ذكريات الغدير
أذكر أننا كنا ننتظر عقب كل وجبة فطور تعليمات والدي لقضاء بعض الحاجيات الخاصة بالبيت من سخرة عند البقال أو جلب بعض الخضر والبيض من عند جاراتنا البدويات . وعندما ننتهي يكون ذلك إيذانا بالانطلاق في حرية تامة . وعند الضحى نطل من أعلى الشلال الذي نطلق عليه اسم الشط ، فيتراءى لنا الوادي المحتضن للنهر الهادر شتاء والهادئ صيفا . أما في نهارات يوليوز وغشت القائظة فإن الماء ينساب بهدوء بين الصخور الملساء المنبثة في وسطه وعلى ضفتيه حيث الأشجار والأعشاب الكثيفة .
كان نهرا جميلا رغم إحساسنا بالرهبة منه شتاء وهو يجرف كل شيء . تملأه الغدران ، وكان "غدير شامة" أجملها بينما تراءت أسفله المقطوعة المحاطة بضفتين صخريتين كجدارين شاهقين تعلوهما أوكار اليمام .
في ذلك الغدير الذي يحمل اسم فتاة شهد على مأساتها ، كنا نجد دوما في انتظارنا جذع شجرة يراوح مكانه بين الصخور ، فنستعمله مركبا أو نقفز من فوقه للغطس .
من هناك كنا نتطلع بتوجس إلى الضفة الأخرى حيث الغابة وما تحويه من أرانب وخنازير برية . كان منظر الغابة يبعث في أنفسنا رهبة ووجلا . لكن ضحكات البدويات الصبايا المجلجلة عبر الوادي كان يبعد عن المكان وحشته وهن ينزلن إلى النهر للسباحة متأزرات بمناديلهن المخططة بالأحمر والأبيض . للغدير مكانة خاصة في نفسي . فبرغم الحكايات التي كانت تروى عن شامة التي اعتدي عليها يوما على ضفته ، كان يبدو لي أليفا ، حنونا وأنا أغوص فيه أو أستلقي على صخرة من صخوره الملساء مستسلما لأشعة الشمس الملتهبة . وكان خيالي يحلق بحثا عن طيف شامة فتتمثل لي بمحياها البريء وقد علته مسحة حزن . بيني وبين غدري حديث لم يكن يشعر به رفاقي . وكنت اختلس بعض اللحظات لأنفرد به حين يعن لهم تسلق أشجار الفواكه المنبثة بالقرب منه فأناجيه في صمت ونتبادل نظرات الود فآخذ الماء بين يدي وأسكبه من جديد وأشعة الشمس تنعكس عليها فتبدو لي مبتسمة وأحيانا ضاحكة فأعلم أن غديري منتشي مثلي باللقاء وأهب واقفا ثم أغطس وكأني أرتمي بين أحضانه .
كنت أهاب الجن وما يروى عنهم وعن تواجدهم في المروج القريبة من الماء . وكنت أتخيلهم منبثين في أرجائه يحومون من حوله متربصين بمن هناك . وكان أحد رفاقي يحذرني من رمي الحصى على الغدير خشية إصابة صبي من صبيانهم فأتعرض لأذاهم . هذا الرفيق شاهدني يوما وأنا أرمق باهتمام "أم هاني" وهي تسبح مترنمة بعيطة جبلية لذيذة . وربما لمس مني افتتانا بها فما كان منه إلا أن أسر لي هامسا وهو يجذبني بعيدا عن الآخرين :"ابتعد عنها .. إنها مسكونة" . كنت اتغلب على خوفي بإلقاء التحية على غدير شامة في حلي وترحالي ، ونثر بعض أعشاب "الدرو" على صفحة مائه وأنا أغادره عند غروب الشمس . وحين نبدأ بالصعود نحو القرية مارين بأشجار المشمش والكرز والإجاص والخوخ ، كنت ألتفت إليه من أعلى وهو يزيد نزولا وأبتسم .. بل وأشير إليه خفية كي لا ينتبه إلي أحد فأكون عرضة للسخرية .
واليوم .. لا زلت أواظب على لقاء غديري كلما سنحت لي فرصة بزيارة مرتع طفولتي ومهد صباي . فأقف على الجسر لحظات أتأمله قبل ان أستجيب لدعوته الصامتة وأنزل إليه لأجلس على صخرة وأغمس قدمي في مائه البارد .. فأحس برعشة تسري في جسدي وأعلم أن صلتي به لم تنقطع وأن علاقتي به باقية إلى الأبد .
أذكر أننا كنا ننتظر عقب كل وجبة فطور تعليمات والدي لقضاء بعض الحاجيات الخاصة بالبيت من سخرة عند البقال أو جلب بعض الخضر والبيض من عند جاراتنا البدويات . وعندما ننتهي يكون ذلك إيذانا بالانطلاق في حرية تامة . وعند الضحى نطل من أعلى الشلال الذي نطلق عليه اسم الشط ، فيتراءى لنا الوادي المحتضن للنهر الهادر شتاء والهادئ صيفا . أما في نهارات يوليوز وغشت القائظة فإن الماء ينساب بهدوء بين الصخور الملساء المنبثة في وسطه وعلى ضفتيه حيث الأشجار والأعشاب الكثيفة .
كان نهرا جميلا رغم إحساسنا بالرهبة منه شتاء وهو يجرف كل شيء . تملأه الغدران ، وكان "غدير شامة" أجملها بينما تراءت أسفله المقطوعة المحاطة بضفتين صخريتين كجدارين شاهقين تعلوهما أوكار اليمام .
في ذلك الغدير الذي يحمل اسم فتاة شهد على مأساتها ، كنا نجد دوما في انتظارنا جذع شجرة يراوح مكانه بين الصخور ، فنستعمله مركبا أو نقفز من فوقه للغطس .
من هناك كنا نتطلع بتوجس إلى الضفة الأخرى حيث الغابة وما تحويه من أرانب وخنازير برية . كان منظر الغابة يبعث في أنفسنا رهبة ووجلا . لكن ضحكات البدويات الصبايا المجلجلة عبر الوادي كان يبعد عن المكان وحشته وهن ينزلن إلى النهر للسباحة متأزرات بمناديلهن المخططة بالأحمر والأبيض . للغدير مكانة خاصة في نفسي . فبرغم الحكايات التي كانت تروى عن شامة التي اعتدي عليها يوما على ضفته ، كان يبدو لي أليفا ، حنونا وأنا أغوص فيه أو أستلقي على صخرة من صخوره الملساء مستسلما لأشعة الشمس الملتهبة . وكان خيالي يحلق بحثا عن طيف شامة فتتمثل لي بمحياها البريء وقد علته مسحة حزن . بيني وبين غدري حديث لم يكن يشعر به رفاقي . وكنت اختلس بعض اللحظات لأنفرد به حين يعن لهم تسلق أشجار الفواكه المنبثة بالقرب منه فأناجيه في صمت ونتبادل نظرات الود فآخذ الماء بين يدي وأسكبه من جديد وأشعة الشمس تنعكس عليها فتبدو لي مبتسمة وأحيانا ضاحكة فأعلم أن غديري منتشي مثلي باللقاء وأهب واقفا ثم أغطس وكأني أرتمي بين أحضانه .
كنت أهاب الجن وما يروى عنهم وعن تواجدهم في المروج القريبة من الماء . وكنت أتخيلهم منبثين في أرجائه يحومون من حوله متربصين بمن هناك . وكان أحد رفاقي يحذرني من رمي الحصى على الغدير خشية إصابة صبي من صبيانهم فأتعرض لأذاهم . هذا الرفيق شاهدني يوما وأنا أرمق باهتمام "أم هاني" وهي تسبح مترنمة بعيطة جبلية لذيذة . وربما لمس مني افتتانا بها فما كان منه إلا أن أسر لي هامسا وهو يجذبني بعيدا عن الآخرين :"ابتعد عنها .. إنها مسكونة" . كنت اتغلب على خوفي بإلقاء التحية على غدير شامة في حلي وترحالي ، ونثر بعض أعشاب "الدرو" على صفحة مائه وأنا أغادره عند غروب الشمس . وحين نبدأ بالصعود نحو القرية مارين بأشجار المشمش والكرز والإجاص والخوخ ، كنت ألتفت إليه من أعلى وهو يزيد نزولا وأبتسم .. بل وأشير إليه خفية كي لا ينتبه إلي أحد فأكون عرضة للسخرية .
واليوم .. لا زلت أواظب على لقاء غديري كلما سنحت لي فرصة بزيارة مرتع طفولتي ومهد صباي . فأقف على الجسر لحظات أتأمله قبل ان أستجيب لدعوته الصامتة وأنزل إليه لأجلس على صخرة وأغمس قدمي في مائه البارد .. فأحس برعشة تسري في جسدي وأعلم أن صلتي به لم تنقطع وأن علاقتي به باقية إلى الأبد .
تعليق