ليلة في فينيسيا ..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سامي الشريم
    أديب وكاتب
    • 11-12-2015
    • 107

    ليلة في فينيسيا ..

    كما لو أنّي أسبح في فضاء الخيال، غير مُصدِّق بأنّي هنا في هذه المدينة العائمة فوق الماء كما تعوم طيورالبجع في قلب الأنهار. المدينة التي انبجست منها موسيقى السمفونية، وتمخضت بأنبل النّاس، ذو النفس الحسّاسة، وصاحب الأنامل التي تضارع أجنحة الأثير، عازف الكمان فيفالدي. إنّها المدينة الخالدة بخلود الحُبِّ والجمال، التي كم وددتُ في مسرح أحلامي اللذيذة أن أكون ضمن سُكانها الأصليين من فرطِ حُبِّي لها وافتتاني بها.
    هأنذا أجوب طرقات عشيقتي "فينيسيا" مُذ باكورة الصباح، سائرًا بتؤده بين أزقتها الضيقة التي هي أقرب شبهًا من صدور أعداء الأوطان. أمشي بين منازلها المُزدانة بالشفق الأزرق وبعرائس الفجر، وأرنو يمنة ويسرة إلى نوافذها التي تشبه أعين الحوريات. ذاهبًا إلى منزل صديقي جيروم، رفيق الغُربة، الّذي دعاني إلى حضور حفل زفافه هذا المساء.
    وأنا في طريقي أسير في هذه المدينة الأكثر نورًا وإشراقًا في العالم، كنتُ أمتّع ناظري في كلّ شيء بهيّ يصادفني في دربي، أتلكأ عنده لدقائق طويلة كما لو أنّي كنتُ أحدّقّ في جمال العالم أجمع، أو كأني أصوّر امرأة رائعة الطلعة ومن ورائها حقول أزهار عبّاد الشمس.
    إنّ فينيسيا بلا مِراء مُدهشة جدًا، إنّها بلد المفاجآت والانبهارات. في كلّ مكان تطأه قدما إنسان هناك، لا بدّ أن ثمّة شيء ما يشدّ انتباهه، ويروي عطش قلبه بالبهجة والنضارة.
    رأيتُ أشياءً فائقة الحسن والبهاء، وسمعتُ أنغامًا وألحانًا لم تتسلّل إلى أذني قبل ذلك اليوم. نظرتُ إلى النهار وهو يضحك على زرقة الماء، وإلى تلك الزوارق التي لا حدّ لها والتي تقوم مقام العربات والسيّارات. رأيتُ الطيور في كلّ مكانٍ، في السماء، وعلى الأرض، وفوق الأبنية، وفوق أعمدة الإنارة. ورأيتُ راقصات بثياب غجرية ترافقهن الجوقات الموسيقية إلى حيث يذهبنّ في كلّ اتجاه في البلد. وسمعتُ أناشيد البحر تتلى كصلوات القديسين.
    إنّني هنا بلا غرو في أحضان ابنة النعيم والفرح.

    بما أنّني من محترفي التجارب، ومن عُشّاق السفر، فأودّ أن أبوح لكم أمرًا أدركته مُنذُ سنوات بعيدة أثناء ترحالي بين المُدن في القارة العجوز، أمرًا لا يبصره جميع السيَّاح ورجال الأعمال المنشغلين عادةً بظواهر الأشياء، والمحرومين دائمًا من لذّة اكتشاف البواطن العميقة، ومن الانتفاع بالكنوز الثمينة والخيرات الفريدة.
    إنّ المُدن مثل الكائنات الحيّة، لكلِّ مدينةٍ ملامحها المختلفة، وروحها التي تتفرّد بها وتميّزها عن غيرها، ولكنها لا تسفر عن تلك الروح سوى إزاء مُولعي الغُربة، والأحرار من الشُّعراء والأدباء. فكم مرّة أدمنتُ السفر إلى بلدانٍ دون سواها من أجلِ أن أملأ قلبي وناظري بفرادة روحها النديّة.

    لنرجع إلى فينيسيا، إلى هذه الصبية الحسناء التي يفوح منها أريج الحياة، إلى إلهة الحُبّ التي تشفي عذابات الإنسان، وتطرح أتراحه بين يديها، إلى هذه السخيّة جدًا والنبيلة التي تستقبل آلاف السيّاح يوميًا بصدرٍ مفتوح، وترحّب بهم كما يرحّب القمر برواد الفضاء.
    هأنذا أقف خاشعًا أمام أبهى مشاهد الحياة، إزاء رجل عجوز قد بانت على سحنته أمارات الشيخوخة. يجلس مُنفردًا مثل تمثال أبي الهول، مطرقًا بصره في صمتٍ رهيب إلى تلك الزوارق المُحاطة بمئات من النوارس. لا أدري ماذا يفكّر به الآن؟ أو ما الشيء الّذي يُحدِّث به نفسه؟ ولكن أتراه يقول في حُزن: "المركب بي أو بدوني سوف يواصل الإبحار، كما الحياة بي أو بدوني سوف تسير.".

    لم أنشغل طويلاً بذلك العجوز شارد الذهن، المُلتهي عن لغط السُيّاح، وعمّا يدوره حوله من أحداث. صرفتُ بصري عن ذلك الغاص في شؤون ما بعد الحياة -هكذا أظنّ-، والتفتُّ إلى يميني، إلى الغارق في ملذات الدُنيا حتّى النخاع. رأيتُ عاشقين في أوجِ شبابهما، متفقان في الأناقة، وفي الهيام. يجلسان بجانب بعضهما بعضًا على رصيفٍ مُرتفع مثل وردتين بضَّتين فوق رابية. ها هو ذا يضع ذراعه حولها كأنّه شال من الصوف، يمنحها الدفء والحنان، والأمان من سِقام الأقدار. ها هو ذا يُقبِّل خدّها الأيمن برقة لذيذة، ويداعبها برومانسية باهرة، وأمّا هي، فلم تلبث إلّا أن لاح على وجهها الإشراق والنقاوة، وانفجرت ملامحها فرحًا وغبطة، وغمرت جو المكان بعبير ابتسامتها النديّة. مرّ من أمامي موكب فخم وجليل، لمسؤول لا أعرفه ولكن يعرفه السُّكان المحليين. لقد أفسد عليّ سيره البطئ، مرأى ما تبقى من تلك الأجواء العاطفية التي أراها دائمًا في المُدن الغربية، والتي تلائم مزاجي وذائقتي جِدًا، وتسعدني حقًّا، ويطرب لها قلبي أيّما طرب.

    وبختني نفسي لمراقبة الآخرين، ونصحتني قائلة: "ما لنا وللنّاس الآن، هيّا امشي إلى الأمام، ثمّة صديق مُرتبك في هذه اللحظة، ويحتاج إليك لتقف بجواره في مناسبته العظيمة، في أهمّ يوم في حياته، ليلة زفافه.. هيّا انصرف."


    يروق لي كثيرًا المشي بتؤدة وتمهل في شوارع المُدن التي تتمتّع بجوٍّ فريد، وبمسحة جمالية، وبألوان سحرية وزاهية، مثلما يوجد في هذه المدينة الخالدة "فينيسيا". ليس من دأبي أبدًا أن أركب سيّارات الأجرة وأن أطوف في البلد شرقًا وغربًا، وأن أتأمّل في المناظر الفاتنة من وراء نافذة المركبة كما لو أنّي أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن روائع المُدن الكُبرى. بهذه الطريقة، لا أتذوق لذّة السفر، كأنّي أعيش على هامش الدُنيا، وأجترح حماقة لا تُغتفر بحقِّ نفسي، في حرمان حواسي -ماعدا حاسة النظر- من الشعور بقيمة الأشياء من حولي والاستمتاع بها.
    إنّني أعشقُ بإخلاص أن أسير لساعات طوال على الأرصفة، وفي الطرقات المُزدحمة بالسُيّاح، وأن أنغمس في أعماق الجلبة والضوصاء، وأن أكون في وسط الفعاليات الباهرة، والأحداث اللذيذة، في قلبِ الجمال الكامن في روح المدينة.

    عُشّاق السفر يعرفون يقينًا أن لكل بلادٍ زاهية، يترامى إليها النّاس من كلِّ بقاع العالم، ثمّة عيوب طفيفة ومساوئ، يَغُضُّونَ أبصارهم عنها طواعية، أو يحتملونها برحابة صدورهم، ولكني أعجز عن صنع ذلك، بالذات في مدينة عريقة وأصيلة، أُحبُّها حتى الثمالة، مثل ملكة الأدرياتيكي "فينسيا". فكما أنّ للعين حقّ التمتُّع بالمحاسن، فإن للأنف حقّ التمتّع بالروائح العطرة والزكية، فالروائح في هذه المدينة تشبه إلى حدٍّ كبير روائح جثث الحيوانات النتنة، كأنّك تجلس بين نساء جميلات، يفوح من أجسادهن العطن والعفونة. بصراحة، لا أحتمل مثل هذه الأشياء، فقد اعتدتُ منذ طفولتي على شمِّ شذا الزهور، وعبير الورد، وعلى استنشاق الهواء النقي في الطبيعة الطافحة بالشجيرات الخضراء، وليس بمقدوري أن أُلزِم نفسي على أن أتعايش مع الريح الكريهة والزخانة. لستُ أدري كيف السُكّان الأصليين هنا، راضين أشدّ الرضا عمّا يجوب في سمائهم من نتانة. أليسوا أكثر الشعوب ضيافة؟ أين كرم الضيافة الكامل، إذن؟ تخيّل معي أن تزور منزل واحد من هؤلاء الرجال المشهورين بالسخاء، فإذا بك تتفاجئ عند لحظة دخولك مع الباب بأن أجواء بيته غامرة بالذفر والنتن! هل تصبر أو تتصنّع الصبر؟ إن كنت تقدر على ذلك، فأنا لا أقدر، أحاول بشتى السُبل أن أنفِد بِجلدِي من هذه الأماكن العفنة.
    لا أدري كيف استدرجني حديث المشي إلى قول كلِّ ذلك! ولكن اغفروا لي هرطقتي المبالغ فيها، فمن طبعي أن أتكلّم بإسهاب، دون تحفُّظ، عمّا يجول بخاطري، عمّا أراه وأستروحه في دربي، من محاسن ومعايب، في المُدن التي أزورها.
    ها أنا على بعد خطوات قليلة من منزل صديق الغُربة. هناك عند الباب، امرأة ورجل كبير، يتجادلان دون هوادة، كأنّهما يتقاتلان لفظيًا. حين نظرا إليّ مقبلاً، توقفا عن الجِدال، وابتسم لي الرجل، وأمّا المرأة فكانت ترنو إلى موطئ قدميها بغضب وكأنّها لا تريد أن أراها بهذه الصورة العنيفة.
    سألني: عمن تبحث؟
    قلت: أهذا بيت العريس جيروم؟
    قال: نعم، ومن أنت؟
    قلت: أنا صديقه المُقرّب "سامح"، إنّي أتطلّع بشوق إلى رؤيته، فلم أره منذ سنوات، بعد حفلة التخرج من الجامعة، وجئت لكي أشاطره الفرح والابتهاج في يومه العظيم، الّذي لا يُنسى.
    بعد أن فرغت من كلامي، هلل الرجل ورحّب بي، والتفتت المرأة إليّ، وقالت مبتهجة: "نعم، إنّ جيروم أخبرنا عنك كثيرًا، وكنّا نتشوّق أيضًا إلى مجيئك، ما أسعدنا بحضورك ! تفضّل، ادخل."

    تكملة..

  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    هل هي مشروع رواية لاني وجدت السرد فيه أسس روائيه
    لو كان الامر كذلك فقد نجحت وبشكل كبير في الاستهلال
    احببت السرد السلس وتلك التفاصيل الدقيقة التي لاينتبه لها الناس لكن الادباء والشعراء لايغفلون عنها
    انتظر ردك كي اعرف
    تحياتي والورد
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • سامي الشريم
      أديب وكاتب
      • 11-12-2015
      • 107

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
      هل هي مشروع رواية لاني وجدت السرد فيه أسس روائيه
      لو كان الامر كذلك فقد نجحت وبشكل كبير في الاستهلال
      احببت السرد السلس وتلك التفاصيل الدقيقة التي لاينتبه لها الناس لكن الادباء والشعراء لايغفلون عنها
      انتظر ردك كي اعرف
      تحياتي والورد
      مرحبًا أستاذة عائدة..
      للأسف، ليس مشروعًا روائيًا.

      تعليق

      • سامي الشريم
        أديب وكاتب
        • 11-12-2015
        • 107

        #4


        حين ولجت إلى المنزل، رأيتُ غرفة الجلوس مغمورة بمعارف العريس وأقاربه، فراحت عيني تبحث عن جيروم من بينهم جميعًا.ليس ثمّة صعوبة ألا ألاحظ صديقي من بين آلاف، فمن يراه لمرّة واحدة لا ينساه طوال العُمر، فهو رجل أبيض السحنة كالقطن، طويل القامة كالنخلة، قويّ البنية كجذعِ سنديانة، ذو شارب كثيف يشبه زغب النعامة، حليق الذقن كجدارٍ أملس، يرتدي نظّارتين كبيرتين مثل منظارين حربيين. أثناء ترحالي ببصري يمنة ويسرة، تناهى إلى مسامعي أنّ أحدهم ينادي اسمي "سامح، سامح"، رحتُ أنظر بانتباه إلى مصدر الصوت، فارتفعت في منتصف الحجرة يد عظيمة فوق رؤوس الحضور، تلوّح لي. كان جيروم جالسًا على أريكة تتسع لسبعة أنفار، محاطًا بمعارفه وأصدقائه المقربين من كلِّ الجهات مثل ملك برفقة حاشيته. عندما أقبلت إليه، نهض من مكانه مسرعًا، تتطاير من وجهه أسارير الفرح والابتهاج. لم يصافحني، بل فتح لي ذراعيه، واحتضنني بقوّة كما لو أنّني عدتُ للتو من حرب. بدأ في تقديمي بطريقة حسنة إزاء الآخرين: "هذا سامح، صديق الغربة والغرفة، لقد حدثتكم كثيرًا عنه، وعن جنونه النبيل، وعن قدراته العجيبة، وكنتم تتوقون إلى رؤيته، وإلى التعرُّف عليه عن كثب، وها هو ذا حاضر بلحمه ودمه بينكم.. أرجو أن تنهكوه بطرح الأسئلة، فهو واسع الثقافة كما هو واسع الحيلة، وكثير الاطلاع كما هو كثير الفضول." ضحك الحاضرون، وهزّوا رؤوسهم مرحبين بي. بعد ذلك، أجلسني جيروم بقربه، وقاللي: " أنا مسرور جِدا لأنّك أتيت إلى منزلي، لقد فاجأتني حقّا بحضورك، هيّا هات ما عندك من أخبار، متى وصلت إلى فينيسيا؟ وفي أيِّ فُندق تقطن الآن؟ ولماذا لم تخبرني موعد مجيئك إلى هنا لكي أستقبلك استقبالاً حارًا في المطار؟".كان جيروم رجلاً حقيقيًا بمعنى الكلمة، يُحبّ البشر والخير، ويُدرِك ببراعة آداب الصُحبة والصداقة. لم تمنعه تلك الرجولة الطاغية التي تشبه الهالة حول رأسه، من أن يحمل في جوفه قلبًا كبيرًا، ومشاعر إنسانية نبيلة وحنونة. لا تقولوا لي إنّي أمدحه لأنّه صديقي المُقرّب، لا وألف لا، كُلّ الّذين التقوا به، أو رافقوه، أو خاطبوه وجهًا لوجه، توصلوا إلى ذات النتيجة التي ذكرتها آنفًا. رحتُ أُجِيب على أسئلته الواحدة تلو الأخرى، وهو كان يُصغي إليّ بشغف كبير بائن على ملامحه، فقد كان يلذ له سماع أحاديثي، ولم يكن يُحبّ قطّ أن يُقاطعني. بعد أن فرغت من كلامي، اكتشفت أن الجميع منتبه إلى كلّ ما قلته، فذهب بعضهم يسألني عن أكثر ما أعجبني، وأكثر ما أثار سخطي في هذه المدينة، فبدأت أُعدِّد لهم المزايا والعيوب التي صادفتني حتّى الآن، وقد اتفقوا معي في بعض ما قلت، وعارضوني على بعضها الآخر. لم يلبث صديقي مُطرقا سمعه إلينا وماأن انتهينا، وحلّت فترة السكوت، حتّى واستغل التوقيت، وأخذ بيدي من بينهم جميعًا إلى جهة أجهلها، وقال لي أثناء سيرنا: "لا تُرهق نفسك بكثرة الكلام يا صاحبي، أنت الآن بحاجة إلى أجواء مُعطرة بعبق من روحك الزاهية، ثمّة حديقة في فناء المنزل، سوف تخلب عقلك، دعنا نتطفل على حياة العصافير ونراقبها في لعبها وعبثها على الأشجار، ونتأمّل بمتعة في النحل وهو يحوّم على الأزهار، والفَراش وهو يجلس على بتلات الورد، فإن لم أُرِك هذا النوع من الجمال البريء الّذي يسكن في فناءالمنزل، سيبقى حسرة في قلبي.".
        وتمّ له ما أراد. جلسنا سويًا في أوّل الحديقة، على أريكة مُعلّقة في الهواء، كأنّها أرجوحة أطفال، ولكني شعرتُ بالاستياء، وعدم الارتياح من ذلك الوضع المُزعج، اعتدتُ الاستلقاء على العشب، والالتصاق بالطبيعة، ومُطالعة سعة السماء ورحابتها. لم يرق لي جلوسي على ذلك الشيء، فاعتذرت منه وقلت له: "أنت ابق فرِحًا كملك فارسي فوق مقعدك المنجّد، وأنا سأفترش الأرض، سأجلس بين الكائنات الرقيقة، كالبستاني الّذي يهوى مُصاحبة نباتاته، ويعشق مُخاطبتها عن قرب.".هزّ رأسه بالإيجاب، ثمّ جلسنا على هذا الحال زُهاء ربع ساعة، تارة نتأمل، وتارة نتناقش على الصعيد الفكري في شتى المناحي، حتّى قدِمت إلينا فتاة حسناء، وجهها نقي جِدًا، يفيض بالحياة. قاطعتنا بلطافة، واتجهت صوب جيروم، فتحدّثت معه بلغته الفرنسية: "أنت هنا مختبئ، كنتُ أبحث عنك في كلِّ مكان بالداخل حتّى قالوا لي إنّك تتشمّس في الحديقة مع أحد أصدقائك.". ثمّ التفتت إليّ بعينين جريئتين، وجاءت نحوي كفرس أصيل، وصافحتني بعذوبة متناهية، كادت يدي اليمنى حين لمست يدها البضّة التي تشبه القمر المضيء، أن تُزهر وتتورد، ثمّ رحّبت بي بالعربية، والابتسامة تتلألأ على محيّاها:"السلام عليكم، أنت سامح صديق أخي". كانت تنطقها كما لو أنّها من أهلِ اللُّغة. قلت: "نعم، أنا صاحبه.". قال لي جيروم: "هذه أختي ليندا، تشبهك في الكثير من الأشياء؛ متعددة المواهب، وتتحدّث أكثر من لُغة، ولديها مطامح كبيرة تسعى إلى تحقيقها مثلك أيضًا، إنكما مجنونان، ومسحوران بفعل الأمور العظيمة، لم لا تتعمقان أكثر مع بعضكما بعضًا، وأنا أذهب إلى الغرفة العلوية، لأني بعازة إلى النوم قرابة الساعة، من أجل أن يكون ذهني نشطًا أثناء مراسيم الزفاف؟".
        ارتبكنا كلانا، ليندا وأنا، ونظرنا إلى جيروم بتعجب، وقلنا في وقتٍ واحد: "تتركنا"، فردّ علينا: "وماالحرج في ذلك؟ هل ستتقاتلان؟ أم ينبغي لي أن أجلس كالحارس عليكما، ثمًّ أريد أن أرتاح، هل هذا مُحرَّم على العريس أيضًا؟." ثمّ ضحك، ضحكته الخفيفة. قلت له: "افعل ما يحلو لك، فأنت رفيق السعادة هذا المساء، خُذ كفايتك من النوم، لكي تريني رقصتك التانغو التي أخبرتني أنك تجيدها، ولم أرك تقوم بها أمامي قطّ.". وثب جيروم من على الأريكة، وراح يخطف يد أخته، ويجرّها نحوه، ثمّ ذهب يراقصها ببراعة تحت أشعة شمس الظهيرة، كما لو أنّهما ثنائي فرنسي يستعرضان في بطولة التانغو. لم يكملا الرقص، تلكأ جيروم في المنتصف، وقال لي: "ها، هل رأيت؟ نحن لنا جذور أرجنتينية." كان يقولها مازحًا، ثمّ تركنا بمفردنا قاصدًا ذلك، وعاد إلى الداخل لكي ينام. كان وجه ليندا متلونًا بلون الورد القرمزي، يغمرها الحياء من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها. تساءلت في نفسي، كيف كانت قبل قليل ترمقني بجسارة، والآن أراها تعجز عن النظر إليّ؟! أظنّها كانت تستمد قوّتها وجرأتها من وجود أخيها بيننا، وحين ترك المكان، التحفت سريعًا رداء الخجل. لكن لا ضير في ذلك، فهذا الطبع في جميع النساء، على الأخص الحسناوات منهن.

        تكملة.
        التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 11-08-2019, 22:56.

        تعليق

        • سامي الشريم
          أديب وكاتب
          • 11-12-2015
          • 107

          #5
          في غمرة استغراقي بتأمُّل سحنة ليندا التي تشبه وجه حورية في السماوات، خطر لي خاطر أن أسألها عن مواهبها، وعن أهدافها في الغد البعيد.
          قلت لها: "سمعتُ أخيك يقول إنّكِ تُجيدين الكثير من الأمور، هل لي أن أعرف ما هي؟."
          راحت تردّد من بعدي متعجبة: "الكثير من الأمورَ.".
          ثمّ أردفت قائلة: "إنّ أخي يُبالغ كثيرًا، ويُضخِّم من الصغائر، إنّه يُحبّ أن يكيل المديح الزائف لمعارفه، أنت صديقه الحميم ومؤكد أنّك على اطلاع بهذا الشأن! هو يعلم أنّي لا أتقِن سوى أربع لغات بحُكم موقعي الجغرافي، ومكان نشأتي، ومتطلبات سوق العمل، وهي: الألمانية، والإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية. وهو يدري أيضًا أنّي أسوأ عازفة على مرّ العصور، ولكني لا أفتأ أحبو على ركبتي ويدي في تطوير هذه الهبة السماوية، إنّي لم أزل أتذوق معزوفات بيتهوفن، وتشايكوفسكي، وشوبان، وغيرهم من عمالقة الموسيقى، وأتدرّب على محاكاتها من حين إلى حين، بقدر ما أستطيع. هذا كلّ ما في الأمر.".
          يتراءى لي من خلال كلامها وتصرفاتها أن دمها حامٍ في عروقها، كانت وهي تتحدّث معي لا تستقر في مكانها، ولا تكفّ عن تحريك يديها يمنة ويسرة كالبهلوان المُضحك، ولكن الحقّ يقال أنّها قد أثارت إعجابي بها في هذه الفترة الوجيزة، يلوح لي أنّها ذات أخلاق سامية، وذات عقلية جبّارة لا يُستهان بها.
          استفهمت بفضول: "وأنت ماذا لديك من هِبات؟."
          أجبتها على سؤالها: "أتكلّم الإنجليزية، والفرنسية، والعبرية، والإسبانية، وقليلٌ من الإيطالية، ولي شغف كبير في الفن والموسيقى والأدب. لقد قُيِّض لي من فوق سبع سماوات أن أعثر على كنوز الربّ في أعماقي، في السنوات الأربع الأخيرة من حياتي. لقد اكتشفت أنّي روائي ورسام وعازف بيانو، كلها بالمصادفة، بالتجربة الأولى والثانية والثالثة. لقد كانت مخبأة في أعماقي، ظلت تنتظرني طوال تلك السنين الفائتة لأخرجها من مرقدها، ولكن لا أخفيك يا ليندا أنّ المواهب الثلاث على قدر ما فيها من شقاء وعناء، وعلى قدر ما تُدخلني فيه -أحيانًا- من جوٍ كئيب إلا أنّ لها الفضل العظيم في مساعدتي على تحرير عقلي وروحي، وعلى رؤية العالم بشكلٍ أنقى وأفضل. إن الأدب والفن والموسيقى يا ليندا، تُدنينا من مراتب الملائكة".
          ظهرت عليها أمارات السرور والانبساط، فسألتني: "ما رأيك أن ألقبك بالأخطبوط المبدع؟ كلّ يد لها استعمال منفرد في شيء ما.".
          "فكرة جيدة، لم لا ؟ سيكون لي نصيب من الشهرة والمال بسبب هذا اللقب." قلتها ضاحكًا.
          ألقت نظرة تأملية على عيني، ثمّ قالت لي: "إذن، تريد أن تجني من وراء مواهبك؛ المال، والشهرة".
          قلت لها: "ليستا على بالي أبدًا، ولكن إن كانتا حقًا سوف تدفعاني إلى بذل مجهود أكبر، وإلى الخلق والإبداع، فلا أرى حرجًا في ذلك، فمعظم الروائيين الروس، ومنهم تشيخوف، ودوستويفسكي، كان دافع الكتابة لديهم هو المال، من أجل تخليص ديونهم، ومن أجل العيش في رغد بعد الفاقة. نصف الأدباء من العرب والغرب، الّذين خلّدهم التاريخ، والّذين ساهموا في تغيير مجرى حياة النّاس، كانوا يسعون بشغف وراء العظمة والمجد، وقد حققوهما".
          لا تدري بالتمام ماذا تردّ عليّ، لقد سكتت، وراحت تُطرِق التفكير فيما قلته لها قبل قليل. وفي غمرة سكوتنا، إذا ليندا تقول: "دعني أُحضِر لك من الداخل بعض الحلوى والكعك".
          ذهبتَ، وبقيتُ وحدي في الحديقة، أتأمّل في بهاء النباتات من حولي، وإذ بليندا تعود أدراجها بعد دقيقتين، معها صحن الحلوى والكعك. قدّمتها لي وقالت: " بعد أن تفرغ من الأكل، ثمّة فعالية تقام في الطابق العلوي، ستروق لك حتمًا".
          قلت لها: "يمكنني أن أحمل الطعام معي إلى هناك، أليس كذلك؟."
          قالت لي: "نعم، بكلّ تأكيد، هيّا تعال".
          رحنا سويًا إلى الدور الثاني، إلى غرفة مُترعة بالفتيات والفتيان، يجلس كلّ واحدٍ منهم إزاء لوحة بيضاء، وبين يديه فُرش الرسم، وفي منتصف الغرفة، صبية عارية تمامًا، حسناء كبدائع الربيع، ولكن يبدو عليها علامات الضجر والتعب.
          "لم لا تنخرط مع هؤلاء في رسم تلك الفتاة، ستحظى بكثير من اللذّة والمتعة؟" قالت ليندا ذلك.
          قلت لها: "لا رغبة لي في الرسم اليوم، سأشاهد من المُدرجات، وغدًا إن كانت ثمّة مسابقة، سأكون أول المشاركين... سأعود أدراجي الآن.".
          قالت: "ظننتك ستطيل المكوث هنا، ولكن كما تشاء.".
          عدتُ إلى الدور السُفلي، وجلستُ على الأريكة بين الضيوف، وأزجيتُ الوقت أتجاذب الأحاديث والمناقشات معهم إلى أن دنت الشمس من المغيب، ثمّ راح الجميع يستعدون لمراسم الاحتفال بالزفاف. نزل بعد ذلك صديقي جيروم، عريسنا السعيد، إلى الأسفل، مُرتديًا بدلة سوداء أنيقة مثل حظّي السيِّئ، وربطة عنق فاخرة، تلك الربطة التي تشبه أذني "ميكي ماوس"، وحاملاً في يده اليمنى طاقة من الزهور.
          خرجنا جميعًا مشيًا على أقدامنا إلى بيت أهل العروس، فهذه عادة من عادات الطليان، أن يروح العريس إلى مسكن العروس ليصطحبها إلى مقرّ الحفل. كانت فينيسيا في اللّيل أبهى بكثير منها في النهار، فانعكاس أضواء البيوت، ومصابيح الطرقات، على الماء أضفى على المدينة سحرًا وفتنة، كان السير في لياليها أقرب ما يكون بالتجوُّل في متحفٍ للفنون.
          حين وصلنا إلى هناك، أخذ جيروم بيد زوجته، ورحنا وراءه نمشي، وحولنا تتدفق الينابيع، وتتحرك رؤوس الأشجار الغضّة بمباركة الريح، إلى أن توقفنا في داخل القاعة، ثمّ بدأ الاحتفال، وصدحت أصوات الأغاني الشجيِّة، ورقص الضيوف، وبعد ساعات، ذهبنا إلى موائد الطعام، وأكلنا ما لذّ وطاب من خيرات الرب، وبعد ذلك، عدنا وجلسنا إلى الكراسي، ننظر إلى عريسنا وهو يقوم بتقبيل زوجته قُبلة الترحيب بقدومها في حياته، وسط تصفيق وتبريكات الحضور.

          - تمت -
          التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 11-08-2019, 23:00.

          تعليق

          يعمل...
          X