الحافلة ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سامي الشريم
    أديب وكاتب
    • 11-12-2015
    • 107

    الحافلة ..


    إنّها الساعة السابعة صباحًا، وهذا يعني أنّه لا وقت عندي الآن لتقليب أوراق الصُحف في الشُرفة كما أفعل عادة كلّ صباح، لأنّ لديّ شيء جديد سيغيّر مجرى حياتي رأسًا على عقب. عليّ أن أسابق الريح لكي أصل إلى ذلك المكان الّذي طالما اشتهيت مُذ سنين طوال أن أطأ بأقدامي هناك، وأن أكون لأوّل مرّة في حياتي بين طُغمة مِن الكادحين والمعوزين والفقراء المتعبين الذيِن لا مأوى لهم سوى أرصفة الشوارع. ينبغي لي أن أحمل حقائبي، وأن أضعها في الأسفل، فلم يبق شيء على قدوم السائق، إنّ سائقي أصرّ على إيصالي إلى المحطة بنفسه، على الرغم من أنّ هذا اليوم هو من أيّام عطلته الأسبوعية، فأيّام الآحاد عند المسيحيين، لها قُدسية ومكانة، وهي أيضًا وجدت للراحة والاسترخاء في المنزل، والجلوس مع العائلة، ولكنّه ترك كلّ هذا من أجلي، ونهض من فراشه في باكورة الصباح لكي يؤدي لي هذه الخدمة. ما ألطف تلك الصفة في البشر، الطيبة!
    ها هو يضرب بوق السيارة في الأسفل، وعليّ الآن أن أُسرِع في رفع المتاع، وفي الخروج من البيت، فلم يبق شيء على الموعد. كم يشق على نفسي أنّ أهجر هذا المنزل لثلاثة أسابيع، ولكن المغامرة تستحق أن أترك ورائي كلّ أشغالي وأعمالي في الشركة، وحتّى بيتي هذا الّذي لم أفارقه -ولو ليومين متتاليين- مُذ عشرين سنة، لأنّني فعلاً بحاجة ملحة إلى أن أدنو من النّاس الّذين يضطهدهم المثقفون ويترفّع عنهم الأغنياء وأبناء الأكابر.
    حين رآني السائق قادمًا إليه، جاء هرولة لمساعدتي، وسحب من يديّ كلّ الأمتعة، وزجّ بها في صندوق السيارة الخلفي، ثمّ عاد إليّ وشيَّعني إلى باب المركبة، ثمّ فتحه بتؤدة ورفق. نسيت أن أقول لكم أنّ السائق من الأفارقة الأمريكيين، وأنّه لا يغرّكم سحنته السمراء هذه، فهو أصيل، ومثقف جدًا، لا يفلت من يده أيّ معرض للكتاب، وحريص أيضًا على اقتناء الأفضل منها، ولو كان بوسعي أن أصنّف النّاس، وأن أضع كلّ منهم في عملٍ معين على قدر سعة ثقافته واطلاعه لا على حسب شهادته وخبراته، لعينته عضوًا من أعضاء الكونجرس، أو جعلته يرأس مجلة "التايم" أو لكان على أقل تقدير من النخبة المثقفة التي بمقدورها أن تفعل شيئًا جليلاً للأدب والثقافة، وأن تُغيّر شيئًا كبيرًا في عالمنا البائس.
    في أثناء الطريق، كانت خيوط الشمس المنبجسة من السماء، تتسلّل كالأنغام عبر النافذة الأمامية لترسم بُقعة مُضيئة على مكانِ الجُرح الّذي وراء أضلعي، كما لو أنّ الرب أراد أن يربّت بيده العظيمة على قلبي. إنّ هذا الجُرح لهّ حكاية قديمة جدًا، ترجع إلى ثلاثة عشر عامًا، حين كان منزلي مُترعًا بأطفالي الأربعة، وزوجتي السابقة الفرنسية "أم ياسين" التي كانت مُلحدة حين التقيت بها في السنة الأولى من الجامعة ثمّ تحوّلت إلى الإسلام بعد أن مالت بقلبها نحوي، فغيّرت اسمها من فيوليتا إلى آمنة على اسم أمّ النبي محمد، ثمّ عقدنا القران عقب تخرجنا سويًا من جامعة هيوستن بولاية تكساس، ومن ثَمّ عمّرتُ بيتي في مدينة دالاس وعشنا فيه طيلة الأعوام الفائتة في أجواء يغمرها الهيام والوئام والسلام، وبعدها أنجبت لي أربعة أطفال؛ ياسين، ونسرين، ومحمد، وسلمى. وفي إحدى السنوات أُصبت بعلّة نفسية شديدة، لا أدري من أين حلّت عليّ، أصبحت إنسانًا لا يُطاق، أغضب من توافه الأمور، وأتقاعس عن أداء مسؤوليات المنزل اللازمة، وصرتُ أرقد في غرفةٍ، وأم ياسين تنام في الغرفة المجاورة. لقد انفصلنا رغمًا عنا، فالأدوية التي كانت تُعطى لي من قبل طبيبي المُعالج، حرمتني من المُتع الزوجية، ومن ممارسة الحُبّ، وهذا أسوأ ما قد يحدث بين الزوجين.
    وفي يومٍ من الأيّام، صفعتُ آمنة براحةِ كفي في لحظةِ غضب، مما اضطرت هي إلى أخذ الأولاد معها، وإلى الفرار إلى إحدى أرياف فرنسا حيث يمكث أبواها وعائلتها جميعًا هناك. ومُذ ذلك الحين، لم أر أبنائي ولم أسمع صوتهم حتّى يومنا هذا. وهأنذا وحيد كما تراني، مُحطّم الوجدان، غارق في كآبتي منذ أعوام، لا أحد يدري من الخلق عن معاناتي حتّى سائقي هذا، الّذي عاشرني لسنوات، لا يعرف شيئًا عن مرضي، لأنّي لا أبوح لأحدٍ بأيّ شيءٍ يخصّني، مُغلق فمي عمّا يحزنني ويؤلمني، ولكنّه بلا غرو، أحسّ بذلك على قسمات ملامحي، وكما تعلمون أنّ مرأى وجه المرء يُغنيك عن سؤاله عن الحال.
    ها نحن قد وصلنا قبل الموعد المحدد إلى محطةِ الحافلات في وسط دالاس. وأخيرًا، دنوت من تجربة هذه الرحلة التي سوف تخرجني من الظُلمة إلى النور، من الضجيج إلى السكون، من الاضطراب إلى الطمأنينة، فقد نصحني طبيبي قبل مدّة بفعل الخير للغرباء، فهذا قد يساعدني من الانعتاق من أسوار مرضي، والانطلاق إلى حياة جديدة أكثر إشراقًا وجمالاً وسكينة.

    تكملة..
    التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 02-09-2018, 16:48.
  • جمال عمران
    رئيس ملتقى العامي
    • 30-06-2010
    • 5363

    #2
    الأستاذ سامى....سرد شيق ..وأحداث قادمة تبدو مشوقة.....أتابع وانتظر ..مودتى
    *** المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطي فضيلة الفقراء ***

    تعليق

    • البكري المصطفى
      المصطفى البكري
      • 30-10-2008
      • 859

      #3
      الأديب سامي الشريم تحيتي.
      قصة ممتعة بطابعها الانسيابي ، تلتقط التفاصيل بدقة وتعرضها بلا توهيم . أعتقد أنها مشروع سيرة ذاتية...
      ( قم بتصويب العبارتين: يضطهدهم المثقفون_ حيث يمكث أبواها.)

      تعليق

      • سامي الشريم
        أديب وكاتب
        • 11-12-2015
        • 107

        #4

        أوقفني السائق إزاء بوابة محطة الحافلات زُهاء الساعة الثامنة إلا ربع، ثمّ بعدها أنزل حقائبي على الأرض، ورافقني إلى الداخل. بعد أن أفرغتُ من الاجراءات التي تخصّ شأن الحافلة التي سأستقلها بعد قليل، ودّعني السائق وداعًا حارًا، طالبًا منّي أن أنتبه إلى نفسي، وأن أكون حذرًا من مخاطر الطريق، ثمّ مضى قافلاً إلى السيَّارة.
        جلستُ على إحدى مقاعد الانتظار ريثما يُعلن عن موعد ركوب الحافلة. ابتهلت وقت الفراغ بالتحديق في وجوه المسافرين حولي، ياه! ليتني لم أفعل ذلك! لقد كانت كالحة مثل حقول أزهار ذابلة، مثل شوارع منطفئة مُذ عشرات السنين، لقد كانت غارقة في الأسى والحُزن إلى أقصى الحدود، كما لو أنّهم خسروا أوطانهم جميعًا، أو أنّهم فقدوا أحبابهم في آنٍ واحد. وهذا حال أشكالهم وسحناتهم، وأمّا الثياب فرأيتها رثّة وبالية، وبعضها مُمزّق جدًا كأوراق قضمتها الفئران الجائعة. لم أستطع أن أتصوّر أن يكون هذا المكان محطة لنقل الركاب، بل هو أشبه بملجأ للأيتام، أو مخبأ سريّ يجتمع فيه فقراء الحظّ، والمسحوقين الّذين دهستهم الحياة مرارًا بنوائبها التي لا تني تقتحم أسوار منازلنا، وتتسلّل عبر نوافذنا ليل ونهار وتسرق منّا أجمل ما نحبّ وأحلى ما نشتهي أن يبقى معنا إلى آخر العُمر.
        كان الجو في صالة الانتظار، حارًا وخانقًا للأنفاس، وكانت الروائح التي تفوح من أجساد هؤلاء النّاس الطيبين نتنة ومقيتة كما لو أنّهم لم يروا الماء والصابون لأشهر طوال. التفتُ بجانبي، فرأيتُ رجلاً مُسنًا، ذو لحية كثيفة تضارع أعشاب القبور، وكان مُمسكًا بين يديه كتاب يتحدث عن المال، هكذا يظهر لي من العنوان على الغلاف الأصفر والأزرق"Money, and the Law of Attraction". لم أشأ أن أفتح معه أيّ نقاش أو حوار، فالعجوز كما يلوح أنّه يسبح في ملكوت الكلمات، وأدنى اقتحام مني، يعدّ إهانة له وعدم احترام لكبر سنه. ارتأيت أن أطبق فمي، وألّا أتدخل في شؤون أحد من الخلق، كبير أو صغير، رجل أو امرأة، وأن أكتفي بإطلاق النظرات العفوية هنا وهناك إلى أن أسمع نداء ركوب الحافلة.
        أحسستُ أنّي بحاجة إلى الذهاب إلى دورة المياه، فنهضت من مكاني، ورحتُ أمشي مُتسارع الحُطى إلى هناك، غير أنّ ثمّة امرأة نحيلة الجسم، شاحبة الوجه، وبين يديها طفل رضيع، أوقفتني وسألتني إن كان لديّ بعض المال لكي تسدّ جوعها وتُخرس طفلها الّذي كان كثير الصراخ والبكاء، فما كان مني إلى أن مددتُ يدي بسرعة في جيبِ بنطالي، وأخرجتُ لها مئتين وخمسين دولارًا، وحين رأت بريق العملة الخضراء، كادت أن تسجد بين قدمي من فرطِ فرحتها، لولا أنّني رفضتُ ذلك، وقلت لها: "نحن خلقنا لنقف بجانب بعضنا بعضًا، وما الإنسان إلا في خدمة أخيه الإنسان". شكرتني كثيرًا، ثمّ رسمت علامة الصليب بيدها على وجهها وصدرها، وراحت تركض ركضًا وتهرول هرولة إلى المطعم الذي تنبعث منه رائحة الدجاج، وأمّا أنا بدوري اتجهتُ إلى الحمام الذي كان ليس بذلك البعيد عن موقع المُحادثة السريعة. ولم يمضِ عليّ سوى أربعةِ دقائق في قضاء حاجتي حتّى سمعتُ إعلان الباص "3257" وهو ذات رقم الحافلة المدوّن على تذكرة سفري.

        تكملة ..
        التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 09-09-2018, 02:19.

        تعليق

        • سامي الشريم
          أديب وكاتب
          • 11-12-2015
          • 107

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة جمال عمران مشاهدة المشاركة
          الأستاذ سامى....سرد شيق ..وأحداث قادمة تبدو مشوقة.....أتابع وانتظر ..مودتى
          شُكرًا أخي جمال..
          ممتن جدًا لقراءتك.

          تعليق

          • سامي الشريم
            أديب وكاتب
            • 11-12-2015
            • 107

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة البكري المصطفى مشاهدة المشاركة
            الأديب سامي الشريم تحيتي.
            قصة ممتعة بطابعها الانسيابي ، تلتقط التفاصيل بدقة وتعرضها بلا توهيم . أعتقد أنها مشروع سيرة ذاتية...
            ( قم بتصويب العبارتين: يضطهدهم المثقفون_ حيث يمكث أبواها.)
            أهلاً بأخي البكري..
            صحّحت الخطأين وشُكرًا لك على التصويب.
            دمت بخير.

            تعليق

            • سامي الشريم
              أديب وكاتب
              • 11-12-2015
              • 107

              #7

              حملتُ نفسي خارج الحمّامات، وذهبتُ جريًا إلى بابٍ زجاجي، يقف إزاءه النّاس صفًا واحدًا. لم أوبّخ نفسي بسبب مجيئي متأخرًا، واصطفافي آخر الطابور، بل أحسستُ بنشوة الفرح لأنّي كنتُ مُعظم حياتي أجلسُ في الكراسي الأمامية في الصفوف الدراسية، وآتي إلى العمل عند مطلع نور الشمس وقبل حضور جميع الموظفين، لذك لا أرى بأسًا أن أجرّب شيئًا جديدًا يُخالف طباعي وسجيتي، فالمرء مهما كانت شخصيته قيادية وعملية فإنّه في نهاية المطاف سيكون أحوج إلى التغيير، وإلى كسر الرتابة والروتين، فليس جمادًا أو آلة لكي يظلّ على صورة واحدة، ولكي يبقى على عادات ثابتة. أحيانًا العادة الدائمة حتّى وإن كانت حسنة فهي جريرة ضد الذات، قد تبلّد الوجدان، وتطفئ جذوة الروح.

              أطلت برأسي من وراء الصفوف لأعرف ما يجري، فهؤلاء الواقفين أمامي ثبتوا مكانهم ولم يبرحوا قِيد أنْمُلة، فرأيتُ شرطيًا ضخم الجُثة مرتديًا نظّارة طبية، وكان يلتفت إلى وراء الزجاج كما لو أنّه يتحرّى إشارة من أحد العاملين ليفتح الباب للمسافرين. وما هي إلا دقائق معدُودة حتّى تحرّك هذا الصف الطويل المنتظم الّذي أقرب ما يكون إلى طوابير النمل، وشرع الشرطي بالتثبّت من تذاكر السفر، ومن هويات الركّاب الواحد تلو الآخر، إلى أن حان دوري، فأظهرت له ابتسامة بلهاء حين أقبلت إليه، وأعطيته بطاقتي وتذكرتي، ولكنه لم يصرفني كما فعل مع البقية، بل كان يتبصّر فيهما جيدًا، وبعدها حدّق في وجهي إلى أن قال: "أنت لست من أصل أمريكي، أليس كذلك؟" قلت له: "نعم، أنا جذوري عربية، ولكني أسرفتُ نصف سنين عُمري هنا، ومُنِحت لي الجنسية مُذ وقتٍ طويل". سكت هنيهة ثمّ أرجع إليّ أغراضي، وسمح لي بالمرور.

              كان سائق الحافلة بإنتظاري، فأعطيته أمتعتي لكي يضعها مع الحقائب الأخرى في الدرج الكبير أسفل الحافلة، وحين فعل ذلك، دخلتُ الباص مسرعًا، أبحثُ عن مقعدٍ خالٍ. كان يرمقني الركّاب بنظرات تحفّها الغرابة، وكأنّهم يقولون لي إنّي جئت إلى المكان الخاطئ، وأنّ هندامي لا يليق إلا بالطائرات والسفن لا بالحافلات. وجدتُ مقعدًا فارغًا في الخلف، على طرفِ الممر، بجانب رجلٍ يلوح لي أنّه في الأربعين من عمره، ويتبيّن لي من هيئته أنّه من المكسيك. رحّبت به قبل أن أقعد بجواره، ثمّ أرحت جسدي المنهك على الكرسي. اختلست النظر إلى يميني، فرأيت ذات المرأة مع طفلها الرضيع، وبجانبها عند النافذة، شابة لا تتجاوز العشرين، بيضاء كالثلج، ذات شعر مُجعّد، وكانت تلبسُ معطفًا أبيض، وبِنطالًا مُمزّق تحت الركبتين. لم تكن جميلة الوجه، ولا دميمة أيضًا، ولكن لديها شيء خفي يجذب الرجل إليها.

              تكملة..
              التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 11-09-2018, 03:54.

              تعليق

              • سامي الشريم
                أديب وكاتب
                • 11-12-2015
                • 107

                #8

                كانت الحافلة ضخمة وفاخرة أشبه بطائرة الملوك لما تُقدّمه من بعض الخدمات التي يحتاج إليها النّاس في سائر أيّامهم، وفي ثنايا بيوتهم؛ كالإنترنت، وستائر تكسو النوافذ، ونظام تكييف فعّال، ودورة مياه رحبة تماثل حمّامات الفنادق، وشاشة ضئيلة الحجم تشتغل باللّمس. لن أطيل عليكم في شرح المزايا التي أراها هنا من حولي حتّى لا أستحيل في نظركم إلى مندوب إعلانات.

                شرع سائق الحافلة في التحدّث عبر مكبِّر الصَّوت، وألقى علينا التعليمات بشأن الحفاظ على السلامة، وإلتزام الصمت، وعدم مضايقة الرُّكاب، وبما يخصّ عدد المرات التي سنتوقف فيها عند محطات الطريق. شعرتُ لوهلة أنّي في داخل باص مدرسي أو حافلة سُجناء، ما هذا السُخف؟ ما جئت هنا لأطبق فمي أو أغرق في الأحلام، بل لأنخرط مع هؤلاء الضُعفاء، ولأتعرّف عن كثب على يوميات حياتهم، وعلى ما يرونه من مكارِه الدّهر. أريد أن أقترب منهم أكثر فأكثر، لعلِّ أستطيع أن أمدّ لهم يد العون، وأنقذ بعضهم من شظف العيش من أجلِ أن أتعافى من آلام وأوجاع نفسي الخفيِّة كما قال لي طبيبي الألماني.
                انطلق الباص الكبير مسرعًا خارج أسوار المحطة، متجهًا صوب ولاية أوكلاهوما التي تبعد عن هذه المدينة ما يربو على ثلاثِ ساعات. ولا أخفيكم القول فإنّي لا أعرف أحدًا في تلك الولاية على الرغم من عيشي الطويل في أمريكا. إنّ علائقي محدودة جدًا، وأصدقائي لا يتخطّون أنامل اليد الواحدة، وجميعهم يعيشون بالقربِ مني في دالاس، ويتشاطرون معي الميول والأهداف، واكتساب الأموال من الأعمالِ الحرّة.
                أحببتُ الرحلة مُذ البدء، فقد كان الركّاب مجانين، كلٌ منهم يُنشد أغنيته المفضلة، حتّى الرجل المكسيكي الّذي بجانبي شاركهم الفرحة والغناء مِمّا أثارت تصرفاتهم حنق السائق الّذي كان يحاول جاهدًا إخراسهم ولكنّه عجز تمامًا. في ذلك الحين، اطمأنّت نفسي ورضيت بعد أن خشيت أنّي لن أقدر على محادثة أيّ أحد. بعد دقائق قليلة، خيّم على الركّاب وجوم مطبق، لقد سكتوا جميعًا في آنٍ واحد بعد تلك الجلبة الرائعة، وانشغل كل منهم في شؤونه الخاصة، هذا وضع سماعة في أذنيه ليرحل إلى عالم الخيال، وذاك اتكئ برأسه على كفه ليغرق في بحور التفكير، والآخر انتهز حالة السكون بالنوم، وبعضهم كان يرنو إلى جانبي الطريق من خلال النوافذ، وأمّا الرجل الّذي بجواري فقد كان منشغلاً بالتنبيش في أغراضه.
                بقيتُ صامتًا كالحجر، فارغ الذهن لثواني معدودة إلى أن هجس بخاطري أن أتحدّث مع المرأة التي بجانبي، وحين التفت على يميني، ألفيتها مُنهمكة في تنويم طفلها الرضيع، فإختلست النظر إلى الفتاة الشابة، فرأيتها مُستندة برأسها إلى النافذة، ويبدو أن الحُزن يقضم قلبها، هكذا أحسست، فعدلت عن فكرتي بفكرة أخرى وهي أن أنتظر إلى أن نتوقف عند إحدى محطات الطريق ليكون بوسعي حينها أن أتكلّم بحريّة مع بعض المشردين وأن أتفرّد بالحديث مع تلك الفتاة.
                أعجز عن النوم في الطائرة، حتّى ولو كانت الرحلة تأخذ وقتًا أطول، قد تنتابني إغفاءات متكررة ولكن يستحيل عليّ أن أغطّ في نومٍ عميق، وأمّا في هذه الحافلة، فلا أظنّني بقادرٍ -ولو للحظة- على إغماض عيني.
                أخيرًا، فتح المكسيكي فاه ليحادثني. أدركتُ أنّه يرغب بأنّ يبدّد أجواء الضجر التي تعج في داخل الحافلة. فبدأ يسألني عن دولتي التي جئت منها، وعن مهنتي، وعن حالتي الاجتماعية، كان أشبه بالمحقّق الجنائي، لم يتلكأ عن طرح الأسئلة، سؤال يجرّ وراءه سؤال آخر، ولم يذر لي الفرصة أن أتبادل معه أطراف الحديث، كنتُ كالمعتوه المُجيب على كلّ شيء دون أن يقذف سؤالاً واحدًا للطرف الآخر.

                تكملة..




                التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 26-09-2018, 11:45.

                تعليق

                • سامي الشريم
                  أديب وكاتب
                  • 11-12-2015
                  • 107

                  #9

                  سكت عن الكلام بعد أن فرغ من أسئلته التي تضارع أسئلة الأطفال الفضولية، وألصق رأسه بزجاج النافذة القريبة منه، ثمّ أطبق جفنيه الكبيرتين، ثمّ بعد ذلك أخذه نومٌ ثقيل جعلني أحسّ بخواء اللّحظات وحدي في هذه المركبة الضخمة.
                  قمتُ بعدها بملأ وقتي الفارغ بشيءٍ نافع ريثما نتوقف عند أقرب محطة. كان في حقيبتي القليل من الكُتب التي لم تتهيأ لي الفرصة للإنتهاء من قراءتها، مثل كتاب "الإله ليس عظيمًا" لهيتشنز. إنّ هذا الكتاب طفقتُ أقرأه في السنة الأولى من الجامعة، بسبب ما كنت أحمله في رأسي في تلك المرحلة من نزعة شكوكية قويّة، ومن تساؤلات فلسفية كثيرة، لا يسعني المجال لذكرها جميعًا، فلستُ فيلسوفًا أو مُفكرًا لأشرح وأطرح لكم، ولكن أكتفي بذكر إثنتين منها من باب أن تروا إلى أيّ حدّ جرفتني شكوكي؛ هل الله موجود؟ هل الأديان من صنع البشر؟ إن هذين السؤالين بالتحديد، احتجتُ إلى عدة أعوام من البحث والتنقيب وسبر أغوار الكُتب الفلسفية الغربية منها والعربية للإجابة عليهما، ولم أصل إلى إجابة واضحة شافية ترضي عقلي وقلبي في آنٍ معًا إلا في السنتين الأخيرة. ستتساءل بينك وبين نفسك: لماذا إذن تقرأه إن كنت قد ألفيت الإجابات التي أطفأت جذوة الريبة في عقلك؟ وسأقول لك "إنّه حُبّ الفضول".

                  أدخلتُ يدي داخل الحقيبة، وأخرجتُ ذلك الكتاب الملّون بالأصفر الفاقع. ولما هممتُ بقراءته، نادتني المرأة ذات الرضيع: "أرجوك، أرجوك يا سيدي، ساعدني". نطقت كلماتها بصوتٍ خفيض ولكنّه مُرتبك كأنّها خشِيت أن تلفت انتباه المسافرين، مما حداني إلى إغلاق الكتاب الّذي بين يدي، وإلى تصويب عيني إليها لمعرفة ما تريد. كانت تشير بأناملها المرتعشة إلى الطفل، وعيناها تومضان بالمدامع، وتقول لي: "انظر إليه، انظر إنّه لا يتنفس، لا يتحرك." نهضت عن الكرسي بسرعة، ووقفتُ بجانبها طالبًا منها أن تناولني إيّاه، وحين فعلت، أمسكته برفق ثمّ وضعته على راحتي يديّ، وبدأت أتحسّس نبضات قلبه، وأتفحص يده حتّى تبيّن لي فعلاً أنّه فارق الحياة. كان وجه الرضيع قاتمًا أشبه بنجمٍ تلاشى بريقه، وكان جسده على وشك أن يبرد.
                  صرخت بأعلى صوتي إلى السائق، وقلت له: "أوقف الحافلة في الحال، لدينا حالة طارئة، بين ذراعي طفل فقد تنفسه نهائيًا".
                  نظر السائق إليّ مندهشًا من خلال المرآة المقعرة الكبيرة الداخلية، وترجّل فورًا إلى جانب الطريق. استيقظ جميع النيّام على اثر صوتي، وشرعوا في الالتفات إليّ وهم يرونني حاملاً الطفل. سارعتُ خُطاي صوب السائق، والمرأة من ورائي تتبعني مثل ظلّي وهي تجهش بالبكاء.
                  أدرك السائق حين تلمّس الطفل أنّه قد غاب عن الوجود، فقال لي: "يلوح لي أن الرضيع قد مات حقًا، فلا أرى دلالة واحدة على أنّه حيّ يرزق، ولكن يجب علينا أولاً أن نتصل بالإسعاف، فهم أعلم منا بهذه المواقف." ما إن سمعت المرأة كلمة "مات" حتّى مالت بجسدها إلى إحدى الكراسي، فسقطت مغشية عليها.
                  كان موقفًا صعبًا جدًا، وحزينًا للغاية، فليس بوسع أحد منّا أن يفعل شيئًا حيال هذه الصدمة المفاجئة. في أثناء صمتنا جميعًا، خطرت ببالي فكرة أن أعمل التنفس الاصطناعي للطفل، فعلى ما أذكر حين كنتُ صغيرًا أنّي تدربتُ على الإسعافات الأولية في فريق الكشافة. بمقدوري الآن أن أجترح معجزة إنسانية، وأن أنقذ حياة هذا الملاك الصغير، فليست لديّ طاقة ولا لديّ وقت في انتظار رجال الإسعاف، فنحن في مكان قصي عن المراكز الصحية والمستشفيات، والأمر يتطلب بعض الشجاعة والإقدام.
                  أنزلتُ الطفل على أرضية الحافلة، ثمّ أرجعت رأسه إلى الوراء، ومنحته نفختان من أنفاسي في فمه، وحين قمت بذلك، تراءى لي أن صدره انتفخ كالبالون، فضغطتُ ثلاثين مرة بالإصبعين تحت جهة التجويف الصدري للطفل، فلم يظهر لي شيئًا، شعرتُ أنّنا فقدناه نهائيًا، فأعدتُ الكرّة مثنى وثلاث ورباع حتّى طفق يخرج من فمه سائل أبيض.

                  تكملة ..
                  التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 03-10-2018, 08:04.

                  تعليق

                  • سامي الشريم
                    أديب وكاتب
                    • 11-12-2015
                    • 107

                    #10

                    استبشرت خيرًا، وازداد الأمل في قلبي حين رأيت تدفق السائل وخروج الرغوة من فم الرضيع، فعدتُ مرّة أخرى أفعل ذات الشيء حتّى حدثت المعجزة. بدأ الرضيع يفتح عينيه بتؤده كأنما شمس طلعت بعد ليلٍ كئيب، ثمّ شرع في البكاء والصراخ حتّى أنّي بشكلٍ عفوي انخرطت معه في البكاء أيضًا من فرط الفرح على نجاته.
                    صفق لي الركّاب جميعًا، واحتضنني بعضهم، وصافحني الكثير منهم، ثمّ بعد ذلك، تقدّم نحوي السائق، وربّت على كتفي ثلاث مرات، وقال لي: "أحسنت، هذا عمل بطولي" فما كان منّي إلا أن أردّ عليه بإبتسامة ضاحكة، فمثل هذه المواقف الإنسانية تفرّ منّا الكلمات، ونكتفي بعرض أعمق مشاعرنا على ملامحنا. أمّا أم الطفل فلا زالت غائبة في ملكوت السموات، ولا تدري عن عودة الروح إلى جسد طفلها. لقد حاولوا إيقاظها، سكبوا عليها الماء، هزّوها كما تهزّ النخلة، ولكن لم يجدِ معها ذلك فتيلاً. جاء الرجل المكسيكي من أقصى الحافلة، وقال لنا: "معي نصف حبّة بصل، سأجعلها تصحو من نومها الآن، لا تقلقوا". ضحكنا جميعًا من ردّة فعله المتأخرة، ولامه بعض المسافرين على ذلك، لقد كان من المفترض أن يفطن لهذه الفكرة حين سقطت المرأة في ذلك الوقت.
                    رفع المكسيكي رقبة المرأة، وقرّب من أنفها نصف حبة البصلة. كنّا كلّنا نترقب ما سيحدث عن كثب، ننتظر موعد ميلادها الجديد، ونشاهد كيف ستكون ردة فعلها حين تعلم بأنّ طفلها عاد إلى الحياة. مرت الدقيقة تلو الأخرى، ولم نر أنّها استجابت لمفعول حبّة الخضار هذه، ولكن سرعان ما رأيناها تفتح جفنيها المثقلين.
                    أوّل ما أفاقت من الغيبوبة، تلفتت حولها بذعر، وصاحت منادية على وليدها: "باهر، باهر"، وحين وقع بصرها على الرضيع الّذي بين يدي، وثبت من على الكرسي، ومشت بضع خطوات فاردة ذراعيها نحوه متسائلة: "أمات حقًا؟ أتلاشى هذا النور الإلهي من وجهه إلى الأبد؟." فقلت لها مبتسمًا: "لا تبكي، هيّا، احمليه بين ذراعيك" نظرت إليّ بدهشة، ثم صوبت عينيها نحو الطفل، فتقدّمت إليه مندفعة كالفرس الجامحة، وأمسكت به، ثمّ تأملت جسده الضئيل وملامحه، ولاح لها أنّه يُحرّك رأسه وقدميه، فضحكت بهدوء، وبدا على سحنتها البشاشة والفرح، ثمّ قالت لنا: "إنّه بخير" فاحتضنته بشدّة، ولثمت وجنته كثيرًا، ونحن كُنّا نتفرج صامتين على هذا المشهد الإنساني الجميل الذي يحدث بين الأم ورضيعها.
                    لم تسألنا، كيف عادت إليه الروح؟ أو ماذا حصل أثناء غياب وعيها؟ لقد اكتفت بأخذ الطفل إلى مقعدها، وجلست هناك في صمت. رجع كلّ منّا إلى حيث كان، وبدأ السائق يسير بنا إلى وجهتنا المقصودة "أوكلاهوما". تذكرتُ أنّ المرأة نادت الطفل بإسم"باهر" فهذا اسم عربي على ما أظن، وهي امرأة يلوح لي إمّا أنّها أمريكية من هذا البلد أو أوروبية مهاجرة، لا بدّ أن ثمّة حكاية مشوقة تحتاج أذني إلى سماعها، لا غرو أنّ هنالك رائحة شرقية في الأمر، فاقتربت منها، وسألتها: "هل زوجك عربي؟"
                    نظرت إليّ وقالت: "نعم، إنّه مغربي، ولكننا انفصلنا، ولأكون صريحة وواضحة معك، لقد خذلني، هجرني بطريقة قذرة جدًا لايرتكبها إلا الأوباش، لقد ظننتُ أن ارتباطنا كان عن حبّ، لذلك تركتُ كلّ شيء من أجله، وتعلّقت به، ولكن اتّضح لي أنّه كان زواجًا عن مصلحة لم أفطن لها إلا بعد أن مُنحت له الجنسية الأمريكية، وبعد أن بات يعاملني مُعاملة غير لائقة بي.
                    لقد أضحى وغدًا حقيرًا لا يعرف شيئًا عن معنى الحُبّ، لقد كان يخدعني طوال خمس سنوات، يوهمني بالحياة الوردية، وهو كان يتطلّع إلى شيءٍ آخر، واضعًا خُطَّته وراسمًا منهجه لكي ينال البطاقة الخضراء التي كانت تدور في فلك أحلامه مُذ سنين. انظر إلى فِعلته الكريهة! حين طلبت منه الانفصال والافتراق، لم يبدِ أيّ اعتراض على ذلك، بل وافقني فورًا على القرار، هكذا كلمح البصر، تخلّى عني!.
                    ذهب كلٌّ منا في دربه، هو راح إلى ولاية فلوريدا، وأنا جئت إلى تكساس مع طفلي، الذي لم يحفل والده بشأنه، بل رماه إليّ، وقال لي: اذهبي إلى الجحيم أنت وهو!. وفدتُ إلى هنا خائبة، والأسى يمزّق فؤادي، ألعن كلّ الرجال في هذا العالم، لقد كان كلّ يوم يمرّ بعد الطلاق أشبه بعامٍ من الجوع والفقر، لم أحسّ أبدًا بأنّي أهون مخلوق على وجه الأرض إلا بعد ذلك الحدث العظيم الذي هزّ كياني وجرح كرامتي، لقد كنت ولا زلت ذليلة، مُتشردة، تائهة في هذه الدُنيا. إن مبلغ همي الآن أن يعيش هذا الطفل المسكين بسلام وطمأنينة، وألاّ يلاقي في أيّ مرحلة من مراحل عمره العذاب والحرمان مثل أمّه التعيسة."
                    كانت الفتاة الشابة تسترق السمع إلينا دون أن تقحم نفسها -ولو لمرة واحدة- في وسط أحاديثنا، وأمّا "أمّ باهر" فكانت تتكلّم معي بصدق لم أعهد مثله في حياتي كما لو أنّي من أحدِ المقربين منها. إنّ طبع المرء يميل عادةً إلى الجهر بأسراره وأتراحه للغُرباء الذين لن يلتقي بهم سوى مرّة في حياته كأنّهم فُوط يجفّف بهم مدامعه، كأنّهم حُفر يصادفها في طريقه فيطمر فيها خبايا قلبه الثمينة.
                    رجعت أمّ باهر مرّة أخرى إلى فتح صنبور فؤادها لي، هذا القلب المسجور بالحكايا والأخبار الغريبة. قالت لي: "إنّي ذاهبة إلى أوكلاهوما، سمعتُ أنّ ثمّة ملجأ مُناسب يأويني أنا وطفلي، يحميني من شرور الخلق، وينقذني من مكاره الزمان لفترة قصيرة حتّى أسترد عافيتي النفسية. أنا يا سيدي، امرأة وحيدة، فقدتُ أمي وأبي في حادث مؤلم عندما كنتُ في الثامنة من عُمري، وجاء عمّي وأخذني إلى منزله، فقد كان وحيدًا قبل أن يضمني إلى جواره، وكان منصرفًا عن الزواج، عازفًا عن الدنيا، ليس عن تقوى وورع كالقديسين أو عن تفرغ للعلم والمعرفة كالعباقرة وبعض المفكرين، بل بعد صدمة عاطفية شديدة ألمّت به دفعته إلى الانزواء عن العالم، وإلى التقوقع على ذاته.
                    عشتُ تحت رعايته وصيانته وحنانه الدافئ في شقة صغيرة مستأجرة إلى أن وصلت إلى السنة الثانية من الجامعة حيث حدثت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها، لقد أُصِيب بسرطان في المعدة، فلم يمضِ زمن يسير حتّى فارق الوجود، مات وتركني -هو الآخر- وحيدة!
                    تركتُ مقاعد الدراسة رغمًا عني لسنة كاملة، أجوب الشوارع، وأتجول هنا وهناك، وأنام على الأرصفة إلى أن جاءني أحد زُملاء الجامعة ومدّ لي يد العون في الحصول على وظيفة في مطعم، وفي إيجاد مسكن موائم لي. وقفت على قدمي من جديد، وشرعتُ في تكوين نفسي، ورجعت إلى إكمال تعليمي حتّى تخرجت من الجامعة، بعد ذلك اشتغلت مُحاسبة في بنك، وتعرفتُ من خلال العمل على المغربي "أسعد" الذي شغفني حُبًّا في أوّل لقاء جمع بيننا عند مكتب المدير. إنّه أسعد الّذي هجرتُ بسببه مسكني ومعاشي، ورحت أجرّ حقائبي وراءه إلى ولاية أخرى من أجل أن أتلذّذ بالحُبّ بالقرب منه، إنّه أسعد الّذي أذاقني أصناف من الخيبات والجِراح. تخيّل يا سيدي أنّي ضحيتُ بكلّ شيء من أجلِ شخصٍ حقير، ما أشقاني!."

                    تكملة ..
                    التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 17-10-2018, 01:46.

                    تعليق

                    • سامي الشريم
                      أديب وكاتب
                      • 11-12-2015
                      • 107

                      #11

                      تلكأتُ أم باهر عن دفق الكلمات من حنجرتها التي كما لو أنّها كانت مزرابًا قد جفّ منه الماء. لقد وجدت نفسها تتنفس بصعوبة بالغة، وراحت بعد ذلك تبكي بحرقة على خيبة أملها التي لا تُنسى.

                      لم أستطع أن أُخفي امتعاضي من رعونة تصرف زوجها السابق معها، ومن جفاف قلبه وقساوته، ومن خداعه ومكره حين استغلها طوال تلك السنون لكي ينال الجنسية الأمريكية ثمّ أتلف مهجتها عندما دفعها خارجًا عن دائرة حياته بسهولة متناهية كأنها لم تكن تعني له شيئًا على الإطلاق.
                      أيعقل أن ينحطّ الإنسان إلى هذا المستوى من الدناءة والخسة؟! ربّما لأنّني لم أعش مع الأوغاد والأوباش مُنذ صغري، ولم يكن لي أصدقاء فقراء أو محرومين لذلك لم أحظى بسماعِ قصص مُفجعة شبيهة بهذه، بحكايا تخبرني كم أنّ في هذه الدُنيا بلايا تعصف بقلوب البشر، كم أنّ الإنسانية في تقهقر وتراجع إلى ظلامية العصور الوسطى.
                      مدّت تلك الفتاة الشابة يدها نحو كتف أم باهر ثم جذبتها إليها وتركتها تُكمل ما تبقى من مراسيم الحُزن على صدرها، وظلّت ترمقني بنظرات بريئة مُفعمة بالدفء العاطفي الّذي يشبه كثيرًا قلوب الأمهات.
                      صرفت عنها النظر، ورجعتُ إلى مقعدي، وتفاجأت بأنّ الرجل المكسيكي لديه قصّة يبتغي أن يرويها لي أيضًا.
                      قال لي: "أتعلم يا سيدي، أنّ حكاية هذه المرأة لا تعدّ شيئًا بالنسبة لحكايتي المأساوية، إنّي أسوأ الرجال حظًا في هذا العالم، لقد سُجِنت ظُلمًا في جريرة قتل لا ناقة لي فيها ولا جمل. لقد رموني مثل بقايا العظام في غياهب السجن زُهاء عشر سنوات، أيّ والله، عشر سنوات وقلبي يتأجّج ويضطرم، ويطالبني بالانتقام من أعدائي ليل نهار عند إطلاق سراحي من المكان. لم أهنأ لحظة واحدة، لا في النوم، ولا في الأكل، ولا حتّى بالتلّذذ بخيوط الشمس في بواكير الصباح، أو الحديث مع أحد في ساحة السجن. لم أكوّن صداقات، كُنت أجلس بمفردي وأكل وحيدًا طوال الوقت، أردت أن أكون غريب الأطوار إزاء الجميع، أردت ألّا أستمع إلى نصائح التسامح أو الغفران من السجناء لكي لا تنطفئ جذوة الثأر وجمرة الاقتصاص من الّذين أجرموا بحقي. "
                      صمت للحظات، ثمّ أردف قائلاً: "وحين خرجتُ من المحبِس بعد أن انقضت المدّة المطلوبة، هرعتُ إلى منازلِ هؤلاء الأوغاد جريًا لكي أثأر لنفسي، ولكن الفاجعة التي كان لها وقع الصاعقة على رأسي، أنّي لم أجِد أحدًا منهم، تلاشوا من على صفحة الأرض كما تتلاشى السُحب في قُبّة السماء، بعضهم هجر بيته، وارتحل خارج البلاد إلى بلدٍ مجهول بعد أن زُجّ بي في السجن، وبعضهم قُتِل على يد عصابة "شارع 18" اللعينة.
                      بهذه الأخبار المؤسفة، دفنوا انتقامي بدمٍ بارد، هكذا قتلوني حيًا، وألقوا بي في زنزانة القهر والظُلم للمرّة الثانية. لقد أحسست وقتها يا سيدي بخيبةٍ عظيمة كادت أن تهشّم أضلعي، وشعرتُ بألم يجتاحني كالموج العنيف من وجعِ تلك المصيبة التي نزلت بي. لم أدري ما أصنع في ذلك الحين، كانت الأفكار تضرب بعضها بعضًا في داخل جُمجمتي، ولكنها مشوّهة كما لو أنّها أجنّة فاسدة. أتذكّر أنّي سقطت كحصان نافق فوق عُشب على مرأى الجميع. بقيتُ طريحًا هناك لساعات، أحاول فيها أن أمسح غبار هذا الحلم الفظيع عن ذاكرتي، وأن أنسى لو شيئًا طفيفًا مما جرى لي، ولكن هيهات، فمثل هذه الأشياء المؤلمة والموجعة لا تضمحل بين عشية وضحاها، باتت مطبوعة في ثنايا الذاكرة، وجرحها لن يلتئم إلا بعد سنوات طوال. وو"
                      لم يستطع الرجل المكسيكي أن يسهب في الكلام، فقد توقفنا عند محطة بجانب الطريق، وينبغي لنا أن نستريح فيها حوالي رُبعِ ساعةٍ ثمّ نعود إلى الحافلة، هذا ما قاله لنا السائق. نهضنا جميعًا من مقاعدنا، وانطلقنا مندفعين إلى الخارج، مِنّا من راح يبتاع بعض الأشياء من المتجر الموجود في قلب المحطة، ومنّا من ذهب ليدخن السجائر في إحدى الأركان. كانت الفتاة الشابة وحدها، تمضغ لفافة التبغ بشراهة، وترمق بعينها الجبال الخضراء في الجهة الأخرى. رحتُ إليها، حاملاً بين أصابعي "ورقة الجحيم" التي كان يسميها والدي، والّذي كان يقولها لي عندما شرعت في التدخين في عهد المراهقة.
                      التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 27-10-2018, 09:32.

                      تعليق

                      • سامي الشريم
                        أديب وكاتب
                        • 11-12-2015
                        • 107

                        #12

                        أحسّت الفتاة بخطواتي حين دنوت منها، فالتفتت نحوي مُستغربة، ولكنها سرعان ما قطبت جبينها، وهذا ما أثار حفيظتي، كما لو أنّها تقول لي: "يا صاح! هذا ليس وقتك، أو أنت غير مُرحّب بك".
                        ندمتُ على مجيء إليها، ووددتُ لو أنّي أعودَ من حيثُ أَتيت، ولكنّي تورّطتُ فعلاً. اللّعنة على قدميّ اللتان قادتاني إلى رحاب صمتها، واللّعنة على عقلي الّذي أخرج فكرة الاقتراب منها، واللعنة أيضًا على جسارتي المُبالغ فيها. عليّ الآن أن أخرج من هذا المأزق المُحرج بطريقة ذكية، وإلا سيُفتضح أمري، وستعرف بأنّي مُعجب بها، وما أتيت إلّا لرغبتي في الحديث معها.
                        قلت لها: "معذرةً، لم أقصِد أن أضايقك، ولكني رأيتكِ وحيدة، وتساءلت مع نفسي ربّما أنّكِ تودّين لو أنّ أحدًا ما يشاطرك استنشاق السجائر في هذا المكان المملوء بصمت الثرى. إن أردتِ أن أرجع من حيث جئت، سأفعل في الحال."
                        انقلب بسرعة ذلك الكُلوح في سحنتها إلى فرح وانشراح، فقالت لي: "لا أمانع أبدًا، حقًا، أحسُّ بالضجر، وأريد أن أتحدّث إلى أحدهم."
                        إمّا أنّها غريبة الأطوار، وإمّا أنّها لا تحبّ أن تجرح وجدان الآخرين، فلا تفسير لذلك العبوس الّذي رأيته على ملامحها قبل قليل سوى هذين الأمرين. سكوت صقيعي جرى بيننا، لا أنا الّذي شرعت في الكلام، ولا هي التي أرادت أن تفتح فاها بكلمة. ظللنا على هذا المنوال زُهاء خمس دقائق. خمس دقائق ذهبت أدراج الهواء، بلا جدوى، ولم يبق سوى عشر دقائق لكي نرجع إلى الحافلة. لا أدري حقًا ما بي!، لماذا خرست فجأة، وأنا المفوّه، ابن الكلام الارتجالي، وكانت الكلمات طوعًا لأمري، وكانت تنطلق من لساني بسهولة، أين هي الآن؟!
                        لم ينتابني مثل هذا الوجوم المعقّد من قبل. حتّى أنّي فقدتُ قدرتي على تذكّر تلك النصائح عن التحدّث مع الغرباء التي كنت أحفظها عن ظهر قلب قبل أن أنخرط في مجال الأعمال والتجارة .
                        ولكن قفز إلى ذهني ذلك السؤال الّذي لا بدّ أن يكون حاضرًا في مثل هذه المواقف الضبابية، أهي فتاة فوق الكلمات، أم أنّي أعيش فقط لحظة صمت استثنائية؟
                        بينما أنا أفتّش عن الإجابة، بادرتني هي بالكلام: " أبهرني فعلك الشجاع في الحافلة عندما أنقذت الطفل من الموت، وحين رسمت الابتسامة على وجه تلك المرأة المكلومة، لقد كان شيئًا جميلاً منك."
                        مع أنّي لا أطيق سماع كلمات الثناء والتقريظ من أحد، فهذا العمل أراه واجبًا إنسانيًا قبل كلّ شيء، ولكني قبلتهُ منها،ورضيتُ بالمديح من ثغرها، كأنّما وضعت إكليل غار على جبيني، وقبّلتني على فمي.
                        قلت لها: "شُكرًا لكِ، ولكن هذا ما أستطيع أن أمنحه للإنسان"
                        قالت لي: "أتدري أنّي تذكرتُ موقفًا مشابهًا جرى أمام ناظري لرجل كان يقف على حافة سطح إحدى ناطحات السحاب في نيويورك، كان ينوي أن يقذف بنفسه من ذلك العلو، والنّاس في الأسفل محتشدين، ينظرون إليه بتعجب، لا أحد منهم فكّر أن يذهب إلى هناك لينقذه، كلّهم كانوا متعطشين أن يروا لحظة انفجار رأسه في الشارع، وتطاير الدم من جسده."
                        أشعلت سيجارة أخرى، ثمّ أردفت قائلة: "كانت مُعظم الجماهير المكتظة في الشارع من السيّاح الأجانب، وكان بعضًا منهم يمسّك في يده كاميرا فيديو، يوثّق انحطاطه الإنساني وتخلّفه، وآخرون كانوا يرنون إلى الرجل في الأعلى من خلال مناظير كما لو أنّهم يشاهدون ظاهرة كونية، والّذي يغيظ أكثر من هذا كلّه هو أنّ ثمّة طُغمة من الغارقين في وحل السفالة، كانوا يتبادلون الضحك والفكاهة غير مبالين بأنّ هناك من سيموت في أيّ لحظة.
                        جاء رجال الأطفاء إلى المكان، وأبعدونا مسافة عشر خطوات إلى الوراء لكي يتفرغوا لعملهم دون مضايقة من أحد. دخل الرجال إلى المبنى ثم صعدوا إلى ذلك السطح الّذي يتواجد فيه ذلك الإنسان المحطّم، وما هي إلا ربع ساعة حتّى سحبوه من تلابيب قميصه، وأنزلوه إلى الأسفل، فشرعت صيحاتنا تتعالى ودوّى تصفيقنا في جميع أرجاء الشارع. كنّا مغتبطين على إنقاذ روح ذلك المرء من الهلاك الوشيك."
                        قطع أحاديثنا بوق الحافلة الذي كان يضربه أكثر من مرّة السائق، ليخبرنا أن وقت الاستراحة انتهى، وأنّه يجب علينا أن نعود إلى مقاعدنا.
                        قالت الفتاة: "سأذهب إلى السوبر ماركت، وسأبتاع بعض الأشياء بسرعة، هل ترافقني؟"
                        قلت لها: "بكلّ سرور، حتى أنا أريد أن أشتري بعض الحوائج التي تنقصني."
                        دخلنا سويًا إلى السوبر ماركت متجاهلين نداءات السائق المتكررة، وراح كلانا ناحية الثلاجات، ليأخذ ما يشتهي، فأمضينا هناك قرابة الدقيقتين، وبعد أن فرغنا، خرجنا، فصُعقنا عندما لم نر الحافلة في ساحة المحطة.
                        التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 01-12-2018, 16:45.

                        تعليق

                        • سامي الشريم
                          أديب وكاتب
                          • 11-12-2015
                          • 107

                          #13
                          التفتت إليّ الفتاة وفي ملامحها إرتباك فاضح، ثمّ سألتني بصوتٍ يملؤه الضياع: " ألم يتفقّد السائق المسافرين قبل أن يغادر المحطة؟ والسؤال الأغرب، كيف لم ينتبه الرُكّاب لغيابنا؟ على الأقل تلك المرأة التي بجواري التي قمت أنت بإنقاذ روح طفلها! لم تشعر بأنّ ثمّة مقعد فارغ بجانبها، وحتّى ذلك الرجل الّذي يجلس بقربك، لم يلحظ تخلُّفك عن الحضور! أكاد أُجنّ!"
                          قلت لها: " صدقيني، ليست لديّ أيّ إجابة، لا أفتأ مصعوقًا، لا أعلم حقًّا كيف حدث لنا كلّ هذا بتلك السرعة العجيبة، كأنّه أشبه بِحكاية درامية، أو كابوس لعين."
                          تأوّهت الفتاة من أعماق قلبها، وقالت لي بغضب: "أيعقل ما جرى لنا قبل قليل؟ لقد رمونا في الخلاء مثل أبناء سِفاح! أتدري ماذا، سوف نقاضي أنا وأنت شركة "Greyhound" وسنكسب من وراء الشكوى المرفوعة ضدهم مالاً وفيرًا، إنّ مثل هذه الفُرص التي تطرق بابك لمرة واحدة في العُمر، لا بدّ أن تُستغل بدهاء، وأن تنتفع منها، وإن لم تفعل، فمن الأجدى أن تكون راضيًا أشدّ الرضا إن نعتوك بالأبله إلى آخر حياتك. لكن دعنا من المحاكم الآن، ولنفكِّر سويًّا بحلِّ هذه المُشكلة، ماذا علينا أن نفعل حيال ذلك؟ هل نظلّ في المحطة؟ فلعلّهم يعودون أدراجهم حينما يدركون أنّنا لم نصعد إلى الحافلة؟"
                          أشرت إليها أن نبقى في المحطة زُهاء نصف ساعة، وإذا لم نر أدنى أمل في عودتهم إلينا، سنضطر حينها أن نركب أيّ سيِّارة ذاهبة إلى أوكلاهوما. لم تعترض – ولو بحرفٍ واحد- على ما قلته لها، بل وافقتني بكلِّ سرور، ثمّ طلبت مني أن نجلِس في مكاننا الأوّل الّذي كُنّا نُدخِّن فيه السجائر. في ذلك التوقيت، شعرتُ بأنّ الرب قد حكم عليّ بالإندماج في عوالم تلك الفتاة حسنة الطلعة، وبالتعمُّق أكثر في حياتها الخاصة.


                          ذهبنا إلى هناك، وراح كُلّ منّا يُخرِج سيجارته من داخل جيبه، ويبدأ في إشعالها. لحُسن الحظّ أنّ هذه المرّة، لم أُصب بداء الخرس، طفقت أحادثها عن نفسي، وعن عيشتي في أمريكا، وعن مهنتي، لم أترك شيئا وراء الستار، تعرِّيت أمامها تمامًا، وبحتُ لها بما تريد أن تعرفه عني، وأمّا هي، فكانت تطرح عليّ أصنافًا من الأسئلة، ليس لغرض إطفاء جذوة الفضول عندها، وإنّما كان سردي عن حياتي مشوقًا جِدًا لها، مِمّا جعلها تتلذَّذ بالاستماع إليّ، وبالتفاعل معي كما لو أنّي حكواتي بارع، يعرف كيف يسيطر على أذهان النّاس، ويدفعهم بغير شعورٍ منهم إلى اجتثاث السؤال من عمق التفاصيل.


                          مضى أكثر من عشرة دقائق، وأنا أتكلّم دون انقطاع مثل خيلٍ جامح، وحين فرغتُ من حديثي، صمتنا لبرهة من الزمن، مثل عصفورين أنهكهما التغريد.
                          أقرُّ بعجزي الجذري، وبقلّة شجاعتي، عن عدم سؤالها عن أمورها الشخصية. كُنتُ أريدها أن تبدأ هي بذلك، أن تُشرع في تقديم نفسها على الأقل، حتّى الآن، لا أدري ما اسمها، وما هي قِصة ضياعها في الحياة! فمتى يا ترى عساني أتمكّن من التغلُّب على ضعفي إزاء عينيها الجميلتين؟


                          تكملة

                          تعليق

                          • سامي الشريم
                            أديب وكاتب
                            • 11-12-2015
                            • 107

                            #14





                            أهذا يُعقل؟ أأستطيع أن أُنقِذ إنسان من الموت، ولا أقدر أن أسأل امرأة عما حداها إلى عالم الشقاء والبؤس؟!. يحتاج الأمر مِني إلى وثبة جريئة لكي أتخطّى هذا الحاجز المسمّى "الخوف". استعدتُ إلى ذاكرتي كلمات الطبيب الّذي أوصاني بفعل هذا من أجل التملُّص من اكتئابي: "قدّم للبشر كلّ ما تستطيع، وسوف ترى كيف تنجو من نيران الحُزن الخبيث".
                            رجعت إليّ ثقتي بشجاعتي تدريجيًا، فتجرأت وسألتها: "إلى الآن، لا أدري كيف أصبحت على ما أنتِ عليه من تشرّد وتيه، هل يمكنك أن تخبريني عن حكايتك، دون الخوض في تفاصيلها؟."
                            تأوهت، وكادت أن تبكي، ظلّت واجمة، ترنو إلى نجوم السماء وفي عينيها مدامع الخلق أجمعين، كأنها تقول لي بهذا السكوت: "أريد أن أنسى الّذي مضى، الّذي كان باعث كل شقائي الآن.. ليتك لم تبادر بهكذا سؤال! ."
                            اعتذرتُ لها على تطفلي، وعلى إقلاق سكينتها، فقالت لي: "لا تعتذر، ولا ينبغي لك أن تفعل ذلك، وإنّما الحياة هي من يجب عليها أن تعتذر لنا."
                            ثمّ أردفت قائلة: "سأحكي لك عن معاناتي، لقد فتحتُ عينيّ منذ باكورة حياتي في دار الأيتام، لا أعرف من أبي ولا أمي، إلى أن تجاوزت الخامسة من عمري، وبعدها تبناني رجل وامرأة من ولاية كاليفورنيا، وانتقلت معهما للعيش هناك، فظننت في دخيلة نفسي أنّي ذاهبة إلى الجنّة، ولكن يا لخيبة الأمل!، لم تمض سوى سنوات قليلة، حتّى تطلّق الزوجان وافترقا فراقًا مُرًّا بسبب مشكلة، لا زلتُ أجهلها حتّى هذه الساعة، وبعد ذلك، رحتُ أتخبّط كالبوساء المفلسين في الطرقات، لا مأوى يأويني غير الأماكن القذرة، والأرصفة الباردة. بعد ذلك، امتهنت التسول لفترة من الزمن، وكان المال الّذي يُعطيني إيّاه النّاس، لم يكن يُشبِع حاجتي قطّ، فصرتُ أضطر أحيانًا إلى أن أوافق على عروض الشهوانيين، المطيعين لغرائزهم الحيوانية، أنت تفهم قصدي، صحيح؟ لأنّهم كان يدفعون لي ثلاثمائة دولار وما فوق، من أجل أن أمارس معهم الجنس فقط. تخيّل حجم الإهانة الكبيرة للإنسانية، إن مددت يدي لم يمنحوني سوى النقود المعدنية، وإن عرضت جسدي لهم، أغرقوني بالورق الأخضر، إنّه أكبر دليل على أن البشر والقردة أبناء عمومة. أليس كذلك؟. بعدها توقفت عن ارتكاب مثل هذه الموبقات رغمّا أني في شظف وفاقة، ولن يلومني أحد على أفعالي تلك. رحتُ إلى دار الأيتام في ولاية ميسيسيبي لأعرف من هما أبوي الحقيقين، وحين وصلت إلى هناك، تحققتُ من كل شيء يخصّ والدي من الألف إلى الياء، واكتشفت أن أبي من بلاد الشرق، ثري جِدًا، لا يني يقطن في ولاية تكساس، لكن في أيّ مدينة لا أدري، وأن أمي أمريكية، تزوجت أبي لأجل المال، وحين قبضت منه مبالغ طائلة، خلعته من حياتها كما تُخلع الأضراس، ثمّ هربت مع حبيبها إلى كندا، وقبل أن تفعل ذلك، وضعتني على باب كنيسة مع أوراقي ميلادي، وورقة مكتوب فيها بخطّ يدها اعتراف عما اجترحته من خطيئة بحقّي، وبحق أبي، وحين وجدني الكاهن قام بإرسالي إلى دار الأيتام."

                            حكايتها تشبه إلى حدٍّ كبير ما جرى لي بالضبط قبل أكثر من عشرين سنة، قبل أن أقع في هوى زوجتي السابقة فوليتا. في أوّل عهد شبابي، كنتُ قد ورثتُ مالا ضخمًا، وبيوت ومحلات تجارية، بعد وفاة أبي، فتزوجتُ شابة أمريكية لمدة سنة واحدة، وأنجبت لي طفلة، ولكنها سرقتني، ونهبت جُلّ خيراتي، واختطفت ابنتي بمباركة المحكمة، وفرّت مع عشيقها إلى كندا. قلت لنفسي كُلّ ذلك.

                            سألتها بإنتباه: "هل تعرفين ما اسم والدك؟ "
                            أجابتني: "بلى، أعرف اسمه، إنّه "سمير".
                            شعرتُ كما لو أن صاعقة ضربت رأسي بقوّة، فنظرت إليها بدهشة بالغة، وفي وجهي علامات الذُهُول. سألتها مرة أخرى بحماس مُفرط: "وما اسمك؟"
                            أجابت: "سارة كما هو مكتوب في السجلات."
                            قلت لها: " أعرف اسم والدتك التي هاجرت إلى كندا، اسمها "أماندا" وأعرف من هو والدك أيضًا، وأين يقيم الآن."
                            قالت لي بإندهاش وتعجُّب: "حقّا، مكان أبي !! تعرف، تعرف، تعرف أين مستقره في تكساس! ,كيف علمت اسم أمي؟ نعم صحيح هذا هو اسمها، هل تربطك علاقة بهما؟ هل أنت صديق لأبي؟ أخبرني أرجوك، لقد أرسلك الرب لي مثل خشبة إنقاذ تنتشلني من هذا الغرق."
                            قلت لها بسعادة عظيمة: "على سعة الأرض بطولها وعرضها إلا أنّها ضئيلة الحجم جدًا في مثل هذه الظروف.. لقد قرّبتنا الدُنيا إلى بعضنا بعضًا في هذا المكان.. أنا والدك سمير، الذي تبحثين عنه."
                            ارتبكت وتلعثمت، ولم تعد تدري ما تقول لي، كأنّها صدمة لذيذة. ولكنها سرعان ما ارتمت في حضني، وضمتني بشدّة، وأخذت تصيح وتبكي من فرط الفرح.


                            تمت..

                            تعليق

                            • عائده محمد نادر
                              عضو الملتقى
                              • 18-10-2008
                              • 12843

                              #15
                              آه ياسامي
                              استمتعت بسردك وطريقة الحكي السريعة
                              قلتها لك سابقا وسأقولها الآن
                              أنت تكتب الرواية بطريقة جميلة وتمتلك كل الأدوات فقط تحتاج التأني قليلا في النهايات
                              وجدتك تعجلت النهاية قليلا وهذه رؤيتي ولست مزما بها طبعا
                              قصة أعطتني الفرصة أن أفتح راسي المجنون ليتخيل كل حدث
                              ولو تمنين لو أنك أضفت بعض الوصف للمكان بشكل أكثر دقة لكني استمتعت فعلا
                              النهاية حيرتني نها لم تشف غليلي وربما كانت نمطية جدا
                              ليتك تفكر بأن تلغي ذاك الرابط بينهما وتتركهما غريبين التقيا دون أن تربطهما برابط الدم
                              سامي
                              لانحتاج لرابط دم كي تربطنا علاقة مع آخر خاصة ونحن في طريق واحد جد حادثا أكثر قوة كي تعطي تأخرهما على الحافلة تلك القدرة التي جعلتهما يتخلفان عن الحافلة كأن تكون العناية الالهية هي التي قدرت لهذا وانقذتهما من حادث مؤسف أصاب حافلتهما والطفل الذي انقذه مات بحضن امه والمكسيكي يضع يده على صدره يحتضن قلبه بيده وكانه يريد أن يعيده لداخل قفصه الصدري، وأما السائق فهو بحالة هستيريا يدور بين الركاب .. القصد أن تعطي الحادث ومضة نهاية تستحق أن تترك الأثر في نفس القاريء.
                              المهم عندي أن تعود لومضة النهاية وتعمل عليها كي تبهرنا وبظني أنت تستطيع وجدا
                              أشكرك جدا لأنك هنا ومعذرة على تدخلي لكني أحب الاعمال الجيدة ولا أستطيع أن أسكت لو وجدت بدا من التدخل
                              محبتي والورد
                              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                              تعليق

                              يعمل...
                              X