عاشق الرّمز

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    عاشق الرّمز

    عاشق الرّمز

    قبل أن يتفرّغ السيّد «كمال» للسّباقات، جرّب الانتقال بين مهن كثيرة، إلّا أنّها كانت جميعها باستثناء مهنة التأخّر واقعيّة للغاية. كان السيّد «كمال» يقول دائما إنّ على المهنة أن يكون لها وظيفةَ المَثَل. وإنّ على الواقع أخيرا أن يفهم بأنّه لم يوجد إلّا ليرمز إلى ما يحدث في الحياة من حولنا.
    كان ذلك قبل أن يكتشف إدمانَه للسّحر الكامن في الرّمز الخالص. في تلك الفترة كان غير مدرك تماما لما يعتمل في داخله وعزا قلقه الدّائم إلى آلام في رقبته. فكّر قائلا في نفسِه إنّ على المرء إذا أراد العيش في سلام أن يختار بين المأساة وبين التّعبير عنها. واعتقد آنذاك أنّ العمل وحده قادر على إنقاذه من أرقه المتواصل، خصوصا لمّا أخاف نفسه ذات ليلة وهو يذرع غرفته جيئة وذهابا. كانت تلك الحادثة فارقة في حياته. بدءًا عمِلَ حاجبا في محكمة، ولمّا لاح له أنّها مهنة مملّة تفتقر إلى الإثارة وتحريك فضول الآخرين هجرها ليلتحق بمصنع للأدوية، هناك تمّ قبوله في خطّة متأمّل، لكن ولأنّها مهنة تقع في مخيّلة المرء فقد بدت له خالية من التّشويق الذي يمنحه التّأويل. إنّ نفسه المُتشكّكة، المتمرّدة، التي لا ترضى أن تعني ما تقوله، ترفض السّقوط في التحليل المسطّح لما يجري. «على الشّبه أن يسيطر»، كان يقول لنفسه كلّ مساء أمام المرآة. ثمّ عُيّنَ مُعلّقا في صندوق للتّقاعد، كان عليه أن يبدي رأيه من حين إلى آخر فيما يحدث داخل الدّائرة وخارجها، غير أنّه سرعان ما انتبه إلى أنّها مهنة رتيبة تضطرّ صاحبها إلى الثّرثرة. بعد ذلك شغل خطّة مُقلّد أصوات في كلّية الحقوق. غادرها عقب شجار دار بينه وبين مشّاء الكلّية. رحل لأنّ أسباب الخصومة كان من السّهل على الجميع فهمها. إثر ذلك انتُدِب ليشغل خطّة رجل في المصرف العامّ. هناك كُلِّف بالعناية بميّت تمّ تعيينُه حديثا. شرحوا له طويلا – فوق نقمته الشّديدة على الشّرح- أنّ عليه إطراء الميّت من وقت إلى آخر، تعطيره، أخذه في نزهة يوميّة في أنحاء المدينة لتسليته، إلّا أنّه انقطع بعد أوّل راتب تسلّمه، فقد كان رياضيّا محبّا للحركة بالفطرة. وكاد يستسلم فعلا لحياة البطالة لو لا أنّهم عرضوا عليه العمل مُدخّنا في البلديّة. كانت المنحة مُغرية لما تسبّبه الوظيفة من متاعب على الصحّة. وافق مُكرها ليسدّد ديونه، إنّما في الحقيقة لم يكن سبب استقالته متعلّقا بالحفاظ على الصحّة بقدر ما أنّ الوظيفة كانت من النّوع الذي لا يضفي على يومه أبعادا خفيّة.
    وفي يوم وهو يحاول الّلحاق بالأوتوبيس أحسّ بوخزة لذيذة في قلبه واكتشف أنّه خُلِق كي يُسابق الأشياء. وهكذا أصبح السيّد «كمال» يسابق العربات وكلّ ما يبدو في نظره متعجّلا. كانت الّلوحات التي يؤدّيها ملهمة وجميلة حتّى أنّ كثيرين حذوا حذوه وصاروا هم أيضا يسابقون الأشياء وبعضهم البعض غير مكترثين بما يتوجّب عليهم فعله. بعد فترة أحسّ السيّد «كمال» بالسّأم لأنّ السّباق فقد نكهته السريالية القديمة. ولمّا لم يعد التسوّل أمرا محرجا لانغماس النّاس في منافسة العربات والأشياء المسرعة، صار يقف حيث تكثر الحركة محاولا مباغتة المتخلّفين عن السّباق. لم تبدُ له فكرة التسوّل بغيضة بفضل جانبها الرّمزيّ المتّقد والمُتجدّد، لكن في غياب من يخيب ظنّه لدى رؤيته، أخذ جسمه ينحل وحماسه يفتر بسرعة توحي بأمر ما. أمرا جديرا بالاهتمام، لا يساوي شيئا أمام فطيرة صباحيّة ساخنة.
    ***

    محمد فطومي / تونس

    28/01/2019
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    فطومي
    نص رائع
    لذيذ
    جديد
    مشوق
    فكرة ملتهبة ورمزية عاليه
    ياالله كم أحببته وأنت تنتقل بين الدث تلو الآخر دون أي عناء وكأن النص كان يكتب نفسه ( هكذا هيأ لي )
    جميل انت فطومي ولك افكار متجددة وجميله ومستحدثه
    لم أشعر بالملل بل كنت اريد المزيد
    محبتي والورد
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • أحمدخيرى
      الكوستر
      • 24-05-2012
      • 794

      #3
      الصديق الأستاذ / محمد فطومي ..

      هى أكثـر من مجرد قصـة ..
      صراحة لا أحب التفخيم في الاعمال التي أقرأها ، ولكنها وبدون ادنى مجاملة " أكثـر من رائعة "

      اشكرك يا صديقي على هذه التحفة .
      https://www.facebook.com/TheCoster

      تعليق

      • محمد فطومي
        رئيس ملتقى فرعي
        • 05-06-2010
        • 2433

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
        فطومي
        نص رائع
        لذيذ
        جديد
        مشوق
        فكرة ملتهبة ورمزية عاليه
        ياالله كم أحببته وأنت تنتقل بين الدث تلو الآخر دون أي عناء وكأن النص كان يكتب نفسه ( هكذا هيأ لي )
        جميل انت فطومي ولك افكار متجددة وجميله ومستحدثه
        لم أشعر بالملل بل كنت اريد المزيد
        محبتي والورد
        محبّتي وبساتين ورد عائدة.
        إنّ أجمل ما في عمليّة الكتابة بعد لذّة التّعبير، هي أن يتقاطع النصّ مع عيون تقرأ بعمق ونهم للمعنى.
        دمتِ ودامت إطلالتك الجميلة.
        مدوّنة

        فلكُ القصّة القصيرة

        تعليق

        • محمد فطومي
          رئيس ملتقى فرعي
          • 05-06-2010
          • 2433

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة أحمدخيرى مشاهدة المشاركة
          الصديق الأستاذ / محمد فطومي ..

          هى أكثـر من مجرد قصـة ..
          صراحة لا أحب التفخيم في الاعمال التي أقرأها ، ولكنها وبدون ادنى مجاملة " أكثـر من رائعة "

          اشكرك يا صديقي على هذه التحفة .
          الصّديق العزيز أحمد خيري.
          لا يسعني إلّا أن أكون سعيدا بشهادتك حول النصّ، لمعرفتي باشتغالك على جمال نصّك ونجاعته ودقّة لفظه، وذوقِك المتطلّب.
          دمتَ ودام حضورك البهيّ. محبّتي.
          مدوّنة

          فلكُ القصّة القصيرة

          تعليق

          • حسن لشهب
            أديب وكاتب
            • 10-08-2014
            • 654

            #6
            بعد التحية والإشادة بهذا النص الجميل طبعا، دعني أخوض تجربة غوص في أعماقه .
            هو نص يولد من ذاته ، من فضائه اللغوي وفكر السارد الذكي الذي يبحث عن النص عبر إيهام القاريء بحكاية غير جاهزة في الأصل، وهنا تكمن روعة المبنى والمعنى.
            لا شك أننا أمام نص قوي، يتكون ويولد عبر عملية سرد منسابة بلا تكلف . والنتيجة تحققت على مستوى الكتابة والقراءة معا ( بوصف الكاتب متلقيا هو بدوره ).
            نص ممتع بحق.
            تحياتي.
            التعديل الأخير تم بواسطة حسن لشهب; الساعة 27-04-2019, 08:07.

            تعليق

            • محمد فطومي
              رئيس ملتقى فرعي
              • 05-06-2010
              • 2433

              #7
              تحيّة لحضرتك أستاذي حسن لشهب
              كلماتك في حقّ النصّ لا يمكن إلّا أن تكون لي دافعا للعمل ومزيد البحث ومراجعة احترام القارئ وتكراره على نفسي حتّى لا أفقده أو أنساه أو أستخفّ به، لأنّه وراء كلّ عمل فنّي جيّد.
              طابت أوقاتك أخي.
              كلّ الودّ مع شكري الجزيل لك.
              مدوّنة

              فلكُ القصّة القصيرة

              تعليق

              يعمل...
              X