الديك الفصيح من البيضة يصيح!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحمن السليمان
    مستشار أدبي
    • 23-05-2007
    • 5434

    الديك الفصيح من البيضة يصيح!

    الديك الفصيح من البيضة يصيح!

    هبطت من جبل عالٍ في مدينة أقشور شمال المغرب، تنبع من خلاله المياه العذبة صانعةً شلالات غاية في الجمال، إلى سهل البلدة، وقد اشتد بي العطش بعدما نفد زادي من الماء وقت الهاجرة، وقد بلغتْ درجةُ الحرارة فيها الأربعين. وصلتُ السهل حيث باعة المشروبات والفواكه والأعشاب النافعة والمكسرات والتحف التذكارية منتشرون على قارعة الطريق. وكان أول ما شاهدت منهم غلامًا في السادسة أو السابعة من عمره، يبيع عصير البرتقال الطبيعي على عربة تحيطُ بها صناديق بلاستيكية مُلئت بالبرتقال الغارق في الماء البارد المنساب من الجبل. طلبتُ منه كأسًا فأراني كأسين مختلفي الحجم قائلاً ومبينًا بلغة لا تخلو من براءة الأطفال: "ثمن الكأس الصغير خمسة دراهم، وثمن الكأس الكبير سبعة. فأي الكأسين تريد يا سيدي"؟ فطلبتُ منه أن يعصر لي كأسًا كبيرًا يروي الظمأ الناشئ عن صعود جبل وهبوطه عند القائلة.

    أخرج الصبي سبع برتقالات باردة من السطل، وأخذ يعصرها بطريقة يدوية. بدا ساعده وهو يعصر البرتقالات، أضعف من أن يعصرها كما ينبغي، فصار يمط جسمه النحيف مطًا إلى الأعلى ثم يلقي بثقله على عصارة البرتقال كي يستخرج من البرتقالة عصيرها حتى الآخر. عرضتُ عليه مساعدتي فلم يرضَ، ربما لأنه رأى في عرضي لمساعدته شكًا في قدراته على عصير البرتقال.

    وبينما هو يعصر البرتقالة الثانية، جاء أخ له يكبره بعامين أو ثلاثة على أكثر تقدير، وطلب منه – وبطريقة استعراضية – أن يتنحى جانبًا، وأخذ يعصر البرتقالات بنشاط وحركات تفضح عزمه لكي يظهر أمام الزبائن بمظهرٍ قويٍ يتجاوز عمرَه الصغير وعودَه الغض. ثم أخذ زمام المبادرة وبدأ يدردش معي قائلاً:

    • ثمن الكأس الصغير، يا أستاذ، خمسةُ دراهم، وثمن الكأس الكبير ثمانية!
    • ولكن أخاك قال لي إن ثمن الكأس الكبير سبعةُ دراهم!
    • أخي هذا صغير لا يفهم .. وهو لا يعرف الأثمنة جيدًا!
    • يا سيدي كما تحب: أدفع لك ثمانية دراهم وأزْيَد!
    • [ناظرًا في وجهي] لا والله! بل كما قال لك أخي: سبعةُ دراهم ولا أزِيد!

    امتلأ الكأس وبقي فيه مقدار حمصة فارغًا. وبدلاً من أن يناولني الكأس لأشربه، شطر برتقالة ثامنة كي يعصرها، فقلت له:
    • لا داعي إلى عصرها فالكأس قد امتلأ!
    • لا بد من إكرامك يا أستاذ!
    • ولكنك أكرمتني وقد ملأت الكأس حتى كاد أن يطفح.
    • أنت تستأهل يا أستاذ. وهذا ضروري جدًا!
    • أكرمك الله يا هذا. وكيف عرفت أني أستاذ؟
    • بالفراسة!
    • وما أدراك ما الفراسة؟!

    فرمقني بنظرة أبلغ من جواب، وناولني الكأس، وشربت حتى ارتويت.

    استغربت كثيرًا من هذا الصبي، وسألته عن عمره وعرفتُ أنه ابن عشر سنوات، وأنه من أبناء إحدى القرى المحيطة ببلدة أقشور، وأنه تلميذ في المرحلة الابتدائية، وأنه يعمل في العطلة الصيفية في بيع العصير للسياح الوافدين على أقشور ليساعد والدَيه الفلاحين في ادخار بعض المال لفصل الشتاء.

    ودَّعته وأنا أتأمل في صنيعه وأخيه، وفي حلاوة حديثه، وفي نشاطه وكده وسعيه في إرضاء زبائنه بملء الكأس حتى حافته تارةً، وبالكلام المعسول تارةً أخرى، ولكن ببراءة لا تعرفُ غش الكبار، ولا حيلهم في البيع. وغادرتُه وأنا أجزم أن فرص التعليم والتنشئة والتطوير إن هي أتيحت لمثل هذا الصبي وأضرابه من النشء في البلاد العربية، فإن أوطاننا وقتها سوف تشهد تطورًا حقيقيًا، لأن الموارد البشرية فيها لا تنضب، ولأن الأرض فيها ولادة، ولأن السماء منها قريبة من الأرض قربًا لا يخيبُ معه أملُ من يثق في جود بارئها.

    أقشور، 24 تموز/يوليوز 2018.
    عبدالرحمن السليمان
    الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    www.atinternational.org
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    #2
    عدت بالذاكرة إلى أرض البوغاز، إلى "طنجة العالية" المطلة على البحرين، لي فيها ذكريات الطفولة من أجمل مايكون.

    ذكرتني فراسة الطفل الصغير معك بفراسة شيخ مسن معي. كنت في سوق قروي ب الصخيرات أبحث عن من يدلني على بقعة صغيرة للبيع. وبينما أتحدث مع أحد الباعة المتجولين حتى وقف علينا شيخ يقول أنه من الحرس الملكي في القصر الشهير الموجود هناك. فأرشدني خير إرشاد و أنهى المقابلة ب سلام يا دكتور. استغربت من كلامه لأنني و إن كنت حينها أحضر رسالة الدكتوراه لكنني على يقين تام أنني لم أتلفظ و لو بكلمة واحدة تدل على مستوى علمي معين أو مركز اجتماعي محدد. بل حتى مظهري الخارجي أتعمد في كل مرة أزور فيها المغرب أن لا أبدو إلا بزي يتوافق مع متوسط ما يرتديه القوم. وقلت له:من قال لك أنني دكتور؟ أجاب: إنها خبرة عقود ورثتها من عملي داخل القصر.

    أخي الغالي عبد الرحمن، بما أنني ابن تاجر و مارست التجارة منذ نعومة أظافري، فإنني لم أجد صعوبة في استحضار المشهد و فهمت جيداً قصدك من العبرة التي استخلصتها وأنت تذكر لنا حكايتك الجميلة مع ابن أقشور السعيد.

    سلامي إلى الأهل و الأحباب هناك.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 18-08-2018, 15:22.

    تعليق

    • عبدالرحمن السليمان
      مستشار أدبي
      • 23-05-2007
      • 5434

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد شهيد مشاهدة المشاركة
      عدت بالذاكرة إلى أرض البوغاز، إلى "طنجة العالية" المطلة على البحرين، لي فيها ذكريات الطفولة من أجمل مايكون.

      ذكرتني فراسة الطفل الصغير معك بفراسة شيخ مسن معي. كنت في سوق قروي ب الصخيرات أبحث عن من يدلني على بقعة صغيرة للبيع. وبينما أتحدث مع أحد الباعة المتجولين حتى وقف علينا شيخ يقول أنه من الحرس الملكي في القصر الشهير الموجود هناك. فأرشدني خير إرشاد و أنهى المقابلة ب سلام يا دكتور. استغربت من كلامه لأنني و إن كنت حينها أحضر رسالة الدكتوراه لكنني على يقين تام أنني لم أتلفظ و لو بكلمة واحدة تدل على مستوى علمي معين أو مركز اجتماعي محدد. بل حتى مظهري الخارجي أتعمد في كل مرة أزور فيها المغرب أن لا أبدو إلا بزي يتوافق مع متوسط ما يرتديه القوم. وقلت له:من قال لك أنني دكتور؟ أجاب: إنها خبرة عقود ورثتها من عملي داخل القصر.

      أخي الغالي عبد الرحمن، بما أنني ابن تاجر و مارست التجارة منذ نعومة أظافري، فإنني لم أجد صعوبة في استحضار المشهد و فهمت جيداً قصدك من العبرة التي استخلصتها وأنت تذكر لنا حكايتك الجميلة مع ابن أقشور السعيد.

      سلامي إلى الأهل و الأحباب هناك.
      أخي الحبيب الأستاذ محمد،

      سلمك الله.

      شكرا على هذا البوح الجميل. العرب والأمازيغ شعبان يشتهران جدًا بالفراسة. وأنا عندما أسوح في بلد عربي لا أرتدي السروال فيه قط! بل إني عندما أذهب للتدريس لا أرتدي اللباس الإفرنجي إلا وقت المحاضرة، وربما حاضرتُ في المغرب بالجلابة يوم الجمعة! أما إذا راجعتُ إدارة ما لغرض ما فإني أراجعها وأنا لابسٌ المسوح ومتمظهر بمظهر الدرويش الزاهد في الدنيا! لكن فراسة القوم تحول دون الاختفاء خلف مسوح الصوفية والدراويش!

      وهذا الغلام اليافع الذي نشأ بين الجبال الشاهقة يرى بعينه المجردة وبفراسته العام بوضوح تام، وهو ما سيميزه في المستقبل إن شاء الله.

      تحياتي العطرة.
      عبدالرحمن السليمان
      الجمعية الدولية لمترجمي العربية
      www.atinternational.org

      تعليق

      يعمل...
      X