شجن الرمل والبحر
في قريتنا الصحراوية بالجنوب بين الكثبان كان للزمن سطوة وقوة، و بعفوية طفولية، كنا ننفلت من جبروته ، بالقفز فوق الأحجار والانزلاق فوق الرمال ، كنا نجري وراء القطط والكلاب، وأحيانا وراء الزواحف والحشرات، نشرب مياه الآبار ونغفو تحت الأشجار ، كنا نسمع ونروي عن البحر قصصا وروايات ، و نتابع ما يتداوله الناس على لسان من هاجروا خارج البلاد…
وتوالت السنوات…
يوما ما بعد أن أذاقتنا الحياة من مرارتها أصنافا وضعتنا أمام حتمية السفر، وجدت نفسي مع زمرة من الأشخاص فوق مركب ونحن نشق عباب البحر.
داهمني شعور بالوحدة حين كنا على ظهر المركب. بشكل يائس كنت أنقل عيني بين الأفراد ، خائفا مرتعشا مثل البائس ، تكبلني هواجسي وآلامي، متسائلا مرعوبا، حائرا وموجوعا ؟
كل شيء ضبابي ، مريب ويملأ نفسي وجلا ... و ككل مرة هاجمني الحنين والشوق لعائلتي وصوت أمي ليزيدني عذابا .
في الظلام كنا نتحرك في هذا المدى المائي الشاسع، وأنا أرتعش من شدة البرد والرعب ، وفي العين لمعت دموع خجل وكبرياء، فقد كان الظلام مصدرا لخوفي منذ الصغر، كنت أخشى النوم بعيدا عن حضن والدتي فلا أغمض عيني إلا والمصباح مضاء ليخفف عني رهاب الظلام ، أتعبتني الرحلة من البداية متل طير أضناه الترحال ، كان علي أن أختار بين وطن الأم و وطن الغربة، وبالقلب ضياع وغموض زادته حدة ظلمة الليل
و موج البحر الهادر .
المركب كالحلم يخترق المدى الحالك بسكون، يرتعش مع صيحات ورعب الركاب صعودا وهبوطا على إيقاع حركات الموج ولحن حناجر أحرقها الوجع..
ما خفف من قلقي أن الوضع كان مشتركا مع آخرين يرفعون الأكف لله طلبا للنجاة تحت ضوء القمر وهبات الرياح التي تصفع الوجوه برذاذ مياه البحر ..
لم يكن مركبا مناسبا لرحلة في عمق البحر، ولا لمقاومته وهو غاضب كوحش مخيف ، قبلناه لأنه ما كان لدينا في الأصل اختيار، فكان هو الأفضل بالضرورة.
لدي قليل من الطعام و خمس ليترات من الماء وقدر كاف من عملة الأورو خاطتها أمي بملابسي الداخلية .
كثيرا ما سمعت الناس يرددون :
" هناك حيث يلتقي الماء بالسماء وراء الأفق تجدون عالم الحرية والثراء ".
رغم خوفي كان لدي شعور غامض بالسعادة ينبعث من داخلي وطفقت أردد " الآن تحقق حلم مواجهة البحر والمغامرة نحو الضفة الأخرى" حلم تلونه ظلمة غربة هائمة في كبد السماء.
أغمضت عيني لأعود إلى وضع يشعرني بالهدوء والطمأنينة أتذكر دفء أنفاس والدتي وهمسها وهي تتلو القرآن أثناء الصلاة . في هذا الفضاء الصامت الموحش المجهول، كم مرة سنلتقي مع الموت ، هل أنا اليوم سأغرق في موج الحياة ؟ أم في غياهب الظلمة ؟ أم سأغوص للهروب من الموت ؟
حولنا كان الماء والأمواج المتلاطمة الرهيبة ، وازداد الرعب مع غياب نور القمر وراء سحب رمادية ... كان هناك صراخ وبكاء أطفال، تشبتت أكثر بأنفاس والدتي، أصخت السمع مليا لهمسها مثلما كنت أفعل وأنا طفل أنظر إليها بدهشة لحظة الصلاة.
في تلك اللحظة كنت أعطي لحريتي وجها هو وجه أمي وجمالا بمقدار جمالها وسحرا كسحر حكاياتها .
تزايدت حركة المركب و سرعة الرياح وارتفع الموج بشكل مخيف ، وفي لحظة دونما سبب شعرت بالبرودة بعد أن كنت أتملى وجه أمي الذي غاب عن ذهني بشكل مفاجيء. إحساس بفراغ كبير بدأ يلفني و شعرت أن والدتي خففت من احتضانها لجسدي، وكأن أذرع البحر القوية اختطفتني من حضنها
و انتزعتني منها إلى غير رجعة، أحسست أنني أهوي في فراغ بارد، تصورت وكأن الأذرع القوية ألقتني داخل زنزانة مائية .
من الجانب الآخر لم يكن هناك بالتأكيد شيء يذكر، مجرد نظرات قلقة ، انتظار يائس وصمت مطبق، أغلقت عيني تجنبا لرؤية نظرات تمزق خلايا الفؤاد ، و استسلمت للنوم فوق هذا الفضاء الغريب الذي يسبح فيه اشخاص كثيرون وفي خبايا الروح شوق لدفء رمال قريتي ، هناك كنا نتعلم السباحة الرملية بكل سعادة ، فهل من سبيل لترميم خارطة الوقت؟
في حضن أمي أستسلم للحلم في قريتي التي تسكنني وفيها شغبي وعنواني وكلما ازددت غوصا إلى القعر يزداد عشقي لها حد الفناء …
فأغلقت عيني عساني أدرك حريتي مرة أخرى فوق تلك الرمال .
في قريتنا الصحراوية بالجنوب بين الكثبان كان للزمن سطوة وقوة، و بعفوية طفولية، كنا ننفلت من جبروته ، بالقفز فوق الأحجار والانزلاق فوق الرمال ، كنا نجري وراء القطط والكلاب، وأحيانا وراء الزواحف والحشرات، نشرب مياه الآبار ونغفو تحت الأشجار ، كنا نسمع ونروي عن البحر قصصا وروايات ، و نتابع ما يتداوله الناس على لسان من هاجروا خارج البلاد…
وتوالت السنوات…
يوما ما بعد أن أذاقتنا الحياة من مرارتها أصنافا وضعتنا أمام حتمية السفر، وجدت نفسي مع زمرة من الأشخاص فوق مركب ونحن نشق عباب البحر.
داهمني شعور بالوحدة حين كنا على ظهر المركب. بشكل يائس كنت أنقل عيني بين الأفراد ، خائفا مرتعشا مثل البائس ، تكبلني هواجسي وآلامي، متسائلا مرعوبا، حائرا وموجوعا ؟
كل شيء ضبابي ، مريب ويملأ نفسي وجلا ... و ككل مرة هاجمني الحنين والشوق لعائلتي وصوت أمي ليزيدني عذابا .
في الظلام كنا نتحرك في هذا المدى المائي الشاسع، وأنا أرتعش من شدة البرد والرعب ، وفي العين لمعت دموع خجل وكبرياء، فقد كان الظلام مصدرا لخوفي منذ الصغر، كنت أخشى النوم بعيدا عن حضن والدتي فلا أغمض عيني إلا والمصباح مضاء ليخفف عني رهاب الظلام ، أتعبتني الرحلة من البداية متل طير أضناه الترحال ، كان علي أن أختار بين وطن الأم و وطن الغربة، وبالقلب ضياع وغموض زادته حدة ظلمة الليل
و موج البحر الهادر .
المركب كالحلم يخترق المدى الحالك بسكون، يرتعش مع صيحات ورعب الركاب صعودا وهبوطا على إيقاع حركات الموج ولحن حناجر أحرقها الوجع..
ما خفف من قلقي أن الوضع كان مشتركا مع آخرين يرفعون الأكف لله طلبا للنجاة تحت ضوء القمر وهبات الرياح التي تصفع الوجوه برذاذ مياه البحر ..
لم يكن مركبا مناسبا لرحلة في عمق البحر، ولا لمقاومته وهو غاضب كوحش مخيف ، قبلناه لأنه ما كان لدينا في الأصل اختيار، فكان هو الأفضل بالضرورة.
لدي قليل من الطعام و خمس ليترات من الماء وقدر كاف من عملة الأورو خاطتها أمي بملابسي الداخلية .
كثيرا ما سمعت الناس يرددون :
" هناك حيث يلتقي الماء بالسماء وراء الأفق تجدون عالم الحرية والثراء ".
رغم خوفي كان لدي شعور غامض بالسعادة ينبعث من داخلي وطفقت أردد " الآن تحقق حلم مواجهة البحر والمغامرة نحو الضفة الأخرى" حلم تلونه ظلمة غربة هائمة في كبد السماء.
أغمضت عيني لأعود إلى وضع يشعرني بالهدوء والطمأنينة أتذكر دفء أنفاس والدتي وهمسها وهي تتلو القرآن أثناء الصلاة . في هذا الفضاء الصامت الموحش المجهول، كم مرة سنلتقي مع الموت ، هل أنا اليوم سأغرق في موج الحياة ؟ أم في غياهب الظلمة ؟ أم سأغوص للهروب من الموت ؟
حولنا كان الماء والأمواج المتلاطمة الرهيبة ، وازداد الرعب مع غياب نور القمر وراء سحب رمادية ... كان هناك صراخ وبكاء أطفال، تشبتت أكثر بأنفاس والدتي، أصخت السمع مليا لهمسها مثلما كنت أفعل وأنا طفل أنظر إليها بدهشة لحظة الصلاة.
في تلك اللحظة كنت أعطي لحريتي وجها هو وجه أمي وجمالا بمقدار جمالها وسحرا كسحر حكاياتها .
تزايدت حركة المركب و سرعة الرياح وارتفع الموج بشكل مخيف ، وفي لحظة دونما سبب شعرت بالبرودة بعد أن كنت أتملى وجه أمي الذي غاب عن ذهني بشكل مفاجيء. إحساس بفراغ كبير بدأ يلفني و شعرت أن والدتي خففت من احتضانها لجسدي، وكأن أذرع البحر القوية اختطفتني من حضنها
و انتزعتني منها إلى غير رجعة، أحسست أنني أهوي في فراغ بارد، تصورت وكأن الأذرع القوية ألقتني داخل زنزانة مائية .
من الجانب الآخر لم يكن هناك بالتأكيد شيء يذكر، مجرد نظرات قلقة ، انتظار يائس وصمت مطبق، أغلقت عيني تجنبا لرؤية نظرات تمزق خلايا الفؤاد ، و استسلمت للنوم فوق هذا الفضاء الغريب الذي يسبح فيه اشخاص كثيرون وفي خبايا الروح شوق لدفء رمال قريتي ، هناك كنا نتعلم السباحة الرملية بكل سعادة ، فهل من سبيل لترميم خارطة الوقت؟
في حضن أمي أستسلم للحلم في قريتي التي تسكنني وفيها شغبي وعنواني وكلما ازددت غوصا إلى القعر يزداد عشقي لها حد الفناء …
فأغلقت عيني عساني أدرك حريتي مرة أخرى فوق تلك الرمال .
تعليق