كما لو أنّي أسبح في فضاء الخيال، غير مُصدِّق بأنّي هنا في هذه المدينة العائمة فوق الماء كما تعوم طيورالبجع في قلب الأنهار. المدينة التي انبجست منها موسيقى السمفونية، وتمخضت بأنبل النّاس، ذو النفس الحسّاسة، وصاحب الأنامل التي تضارع أجنحة الأثير، عازف الكمان فيفالدي. إنّها المدينة الخالدة بخلود الحُبِّ والجمال، التي كم وددتُ في مسرح أحلامي اللذيذة أن أكون ضمن سُكانها الأصليين من فرطِ حُبِّي لها وافتتاني بها.
هأنذا أجوب طرقات عشيقتي "فينيسيا" مُذ باكورة الصباح، سائرًا بتؤده بين أزقتها الضيقة التي هي أقرب شبهًا من صدور أعداء الأوطان. أمشي بين منازلها المُزدانة بالشفق الأزرق وبعرائس الفجر، وأرنو يمنة ويسرة إلى نوافذها التي تشبه أعين الحوريات. ذاهبًا إلى منزل صديقي جيروم، رفيق الغُربة، الّذي دعاني إلى حضور حفل زفافه هذا المساء.
وأنا في طريقي أسير في هذه المدينة الأكثر نورًا وإشراقًا في العالم، كنتُ أمتّع ناظري في كلّ شيء بهيّ يصادفني في دربي، أتلكأ عنده لدقائق طويلة كما لو أنّي كنتُ أحدّقّ في جمال العالم أجمع، أو كأني أصوّر امرأة رائعة الطلعة ومن ورائها حقول أزهار عبّاد الشمس.
إنّ فينيسيا بلا مِراء مُدهشة جدًا، إنّها بلد المفاجآت والانبهارات. في كلّ مكان تطأه قدما إنسان هناك، لا بدّ أن ثمّة شيء ما يشدّ انتباهه، ويروي عطش قلبه بالبهجة والنضارة.
رأيتُ أشياءً فائقة الحسن والبهاء، وسمعتُ أنغامًا وألحانًا لم تتسلّل إلى أذني قبل ذلك اليوم. نظرتُ إلى النهار وهو يضحك على زرقة الماء، وإلى تلك الزوارق التي لا حدّ لها والتي تقوم مقام العربات والسيّارات. رأيتُ الطيور في كلّ مكانٍ، في السماء، وعلى الأرض، وفوق الأبنية، وفوق أعمدة الإنارة. ورأيتُ راقصات بثياب غجرية ترافقهن الجوقات الموسيقية إلى حيث يذهبنّ في كلّ اتجاه في البلد. وسمعتُ أناشيد البحر تتلى كصلوات القديسين.
إنّني هنا بلا غرو في أحضان ابنة النعيم والفرح.
بما أنّني من محترفي التجارب، ومن عُشّاق السفر، فأودّ أن أبوح لكم أمرًا أدركته مُنذُ سنوات بعيدة أثناء ترحالي بين المُدن في القارة العجوز، أمرًا لا يبصره جميع السيَّاح ورجال الأعمال المنشغلين عادةً بظواهر الأشياء، والمحرومين دائمًا من لذّة اكتشاف البواطن العميقة، ومن الانتفاع بالكنوز الثمينة والخيرات الفريدة.
إنّ المُدن مثل الكائنات الحيّة، لكلِّ مدينةٍ ملامحها المختلفة، وروحها التي تتفرّد بها وتميّزها عن غيرها، ولكنها لا تسفر عن تلك الروح سوى إزاء مُولعي الغُربة، والأحرار من الشُّعراء والأدباء. فكم مرّة أدمنتُ السفر إلى بلدانٍ دون سواها من أجلِ أن أملأ قلبي وناظري بفرادة روحها النديّة.
لنرجع إلى فينيسيا، إلى هذه الصبية الحسناء التي يفوح منها أريج الحياة، إلى إلهة الحُبّ التي تشفي عذابات الإنسان، وتطرح أتراحه بين يديها، إلى هذه السخيّة جدًا والنبيلة التي تستقبل آلاف السيّاح يوميًا بصدرٍ مفتوح، وترحّب بهم كما يرحّب القمر برواد الفضاء.
هأنذا أقف خاشعًا أمام أبهى مشاهد الحياة، إزاء رجل عجوز قد بانت على سحنته أمارات الشيخوخة. يجلس مُنفردًا مثل تمثال أبي الهول، مطرقًا بصره في صمتٍ رهيب إلى تلك الزوارق المُحاطة بمئات من النوارس. لا أدري ماذا يفكّر به الآن؟ أو ما الشيء الّذي يُحدِّث به نفسه؟ ولكن أتراه يقول في حُزن: "المركب بي أو بدوني سوف يواصل الإبحار، كما الحياة بي أو بدوني سوف تسير.".
لم أنشغل طويلاً بذلك العجوز شارد الذهن، المُلتهي عن لغط السُيّاح، وعمّا يدوره حوله من أحداث. صرفتُ بصري عن ذلك الغاص في شؤون ما بعد الحياة -هكذا أظنّ-، والتفتُّ إلى يميني، إلى الغارق في ملذات الدُنيا حتّى النخاع. رأيتُ عاشقين في أوجِ شبابهما، متفقان في الأناقة، وفي الهيام. يجلسان بجانب بعضهما بعضًا على رصيفٍ مُرتفع مثل وردتين بضَّتين فوق رابية. ها هو ذا يضع ذراعه حولها كأنّه شال من الصوف، يمنحها الدفء والحنان، والأمان من سِقام الأقدار. ها هو ذا يُقبِّل خدّها الأيمن برقة لذيذة، ويداعبها برومانسية باهرة، وأمّا هي، فلم تلبث إلّا أن لاح على وجهها الإشراق والنقاوة، وانفجرت ملامحها فرحًا وغبطة، وغمرت جو المكان بعبير ابتسامتها النديّة. مرّ من أمامي موكب فخم وجليل، لمسؤول لا أعرفه ولكن يعرفه السُّكان المحليين. لقد أفسد عليّ سيره البطئ، مرأى ما تبقى من تلك الأجواء العاطفية التي أراها دائمًا في المُدن الغربية، والتي تلائم مزاجي وذائقتي جِدًا، وتسعدني حقًّا، ويطرب لها قلبي أيّما طرب.
وبختني نفسي لمراقبة الآخرين، ونصحتني قائلة: "ما لنا وللنّاس الآن، هيّا امشي إلى الأمام، ثمّة صديق مُرتبك في هذه اللحظة، ويحتاج إليك لتقف بجواره في مناسبته العظيمة، في أهمّ يوم في حياته، ليلة زفافه.. هيّا انصرف."
يروق لي كثيرًا المشي بتؤدة وتمهل في شوارع المُدن التي تتمتّع بجوٍّ فريد، وبمسحة جمالية، وبألوان سحرية وزاهية، مثلما يوجد في هذه المدينة الخالدة "فينيسيا". ليس من دأبي أبدًا أن أركب سيّارات الأجرة وأن أطوف في البلد شرقًا وغربًا، وأن أتأمّل في المناظر الفاتنة من وراء نافذة المركبة كما لو أنّي أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن روائع المُدن الكُبرى. بهذه الطريقة، لا أتذوق لذّة السفر، كأنّي أعيش على هامش الدُنيا، وأجترح حماقة لا تُغتفر بحقِّ نفسي، في حرمان حواسي -ماعدا حاسة النظر- من الشعور بقيمة الأشياء من حولي والاستمتاع بها.
إنّني أعشقُ بإخلاص أن أسير لساعات طوال على الأرصفة، وفي الطرقات المُزدحمة بالسُيّاح، وأن أنغمس في أعماق الجلبة والضوصاء، وأن أكون في وسط الفعاليات الباهرة، والأحداث اللذيذة، في قلبِ الجمال الكامن في روح المدينة.
عُشّاق السفر يعرفون يقينًا أن لكل بلادٍ زاهية، يترامى إليها النّاس من كلِّ بقاع العالم، ثمّة عيوب طفيفة ومساوئ، يَغُضُّونَ أبصارهم عنها طواعية، أو يحتملونها برحابة صدورهم، ولكني أعجز عن صنع ذلك، بالذات في مدينة عريقة وأصيلة، أُحبُّها حتى الثمالة، مثل ملكة الأدرياتيكي "فينسيا". فكما أنّ للعين حقّ التمتُّع بالمحاسن، فإن للأنف حقّ التمتّع بالروائح العطرة والزكية، فالروائح في هذه المدينة تشبه إلى حدٍّ كبير روائح جثث الحيوانات النتنة، كأنّك تجلس بين نساء جميلات، يفوح من أجسادهن العطن والعفونة. بصراحة، لا أحتمل مثل هذه الأشياء، فقد اعتدتُ منذ طفولتي على شمِّ شذا الزهور، وعبير الورد، وعلى استنشاق الهواء النقي في الطبيعة الطافحة بالشجيرات الخضراء، وليس بمقدوري أن أُلزِم نفسي على أن أتعايش مع الريح الكريهة والزخانة. لستُ أدري كيف السُكّان الأصليين هنا، راضين أشدّ الرضا عمّا يجوب في سمائهم من نتانة. أليسوا أكثر الشعوب ضيافة؟ أين كرم الضيافة الكامل، إذن؟ تخيّل معي أن تزور منزل واحد من هؤلاء الرجال المشهورين بالسخاء، فإذا بك تتفاجئ عند لحظة دخولك مع الباب بأن أجواء بيته غامرة بالذفر والنتن! هل تصبر أو تتصنّع الصبر؟ إن كنت تقدر على ذلك، فأنا لا أقدر، أحاول بشتى السُبل أن أنفِد بِجلدِي من هذه الأماكن العفنة.
لا أدري كيف استدرجني حديث المشي إلى قول كلِّ ذلك! ولكن اغفروا لي هرطقتي المبالغ فيها، فمن طبعي أن أتكلّم بإسهاب، دون تحفُّظ، عمّا يجول بخاطري، عمّا أراه وأستروحه في دربي، من محاسن ومعايب، في المُدن التي أزورها.
ها أنا على بعد خطوات قليلة من منزل صديق الغُربة. هناك عند الباب، امرأة ورجل كبير، يتجادلان دون هوادة، كأنّهما يتقاتلان لفظيًا. حين نظرا إليّ مقبلاً، توقفا عن الجِدال، وابتسم لي الرجل، وأمّا المرأة فكانت ترنو إلى موطئ قدميها بغضب وكأنّها لا تريد أن أراها بهذه الصورة العنيفة.
سألني: عمن تبحث؟
قلت: أهذا بيت العريس جيروم؟
قال: نعم، ومن أنت؟
قلت: أنا صديقه المُقرّب "سامح"، إنّي أتطلّع بشوق إلى رؤيته، فلم أره منذ سنوات، بعد حفلة التخرج من الجامعة، وجئت لكي أشاطره الفرح والابتهاج في يومه العظيم، الّذي لا يُنسى.
بعد أن فرغت من كلامي، هلل الرجل ورحّب بي، والتفتت المرأة إليّ، وقالت مبتهجة: "نعم، إنّ جيروم أخبرنا عنك كثيرًا، وكنّا نتشوّق أيضًا إلى مجيئك، ما أسعدنا بحضورك ! تفضّل، ادخل."
تكملة..
هأنذا أجوب طرقات عشيقتي "فينيسيا" مُذ باكورة الصباح، سائرًا بتؤده بين أزقتها الضيقة التي هي أقرب شبهًا من صدور أعداء الأوطان. أمشي بين منازلها المُزدانة بالشفق الأزرق وبعرائس الفجر، وأرنو يمنة ويسرة إلى نوافذها التي تشبه أعين الحوريات. ذاهبًا إلى منزل صديقي جيروم، رفيق الغُربة، الّذي دعاني إلى حضور حفل زفافه هذا المساء.
وأنا في طريقي أسير في هذه المدينة الأكثر نورًا وإشراقًا في العالم، كنتُ أمتّع ناظري في كلّ شيء بهيّ يصادفني في دربي، أتلكأ عنده لدقائق طويلة كما لو أنّي كنتُ أحدّقّ في جمال العالم أجمع، أو كأني أصوّر امرأة رائعة الطلعة ومن ورائها حقول أزهار عبّاد الشمس.
إنّ فينيسيا بلا مِراء مُدهشة جدًا، إنّها بلد المفاجآت والانبهارات. في كلّ مكان تطأه قدما إنسان هناك، لا بدّ أن ثمّة شيء ما يشدّ انتباهه، ويروي عطش قلبه بالبهجة والنضارة.
رأيتُ أشياءً فائقة الحسن والبهاء، وسمعتُ أنغامًا وألحانًا لم تتسلّل إلى أذني قبل ذلك اليوم. نظرتُ إلى النهار وهو يضحك على زرقة الماء، وإلى تلك الزوارق التي لا حدّ لها والتي تقوم مقام العربات والسيّارات. رأيتُ الطيور في كلّ مكانٍ، في السماء، وعلى الأرض، وفوق الأبنية، وفوق أعمدة الإنارة. ورأيتُ راقصات بثياب غجرية ترافقهن الجوقات الموسيقية إلى حيث يذهبنّ في كلّ اتجاه في البلد. وسمعتُ أناشيد البحر تتلى كصلوات القديسين.
إنّني هنا بلا غرو في أحضان ابنة النعيم والفرح.
بما أنّني من محترفي التجارب، ومن عُشّاق السفر، فأودّ أن أبوح لكم أمرًا أدركته مُنذُ سنوات بعيدة أثناء ترحالي بين المُدن في القارة العجوز، أمرًا لا يبصره جميع السيَّاح ورجال الأعمال المنشغلين عادةً بظواهر الأشياء، والمحرومين دائمًا من لذّة اكتشاف البواطن العميقة، ومن الانتفاع بالكنوز الثمينة والخيرات الفريدة.
إنّ المُدن مثل الكائنات الحيّة، لكلِّ مدينةٍ ملامحها المختلفة، وروحها التي تتفرّد بها وتميّزها عن غيرها، ولكنها لا تسفر عن تلك الروح سوى إزاء مُولعي الغُربة، والأحرار من الشُّعراء والأدباء. فكم مرّة أدمنتُ السفر إلى بلدانٍ دون سواها من أجلِ أن أملأ قلبي وناظري بفرادة روحها النديّة.
لنرجع إلى فينيسيا، إلى هذه الصبية الحسناء التي يفوح منها أريج الحياة، إلى إلهة الحُبّ التي تشفي عذابات الإنسان، وتطرح أتراحه بين يديها، إلى هذه السخيّة جدًا والنبيلة التي تستقبل آلاف السيّاح يوميًا بصدرٍ مفتوح، وترحّب بهم كما يرحّب القمر برواد الفضاء.
هأنذا أقف خاشعًا أمام أبهى مشاهد الحياة، إزاء رجل عجوز قد بانت على سحنته أمارات الشيخوخة. يجلس مُنفردًا مثل تمثال أبي الهول، مطرقًا بصره في صمتٍ رهيب إلى تلك الزوارق المُحاطة بمئات من النوارس. لا أدري ماذا يفكّر به الآن؟ أو ما الشيء الّذي يُحدِّث به نفسه؟ ولكن أتراه يقول في حُزن: "المركب بي أو بدوني سوف يواصل الإبحار، كما الحياة بي أو بدوني سوف تسير.".
لم أنشغل طويلاً بذلك العجوز شارد الذهن، المُلتهي عن لغط السُيّاح، وعمّا يدوره حوله من أحداث. صرفتُ بصري عن ذلك الغاص في شؤون ما بعد الحياة -هكذا أظنّ-، والتفتُّ إلى يميني، إلى الغارق في ملذات الدُنيا حتّى النخاع. رأيتُ عاشقين في أوجِ شبابهما، متفقان في الأناقة، وفي الهيام. يجلسان بجانب بعضهما بعضًا على رصيفٍ مُرتفع مثل وردتين بضَّتين فوق رابية. ها هو ذا يضع ذراعه حولها كأنّه شال من الصوف، يمنحها الدفء والحنان، والأمان من سِقام الأقدار. ها هو ذا يُقبِّل خدّها الأيمن برقة لذيذة، ويداعبها برومانسية باهرة، وأمّا هي، فلم تلبث إلّا أن لاح على وجهها الإشراق والنقاوة، وانفجرت ملامحها فرحًا وغبطة، وغمرت جو المكان بعبير ابتسامتها النديّة. مرّ من أمامي موكب فخم وجليل، لمسؤول لا أعرفه ولكن يعرفه السُّكان المحليين. لقد أفسد عليّ سيره البطئ، مرأى ما تبقى من تلك الأجواء العاطفية التي أراها دائمًا في المُدن الغربية، والتي تلائم مزاجي وذائقتي جِدًا، وتسعدني حقًّا، ويطرب لها قلبي أيّما طرب.
وبختني نفسي لمراقبة الآخرين، ونصحتني قائلة: "ما لنا وللنّاس الآن، هيّا امشي إلى الأمام، ثمّة صديق مُرتبك في هذه اللحظة، ويحتاج إليك لتقف بجواره في مناسبته العظيمة، في أهمّ يوم في حياته، ليلة زفافه.. هيّا انصرف."
يروق لي كثيرًا المشي بتؤدة وتمهل في شوارع المُدن التي تتمتّع بجوٍّ فريد، وبمسحة جمالية، وبألوان سحرية وزاهية، مثلما يوجد في هذه المدينة الخالدة "فينيسيا". ليس من دأبي أبدًا أن أركب سيّارات الأجرة وأن أطوف في البلد شرقًا وغربًا، وأن أتأمّل في المناظر الفاتنة من وراء نافذة المركبة كما لو أنّي أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن روائع المُدن الكُبرى. بهذه الطريقة، لا أتذوق لذّة السفر، كأنّي أعيش على هامش الدُنيا، وأجترح حماقة لا تُغتفر بحقِّ نفسي، في حرمان حواسي -ماعدا حاسة النظر- من الشعور بقيمة الأشياء من حولي والاستمتاع بها.
إنّني أعشقُ بإخلاص أن أسير لساعات طوال على الأرصفة، وفي الطرقات المُزدحمة بالسُيّاح، وأن أنغمس في أعماق الجلبة والضوصاء، وأن أكون في وسط الفعاليات الباهرة، والأحداث اللذيذة، في قلبِ الجمال الكامن في روح المدينة.
عُشّاق السفر يعرفون يقينًا أن لكل بلادٍ زاهية، يترامى إليها النّاس من كلِّ بقاع العالم، ثمّة عيوب طفيفة ومساوئ، يَغُضُّونَ أبصارهم عنها طواعية، أو يحتملونها برحابة صدورهم، ولكني أعجز عن صنع ذلك، بالذات في مدينة عريقة وأصيلة، أُحبُّها حتى الثمالة، مثل ملكة الأدرياتيكي "فينسيا". فكما أنّ للعين حقّ التمتُّع بالمحاسن، فإن للأنف حقّ التمتّع بالروائح العطرة والزكية، فالروائح في هذه المدينة تشبه إلى حدٍّ كبير روائح جثث الحيوانات النتنة، كأنّك تجلس بين نساء جميلات، يفوح من أجسادهن العطن والعفونة. بصراحة، لا أحتمل مثل هذه الأشياء، فقد اعتدتُ منذ طفولتي على شمِّ شذا الزهور، وعبير الورد، وعلى استنشاق الهواء النقي في الطبيعة الطافحة بالشجيرات الخضراء، وليس بمقدوري أن أُلزِم نفسي على أن أتعايش مع الريح الكريهة والزخانة. لستُ أدري كيف السُكّان الأصليين هنا، راضين أشدّ الرضا عمّا يجوب في سمائهم من نتانة. أليسوا أكثر الشعوب ضيافة؟ أين كرم الضيافة الكامل، إذن؟ تخيّل معي أن تزور منزل واحد من هؤلاء الرجال المشهورين بالسخاء، فإذا بك تتفاجئ عند لحظة دخولك مع الباب بأن أجواء بيته غامرة بالذفر والنتن! هل تصبر أو تتصنّع الصبر؟ إن كنت تقدر على ذلك، فأنا لا أقدر، أحاول بشتى السُبل أن أنفِد بِجلدِي من هذه الأماكن العفنة.
لا أدري كيف استدرجني حديث المشي إلى قول كلِّ ذلك! ولكن اغفروا لي هرطقتي المبالغ فيها، فمن طبعي أن أتكلّم بإسهاب، دون تحفُّظ، عمّا يجول بخاطري، عمّا أراه وأستروحه في دربي، من محاسن ومعايب، في المُدن التي أزورها.
ها أنا على بعد خطوات قليلة من منزل صديق الغُربة. هناك عند الباب، امرأة ورجل كبير، يتجادلان دون هوادة، كأنّهما يتقاتلان لفظيًا. حين نظرا إليّ مقبلاً، توقفا عن الجِدال، وابتسم لي الرجل، وأمّا المرأة فكانت ترنو إلى موطئ قدميها بغضب وكأنّها لا تريد أن أراها بهذه الصورة العنيفة.
سألني: عمن تبحث؟
قلت: أهذا بيت العريس جيروم؟
قال: نعم، ومن أنت؟
قلت: أنا صديقه المُقرّب "سامح"، إنّي أتطلّع بشوق إلى رؤيته، فلم أره منذ سنوات، بعد حفلة التخرج من الجامعة، وجئت لكي أشاطره الفرح والابتهاج في يومه العظيم، الّذي لا يُنسى.
بعد أن فرغت من كلامي، هلل الرجل ورحّب بي، والتفتت المرأة إليّ، وقالت مبتهجة: "نعم، إنّ جيروم أخبرنا عنك كثيرًا، وكنّا نتشوّق أيضًا إلى مجيئك، ما أسعدنا بحضورك ! تفضّل، ادخل."
تكملة..
تعليق