الخال
لم يتبقى على قيد الحياة من كبار السن في العائلة سوى الخال .
مدَّ ألله في عمره فصار الكبير ، كبير العائلة ، الأب الروحي ، العم والخال والجد .
كان الأبناء والبنات والأحفاد يتسابقون لإرضائه ويقبلون يده في حِلّهم وإرتحالهم .
ذات يوم ، وإذ بنخوة الشمس قد تقهقرت ولبست ثوب الكسوف .
نظر حوله ، المسبحة التي كان يتباهى " ويتفشخر " بها أمام الخلق ، ها هي على وشك أن ينقطع
حبلها السري الذي يجمع حبيباتها فيتفرق أفراد البيت الواحد كلٌّ في طريق .
الأخوة والأخوات متخاصمون إلى حد الإفلاس والعوَز ونفاد الإتفاق في أبسط الأمور ؟
طبقة السكن التي تغطي الأحفاد وتستر عوراتهم ، سرعان ما تطير في الهواء مع أول نسمة ريح ،
فينكشف الجمر عن حقيقته المحتدمة .
الأقارب والأنسباء يجلسون على مقاعد النظارة يتفرجون ويصفقون للمؤدي صاحب الحجة المزورة والصوت العالي.
محاولاته للتقريب بينهم والحث على طي صفحة الخلافات بائت جميعها بالفشل الشنيع .
لا بل اتهمه كل طرف بالإنحياز للطرف الآخر .
وبذلك صار عدواً للجميع ، للماضي والحاضر والآتي من قِبل أفراد العائلة المُبَجَّلين .
ومضى في قصته التي أصبحت قضيته ، يبحث عن طاقة نور علَّ وعسى أن يصادفها ويعثر عليها .
لكن القدر كان قد سبقه باستخلاص النتيجة ، فهزَّ منكبيه ثم ودعه وغادر !
وعقب مرور الوقت الذي كان يمر بطيئا كالسلاحف ، استدعته فكرة لاحت بمخيلته كطوق نجاة .
لاحظ من خلالها أنها قد تكون الطعم المناسب لإصطياد الطرائد الضالّة .
فعاد إليه شيء من الأمل في صورة ابتسامة متفائلة .
إنها المصالح الإقتصادية . نعم أنها تبعثر وتشتّت وتُفَرّق لكنها بالمقابل تجمع وتحشد . والدليل هو ما نراه في عالم السياسة
نجد الأعداء يجتمعون حول سدر الكنافة وقت توزيع التركة .
عندما يتم الحوار حول القسمة والنصيب ، وحول الحصص فإن الجدران تنهار والجليد يذوب
وهذا هو ما يسعى إليه الخال .( نظره فابتسامه فسلام فكلام فموعد فلقاء ) .
اسمعوني جيدا .. قالها محتدا :
لا وقت للشك أو الظن بعدم الفهم . الوقت قصير جدا . عليكم أن تحضروا جميعكم إلى بيتي
لتوزيع حصصكم من ثروتي التي قمت بتقسيمها بالعدل والتساوي على الجميع .
شرطي الوحيد هو نزع الخصومة وغرس المحبة عوضا وبديلا .
لكن اعلموا أن (الغائب ليس له نائب ) ، و(اللي يحضر السوق يتسوق) .
من أين له هذه الثروة ؟ نحن نعرف عن الخال ( البير وغطاه ) ، وهو يعلم أيضا أننا ( دافنينه سوا ) .
راتبه التقاعدي لا يكفيه حتى لشراء الخبز بعد دفع فواتير الماء والكهرباء وكروت شحن التلفون وتعبئة بنزين
سيارته الخردة ورسوم ترخيصها وتأمينها ، ودفع المخالفات التي تهبط عليه كالقضاء المستعجل .
والهدايا التي كان يقدمها لنا وللجيران في المناسبات ...
كثيرة هي المصاريف المطلوبة بحق الخال ، لا تعد ولا تحصى .
نعرف أنه أقلع عن التدخين الذي كان يحبه ويعشقه مجبرا بسبب تكلفته وليس لأسباب أخرى . ونعرف أيضا أنه قد
عادى اللحوم وحقد عليها وهاجر ألى الأصناف النباتية فصار زبونا دائما في مطاعم الدرجة الثالثة التي تقدم
الفول والحمص والفلافل . فخدع الناس وخدعنا نحن الأقرب إليه عندما داهمه " مرض الملوك النقرس " . المرض
الذي يصيب الأغنياء بسبب كثرة تناول اللحوم الحمراء . لكن عندما علمنا أن البقوليات أيضا تساهم بالإصابة
وربما بصورة أقوى وأشد ، أشفقنا عليه .
كان من نشطاء " هبة نيسان " والهبّات الأخرى ، لقد قصمت الحكومة ظهر الإنسان البسيط حين تم " تعديل "الأسعار .
لم يبق له وللشريحة من المواطنين أمثاله سوى الخبز المُحلى بالسكر البني والشاي لسد الرمق عندما تنبت للجوع أنياب .
كان يوعز لأصدقائه ومعارفه أن يشتروا أراض في عبدون والشميساني وجبل عمان وفي طريق المطار عندما
كانت أسعارها في ذاك الوقت ببلاش .
ربما تكون في جعبة الخال عددا من قطع الأراضي هنا وهناك ، فقام ببيعها كي يوزع ثمنها علينا قبل رحيله .
إنها خيالات وتهيؤات . يقولون : " إلي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل " !
هكذا صرنا نهمس في سرّنا ، نبيع السمك قبل أن نصطاده ، أما اليقين فعلمه عند الله .
تبادلنا النظر طويلا ثم همسنا معا وبرجاء صادق :
أين اختفى الخال ؟ بائت محاولاتنا للعثور عليه بالفشل . فعل فعلته واختفى ، فعلها مكرها وليس بإرادته فالخرف لا يستأذن أحدا .
قضى على نفسه بحبس شبه انفرادي في بنسيون ومن محبسه كان يتابع أخبارنا بين صحوة وأخرى .
وأخيرا عثرنا عليه وتم الالتقاء .
ولأول مرة تخلت عن الخال روح الدعابة التي كنا نحبها . تدفّق الكلام من فيه هادرا كالموج
تابعناه بأعصاب متوترة ... عيناه مغمضتان سيجارة باليد وكأس في قبضة اليد الأخرى لم يبق بها إلا الثمالة .
قمنا بدفنه في مقابر العائلة واتفقنا بعد انتهاء مراسم العزاء أن نلتقي دائما .
شكرا يا خال ... علّمتنا أن نهواك وعلّمتنا كيف نحب ...
تعليق