العولمة ... وسجون ضيّقة اا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصباح فوزي رشيد
    يكتب
    • 08-06-2015
    • 1272

    العولمة ... وسجون ضيّقة اا

    في أيام خلت ، قبل أن تغزو كل هذه الألياف البصريّة والمقعّرات الهوائيّة أرضنا وسماءنا ، كان هناك متّسع للمطالعة وقراءة الكتب . وكنت كلما قرأت قصّة من العصور القديمة أو الوسطى ، أجد في نفسي شعورا ورغبة ، وأحن إلى تلك الحقبة من الزّمن؛ كانت حياة الإنسان في ذلك الزّمن ، حياة هادئة وجميلة بلا صخب ولا نصب .
    هذا الانطباع نجده خاصّة لدى فئة من الأشخاص الذين يميلون إلى الرّومنسيّة القديمة ، وإلى " عصر" الشّموع . لكن بالطبع هناك من يخالفهم الرّأي ، فالعالم اليوم في ظل العولمة وآلياتها توفّر لنا الجهد والأوقات اللاّّزمة ، و تختزل لنا المسافات البعيدة ، كالتي كان الإنسان البدائي لا يدركها إلاّ بشقّ الأنفس .
    قبل مجيء العولمة بتعقيداتها ، كان الانسان مرتاح البال ، مطمئنًّا ، راضيًّا . بالرّغم من حياته البسيطة ونمط عيشه البدائي . أما وقد تعكّرت حياته الطّبيعيّة بهذا الصّخب والضجيج ، وتلوّثت بيئته النّقيّة ، وغدا عرضة لأنواع الأمراض المزمنة و الخبيثة ، ولم تعد تنفع معه كل الأدوية الكيماوية التي توصف له من قبل الطّبيب العام والمختص ، فإنّه بات يكفر بهذه العولمة وبكل آلاتها وتعقيداتها .
    صحيح أن المركبة السريعة توفّر له الجهد وتختزل له المسافات البعيدة ، لكن المركبة السريعة تعجّل بقتله أيضا، وليس هذا بيت القصيد ولا مغزى كلامنا . ولو أردنا استعراض عديد المجازر التي تسبّبت فيها وسيلة القمع والدّمار الحديثة ، لما خلص المقال بنا في هذا المقام ، ولنا في كل الحروب المعاصرة أمثلة عن حجم الجرائم المرتكبة .
    إنّما نريد أن نضرب مثلا بتلك الصورة الجميلة للإنسان قبل ظهور الوسيلة السّريعة . ونريد أن نتكلّم عن " فنتازيا " إنسان العصور القديمة حين كان يمتطي دابّته ليس بغرض الاستجمام وحسب ، بل للمغامرة وبدافع الفضول أيضًا .
    في ذاك العصر الجميل كتب السّاخر ( ابوليوس ) قصّته العجيبة : " الحمار الذّهبي " ، وفي القرون الوسطى ، كتب ( ابن بطوطة ) تحفته الشّهيرة :" تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ، حيث جرى وصفه للأمصار التي زارها والمجتمعات التي تعرّف عليها بكل التفاصيل . واليوم في ظل هذه العولمة بتركيبتها المفبركة ، أصبحنا نتابع الأخبار النمطيّة ببرودة تامّة .
    صحيح أن الهاتف الخلوي ، والأنترنت ، ومواقع التواصل الاجتماعي، وبقيّة وسائل اللّهو و الإلهاء ، هي الأخرى تقدّم للإنسان خدمات جمّة لا يمكن حصرها في مجرّد كلمات . لكن في المقابل نكون قد استغنينا عن كثير من الواجبات المفضّلة بفضل هذه الوسائل والألاعيب ؛
    التقيت بصديق قديم وسألته عن أحواله وأحوال أبنائه ، فكان متأسّفا وقال لي بحسرة المتألّم الكئيب : " كل واحد في حاله ".
    لقد حالت مواقع التّواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضيّة بين الرب وعباده ، وبين الأب وابنائه ! . حتى أنّه لم تعد هناك عبادة ولا صلاة ولا تواصل يذكر .
    وصحيح أن محرّك البحث ، " المستر" ( قوقل) وغيره ، يقدّم لنا خدمات جليلة ، فيما يسمّى بالعوالم الافتراضيّة ، فهو بمثابة مركبة افتراضية جد سريعة تجنّبنا معاناة التنقّل من مكان سحيق إلى آخر . لكن هذه المحرّكات قتلت فينا أسمى معاني الإرادة والتّضحيّة ، وعناء التفكير الذي آثره الإنسان منذ زمن " مفكّر الاغريق " . وأمّا البحوث التي استغرق إنجازها زمنا طويلا فصار ثمنها لا يتجاوز دريهمات معدودة . ونحصل عليها في أقل وقت ممكن ، وبذلك قد سهل علينا تبنّي أفكار غيرنا ، وما يسمّى بـ " سرقة المواهب " ، ونربّي النشء على ثقافة " المعلّب " ، ونورّث " العبث " للأجيال القادمة.
    وصحيح أن الإنسان المعاصر استطاع أن ينير الدّروب ويطوّع الصّعاب بفضل تطوير الكهرباء . ومن منّا يستطيع الاستغناء عن الكهرباء في هذه الأيّام ؟ لكنّها ليست كذلك دائما ؛ فحياتنا صارت كالجحيم بسبب الضّوضاء التي تحدثها المحرّكات و البهرجة وهذا الكم من النفايات والأضواء الكاشفة التي تسبّبت في التلوّث البيئي والسّمعي والبصري .
    وقديما كانت الشموع مصدرا للإلهام ، كما أنّها الآن رمز للحب والوفاء ؛ يتبادل " الرّومنسيون " مشاعرهم الدّافئة تحت أنوارها الذّابلة ، بعيدا عن كل تهريج وبهرجة .
    بقدر ما وفّرت علينا العولمة الكثير من الجهد والعناء ، إلاّ إنّها في المقابل ، جعلت من حياتنا وبيوتنا سجونّا ضيّقة.
    يعرّف ( رونالد روبرتسون ) العولمة بأنّها : " اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش ". ويستطرد قائلاً : " والعولمة لا تعني مجرّد الانكماش الموضوعي للعالم ، وإنّما الأهم من الانكماش الذي حدث على صعيدي الزّمان والمكان ، هو وعي العالم لهذا الانكماش ".


    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 19-02-2019, 23:10.
    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
يعمل...
X