ثورة " أبو اليسر "!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد عبد الغفار صيام
    مؤدب صبيان
    • 30-11-2010
    • 533

    ثورة " أبو اليسر "!

    ثورة " أبو اليسر "
    و لَكَمْ نَسَجَ " أبو اليسر " طرائقَ جهنميةٍ للقضاء عليها ! بالغاز ، و جَرَعَاتِ الزرنيخ ، الصعقِ ، الشنقِ ، الطعنِ ، الغرقِ ... و أخيراً " التكييس " و كلُّها لم تكنْ إلا خيالات مغتاظٍ لا تَرقى للتنفيذ ، لا خوفاً من دوائر الأمن ؛ بقدر ما هو رعبٌ أن تسبرَ غوره ، أو تكشف أمره .
    و إِنْ كان يجزمُ أنَها أحستْ ، بل و شاهدتْ شريطَ خيالاتِه ، بكلِّ تفصيلاته الدقيقة ؛ فرمْقتُها تُعريِّهِ حتى النُّخاعِ و تسْلخُهُ من كلِّ أستارِ المُداراةِ و التَّخفي ، حتى أخَصّ خصوصياتِه ، و ممارساتِ عقله الباطن ، لم تسلمْ من تَسلُّطِها ، و الانْضواءِ تحت سيطرتِها .
    و طالما أنَّها بهذه القدرة الكشفية الجبارة ؛ فلا مفرَّ من أنْ يكونَ طوْعَ بنانِها ، عليه أنْ يستكينَ طائعاً ، و يطردَ كلَّ وساوسِ التمردِ مختاراً ، عليه أن يقومَ بُعيْدَ أعباءِ وظيفتِه الحكومية ، بأعبائه المنزلية ! ـــ كما تقضى الأوامر ـــ من غسيلٍ ، وتنظيفٍ ، وطهىٍ ، وحياكةٍ ، و رعايةٍ للطيور ... لعله يحظى ببصيصٍ من رضا ؛ فيشعرَ بالأمن و السلام و لو للحظاتٍ .
    إنَّه يرْزحُ تحتَ رُبْقَةِ حكمٍ متسلطٍ ، و كم كان يسألُ نفسَهُ في خَلْوةٍ مع نفسِهِ : " ما الذى يجبرُك أنْ تتجرعَ الذل مختاراً ؟ " لكنَّهُ لم يَجرؤْ أن يَنْبِسَ ! فما أدراهُ أنْ لا تشىَ لها نفسُهُ عن مكنونِ نفسِهِ ؟
    أَمَّا قائمةُ المحظوراتِ في هذا المعتقل المنزلي :
    يُحظَر التجوالُ ، و لو بإذن مسبق ، إلا لقضاء لوازم المنزل !
    تُحظَر الصداقاتُ ، فهي أحلافٌ مقنَّعة قد تُزكى نار التمرد !
    يُحظَر التفكيرُ، فهو فرسٌ جَموح قد يخرج عن نطاق السيطرة !
    يُحظَر الكلامُ ، فقد يسوق إلى الجُرأة ، و الجُرأة قد تُفضى إلى ثورة !
    تُحظَر الأحلامُ ، إلا بعد العرض على الرقابة ، ودائماً لا تُجَاز !
    تُحظَر قراءةُ التاريخ ، حكاياتُ الشعوب ، الملاحمُ الوطنية ، سيرُ الرجال ، القصصُ الثورية ، علمُ النفس ، الاجتماع ... و كانت الصعوبةُ في أنَّها محظوراتٌ ضمنيةٌ ، تفرضُها معطياتُ الواقعِ المريض ، و ليستْ دُستوراً مكتوباً فكان عليه أن يصيرَ عاليَ الحسِّ ، نَابِهَ الفَهْم ، بارقَ الذهنِ ، سريعَ البديهةِ ، و هو ما اجتهد أن يكونَه.
    و قد اشتملتْ قائمةُ المحظورات كلَّ ما يمكن اعتباره مدخلاً من مداخل التمرد ؛ إلا أنَّ مُدخلاً واحداً هيأته الأقدار لأبى اليسر كان لا يزال موروباً ! إذْ كان يجدُ بعضاً من نواقصِهِ ، و جانباً من مفقوداتِه لدى جماعةِ الدَّجاجِ التي يقومُ على أمرِ رعايتِها !
    كَمْ كان يتحيَّنُ لقاءاتِه اليوميةِ الأثيرةِ بولعٍ وشوقٍ فائضينِ ، لا سيَّما مع ذلك الديكِ المُبَرْقَشِ ، ذِي العُرف الأحمر المنتصب ، بريشِهِ المنتفشِ كالحِرابِ المُشَرَّعةِ ، و صيْحاتِه الآمِرةِ كالقذائفِ المُدوُّيةِ ، و ذلك المِنْقارِ المُسْتَلِّ كالسيفِ المُشْهَرِ.
    كثيراً ما سعى أبو اليسر ليحظى بشرفِ مصادقةِ ذلك المبرقش الواثقِ حتى كاد ـــ رغمَ اتِّساعِ البَوْنِ ـــ أنْ يُفْلحَ ، إذْ كان يخُصُّهُ ـــ مُتودداً ـــ بِلُقَيْماتٍ مُنْتَخَبةٍ ، غير آَبِهٍ بما في جَعْبَتِه من أوامرَ ، و ما كان لذي العرف المنتصبِ أن تخضعَهُ بضعُ لُقَيْمَاتٍ ، كان يدفعُها في عِزَّةٍ وتَعَفُّفٍ إلى دجاجاتِه ، و مَا قَبِلَ المبرقشُ صَداقةَ هذا الـ " أبو اليسر " إلا شفقةً و إحساناً .
    فشرع يلقنُهُ الدروسَ العمليةَ ، و الشُّروحَ الواقعيةَ ، متفضلاً عليه بالمراقبة ؛ لعلَّهُ يُسْدي إليه معروفاً تُمليهِ واجباتُ الصداقةِ ، و مُقْتضَيَاتِ المُروءةِ !
    كان " أبو اليسر" حريصاً أنْ يرى و يعيَ ، لكنَّهُ كان أجبنَ من أنْ يحاكيَ .
    و أُشْرِبَ السعادةَ في قلبه ! فما يراهُ و يعيهِ يمَسُّ وَترَاً حسَّاساً في ذاتِه ، و يجبرُ رأباً في نفسهِ .
    كان يُعْجِبُهُ ذلك الكائنَ الفريد ؛ أنَّى له تلك القدرة العجيبة ؟
    يجمعُ حظيرتَهُ بصيحةٍ ، و يصرفُها بِرَمْقَةٍ ! يتفقَّدُ دجاجاتِه مُداوياً شُئُونَهُنَّ بالإيماءةِ و النظرة !
    أَشْجَتْهُ قبضَتَهُ الحديدية حين تستحيلُ ـــ بحسب الحاجةِ ـــ ليناً وعطفاً !
    كذلك وَلِعَ بشجاعته و هو يحصر ديكاً مغيراً تسللَ من أسطح الجيران خلسةً ، منتهكاً حُرمة المبرقش الذى أثْخَنَهُ بِخَمْشٍ و نَقْرٍ لا يَرحم !
    كان مبهوراً بحكمتِه و حزْمِهِ المُسْلَطَيْن حين يَفُضُّ اشتباكاً بين دجاجاتٍ يتناوشنَ حول الطعام ، أو حول ما يجرى بينهن من شؤون الدجاجات !!
    إنَّه ليفخرُ بصحبتِهِ لذلك المبرقش ، بل لقد أضْحى مثلاً له أعلى ، و نهجه صار له نهجاً أسمى .
    رويداً رويداً لمحتْ الزوجة ملامحَ خابيةٍ لِتَغَيُّرٍ حَثيْثٍ ، و رصدتْ إرهاصاتٍ مبكرةٍ لتمردٍ مَكْبُوتٍ ، يتحيَّنُ وخزةً تنفض الماردَ من رقْدَتِهِ ، و بدا لسانُ حالهِا يسأل :
    " كيفَ تسللتْ إليه هذه المعاني المحرمةُ ؛ رغم قبضةِ نظامِها الصارم ؟ "
    كثَّفتْ دورياتِ المراقبةِ اليومية ؛ فعرشُها يتقلْقلُ ، إذ بدأت تناوشُهُ عواملُ التقويضِ ، لكنَّها و مهما يكنْ لن تَعْدمَ وسيلةً تقمعُ بها إرهاصاتِ التَّمرُّدِ لديه إنْ تجرَّأَ و أَطلَّ !
    " إنَّ هذا اللعينَ يَشْغَفُ برعاية الدجاجات ، أيكونُ ملقِّنُهُ الخطيرُ قابعاً في الحظيرة ؟ تُرَى مَنْ يكون ؟ "
    و ضعتْهُ ـــ دون أن يدرىَ ـــ تحت مِِجْهَرِها ، تَفَحَّصَتْهُ من شتَّى مداخلِه و مخارِجهِ ، حتى فاجأتْهُ على غيرِ عادتِه ، مُجتازاً كلَّ الخطوطِ الحمراءِ، شَامِخاً واثقاً إبَّان انتصارٍ معهودٍ لصديقه في إحدى جَوَلاتِه المُعتادة !
    فأصدرتْ أوامرَها بحظْرِ التَّجْوَالِ على الأسْطُحِ ، و أنْ تكونَ رعايةُ الدجاج من صميمِ اختصاصاتِها ، لعلها تنتقمُ من رأس الفتنةِ ذلك ، المبرقشِ ذي العُرفِ الأحمر " .
    لم تكن جَرَعاتُ الملاحظة التي تلقَّاها أبو اليسر على مدارِ الأيام السابقة ، تمكِّنُهُ ـــ بعدُ ــ من الرَّفضِ أو الشَّجْبِ أو الاعتراضِ ؛ و إنْ لم يُخْفِ امتْعاضاً لاحتْ بوادِرُهُ في عينيه ، أَدْخلَ بعْضاً من رَوْعٍ في زوجه ، التي تجلَّدتْ لِئَلا تفقدَ عرشَها بنظرةٍ !
    باتَ ما تَشَرَّبَهُ أبو اليسر و تَضَلَّعَهُ من أفكارٍ محظورةٍ ، و مَعَانٍ مَرْزُولَةٍ إِبَّانَ جَولاتِهِ السرية بِرُفْقَةِ أُستاذِهِ المبرقش ؛ تَنْضجُ على مَهَلٍ فوقَ أَوَارِ الوقتِ ، و هو يمرُّ وَئِيداً وئيداً ، و بدا أزِيزُ الثورة يَعتِمِلُ في صدرهِ و يلامسُ على استحياءٍ قرونَ استشعارِها ، و لمَّا داخلتْها هواجسُ تُنْبِئُ بِفَقْدِ الزِّمام ، و أنَّ الخطرَ قادمٌ لا محالةَ ، قررتْ أن تسددَ خِنْجَرَ المذلة مسموماً إلى صدرهِ ، فَعَمَدتْ إلى كشفِ ما أخفتْهُ على مدارِ الأيامِ السابقة ؛ حتى تُرَسِّخَ أوْطادَ قبضتِها ، و تجمعَ ــــ ثانيةً ـــ كُلَّ خيوطِهِ بين يديْها .
    أصدرتْ فرماناً يسمحُ له بزيارة الحظيرة !
    و ما كادَ يَطَّلعُ على أثيْرَتِهِ حتى صعقتْهُ المفاجأة !
    لمْ يجدْ مُعلِّمَهُ و وجدَ آثارَ دماءٍ و بقايا ريشاتٍ لا يمكنُ أنْ يُخطئَ صاحبَها ! فَهَمَّ بِالسؤال ، و كانتْ جُرْأةً و أيَّ جُرْأةٍ ، أبو اليسر يسأل !
    فانفجرتْ زوجُهُ ضاحكةً بِتَشَفٍّ ، نازعةً فتيلَ لُغْمِها الرهيبِ :
    " إنَّ ما تَغَذَّيْتَ به الأمسِ كان لحْمُ صاحِبِكَ ، بالهناءِ و الشفاء! "
    رشقَهَا بنظراتٍ راعدةٍ بارِقةٍ ، مُستجْمِعاً و مُكَدِّساً كُلَّ عَذَابَاتِ الحِقَبِ المُنْصرِمِةِ في لَكْمَةٍ ظَافِرةٍ ، أَحالتْها و عرشَها المزعومَ هَباءً منْثُوراً !






    التعديل الأخير تم بواسطة محمد عبد الغفار صيام; الساعة 11-10-2018, 09:35.
    "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"
  • محمد عبد الغفار صيام
    مؤدب صبيان
    • 30-11-2010
    • 533

    #2
    رشقَهَا بنظراتٍ راعدةٍ بارِقةٍ ، مُستجْمِعاً و مُكَدِّساً كُلَّ عَذَابَاتِ الحِقَبِ المُنْصرِمِةِ في لَكْمَةٍ ظَافِرةٍ ، أَحالتْها و عرشَها المزعومَ هَباءً منْثُوراً !

    "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

    تعليق

    يعمل...
    X