احتضار اللحظة
أقترب منها بتوجّس وجلس بجانبها حيث كانت محاطة بهالة من صمت أزليّ ساحر , أدخله لقدسيته المحبوبة . لم يكن يسمع في تلك اللحظة غير ضربات قلبها الصغير وضربات قلبه التي لم يستطع لحد الآن السيطرة عليها , وعلى ما يجتاحه من اضطراب صاخب . لامست أصابعه المرتجفة المنديل الأبيض الحريري الذي كان يغطي وجهها الغارق في بستان الخجل والبراءة , محتفظاً لنفسه المضطربة بما تحمله من سذاجة اللّحظة وغموض الاستسلام . ثم رفعهُ ببطء , ببطءٍ شديد , شديد جدّاً , محتفلاً لوحده فقط , نعم لوحده , دون أن يشاركه أحد , بكلّ هذا التوجس , والاقتراب من جمالية الخضوع , والاختباء خلف الحجب المحفوظة ونكران الذات الصّافي . فهاله ما رأى . لم يكن يعرف بأن الانوثة ضباب كثيف يخترق سكون القلب ويحجب ارتباك الوجه الصافي , القادم من أقصى الأحلام السّريعة الزوال . ضباب يحرك سكون الدّم لا بانتظام مثلما اعتاد عليه , وانّما بحيوية تشبه رقص النمور المرقّطة الصّغيرة قرب ثُدِيَ امّها . ما رأته عيناه الغائبتان في حفيف الستائر والشراشف الملونة كان حقيقة صافية , وجه ملائكيّ منخفض من فرط الخجل والارتباك , وأهداب مسدلة تخبئ عيوناً نضرة , ربما لو رأى سحر توهجها لاستيقظت كل مخاوفه المدفونة في بئر عميق عمق نفسه , والتي هجرها الآن رغم هواجسه المريضة التي تميت أجواء الفرح المتلألئة واهتزاز الروح المسكينة , وتعيده طفلاً صغيراً ضائعاً في الزّحام , باكياً يبحث عن امّه . وحيداً كان بين جموع الناس المسرعة , يلتفت هنا وهناك , خائفاً أن يبقى هكذا , لا أحد يسأله لماذا البكاء ؟ لكنّه بعد وقتٍ طويلٍ جداً أحسّ بيد امّه المسكينة تمسكه من ملابسه وتسحبه بسرعة الى جانبها , كانت غاضبة جداً منه , وكان خائفاً جداً منها . لكنّها أخيراً وجدته رغم بكائها وخوفها الأزلي من أن تفقده الى الأبد . كانت المرة الأولى التي يعرف فيها معنى الضياع والوحدة , بعيداً عن دفء حنان امّه التي جعلته لا يحسّ بقساوة هذا العالم الّا بعد أن صار شابّاً يافعاً , الّا بعد أن صار جندياً يلبس الخاكي ويمسك البندقية متهيئاً للقتال . كانت الحرب تعكس الوجه الآخر لهذا العالم . وجهاً بشعاً لا يعرف غير القتل والدمار . لم يفكر يوماً انّه سوف يقتل أحداً ما , يضغط على زناد بندقيته فيخرج الرصاص قاتلاً بلا رحمة , تنتشر الدماء نازفة هنا وهناك . ( أنا لست قاتلاً ) كان يقول لنفسه كلما اشتد القتال وكلما رأى رفاقه الجنود يقتلون الكثير من الأعداء القادمين غاضبين يريدون قتلهم , لسبب يجهله , قاتلين الكثيرين من رفاقه الجنود , الذين يعرفهم ويعيش معهم في هذا الخندق , والذين لا يعرفهم من الوحدات العسكريّة الأخرى . لقد تسائل كثيراً مع نفسه ( لماذا يريدون قتلنا ؟ ماذا فعلت انا كي استحق القتل ؟ وماذا فعلوا هم كي يستحقوا القتل؟). لكنّه لم يجد الإجابة التي تعكس الحقيقة . لقد كان القتل بدون أسباب منطقية , وكل الأسباب المطروقة تعكس همجية الطرفين رغم تقدم تقنية الأسلحة الفتّاكة , التي تفتك الأجساد وتتركها تتعفن في أرض المعركة , فتكون طعاماً للذئاب والكلاب المفترسة .مرّت ثلاثة أشهر منذ التحاقه من اجازة الزواج . ولم يرى زوجته مرة أخرى الّا في أحلامه وفي خيالاته المشوشة . كانت الأيام تمرّ بصعوبة تامة . ولقد كان هو ورفاقه في الخندق يبارك بعضهم البعض أنّهم مازالوا أحياءً لحد الآن ولم تمزقهم شظايا القنابل الوهاجة التي تتساقط عليهم كالمطر . لم يدرِ هل هي الطائرات الصاخبة أم المدافع البعيدة المدى أم الهاونات السريعة أم الراجمات الفتّاكة أم هي سيل من الرصاص القاتل , لا شيء هنا غير الموت المتربص بهم. ( ربما نحن رجس على هذه الارض , وربما نحن من لا يجب علينا أن نمارس ما يمارسه الآخرون الذين يستحقون الحياة ). كان يقول مُوَاسِيًا نفسه مُوَاسِيًا رفاقه الجنود في هذا المدى الممتد بين الأرض والسماء . هذا المدى الذي يفترس الأجساد تاركاً الحزن والخوف مخيماً كثعبان اسود . انّ الخوف يأخذه بعيداً , بعيداً جدّاً , حيث روح أبيه المحلقة في سماء الأبديّة . لكّنه الآن متكورٌ هنا في الخندق يلتمس العذر من أبيه طالبا منه الحماية من كلّ هذا الدمار . لقد بلغت الصرخات أوجّها , كلّما ارتفعت نيران القنابل بين الجنود في الخنادق . كابوس مخيف لا ينتهي . كان جسمه كلّه يرتجف حينما أستيقظ فزعاً , يتصبب عرقا , متحسساً في ظلام الليل بيده اليمنى أو اليسرى فيجد نفسه ماسكاً رجلاً مقطوعة او يداً تقطر دماً لأحد من رفاقه الذين كانوا نائمين بجانبه فصاروا أشلاءاً مهشمة . لكنّ القدر أنقذه هو ولم ينقذ أحداً غيره . فتصرخ روحه في الظلام تلتمس بصيصاً من الأمل . قبل أيّام وحينما كان يقوم بواجبه أثناء الليل في حراسة الخندق محتضناً بندقيته , كانت عيونه تضيع في السماء الصافية الخالية من القمر . ينصت بقلب مرتجف لعواء الذئاب في البعيد , مترقباً في كل لحظة هجومها عليهم , محتفلة بكلّ هذا اللّحم البشري الغارق في النوم تعباً من أحداث الحرب الدامية . فيمتد الوقت طويلاً شاعراً أنّ وقوفه هناك سوف يدوم دهراً كاملاً , دهراً كاملاً من الخوف والترقب والغوص في الأفكار المشؤومة . وها هو الآن وحيداً في الخندق , متمدداً لا يستطيع أن يتحرك يميناً أو يساراً . مستنشقا رائحة البارود ورائحة الأجساد المحروقة . كأنه نائم في قبر ضيق لا يتسع لأحد سواه . لقد جمّد الخوف كلّ حركته في هذا الظلام الدّامس . منتظراً نور الصباح ليعرف لماذا لا يستطيع الحركة . ليعرف هل هذا هو الموت أم أنّ الموت أكثر رعباً من هذا الرعب الذي يسكن روحه وعقله وقلبه المضطرب .
أنقشع الظلام رويداً رويداً , وهدأت الأصوات الصاخبة للانفجارات والتشظّي . هبّت ريح باردة . أحسّ ببرودة تسري في جسمه , من رأسه حتى أخمص قدمه .لكنّه لم يستطع أن يتحرك حركة واحدة . لم يعرف السبب الّا عندما فتح عيونه ليجد نفسه محشوراً في الخندق تحت صخرة كبيرة كانت قد تدحرجت أثناء الانفجارات العشوائية طيلة اللّيلة الماضية لتستقر عليه تاركة له مجالاً للتنفس فقط .
مناف بن مسلم
البصرة - 22/11/2018
أقترب منها بتوجّس وجلس بجانبها حيث كانت محاطة بهالة من صمت أزليّ ساحر , أدخله لقدسيته المحبوبة . لم يكن يسمع في تلك اللحظة غير ضربات قلبها الصغير وضربات قلبه التي لم يستطع لحد الآن السيطرة عليها , وعلى ما يجتاحه من اضطراب صاخب . لامست أصابعه المرتجفة المنديل الأبيض الحريري الذي كان يغطي وجهها الغارق في بستان الخجل والبراءة , محتفظاً لنفسه المضطربة بما تحمله من سذاجة اللّحظة وغموض الاستسلام . ثم رفعهُ ببطء , ببطءٍ شديد , شديد جدّاً , محتفلاً لوحده فقط , نعم لوحده , دون أن يشاركه أحد , بكلّ هذا التوجس , والاقتراب من جمالية الخضوع , والاختباء خلف الحجب المحفوظة ونكران الذات الصّافي . فهاله ما رأى . لم يكن يعرف بأن الانوثة ضباب كثيف يخترق سكون القلب ويحجب ارتباك الوجه الصافي , القادم من أقصى الأحلام السّريعة الزوال . ضباب يحرك سكون الدّم لا بانتظام مثلما اعتاد عليه , وانّما بحيوية تشبه رقص النمور المرقّطة الصّغيرة قرب ثُدِيَ امّها . ما رأته عيناه الغائبتان في حفيف الستائر والشراشف الملونة كان حقيقة صافية , وجه ملائكيّ منخفض من فرط الخجل والارتباك , وأهداب مسدلة تخبئ عيوناً نضرة , ربما لو رأى سحر توهجها لاستيقظت كل مخاوفه المدفونة في بئر عميق عمق نفسه , والتي هجرها الآن رغم هواجسه المريضة التي تميت أجواء الفرح المتلألئة واهتزاز الروح المسكينة , وتعيده طفلاً صغيراً ضائعاً في الزّحام , باكياً يبحث عن امّه . وحيداً كان بين جموع الناس المسرعة , يلتفت هنا وهناك , خائفاً أن يبقى هكذا , لا أحد يسأله لماذا البكاء ؟ لكنّه بعد وقتٍ طويلٍ جداً أحسّ بيد امّه المسكينة تمسكه من ملابسه وتسحبه بسرعة الى جانبها , كانت غاضبة جداً منه , وكان خائفاً جداً منها . لكنّها أخيراً وجدته رغم بكائها وخوفها الأزلي من أن تفقده الى الأبد . كانت المرة الأولى التي يعرف فيها معنى الضياع والوحدة , بعيداً عن دفء حنان امّه التي جعلته لا يحسّ بقساوة هذا العالم الّا بعد أن صار شابّاً يافعاً , الّا بعد أن صار جندياً يلبس الخاكي ويمسك البندقية متهيئاً للقتال . كانت الحرب تعكس الوجه الآخر لهذا العالم . وجهاً بشعاً لا يعرف غير القتل والدمار . لم يفكر يوماً انّه سوف يقتل أحداً ما , يضغط على زناد بندقيته فيخرج الرصاص قاتلاً بلا رحمة , تنتشر الدماء نازفة هنا وهناك . ( أنا لست قاتلاً ) كان يقول لنفسه كلما اشتد القتال وكلما رأى رفاقه الجنود يقتلون الكثير من الأعداء القادمين غاضبين يريدون قتلهم , لسبب يجهله , قاتلين الكثيرين من رفاقه الجنود , الذين يعرفهم ويعيش معهم في هذا الخندق , والذين لا يعرفهم من الوحدات العسكريّة الأخرى . لقد تسائل كثيراً مع نفسه ( لماذا يريدون قتلنا ؟ ماذا فعلت انا كي استحق القتل ؟ وماذا فعلوا هم كي يستحقوا القتل؟). لكنّه لم يجد الإجابة التي تعكس الحقيقة . لقد كان القتل بدون أسباب منطقية , وكل الأسباب المطروقة تعكس همجية الطرفين رغم تقدم تقنية الأسلحة الفتّاكة , التي تفتك الأجساد وتتركها تتعفن في أرض المعركة , فتكون طعاماً للذئاب والكلاب المفترسة .مرّت ثلاثة أشهر منذ التحاقه من اجازة الزواج . ولم يرى زوجته مرة أخرى الّا في أحلامه وفي خيالاته المشوشة . كانت الأيام تمرّ بصعوبة تامة . ولقد كان هو ورفاقه في الخندق يبارك بعضهم البعض أنّهم مازالوا أحياءً لحد الآن ولم تمزقهم شظايا القنابل الوهاجة التي تتساقط عليهم كالمطر . لم يدرِ هل هي الطائرات الصاخبة أم المدافع البعيدة المدى أم الهاونات السريعة أم الراجمات الفتّاكة أم هي سيل من الرصاص القاتل , لا شيء هنا غير الموت المتربص بهم. ( ربما نحن رجس على هذه الارض , وربما نحن من لا يجب علينا أن نمارس ما يمارسه الآخرون الذين يستحقون الحياة ). كان يقول مُوَاسِيًا نفسه مُوَاسِيًا رفاقه الجنود في هذا المدى الممتد بين الأرض والسماء . هذا المدى الذي يفترس الأجساد تاركاً الحزن والخوف مخيماً كثعبان اسود . انّ الخوف يأخذه بعيداً , بعيداً جدّاً , حيث روح أبيه المحلقة في سماء الأبديّة . لكّنه الآن متكورٌ هنا في الخندق يلتمس العذر من أبيه طالبا منه الحماية من كلّ هذا الدمار . لقد بلغت الصرخات أوجّها , كلّما ارتفعت نيران القنابل بين الجنود في الخنادق . كابوس مخيف لا ينتهي . كان جسمه كلّه يرتجف حينما أستيقظ فزعاً , يتصبب عرقا , متحسساً في ظلام الليل بيده اليمنى أو اليسرى فيجد نفسه ماسكاً رجلاً مقطوعة او يداً تقطر دماً لأحد من رفاقه الذين كانوا نائمين بجانبه فصاروا أشلاءاً مهشمة . لكنّ القدر أنقذه هو ولم ينقذ أحداً غيره . فتصرخ روحه في الظلام تلتمس بصيصاً من الأمل . قبل أيّام وحينما كان يقوم بواجبه أثناء الليل في حراسة الخندق محتضناً بندقيته , كانت عيونه تضيع في السماء الصافية الخالية من القمر . ينصت بقلب مرتجف لعواء الذئاب في البعيد , مترقباً في كل لحظة هجومها عليهم , محتفلة بكلّ هذا اللّحم البشري الغارق في النوم تعباً من أحداث الحرب الدامية . فيمتد الوقت طويلاً شاعراً أنّ وقوفه هناك سوف يدوم دهراً كاملاً , دهراً كاملاً من الخوف والترقب والغوص في الأفكار المشؤومة . وها هو الآن وحيداً في الخندق , متمدداً لا يستطيع أن يتحرك يميناً أو يساراً . مستنشقا رائحة البارود ورائحة الأجساد المحروقة . كأنه نائم في قبر ضيق لا يتسع لأحد سواه . لقد جمّد الخوف كلّ حركته في هذا الظلام الدّامس . منتظراً نور الصباح ليعرف لماذا لا يستطيع الحركة . ليعرف هل هذا هو الموت أم أنّ الموت أكثر رعباً من هذا الرعب الذي يسكن روحه وعقله وقلبه المضطرب .
أنقشع الظلام رويداً رويداً , وهدأت الأصوات الصاخبة للانفجارات والتشظّي . هبّت ريح باردة . أحسّ ببرودة تسري في جسمه , من رأسه حتى أخمص قدمه .لكنّه لم يستطع أن يتحرك حركة واحدة . لم يعرف السبب الّا عندما فتح عيونه ليجد نفسه محشوراً في الخندق تحت صخرة كبيرة كانت قد تدحرجت أثناء الانفجارات العشوائية طيلة اللّيلة الماضية لتستقر عليه تاركة له مجالاً للتنفس فقط .
مناف بن مسلم
البصرة - 22/11/2018
تعليق