العجوز والقهوة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    العجوز والقهوة

    العجوز والقهوة

    خاصم الكرى أجفانه منذ فترة ، و لم يعد قادرا على النوم إلا لماما، تتوالى الأيام رتيبة على إيقاع رقاص الساعة، واستحال الليل إلى لحظات يقظة تتخللها إغفاءات متقطعة ...
    استيقظ مرغما، وبالكاد زم شفتيه ليخنق أنين آلام منبعثة من مفاصله وكأنها تنوي تمزيق جسد هش على وشك الاستسلام.
    يساعد رجليه على مغادرة السرير ، يرتعش جراء برودة الأرض لحظة ملامستها بأصابع قدميه ، جسد هزيل بالكاد يتحمل البرودة، وأنى له أن يشعر بالدفء بعد أن أصبح مجرد هيكل عظمي يكسوه جلد هش تبرز من خلاله شرايين خضراء كأنها عروق نبات تشتاق لنور الشمس..
    يجر نفسه إلى غرفة أخرى بكثير من المعاناة…
    كل يوم يصبح جسده غريبا أكثر فأكثر، يرفض الاستجابة لأوامره وكأنه فقد القدرة على التحكم فيه و ترويضه فلا يملك من أمره غير الانفلات منه بالغوص في عوالم الذكرى والأحلام.
    ويتذكر ...
    في ذلك اليوم غادرت رفيقة العمر…
    يوم لعين يعجز عن اقتلاعه من ذاكرته ولو للحظة، ذكرى يصحبها شعور عميق بالألم والأسى صار مزمنا أو يكاد.
    بلغ المطبخ متعبا وهو يرتعش، أعد بصعوبة كوب قهوة ، وتساءل يائسا :
    ماذا بوسعه أن يفعل وحيدا ؟
    لم يعد يملك شيئا عدا ذاكرة مترعة بالوجد والحنين.
    حمل كوب القهوة بيدين مرتعشتين، بالكاد تمكن من إحاطته بأصابعه المتجمدة. دقت الساعة الخامسة صباحا، ما يزال الظلام جاثما على المكان ، صوت آذان الفجر يصله خافتا هادئا كأنه نداء للرحيل..
    تيمم وصلى الفجر بخشوع فوق الكرسي،ركبتاه ملتهبتان، بالكاد يستطيع ثنيهما جراء ألم يلسعه كتيار كهربائي يستمر صعودا حتى يصطدم بخلايا الدماغ.
    يتذكر كيف كانت تخفف آلامه بما تدخره من زيوت المريمية وإكليل الجبل ودهون الجمال القديمة وشتى من الضمادات، ولسان يقطر عذوبة ترتخي لها عضلاته ، فيغمض عينيه ويستسلم لها كالطفل وقد ارتاح لحضن أم رؤوم.
    ما عاد يملك اليوم غير فكر استباح فضاء ذاكرة متخنة بالشجن والذكرى ...
    غابت بشكل غير متوقع ، ذات صباح وجدها جثة هامدة بعد ليلة شديدة البرودة .
    كم يبدو ذلك اليوم بعيدا !
    ومع مرور الأيام بدأ يشعر بالخوف من فقدان صورتها من ذاكرته . ما من مؤنس له غيرها، لكنه صار يخشى مع مرور الوقت، أن يجد صعوبة في تذكرها يوما ما وهي تضع رأسها على كتفه في الصورة التي يحملها في جيب سترته.
    أغفى قليلا وهو هائم في ذكريات السنين، ولما فتح عينيه المتعبتين كانت الساعة تشير إلى الثامنة . مؤكد أن الأزقة والشوارع قد اكتظت الآن بالناس والسيارات .
    ارتدى ملابسه وحمل عكازه مستعدا للخروج من أجل شراء أشياء قليلة تسمح بالبقاء حتى الغد ، لا داعي للتفكير والتخطيط لما هو أبعد من ذلك لم يعد أي شيء مضمونا.
    ركب الحافلة بصعوبة بالغة
    لم يساعده أحد ككل مرة ، يبدو الناس غير مكترثين إلا بما تنوء به أرواحهم من هموم ..
    تقاذفته الأكتاف و الأيادي داخل الحافلة، حتى أنقذته امرأة أجلسته برفق في مقعدها. ما زال للإنسانية جذور حية متأصلة! تبدو المرأة عطوفة، ونظراتها بها حنان يذكره بالغائبة …
    شكرها وهو يطيل نظره اليها عساه يمتلئ من مشاعرها الإنسانية.
    نزل من الحافلة بصعوبة ، وسار ببطء تجاه السوق الممتاز بحثا عما يلبي نداء حاجاته الحيوية ..
    .لما اقتنى ما أراد اصطف وراء من سبقوه في انتظار الأداء، شعر بنظرات الأعين من خلفه وهي تخترق جسده الهش بلا استئذان ، أمر مزعج ومقلق أن تتفحصك نظرات الناس بهذا الشكل ، ألم تعد لهم هواية غير النظر للآخرين! قدماه متعبتان وذهنه سابح في فضاء الذكرى والأشجان…
    مد النقود للفتاة بيد مرتعشة، حاول جاهدا الإمساك بما أعادت إليه من فكة ، كلما أمسك بإحدى القطع عادت للالتصاق بموضعها كأنها تأبى مغادرته، شعر بنظرات الناس مصوبة إلى أصابع يديه ورقبته المكسوة بالتجاعيد، ارتعب من فكرة تسابقهم لهواتفهم النقالة والتقاط صور تحوله إلى مادة للتداول عبر الشبكة العنكبوتية.
    أحس بالعرق ينز من مسام بشرته، ولما عجز عن التقاط النقود، تخلى عنها وراءه وغادر رغم مناداة الكثيرين عليه ...
    استعاد رباطة جأشه بعد أن سار في الطريق قليلا، وسرعان ما شعر بيد تلمس كتفه، استدار ليجد شابا غريبا يمد إليه النقود.
    _ إنها نقودك يا جدي ،
    تركتها بالمتجر منذ قليل.. شكر الشاب بإيماءة من رأسه وتابع السير وهو يشعر ببعض الذنب من سوء ظنه بالناس.
    بقدر ما صار شعوره بالتعب والوهن يتعاظم، بقدر ما أصبح يقضي سحابة أيامه جالسا فوق مقعده يناجي صورة من غابت، يصيخ السمع لضحكتها و كلماتها و أناتها و لهاثها كأنها لم تبرح المكان قط ...
    بجانب الأريكة الفارغة فنجان فارغ، فراغ مرعب كالليل البهيم.
    ما أثقل الصمت! وما أمر الشعور بعبثية ما يجري وما يحوم به من أشياء! و ما أشد برودة الطقس!.
    كان يحس بجسده ثقيلا أكثر من المعتاد ، أطرافه أصابها شلل وجمود وحتى ضربات القلب التي كانت مؤلمة أحيانا غابت في ظلام الكرى الذي غالب أجفانه في تلك اللحظة ، فاستسلم رغما عنه للكرى ، وكأنما صار للظلمة طعم مشتهى هذه المرة. .

    حسن لشهب
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    قلبي مع هذا العجوز . شعرت به وكأنه قريب مني .
    أجدت الوصف لحالة رفيق رحل عنه رفيقه .
    بحق كنت صادقا هنا
    أجمل تحية

    تعليق

    • مها راجح
      حرف عميق من فم الصمت
      • 22-10-2008
      • 10970

      #3
      الذكريات ..فن البقاء على قيد الحيـــاة

      نص جميل
      رحمك الله يا أمي الغالية

      تعليق

      • حسن لشهب
        أديب وكاتب
        • 10-08-2014
        • 654

        #4
        أسعد دائما بحضورك وتعليقك يا دكتور فوزي .
        تحياتي

        تعليق

        • حسن لشهب
          أديب وكاتب
          • 10-08-2014
          • 654

          #5
          أستاذة مها راجح
          تقديري لمرورك وتعليقك الجميل .

          تعليق

          • الهويمل أبو فهد
            مستشار أدبي
            • 22-07-2011
            • 1475

            #6
            حسن لشهب أنت سيد الوصف والقص
            تملك القارئ وتجعله يعيش التجربة
            ثم تتركه للنتيجة الحتمية

            أعجبتني دورة يوم العجوز (من الفجر حتى ظلمة اشتهاها)
            خطر لي مع النهاية بيت حافظ ابراهيم (وإن كانت المناسبة مختلفة):
            سلام على الدنيا سلام مودع *** رأى في ظلام القبر أنسا ومغنما

            تحية تقدير وإكبار

            تعليق

            • منيره الفهري
              مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
              • 21-12-2010
              • 9870

              #7
              شدتني كل كلمة هنا...شدني الوصف الدقيق..لدرجة أنني أحسست فعلا بآلام هذا العجوز الوفي لذكرى الراحلة ...
              أحب ما تكتب أستاذنا القدير حسن لشهب..
              تحياتي الصادقة ككلماتك هنا....

              تعليق

              • عائده محمد نادر
                عضو الملتقى
                • 18-10-2008
                • 12843

                #8
                ياالله كم كانت الصور تكاد تصرخ
                رائعة حسن
                شعرت بكل لحظة وذاك الفراق الهاديء والضروري
                صوت الاذان والقشعريرة من البرد
                برد الوحدة والسن ووهن العظم
                أحسنت السرد والوصف
                جميلة ومضة الشاب لأن الخير مازال وسيبقى
                جميل أنت حسن والنجوم خلفي لم تعط النص حقه
                محبتي والورد
                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                تعليق

                • حسن لشهب
                  أديب وكاتب
                  • 10-08-2014
                  • 654

                  #9
                  أستاذي المحترم الهويمل أبو فهد
                  مرورك شرف لي وشهادتك تاج على جبين هذا النص.
                  كل التقدير والاحترام.

                  تعليق

                  • حسن لشهب
                    أديب وكاتب
                    • 10-08-2014
                    • 654

                    #10
                    الأستاذة العزيزة منيرة الفهري
                    ما أكرمك سيدتي وما أطيب قلبك .
                    كل الشكر لهذا المرور الجميل والتشجيع الوارف.
                    تقديري واحترامي

                    تعليق

                    • حسن لشهب
                      أديب وكاتب
                      • 10-08-2014
                      • 654

                      #11
                      أستاذة عائدة
                      رمضان مبارك سعيد
                      كالعادة عباراتك مرآة لذائقتك الراقية ومستوى تفاعلك العالي مع كل الأعمال الإبداعية ، وهذه علامة على صدق الرؤية وبعد النظر.
                      شكرا لهذا التشجيع الجميل.
                      تحياتي

                      تعليق

                      يعمل...
                      X