احتضار اللحظة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مناف بن مسلم
    أديب وكاتب
    • 19-09-2013
    • 72

    احتضار اللحظة

    احتضار اللحظة
    أقترب منها بتوجّس وجلس بجانبها حيث كانت محاطة بهالة من صمت أزليّ ساحر , أدخله لقدسيته المحبوبة . لم يكن يسمع في تلك اللحظة غير ضربات قلبها الصغير وضربات قلبه التي لم يستطع لحد الآن السيطرة عليها , وعلى ما يجتاحه من اضطراب صاخب . لامست أصابعه المرتجفة المنديل الأبيض الحريري الذي كان يغطي وجهها الغارق في بستان الخجل والبراءة , محتفظاً لنفسه المضطربة بما تحمله من سذاجة اللّحظة وغموض الاستسلام . ثم رفعهُ ببطء , ببطءٍ شديد , شديد جدّاً , محتفلاً لوحده فقط , نعم لوحده , دون أن يشاركه أحد , بكلّ هذا التوجس , والاقتراب من جمالية الخضوع , والاختباء خلف الحجب المحفوظة ونكران الذات الصّافي . فهاله ما رأى . لم يكن يعرف بأن الانوثة ضباب كثيف يخترق سكون القلب ويحجب ارتباك الوجه الصافي , القادم من أقصى الأحلام السّريعة الزوال . ضباب يحرك سكون الدّم لا بانتظام مثلما اعتاد عليه , وانّما بحيوية تشبه رقص النمور المرقّطة الصّغيرة قرب ثُدِيَ امّها . ما رأته عيناه الغائبتان في حفيف الستائر والشراشف الملونة كان حقيقة صافية , وجه ملائكيّ منخفض من فرط الخجل والارتباك , وأهداب مسدلة تخبئ عيوناً نضرة , ربما لو رأى سحر توهجها لاستيقظت كل مخاوفه المدفونة في بئر عميق عمق نفسه , والتي هجرها الآن رغم هواجسه المريضة التي تميت أجواء الفرح المتلألئة واهتزاز الروح المسكينة , وتعيده طفلاً صغيراً ضائعاً في الزّحام , باكياً يبحث عن امّه . وحيداً كان بين جموع الناس المسرعة , يلتفت هنا وهناك , خائفاً أن يبقى هكذا , لا أحد يسأله لماذا البكاء ؟ لكنّه بعد وقتٍ طويلٍ جداً أحسّ بيد امّه المسكينة تمسكه من ملابسه وتسحبه بسرعة الى جانبها , كانت غاضبة جداً منه , وكان خائفاً جداً منها . لكنّها أخيراً وجدته رغم بكائها وخوفها الأزلي من أن تفقده الى الأبد . كانت المرة الأولى التي يعرف فيها معنى الضياع والوحدة , بعيداً عن دفء حنان امّه التي جعلته لا يحسّ بقساوة هذا العالم الّا بعد أن صار شابّاً يافعاً , الّا بعد أن صار جندياً يلبس الخاكي ويمسك البندقية متهيئاً للقتال . كانت الحرب تعكس الوجه الآخر لهذا العالم . وجهاً بشعاً لا يعرف غير القتل والدمار . لم يفكر يوماً انّه سوف يقتل أحداً ما , يضغط على زناد بندقيته فيخرج الرصاص قاتلاً بلا رحمة , تنتشر الدماء نازفة هنا وهناك . ( أنا لست قاتلاً ) كان يقول لنفسه كلما اشتد القتال وكلما رأى رفاقه الجنود يقتلون الكثير من الأعداء القادمين غاضبين يريدون قتلهم , لسبب يجهله , قاتلين الكثيرين من رفاقه الجنود , الذين يعرفهم ويعيش معهم في هذا الخندق , والذين لا يعرفهم من الوحدات العسكريّة الأخرى . لقد تسائل كثيراً مع نفسه ( لماذا يريدون قتلنا ؟ ماذا فعلت انا كي استحق القتل ؟ وماذا فعلوا هم كي يستحقوا القتل؟). لكنّه لم يجد الإجابة التي تعكس الحقيقة . لقد كان القتل بدون أسباب منطقية , وكل الأسباب المطروقة تعكس همجية الطرفين رغم تقدم تقنية الأسلحة الفتّاكة , التي تفتك الأجساد وتتركها تتعفن في أرض المعركة , فتكون طعاماً للذئاب والكلاب المفترسة .مرّت ثلاثة أشهر منذ التحاقه من اجازة الزواج . ولم يرى زوجته مرة أخرى الّا في أحلامه وفي خيالاته المشوشة . كانت الأيام تمرّ بصعوبة تامة . ولقد كان هو ورفاقه في الخندق يبارك بعضهم البعض أنّهم مازالوا أحياءً لحد الآن ولم تمزقهم شظايا القنابل الوهاجة التي تتساقط عليهم كالمطر . لم يدرِ هل هي الطائرات الصاخبة أم المدافع البعيدة المدى أم الهاونات السريعة أم الراجمات الفتّاكة أم هي سيل من الرصاص القاتل , لا شيء هنا غير الموت المتربص بهم. ( ربما نحن رجس على هذه الارض , وربما نحن من لا يجب علينا أن نمارس ما يمارسه الآخرون الذين يستحقون الحياة ). كان يقول مُوَاسِيًا نفسه مُوَاسِيًا رفاقه الجنود في هذا المدى الممتد بين الأرض والسماء . هذا المدى الذي يفترس الأجساد تاركاً الحزن والخوف مخيماً كثعبان اسود . انّ الخوف يأخذه بعيداً , بعيداً جدّاً , حيث روح أبيه المحلقة في سماء الأبديّة . لكّنه الآن متكورٌ هنا في الخندق يلتمس العذر من أبيه طالبا منه الحماية من كلّ هذا الدمار . لقد بلغت الصرخات أوجّها , كلّما ارتفعت نيران القنابل بين الجنود في الخنادق . كابوس مخيف لا ينتهي . كان جسمه كلّه يرتجف حينما أستيقظ فزعاً , يتصبب عرقا , متحسساً في ظلام الليل بيده اليمنى أو اليسرى فيجد نفسه ماسكاً رجلاً مقطوعة او يداً تقطر دماً لأحد من رفاقه الذين كانوا نائمين بجانبه فصاروا أشلاءاً مهشمة . لكنّ القدر أنقذه هو ولم ينقذ أحداً غيره . فتصرخ روحه في الظلام تلتمس بصيصاً من الأمل . قبل أيّام وحينما كان يقوم بواجبه أثناء الليل في حراسة الخندق محتضناً بندقيته , كانت عيونه تضيع في السماء الصافية الخالية من القمر . ينصت بقلب مرتجف لعواء الذئاب في البعيد , مترقباً في كل لحظة هجومها عليهم , محتفلة بكلّ هذا اللّحم البشري الغارق في النوم تعباً من أحداث الحرب الدامية . فيمتد الوقت طويلاً شاعراً أنّ وقوفه هناك سوف يدوم دهراً كاملاً , دهراً كاملاً من الخوف والترقب والغوص في الأفكار المشؤومة . وها هو الآن وحيداً في الخندق , متمدداً لا يستطيع أن يتحرك يميناً أو يساراً . مستنشقا رائحة البارود ورائحة الأجساد المحروقة . كأنه نائم في قبر ضيق لا يتسع لأحد سواه . لقد جمّد الخوف كلّ حركته في هذا الظلام الدّامس . منتظراً نور الصباح ليعرف لماذا لا يستطيع الحركة . ليعرف هل هذا هو الموت أم أنّ الموت أكثر رعباً من هذا الرعب الذي يسكن روحه وعقله وقلبه المضطرب .
    أنقشع الظلام رويداً رويداً , وهدأت الأصوات الصاخبة للانفجارات والتشظّي . هبّت ريح باردة . أحسّ ببرودة تسري في جسمه , من رأسه حتى أخمص قدمه .لكنّه لم يستطع أن يتحرك حركة واحدة . لم يعرف السبب الّا عندما فتح عيونه ليجد نفسه محشوراً في الخندق تحت صخرة كبيرة كانت قد تدحرجت أثناء الانفجارات العشوائية طيلة اللّيلة الماضية لتستقر عليه تاركة له مجالاً للتنفس فقط .

    مناف بن مسلم
    البصرة - 22/11/2018
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    #2
    مفارقة شاسعة بين البداية (تخيلتها لقاء زوجين لأول مرة ليلة الدخلة) و لب القصة (حيث الحرب و الدمار) ثم الخاتمة (عند الخندق المسدود و بصيص من نور حيث - ربما - أمل النجاة المنشود). حياة/موت؛ حب/حقد؛ إحباط/أمل: صراعات الحياة بأطيافها. يمكن هنالك تعديلات لغوية أترك اللغويين من بعدي يدلوك عليها.

    أول مرة اقرأ لك، الأستاذ مناف بن مسلم لعلها لا تكون الأخيرة.

    واصل.

    م.ش.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 29-11-2018, 09:18.

    تعليق

    • مناف بن مسلم
      أديب وكاتب
      • 19-09-2013
      • 72

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد شهيد مشاهدة المشاركة
      مفارقة شاسعة بين البداية (تخيلتها لقاء زوجين لأول مرة ليلة الدخلة) و لب القصة (حيث الحرب و الدمار) ثم الخاتمة (عند الخندق المسدود و بصيص من نور حيث - ربما - أمل النجاة المنشود). حياة/موت؛ حب/حقد؛ إحباط/أمل: صراعات الحياة بأطيافها. يمكن هنالك تعديلات لغوية أترك اللغويين من بعدي يدلوك عليها.

      أول مرة اقرأ لك، الأستاذ(ة) مناف بن مسلم لعلها لا تكون الأخيرة.

      واصلي.

      م.ش.
      الاستاذ الرائع محمد شهيد
      اسف على تأخري بالرد
      سررت جدا بقرائتك الدقيقة للنص , اعجبني تحليلك وملاحظاتك
      اتمنى فعلا ان لا تكون هذه قراءتك الاخيرة , متمنيا ان تعجبك نصوصي الاخرى
      تقديري واحترامي
      اخوك مناف بن مسلم

      تعليق

      • محمد شهيد
        أديب وكاتب
        • 24-01-2015
        • 4295

        #4
        الحمد لله أنك نبهتني على أنك (أخي) بعدما كنت مترددا أميل بالشك بخصوص جنس (مناف). أرجوك أن تقبل اعتذاري فماهي إلا نتيجة جهلي.
        دمت أخاً كريما.

        تقديري

        م.ش.

        تعليق

        • البكري المصطفى
          المصطفى البكري
          • 30-10-2008
          • 859

          #5
          الأستاذ الأديب مناف قصة رائعة لو تجسدت في مشهدين مختلفين لكل عنوانه ومساره السردي يجعل القارئ يأخذ بتلابيب الحكايتين؛ مدركا أن لكل واحدة منهما موضوعا مستقلا بذاته.
          ملاحظة: أحيانا لا تكتبُ همزة القطع .وقم أيضا بتصويب عبارة { لقد تساءل مع نفسه}
          مودتي.
          التعديل الأخير تم بواسطة البكري المصطفى; الساعة 07-12-2018, 11:01.

          تعليق

          • محمد عبد الغفار صيام
            مؤدب صبيان
            • 30-11-2010
            • 533

            #6
            رغم المفارقة بين البداية الرومانسية الماتعة ، و النهاية الكارثية القاسية ، إلا أن مهارة القص سوغت للقاريء ما لم يكن مستساغاً ...و لا أدري لم تذكرت قصائد العرب الأوائل باستهلالهم الوقوف على طلل الحبيبة ، ثم يشرعون في وصف المعركة !!
            أظنها (بئر عميقة) لا عميق . و الله أعلم.
            دام يراعكم نابضاً أستاذ / مناف.
            "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

            تعليق

            • محمد مزكتلي
              عضو الملتقى
              • 04-11-2010
              • 1618

              #7
              أخي مناف:

              أسعى جاهداً للربط بين نصفي القصة...وكل واحد أجمل من الآخر.
              وما زلت أسعى.
              لا بد من رابط، ما دام كاتبها مناف المبدع الذي أعرفه.


              صباح الخير على الإبداع.
              أنا لا أقولُ كلَّ الحقيقة
              لكن كل ما أقولهُُ هو حقيقة.

              تعليق

              • مناف بن مسلم
                أديب وكاتب
                • 19-09-2013
                • 72

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة البكري المصطفى مشاهدة المشاركة
                الأستاذ الأديب مناف قصة رائعة لو تجسدت في مشهدين مختلفين لكل عنوانه ومساره السردي يجعل القارئ يأخذ بتلابيب الحكايتين؛ مدركا أن لكل واحدة منهما موضوعا مستقلا بذاته.
                ملاحظة: أحيانا لا تكتبُ همزة القطع .وقم أيضا بتصويب عبارة { لقد تساءل مع نفسه}
                مودتي.
                الاستاذ الفاضل البكري المصطفى
                شكرا لقرائتك وملاحظاتك الرائعة لي الشرف ان تنال قصتي اعجابكم
                اعتذر عن التأخر بالرد
                مودتي
                مناف بن مسلم

                تعليق

                • مناف بن مسلم
                  أديب وكاتب
                  • 19-09-2013
                  • 72

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة محمد عبد الغفار صيام مشاهدة المشاركة
                  رغم المفارقة بين البداية الرومانسية الماتعة ، و النهاية الكارثية القاسية ، إلا أن مهارة القص سوغت للقاريء ما لم يكن مستساغاً ...و لا أدري لم تذكرت قصائد العرب الأوائل باستهلالهم الوقوف على طلل الحبيبة ، ثم يشرعون في وصف المعركة !!
                  أظنها (بئر عميقة) لا عميق . و الله أعلم.
                  دام يراعكم نابضاً أستاذ / مناف.
                  الاستاذ الرائع محمد عبدالغفار صيام شكرا لهذه القراءة والتحليل الجميل لقد جعلتني اشعر بالفخر لمقارنتك بين قصتي هذه وبين قصائد العرب الاوائل
                  ان للحرب تأثير اقسى واقسى من كل صورة مفجعة نحاول ان نعبر عنها
                  اعتذر عن التأخر بالرد
                  تحياتي واحترامي لك استاذ
                  مناف بن مسلم

                  تعليق

                  • مناف بن مسلم
                    أديب وكاتب
                    • 19-09-2013
                    • 72

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة محمد مزكتلي مشاهدة المشاركة
                    أخي مناف:

                    أسعى جاهداً للربط بين نصفي القصة...وكل واحد أجمل من الآخر.
                    وما زلت أسعى.
                    لا بد من رابط، ما دام كاتبها مناف المبدع الذي أعرفه.


                    صباح الخير على الإبداع.
                    اخي العزيز محمد مزكتلي
                    لك شكري وتقديري على هذا الاطراء الرائع متمنيا ان اكون عند حسن ضنك بالمستقبل
                    دمت اخا رائعا وصديقا
                    تحياتي
                    اعتذر عن التأخر بالرد
                    مناف بن مسلم

                    تعليق

                    • مها راجح
                      حرف عميق من فم الصمت
                      • 22-10-2008
                      • 10970

                      #11
                      نص ثري التجربة و لغة عميقة يقظة ..حركت الساكن فينا وفتحت المسامات البليدة
                      سلم القلم استاذ مناف
                      رحمك الله يا أمي الغالية

                      تعليق

                      • مناف بن مسلم
                        أديب وكاتب
                        • 19-09-2013
                        • 72

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
                        نص ثري التجربة و لغة عميقة يقظة ..حركت الساكن فينا وفتحت المسامات البليدة
                        سلم القلم استاذ مناف
                        الاستاذة مها راجح
                        شكرا لتفاعلك مع النص وشكرا لكلماتك الرائعة
                        لك كل التقدير والاحترام
                        مناف بن مسلم

                        تعليق

                        يعمل...
                        X