إنّها الساعة السابعة صباحًا، وهذا يعني أنّه لا وقت عندي الآن لتقليب أوراق الصُحف في الشُرفة كما أفعل عادة كلّ صباح، لأنّ لديّ شيء جديد سيغيّر مجرى حياتي رأسًا على عقب. عليّ أن أسابق الريح لكي أصل إلى ذلك المكان الّذي طالما اشتهيت مُذ سنين طوال أن أطأ بأقدامي هناك، وأن أكون لأوّل مرّة في حياتي بين طُغمة مِن الكادحين والمعوزين والفقراء المتعبين الذيِن لا مأوى لهم سوى أرصفة الشوارع. ينبغي لي أن أحمل حقائبي، وأن أضعها في الأسفل، فلم يبق شيء على قدوم السائق، إنّ سائقي أصرّ على إيصالي إلى المحطة بنفسه، على الرغم من أنّ هذا اليوم هو من أيّام عطلته الأسبوعية، فأيّام الآحاد عند المسيحيين، لها قُدسية ومكانة، وهي أيضًا وجدت للراحة والاسترخاء في المنزل، والجلوس مع العائلة، ولكنّه ترك كلّ هذا من أجلي، ونهض من فراشه في باكورة الصباح لكي يؤدي لي هذه الخدمة. ما ألطف تلك الصفة في البشر، الطيبة!
ها هو يضرب بوق السيارة في الأسفل، وعليّ الآن أن أُسرِع في رفع المتاع، وفي الخروج من البيت، فلم يبق شيء على الموعد. كم يشق على نفسي أنّ أهجر هذا المنزل لثلاثة أسابيع، ولكن المغامرة تستحق أن أترك ورائي كلّ أشغالي وأعمالي في الشركة، وحتّى بيتي هذا الّذي لم أفارقه -ولو ليومين متتاليين- مُذ عشرين سنة، لأنّني فعلاً بحاجة ملحة إلى أن أدنو من النّاس الّذين يضطهدهم المثقفون ويترفّع عنهم الأغنياء وأبناء الأكابر.
حين رآني السائق قادمًا إليه، جاء هرولة لمساعدتي، وسحب من يديّ كلّ الأمتعة، وزجّ بها في صندوق السيارة الخلفي، ثمّ عاد إليّ وشيَّعني إلى باب المركبة، ثمّ فتحه بتؤدة ورفق. نسيت أن أقول لكم أنّ السائق من الأفارقة الأمريكيين، وأنّه لا يغرّكم سحنته السمراء هذه، فهو أصيل، ومثقف جدًا، لا يفلت من يده أيّ معرض للكتاب، وحريص أيضًا على اقتناء الأفضل منها، ولو كان بوسعي أن أصنّف النّاس، وأن أضع كلّ منهم في عملٍ معين على قدر سعة ثقافته واطلاعه لا على حسب شهادته وخبراته، لعينته عضوًا من أعضاء الكونجرس، أو جعلته يرأس مجلة "التايم" أو لكان على أقل تقدير من النخبة المثقفة التي بمقدورها أن تفعل شيئًا جليلاً للأدب والثقافة، وأن تُغيّر شيئًا كبيرًا في عالمنا البائس.
في أثناء الطريق، كانت خيوط الشمس المنبجسة من السماء، تتسلّل كالأنغام عبر النافذة الأمامية لترسم بُقعة مُضيئة على مكانِ الجُرح الّذي وراء أضلعي، كما لو أنّ الرب أراد أن يربّت بيده العظيمة على قلبي. إنّ هذا الجُرح لهّ حكاية قديمة جدًا، ترجع إلى ثلاثة عشر عامًا، حين كان منزلي مُترعًا بأطفالي الأربعة، وزوجتي السابقة الفرنسية "أم ياسين" التي كانت مُلحدة حين التقيت بها في السنة الأولى من الجامعة ثمّ تحوّلت إلى الإسلام بعد أن مالت بقلبها نحوي، فغيّرت اسمها من فيوليتا إلى آمنة على اسم أمّ النبي محمد، ثمّ عقدنا القران عقب تخرجنا سويًا من جامعة هيوستن بولاية تكساس، ومن ثَمّ عمّرتُ بيتي في مدينة دالاس وعشنا فيه طيلة الأعوام الفائتة في أجواء يغمرها الهيام والوئام والسلام، وبعدها أنجبت لي أربعة أطفال؛ ياسين، ونسرين، ومحمد، وسلمى. وفي إحدى السنوات أُصبت بعلّة نفسية شديدة، لا أدري من أين حلّت عليّ، أصبحت إنسانًا لا يُطاق، أغضب من توافه الأمور، وأتقاعس عن أداء مسؤوليات المنزل اللازمة، وصرتُ أرقد في غرفةٍ، وأم ياسين تنام في الغرفة المجاورة. لقد انفصلنا رغمًا عنا، فالأدوية التي كانت تُعطى لي من قبل طبيبي المُعالج، حرمتني من المُتع الزوجية، ومن ممارسة الحُبّ، وهذا أسوأ ما قد يحدث بين الزوجين.
وفي يومٍ من الأيّام، صفعتُ آمنة براحةِ كفي في لحظةِ غضب، مما اضطرت هي إلى أخذ الأولاد معها، وإلى الفرار إلى إحدى أرياف فرنسا حيث يمكث أبواها وعائلتها جميعًا هناك. ومُذ ذلك الحين، لم أر أبنائي ولم أسمع صوتهم حتّى يومنا هذا. وهأنذا وحيد كما تراني، مُحطّم الوجدان، غارق في كآبتي منذ أعوام، لا أحد يدري من الخلق عن معاناتي حتّى سائقي هذا، الّذي عاشرني لسنوات، لا يعرف شيئًا عن مرضي، لأنّي لا أبوح لأحدٍ بأيّ شيءٍ يخصّني، مُغلق فمي عمّا يحزنني ويؤلمني، ولكنّه بلا غرو، أحسّ بذلك على قسمات ملامحي، وكما تعلمون أنّ مرأى وجه المرء يُغنيك عن سؤاله عن الحال.
ها نحن قد وصلنا قبل الموعد المحدد إلى محطةِ الحافلات في وسط دالاس. وأخيرًا، دنوت من تجربة هذه الرحلة التي سوف تخرجني من الظُلمة إلى النور، من الضجيج إلى السكون، من الاضطراب إلى الطمأنينة، فقد نصحني طبيبي قبل مدّة بفعل الخير للغرباء، فهذا قد يساعدني من الانعتاق من أسوار مرضي، والانطلاق إلى حياة جديدة أكثر إشراقًا وجمالاً وسكينة.
تكملة..
تعليق