عفاف!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد عبد الغفار صيام
    مؤدب صبيان
    • 30-11-2010
    • 533

    عفاف!

    عفاف!

    كعادتي انسحبتُ مُنْفلتاً من ضجيج عُرْسهم وجَلَبَتِهِ، تقودُني ذكرياتُ الطفولة وأحلامُ الشباب حيث الجهة المقابلة لمنزل عمي العتيق، وهو يُطلُّ في جلالٍ وشَمَم ٍعلى فضاءٍ مترامٍ من الخُضرة الوارفة الغناء، بينما تبدو الشمسُ في خِدْرِها كَدُرَّةِ تاجٍ مَلَكِيٍّ على هامةِ الأُفُق، وقد أَرْخَتْ غُلالتَها العَسْجَدِيَّة الشفيفة إيذاناً بليلٍ شاعريٍّ وشيك!

    تقدمتُ نحو أريكةٍ خشبيةٍ أثيرةٍ إلي نفسي ــ أَلِفْتُها قَبلاً ــ ترتكزُ إلى جِذْع سِدْرةٍ عريقةٍ لم يزدْها الزمنُ إلا سماكةً وتَحَشُّفاً.

    وبدتْ الأريكةُ كَشُرفةِ مسرحٍ رُومانيٍّ عتيقٍ، تفضحُ ما يدورُ من عناقٍ يضيقُ بين الشمسِ والأُفُق!

    لمْ تطأْ قدماي تلك البقعة المطبوعة في جَنَانِي لِمَا يرْبُو على عشرين عاماً! هجرتُ فيها قريتي كسيرَ النفسِ، مَهِيضَ الفؤاد، أَجُرُّ أذيالَ عجْزي وخيْبتي...وبينما شَرعتْ الذكرياتُ تُراوِدُني لتقدمَ عرضَها الإيقاعيَّ الحزينَ؛ قطعتْ "عفافُ" البثَّ بِمَقْدِمِها العَفْوِيِّ المُباغِتِ؛ فانتصبتُ قُبَالتَها يفْصلُنا دَغَلٌ صغيرٌ من الورد البلدي، باتساعِ خُطوتين أو ثلاثٍ.

    كادتْ المفاجأةُ تدفعُها لِتتجَاهَلني وتردَّها إلى حيث كانتْ، فاسْتَبَقْتُ نِيَّتَها للاستدارةِ بقولي:

    ·أخيراً أَشرقْتِ مِنْ بعد أُفُولٍ!

    أثارَها ما قلتُ فردَّتْ بِتَوَتُّرٍ وحياءٍ باديين ومعْهودين:

    ــ عُذْراً، أَلكَ بِي سابقُ معرفة؟

    فقلتُ بين التَّجَهُّمِ والابْتسامِ:

    ·قدْ أَقبلُ تَجَاهُلَكِ، وَأُمَرِّرَ إِهْماَلَكِ لوجودي؛ لكنَّ أَشَدَّ مَا يُؤْذيني أَنْ تُنْكِريْنِي يا ابْنةَ العَمِّ! أَلهذه الدَّرجةِ أَسْقَطْتِنِي مِنْ حِسابِ الذاكرةِ!

    فقالتْ بعدما استجْمَعتْ ـ فِيما أظنُّ ــ نَفْسَهَا، ورِبَاطَ جَأْشِها:

    ــ أُفَضِّلُ أنْ لا نَنْبِشَ الماضي، يا محمد.

    ·ولِمَ يا ابنةَ العمِّ؟

    ــ أحياناً يُصْبح غَلْقُ الحساباتِ أَجْدى نفْعَاً، وأَرْبَحُ لِلدَّائِنِ وَالمَدِيْن.

    ·كيفَ؟... وهل يَسْقُطُ الدَّيْنُ بالتَّقَادُمِ؟

    ــ رُبَّما أَضْحى إِسْقاطه أَعْدَل، وأَوْجَب! إِنَّنِي اليومَ امرأةٌ تحتَ جَنَاحِ زوْجٍ أُخْلِصُ له، أَحْفَظُهُ وأُقَدِّرُهُ، ولِي منه أبناءُ يَملؤنَ حياتي جَمَالاً وسعادةً، ولستُ على استعدادٍ لأَفْقِدَ احْتِرَامهم لي، واحْتِرامي لذَاتي في سَبيْلِ نَزَقِ لَحْظَةٍ!

    ·عفافُ، ابنةُ عَمِّي الجَميلةُ النبيلةُ، أَهذا عهْدُكِ بِي؟! أَلِهذهِ الدرجةِ القَمِيْئَةِ تحْسبِيْنَنِي دنيئاً؟

    ــ كلَّا وربِّي، لَكِنَّنِي أَردْتُّ أَنْ نَسْتَبِقَ الشيطانَ بِخُطْوَةٍ!

    فقلتُ مُبْتَسِمَاً مُنْتَشِيَاً:

    ·يا لِبُؤْسِ شيْطَانِكِ! قَطَعْتي عَيْشَهُ بَاكِراً، وأَحرَقْتِ كَبِدَهُ! لَمْ تُغَيِّرْكِ السُّنون قِيْدَ أُنْمُلةٍ.

    افْتَرَّ ثَغْرُها عن بسمةٍ ساحرةٍ آسِرَةٍ، ثمَّ قَالتْ:

    ــ أَعْلَمَنِى الأقاربُ أَنَّكَ صُلْتَ وجُلْتَ، تزوجتَ وأنْجبْتَ، حُزْتَ مَالاً واسْتِقْراراً، و حَقَّقْتَ نَجَاحاً عَريِضاً...

    ·الحمدُ لله، أما النَّجاحُ فهو نِسْبِيٌّ، وقد يكونُ ما حقَّقْتُهُ مُبْهِراً للبعض؛ لكنَّهُ لا يَعدُو أَنْ يَكُونَ مَقْبُولاً لَدَيَّ.

    ــ لا زلتَ تتفلسفُ إِذّنْ! وتَرى الحياةَ مِنْ شُرْفَةِ مِثَالِيَّتِكَ، لمْ تَفْقِد صِبْغَتَك، ولمْ يذْبُلْ طَبْعُكَ.

    ·يبدو أنَّنَا تَجَلَّدْنا تحتَ مِعْولِ السنينَ فلَمْ تَسْتَبِحْ طِبَاعَنَا، و إِنْ أَجْهضتْ بَعضَ أَحْلامِنَا.

    ــ بِظَنِّكَ أَيُّ أَحْلامِنَا أَجْهَضَتِ السُّنُونَ؟ وأَيُّهَا حقَّقتْ؟

    ·بالنِّسبةِ لي، وعلى وجه اليقينِ، كُنْتِ حُلْمِي الأَوَّلَ والأَثِيْر! وما دُونَ ذلك يتساوى لديَّ في سُلَّمِ الترتيبِ والأَوْلَوِياتِ.

    على إِثْرِ ذلك عَاودتْها نَوْبةُ الارْتِبَاكِ والخَجَلِ؛ لكنْ أكثر حدةً منْ ذِي قبل قائلةً:

    ــ بِرَبِّكَ يا محمد، تَجاَوزْ هذه النُّقطةَ، ولا تنْكأْ جُرُوحَ الماضِي، بعْدَما انْدَمَلَتْ!

    ·فضلاً يا عفاف، اعذري خِفَّتِي ونَزَقِي فتلكَ اللحظةٌ أَفنيْتُ لها عمراً!

    ــ وهي ذاتُ اللحظةِ التي أهدرتُ عُمُري أَتوَجَّسُ منْها رعباً!

    ·و ما الذي يُجبِرُنا أَنْ نُهدرَ أَعمَارَنا ما بين حُلُمٍ نرجوه تارةً ، وتارةً نخشاهُ.

    ــ العِفَّةُ يا محمد! الطُّهرُ يا محمد! الشَّرفُ يا محمد! ذَاكمُ الذي أُرْضِعناَهُ أطفالاً نحبو بين هذه الرياضِ، وأُشِرِبنَاهُ شباباً نركضُ بينَ هذه المُرُوجِ، أَمْ تُراك تَنَكَّرْتَ لما أُشْرِبْتَ؟!

    ·لا وَربِّكِ ما تنكرتُ، وما ينبغي، وإنَّما أَردتُ أنْ لا أُغادرَ مَوْئلَ طُهْرِنَا هذا، الذي شَهِدَ براءةَ طفُولتنا، وأُمنياتِ صِبانَا، ومشاعر شبابِنا النبيلةَ، ويشْهدُ الآن عِفَّةَ رُشْدنا إِلا وقدْ تخَففتُ مما ينوءُ بهِ صَدْري! فهل تَضِنِّينَ عليَّ بِذلك؟

    قالتْ بنبرةِ أَلمٍ أزعجتْني كثيراً:

    ــ تَخفُّفُكَ يُثقلُنِي يا ابنَ عم، أما زلتَ لا تفهم! ارْحَمْ بَشريَّتي، ودع ما استكن تحت أطباقِ الفؤادِ وادِعاً، ولا تعبثْ وجِنَّ الذكرياتِ.

    ثم أردفتْ وهي مبهورةُ الأنفاسِ يغْشاها الحزنُ و الضيقُ، بعدما قلتُ ما قلتُ:

    ــ ليس معنى أَنْ نُشيِّعَ مشاعرَنا إلى مَثواها العميقِ، ونواريَها في غياهبِ نفوسِنَا أَنَّها قد فارقَتْنا إلى غيرِ رجْعةِ، بل نحْفظُها في قلوبِنا كذِكْري نبيلةٍ، إنْ لمْ نَعِشْ معها متعةَ واقِعِنَا الحاضرِ، فلا ضيرَ أنْ نُنْشِي بها خيالنَا الخَاطِر!
    ثمَّ همَمْتُ مائلاً نحو دَغَلِ الوردِ قُبالتِي لأَقطفَ لها واحدةً، فناشدتْنِي باستجداءٍ، وعتابٍ، وذُعرٍ:

    ــ أرجوكْ لا تَقْصفْها أو تَجرحْها، أمَا اكتفيتَ جرحاً، وإهاضةً!

    لحظة إذٍ، أَلجَمني خجلي، ولم أدرِ ما أفعلُ أو أقولُ، حتى قطع حديثنَا طفلانِ يعدوانِ أحدُهما إثرَ الآخرِ، يضحكانِ ببراءةٍ بدَّدَتْ ما غَشيَ اللحظةَ منْ تَوَتُّرٍ، فأَشرتُ إلى الطفلةِ الصغيرةِ في ابتسامة هادئة:

    ·إنها ابنتي الصغيرةُ والأثيرةُ لديَّ " عفاف".

    فردتْ بابتسامتِها الآسرةِ الساحرةِ، وهي تشيرُ إلى الطفلِ الصغيرِ:

    ــ وذاكَ ابني الصغيرُ الغريرُ " محمد"!

    أعقبَ ذلكَ ثوانٍ منَ الصمتِ اللذيذِ قَطَعَتْهُ بِقولها:

    ــ أظنُّ زوجي الآنَ يفْتَقِدُني! هيَّا لأعرِّفْكَ بهِ يا ابنَ عمِّي، إنَّهُ حبَّةُ الفؤادِ، رفيقُ الدربِ، بلسمُ الروحِ ، وتاجٌ أحملُهُ بِفَخارٍ على رأسي.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد عبد الغفار صيام; الساعة 01-05-2019, 08:00.
    "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"
  • أميمة محمد
    مشرف
    • 27-05-2015
    • 4960

    #2
    أحسنت بتسميتها عفاف أ. محمد عبد الغفار
    القصة لطيفة، محببة، مقنعة خيالية! تحدث لقطات منها بشكل أو آخر
    وإن كان الكل يسقط ديونه مبكراً، مبكراً جداً، دون الالتفات لما تبقى ولو كان كبيراً
    أسلوب متمكن.. وربما أن الراوي أسهب في بعض الوصف المترادف أحيانا
    عدا ذلك من مقدمة رائقة للنهاية الأنيقة كتبتها أصابع ذات خيال وفكرة
    تقديري واحترامي

    تعليق

    • مها راجح
      حرف عميق من فم الصمت
      • 22-10-2008
      • 10970

      #3
      عفاف قصة تفيء لها الذكريات ..
      رائع ما كتبت استاذ محمد
      رحمك الله يا أمي الغالية

      تعليق

      • حسين ليشوري
        طويلب علم، مستشار أدبي.
        • 06-12-2008
        • 8016

        #4
        من أجمل ما قرأت في الملتقى هذه الأيام وما قرأت كثيرا.
        قصة رائعة بارعة من حيث الأداء (التعبير) تذهب بالقارئ بعيدا وتتركه يعيش حلما في يقظته.
        واليقظة شرط القراءة النبيهة وقد تسللت هفوات تعبيرية ونحوية وأخرى رقنية إلى النص الجميل فجاءت كالندوب في الوجه الجميل.
        تحياتي إليك أخي الأديب الممتاز محمد عبد الغفار صيام وقد عيّشتنا مع "عفاف" في ضفاف الأدب المهيِّجة (للخيال) وأطياف الإبداع المبهجة.

        sigpic
        (رسم نور الدين محساس)
        (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

        "القلم المعاند"
        (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
        "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
        و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

        تعليق

        • عائده محمد نادر
          عضو الملتقى
          • 18-10-2008
          • 12843

          #5
          آه يامحمد وهذا العفاف
          وكانك عدت بالزمن لوقت عشناه
          البراءة والطهر وطيبة القلوب والوفاء
          نعيش وسط وحوش الخيانة وتهفو أنفسنا لذاك الطهر
          نصك أعاد لي كل العلاقات النقية حتى بالحوار
          شكرا على الطهر والنقاء
          محبتي والورد
          الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

          تعليق

          • محمد عبد الغفار صيام
            مؤدب صبيان
            • 30-11-2010
            • 533

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة أميمة محمد مشاهدة المشاركة
            أحسنت بتسميتها عفاف أ. محمد عبد الغفار
            القصة لطيفة، محببة، مقنعة خيالية! تحدث لقطات منها بشكل أو آخر
            وإن كان الكل يسقط ديونه مبكراً، مبكراً جداً، دون الالتفات لما تبقى ولو كان كبيراً
            أسلوب متمكن.. وربما أن الراوي أسهب في بعض الوصف المترادف أحيانا
            عدا ذلك من مقدمة رائقة للنهاية الأنيقة كتبتها أصابع ذات خيال وفكرة
            تقديري واحترامي
            دامت بصمة تعليقك المميزة...
            قدرة على فلترة النص، موضوعية لا تخلو من الصرامة، إلتزام ننحني له إجلالا...
            "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

            تعليق

            • محمد عبد الغفار صيام
              مؤدب صبيان
              • 30-11-2010
              • 533

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
              عفاف قصة تفيء لها الذكريات ..
              رائع ما كتبت استاذ محمد
              مرورك هو الأروع سيدتي!
              دامت طلتك البهية.
              "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

              تعليق

              • محمد عبد الغفار صيام
                مؤدب صبيان
                • 30-11-2010
                • 533

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة حسين ليشوري مشاهدة المشاركة
                من أجمل ما قرأت في الملتقى هذه الأيام وما قرأت كثيرا.
                قصة رائعة بارعة من حيث الأداء (التعبير) تذهب بالقارئ بعيدا وتتركه يعيش حلما في يقظته.
                واليقظة شرط القراءة النبيهة وقد تسللت هفوات تعبيرية ونحوية وأخرى رقنية إلى النص الجميل فجاءت كالندوب في الوجه الجميل.
                تحياتي إليك أخي الأديب الممتاز محمد عبد الغفار صيام وقد عيّشتنا مع "عفاف" في ضفاف الأدب المهيِّجة (للخيال) وأطياف الإبداع المبهجة.

                شهادة أعتز بها سيدنا/ حسين ليشوري
                وعين صقر أتعلم منها...
                بارك الله في عمرك سيدنا!
                "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

                تعليق

                • محمد عبد الغفار صيام
                  مؤدب صبيان
                  • 30-11-2010
                  • 533

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                  آه يامحمد وهذا العفاف
                  وكانك عدت بالزمن لوقت عشناه
                  البراءة والطهر وطيبة القلوب والوفاء
                  نعيش وسط وحوش الخيانة وتهفو أنفسنا لذاك الطهر
                  نصك أعاد لي كل العلاقات النقية حتى بالحوار
                  شكرا على الطهر والنقاء
                  محبتي والورد
                  دام ألق مرورك سيدتي!
                  خالص مودتي واحترامي وتقديري لشخصك النبيل!
                  "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"

                  تعليق

                  يعمل...
                  X