أسير منكس الرأس ، أبدو كشيخ عجوز ، وتسير أمي بجواري مسودة الوجه مستندة على ذراعي بينما تقاطر خلفنا أبناء شقيقتى الكبرى وهم حفاة شبه عرايا ، تتبعنا أمهم عن بعد ذابلة الوجه ضامرة الجسد ، تحمل رضيعها فوق صدرها بينما تحمل فوق رأسها بقجة كبيرة محشوة بالملابس ...الطريق الترابية طويلة ومضجرة ، والسماءملبدة بالغيوم والبرد القارص يلسع عظامنا ، ورغم الإعياء الذى بدا على أمي إلا أننا كنا نسير قدما فالسماء تنذر بمطر وشيك ...إقتربنا من دارنا وهى لاتختلف كثيرا عن الدار التي تستأجرها شقيقتى والكائنة خلف الجسر على الجانب الآخر من القرية...الدور فى قريتنا متشابهة حتى تكاد تحسبها واحدا، فجميعها من طابق واحد مبنية باللبن وتغطي أسطحها أعواد الذرة الجافة وحطب القطن .دلفنا الى الدار يعلو وجوهنا الوجوم فألقت أمي بجسدها المنهك في ركن ( المندرة ) ووقفت شقيقتى صامتة وما أن وضعت عنها بقجة الملابس حتى هرولت إلى القاعة ( غرفة الفرن ) فى آخر الدار وأجهشت بالبكاء وهي تلقم ثديها للرضيع ..ومض البرق وانهمر المطر بغزارة فهرع أبناء شقيقتى إلى الزقاق الضيق يتقافزون مع أقرانهم ..لاخبر يخفى عن أهل قريتنا حتى أحاديث الأزواج فى لحظات الحميمية مما يجعلك تجزم أن كل ماحولك يخبر عنك ، فلم تكد تمضي دقائق على وصولنا حتى كانت دارنا تستقبل الكثير من الجارات اللاتي دفعهن فضولهن إلى القدوم رغم المطر المنهمر والدروب الموحلة ، وكن جميعا يتعللن بالترحيب بشقيقتى والحرص على رؤيتها فور وصولها شوقا وودا بينما كن في الحقيقة يبحثن عن السبب وراء مجيئها المفاجئ بعد سنوات إنقطاع ..فى مدخل القرية يقع ( دوار العمدة ) وهو أضخم الدور وأوسعها وأوحدها فخامة وجمالا ، وهي الوحيدة المكونة من ثلاث طوابق وقد كانت فيما مضى ملكا لأحد الوجهاء ، وكم دارت حولها الحكايات التي تشبه الأساطير خاصة تلك المتعلقة بالأشباح التي تروح وتجئ ليلا ، بينما في الحقيقة لم تك سوى بعض النسوة اللائي كن يتسللن ليلا إلى دار العمدة لشيء في نفوسهن وفي نفس العمدة وأولاده الذكور ..كان من المستبعد أن يأتي إلى دارنا أحد ذو شأن ليتقص أخبار شقيقتى ، لذلك كانت دهشتي كبيرة عندما حضرت زوجة العمدة إلى دارنا تتبعها خادمتان ريفيتان ، فمثل هذا المجئ كان كفيلا بتوجسنا ...من خلال دموعها حكت شقيقتى عن بعض أحوالها بقليل صدق وكثير أكاذيب حتى ترضي فضول المتحلقات حولها لكن نظرات زوجة العمدة ألقت الرعب في قلب شقيقتى فلم تجد بدا من البوح بالكثير مما آل إليه حالها والأمر الذي تركت من أجله دارها ، فإن زوجها بعدما سدت في وجهه سبل العيش ورزخت الأسرة تحت وطأة الحاجة مما أجج نار المشاكل وأثار الفرقة بين الزوجين ، وبعد أن ثقلت ديونه وازداد مطالبوه آثر الهروب من القرية تاركا خلفه كل شيء .غادرت النسوة تباعا وقد أطفأن لهيب فضولهن بينما بقيت زوجة العمدة حيث دار بينها وبين شقيقتى حديث جانبي غادرت بعده تتبعها خادمتاها ...فى عتمة المساء تتحرك أمي كالشبح متجهة صوب كوة في الحائط لتعيد إشعال( لمبة الفتيل ) التي أطفأتها إندفاعة هواء بارد ، هي لا تتحسس طريقها مثلما نفعل ، فقد كان أي منا إن اراد أن يتحرك في الظلام يصطدم بكل مايمر به ، لكن يبدو أن أمي تحفظ مواضع الأشياء ومواطئ القدم إليها عن ظهر قلب ..وضعت اللمبة فوق رأسها وهي تقوم ببعض أعمال الدار التي تؤديها كطقوس يومية ...وفى ضوء اللمبة الخافت كانت تبدو كمخلوق من عالم آخر ، محنية الظهر تتحرك في بطء وصمت ، أوقدت ( فرن القاعة ) وغذتها بالحطب ودفعت ب ( المترد الفخارى ) المملوء بالفول إلى فوهة النار لتدميسه ..سبحت الدار في دخان كثيف ، تململت في قعدتى وضقت ذرعا بالدخان الخانق فوقفت لا أدري إلى أين أذهب ؟ تمنيت لو أجد غير هذه الدار يحتوي همومى وأحزانى ، تذكرت أمرا ، فأوقفت السلم الخشبى وأسندته إلى الحائط واعتليت سطح الدار ..دارنا تتكون من ( مندرة ) فسيحة على يمين الداخل إليها وهي معدة لاستقبال الضيوف وعلى مقربة توجد غرفة المعيشة الوحيدة والتي لم تعد كذلك بعد ان ملأتها أمي بما يلزم وما لا يلزم فاكتظت بأشياء غريبة ومتنافرة فبدت أقرب منها إلى مخزن كبير ، وبجوارها تقع ( القاعة ) وهي غرفة الفرن التي ننام فوقها شتاءا بعد ان تخبو جذوة النار التي تشعلها أمي كل ليلة فيما كنا نمارس حياتنا اليومية في صحن الدار...جلست فوق سطح دارنا وكان المطر قد توقف ، ورغم برودة الجو فقد ألقيت بجسدي فوق الحطب المبتل ، طافت صورتها بمخيلتي وتمنيت لو تأتي وتضمني إلى صدرها ... أتراها ستأتي رغم برودة الجو؟ .لم يتأخر الجواب كثيرا فقد لمحت شبحها على البعد يتسلل عبر أسطح الدور في حذر ، عندما اقتربت من سطح دارنا هرولت في خطواتها الأخيرة وألقت بنفسها بين ذراعي ..لم نتكلم ولم ينظر أحدنا في عينى صاحبه وكان لنا الحطب المبلل ملاذا ...سوت من ملابسها وغادرت بهدوء إلى دارها بعد أن دست في يدي حفنة من الأوراق المالية....إنتبهت على صوت أمي تدعونى للنزول ، ، نزلت متوجها إلى القاعة حيث شقيقتى فوجدتها لاتزال تبكي وقد إزدادت شحوبا وبدت كبضاعة أتلفها البوار ،افتعلت معها حديثا لأخفف عنها قليلا ثم تمددت على الأرض بجوار أولادها ورحت في نوم عميق..كثيرا ماكنت أعمل في حقول البعض ليلا أسهر على ري الأرض وأعمل فيها بفأسي ، وكثيرا ماكنت أجر الساقية إذا تعبت الجاموسة او تمرد الحمار ، ولهذا كنت أتغيب كثيرا عن البيت ليلا ..فى اليوم التالي لوصول شقيقتى عرج إبن العمدة على دارنا وهو مالم يفعله من قبل مطلقا ، ألقى السلام وهو واقف بالباب وسأل أمي إن كنا نحتاج شيئا وكانت نظراته تمسح صحن الدار و ترشق شقيقتى الجالسة هناك ، ثم بعد ان ارتجل مع أمي حديثا بدون حديث غادر مبتسما ...لم أذق طعم النوم لليلتى هذه ولا الليالي التالية ، ترى ماذا أتى بابن العمدة إلى دارنا ؟ لم أجد إجابة شافية ومزقتني الظنون شر ممزق لكن إلى حين فقد كانت الأيام حرية بالإجابة؛ وخبرت ان شقيقتى بعد مجيئها بقليل كانت وأثناء عملى ليلا تعتلي سطح الدار......على مصطبة أمام الدار تجلس الأم العجوز وقد فقدت بصرها ، تداعب تجاعيد وجهها نسمة آذار الحانية بينما كان أحفادها يمرحون في الزقاق. ..طافت بمخيلتها ملامح فلذات كبدها فترقرقت الدموع في عينيها وهي تتحسس طريقها في إتجاه الكوة لتشعل لمبة الفتيل....
***** تداعيات شتوية *****
تقليص
X
-
تداعيات شتوية أبطالها الغلابة
حين يحكي الواقع ، يبقى فن الخيال بدعة ..
قصة رائعة زينتها متانة اللغة وتنوعها
يبقى الواقع يصنع اللقطة في رديْكَ ، والقصة
تحيتي واحتراميالتعديل الأخير تم بواسطة سعد الأوراسي; الساعة 11-01-2019, 20:16.
تعليق
-
-
أهلا جمال،
الصديق العزيز وكاتب القصّة الموهوب.
لطالما أبهرتني قدرتك على الكتابة بسهول جمال.
النص الذي كُتب بسهولة يميّزه القارئ بسهولة.في غير تكلّف وبوضوح وبجمال تكتب الإنسانيَّ بالمحلّي.
لا تحزن جمال يكفي أنا متأكّد أنّ جلّ المشاهدات التي تحدّثت عنها تمت بمحبّة وبرغبة في القراءة.
القصّة مؤثرة جدّا. واللغة تستحقّ الثناء فعلا.
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة سعد الأوراسي مشاهدة المشاركةتداعيات شتوية أبطالها الغلابةحين يحكي الواقع ، يبقى فن الخيال بدعة ..قصة رائعة زينتها متانة اللغة وتنوعهايبقى الواقع يصنع اللقطة في رديْكَ ، والقصةتحيتي واحترامي*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة محمد مزكتلي مشاهدة المشاركةأخي جمال عمران أعذرني أخي على التأخير .....أنا مشغول هذه الأيام بما يكتبه الزميل أمين توكل....صباح الخير.*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركةأهلا جمال،الصديق العزيز وكاتب القصّة الموهوب.لطالما أبهرتني قدرتك على الكتابة بسهول جمال.النص الذي كُتب بسهولة يميّزه القارئ بسهولة.في غير تكلّف وبوضوح وبجمال تكتب الإنسانيَّ بالمحلّي.لا تحزن جمال يكفي أنا متأكّد أنّ جلّ المشاهدات التي تحدّثت عنها تمت بمحبّة وبرغبة في القراءة. القصّة مؤثرة جدّا. واللغة تستحقّ الثناء فعلا.*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة البكري المصطفى مشاهدة المشاركةمشهد من سيرة ذاتية؛ مروي بطلاقة وانسيابية ؛ جعلته يتبوأ مكانة مرموقة في الحكي.أخي عمران قم بتصويب هذه العبارات: البرد القارس بدل القارص./ لم تكن سوى...بدل لم تك سوى..../ رزحت بدل رزخت. طابت أوقاتك.*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة منيره الفهري مشاهدة المشاركةأكاد أجزم أنها واقعية هذه القصة لما فيها من لغة انسيابية ثرية جميلة فكأنني أشاهد جميع الصور أمامي ..رائعة بكل المقاييس...لم أندم و أنا أدخل هذا المتصفح الجميل فقد جذبني العنوان المثير...تحياتي أستاذي الفاضل جمال عمران و شكرا لهذه الوليمة الأدبية...*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
-
صديقي الحبيب
معدنك الأصيل الطيّب، يجعل التعليق صعبا للغاية.
على أيّ حال اشتقت إليك أيضا وإلى تلك الأيام، ما من أحد في هذا الملتقى لم يعبّر عن حنينه إلى سنوات خلت هنا. حقيقة لا أدري ما الذي يمنعها من أن تعود، مؤكّد أنّه الورقي وازدياد مشاغل الناس وهمومهم بسبب موجة الحرب التي لم تترك بلدا عربيّا في سلام.
صار المرء كئيبا ومُحبَطا وشقيّا ودائم الرّكض هكذا دون سبب، خائفا مما لا يعلم بالضّبط.
كان هناك نوع من البراءة والصدق يخيّمان، حلّت محلّهما الّلامبالاة والسّأم. أشبّه ما حدث لنا بما يحدث لطفل يكتشف فجأة فظاعة الحياة.
كن بخير أخي الجميل.
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركةصديقي الحبيبمعدنك الأصيل الطيّب، يجعل التعليق صعبا للغاية.على أيّ حال اشتقت إليك أيضا وإلى تلك الأيام، ما من أحد في هذا الملتقى لم يعبّر عن حنينه إلى سنوات خلت هنا. حقيقة لا أدري ما الذي يمنعها من أن تعود، مؤكّد أنّه الورقي وازدياد مشاغل الناس وهمومهم بسبب موجة الحرب التي لم تترك بلدا عربيّا في سلام.صار المرء كئيبا ومُحبَطا وشقيّا ودائم الرّكض هكذا دون سبب، خائفا مما لا يعلم بالضّبط.كان هناك نوع من البراءة والصدق يخيّمان، حلّت محلّهما الّلامبالاة والسّأم. أشبّه ما حدث لنا بما يحدث لطفل يكتشف فجأة فظاعة الحياة.كن بخير أخي الجميل.*** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 80475. الأعضاء 6 والزوار 80469.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 409,257, 10-12-2024 الساعة 06:12.
تعليق