الخال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    الخال



    الخال


    لم يتبقى على قيد الحياة من كبار السن في العائلة سوى الخال .
    مدَّ ألله في عمره فصار الكبير ، كبير العائلة ، الأب الروحي ، العم والخال والجد .
    كان الأبناء والبنات والأحفاد يتسابقون لإرضائه ويقبلون يده في حِلّهم وإرتحالهم .
    ذات يوم ، وإذ بنخوة الشمس قد تقهقرت ولبست ثوب الكسوف .
    نظر حوله ، المسبحة التي كان يتباهى " ويتفشخر " بها أمام الخلق ، ها هي على وشك أن ينقطع
    حبلها السري الذي يجمع حبيباتها فيتفرق أفراد البيت الواحد كلٌّ في طريق .
    الأخوة والأخوات متخاصمون إلى حد الإفلاس والعوَز ونفاد الإتفاق في أبسط الأمور ؟
    طبقة السكن التي تغطي الأحفاد وتستر عوراتهم ، سرعان ما تطير في الهواء مع أول نسمة ريح ،
    فينكشف الجمر عن حقيقته المحتدمة .
    الأقارب والأنسباء يجلسون على مقاعد النظارة يتفرجون ويصفقون للمؤدي صاحب الحجة المزورة والصوت العالي.
    محاولاته للتقريب بينهم والحث على طي صفحة الخلافات بائت جميعها بالفشل الشنيع .
    لا بل اتهمه كل طرف بالإنحياز للطرف الآخر .
    وبذلك صار عدواً للجميع ، للماضي والحاضر والآتي من قِبل أفراد العائلة المُبَجَّلين .


    ومضى في قصته التي أصبحت قضيته ، يبحث عن طاقة نور علَّ وعسى أن يصادفها ويعثر عليها .
    لكن القدر كان قد سبقه باستخلاص النتيجة ، فهزَّ منكبيه ثم ودعه وغادر !
    وعقب مرور الوقت الذي كان يمر بطيئا كالسلاحف ، استدعته فكرة لاحت بمخيلته كطوق نجاة .
    لاحظ من خلالها أنها قد تكون الطعم المناسب لإصطياد الطرائد الضالّة .
    فعاد إليه شيء من الأمل في صورة ابتسامة متفائلة .
    إنها المصالح الإقتصادية . نعم أنها تبعثر وتشتّت وتُفَرّق لكنها بالمقابل تجمع وتحشد . والدليل هو ما نراه في عالم السياسة
    نجد الأعداء يجتمعون حول سدر الكنافة وقت توزيع التركة .
    عندما يتم الحوار حول القسمة والنصيب ، وحول الحصص فإن الجدران تنهار والجليد يذوب
    وهذا هو ما يسعى إليه الخال .( نظره فابتسامه فسلام فكلام فموعد فلقاء ) .


    اسمعوني جيدا .. قالها محتدا :
    لا وقت للشك أو الظن بعدم الفهم . الوقت قصير جدا . عليكم أن تحضروا جميعكم إلى بيتي
    لتوزيع حصصكم من ثروتي التي قمت بتقسيمها بالعدل والتساوي على الجميع .
    شرطي الوحيد هو نزع الخصومة وغرس المحبة عوضا وبديلا .
    لكن اعلموا أن (الغائب ليس له نائب ) ، و(اللي يحضر السوق يتسوق) .


    من أين له هذه الثروة ؟ نحن نعرف عن الخال ( البير وغطاه ) ، وهو يعلم أيضا أننا ( دافنينه سوا ) .
    راتبه التقاعدي لا يكفيه حتى لشراء الخبز بعد دفع فواتير الماء والكهرباء وكروت شحن التلفون وتعبئة بنزين
    سيارته الخردة ورسوم ترخيصها وتأمينها ، ودفع المخالفات التي تهبط عليه كالقضاء المستعجل .
    والهدايا التي كان يقدمها لنا وللجيران في المناسبات ...
    كثيرة هي المصاريف المطلوبة بحق الخال ، لا تعد ولا تحصى .
    نعرف أنه أقلع عن التدخين الذي كان يحبه ويعشقه مجبرا بسبب تكلفته وليس لأسباب أخرى . ونعرف أيضا أنه قد
    عادى اللحوم وحقد عليها وهاجر ألى الأصناف النباتية فصار زبونا دائما في مطاعم الدرجة الثالثة التي تقدم
    الفول والحمص والفلافل . فخدع الناس وخدعنا نحن الأقرب إليه عندما داهمه " مرض الملوك النقرس " . المرض
    الذي يصيب الأغنياء بسبب كثرة تناول اللحوم الحمراء . لكن عندما علمنا أن البقوليات أيضا تساهم بالإصابة
    وربما بصورة أقوى وأشد ، أشفقنا عليه .
    كان من نشطاء " هبة نيسان " والهبّات الأخرى ، لقد قصمت الحكومة ظهر الإنسان البسيط حين تم " تعديل "الأسعار .
    لم يبق له وللشريحة من المواطنين أمثاله سوى الخبز المُحلى بالسكر البني والشاي لسد الرمق عندما تنبت للجوع أنياب .
    كان يوعز لأصدقائه ومعارفه أن يشتروا أراض في عبدون والشميساني وجبل عمان وفي طريق المطار عندما
    كانت أسعارها في ذاك الوقت ببلاش .
    ربما تكون في جعبة الخال عددا من قطع الأراضي هنا وهناك ، فقام ببيعها كي يوزع ثمنها علينا قبل رحيله .
    إنها خيالات وتهيؤات . يقولون : " إلي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل " !
    هكذا صرنا نهمس في سرّنا ، نبيع السمك قبل أن نصطاده ، أما اليقين فعلمه عند الله .


    تبادلنا النظر طويلا ثم همسنا معا وبرجاء صادق :
    أين اختفى الخال ؟ بائت محاولاتنا للعثور عليه بالفشل . فعل فعلته واختفى ، فعلها مكرها وليس بإرادته فالخرف لا يستأذن أحدا .
    قضى على نفسه بحبس شبه انفرادي في بنسيون ومن محبسه كان يتابع أخبارنا بين صحوة وأخرى .
    وأخيرا عثرنا عليه وتم الالتقاء .
    ولأول مرة تخلت عن الخال روح الدعابة التي كنا نحبها . تدفّق الكلام من فيه هادرا كالموج
    تابعناه بأعصاب متوترة ... عيناه مغمضتان سيجارة باليد وكأس في قبضة اليد الأخرى لم يبق بها إلا الثمالة .


    قمنا بدفنه في مقابر العائلة واتفقنا بعد انتهاء مراسم العزاء أن نلتقي دائما .
    شكرا يا خال ... علّمتنا أن نهواك وعلّمتنا كيف نحب ...
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    في الثقافة المتعارف عليها من خلال العلاقات الأسرية
    نجد أن الخال أشد قربا وأعظم شأنا من العم مثلا
    لأن المرأة في مجتمعاتنا هي التي تحكم وتدير دفة البيت
    برضا الزوج أو بالإكراة . وعلية فإن شقيق الزوجة " الخال "
    يحمل على عاتقه بحكم العلاقة الأخوية مسؤولية مراعاة شقيقته وأبنائها وبناتها
    وقد يساهم ماديا إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، وغالبا ما يقوم متبرعا دون الحاجة .
    وبناء على ذلك فإن من واجب الخال أن يشارك أختها وأبنائها همومهم ومشاكلهم
    فتراه يهب كالأسد الجسور لرفع الضيم عنهم ، لا بل يفرض عليهم رأيه في حل مشاكلهم .
    لكن أن يأتي اليوم الذي يُستبدل به الخال بنقرة فوق لوحة مفاتيح ، أو مسحة أصبع
    فوق شاشة صماء . فإن هذا الأمر غير مقبول مطلقا ، والموت أهون عليه من ذلك .
    هذه حكاية الخال الذي كاد أن يصير صفرا .


    تحياتي للجميع
    فوزي بيترو

    تعليق

    يعمل...
    X