلى لحظة إلهام كهذه، على الأقل تنسيني كوابيسي، كل حواسّي استنفرت على قدم وساق دفعة واحدة، ما أجملني، أنا ملهم جدّا، أذناي تزدادان استطالة كأذني حمار رمادي، تلتهمان صفيرا خفيفا ينبعث بين نغمتها اللّسانية والأسنانية، أخيرا صعدت صورتها، حين همّ السائق بتصويب المرآة جهتها، أنا حاضر وبالمرصاد لكلّ الخطط، لم تضع اللّقطة، لا شك أنه أيضا جاسوس من درجة فارس، حذار أن يضيع موضوع المكالمة، يجب أن يكون تركيزي مزدوجا بل مثلثا ومربعا هكذا الإلهام وإلا فلا.
حين اقتربنا لم يبق في السيارة غير أربعتنا، سألني السائق أن أنزل لأنه لن يدخل إلى المحطّة، سيعود مباشرة، دخول المحطّة يجعله يمتثل لتسلسل الدّور، هو ملهم جدّا، يكتفي باصطياد الزبائن على طول الطريق، نعم مغامرة ومقامرة، قد تكون الطريق جرداء فيتكبد الخسارة تلو الخسارة، لكن إن اشتغل إلهامه بشكل جيد، فربما قاده إلى الصّواب، عكس إلهام صديقتنا التي لن تنزل من السيارة، فهي ستعود أدراجها، كانت تسبه سبّا على الهاتف: " ماذا؟؟؟ لست في المستشفى، حمار ابن حمار، لم تحدث لك حادثة سير؟؟؟؟؟؟؟... إذن أنت بغل حقير... بدّل الساعة بأخرى، فأنا في عصبية شديدة، ربما أخذت قرارا مؤلما في حقك. تغلق الهاتف في أذنه، تحدّث جليسها، حمار، جئنا لزيارته قبل أن يغادر الطّير وكره، خلع قلوبنا خوفا وحزنا عليه ،عانينا مشقّة الجري وراء سيارات الأجرة، بينما هو يشخر في فراشه، أتعلم، قال لي أنه متوجّه كالعادة إلى عمله، أرأيت يا خالد هذه المهزلة. يرن هاتفها من جديد، تجيبه، لن أسامحك، أنت تلعب بمشاعري، لا تعرف كم بكيت عليك الليلة، حين قال لي ذلك الحقير أنك في غيبوبة، هل بمثل هذه المواقف نصنع الفرجة، هذه ليست كذبة أبريل أيها المفتري، نحن في شهر ماي، بل دخلنا اليوم في يونيو، عار عليك، وعيب، ماذا تفعل بي؟ سئمت من كذباتك، ستنالك مني مصيبة ولعنة، فأنت تجرجرني في رمضان، سأدعو عليك دعاء مهلكا إن لم تبدّل الساعة بأخرى.
طبعا سأهبط، ما هذا الإلهام الصباحي المريب؟ بوركت زغيباتي البيضاء، فأنا لا أستطيع مجاراة مثل هذا الهبل الأحمق، مثل هؤلاء الشباب الغفل، مثل هذه الحكايات التّافهة.
زوجتي تهاتفني حين ابتعدت السيارة عن المحطة، هذه فاطمة في المنزل لم يحدث لها شيء، قالت أن جارتها أخبرتها عند السحور بوفاتك، فجاءت باكية، هاتفها النقال سرق منها ليلة أمس، عد إلى المنزل، فكل ما قاله ذلك المعتوه وقت السّحور خبل وكلام فارغ.
من أعماقي لفظت تأفّف حسرة في وجه هذا العالم الزّائف وهذا الإلهام السّخيف الذي يعتري أفكار البعض وأعمالهم، هممت بالعودة وبالي مأخوذ بمائدة المساء، ما الذي سيهدّئ من عصبية نفسي جراء إلهامات كهذه؟
تعليق