عفاف!
كعادتي انسحبتُ مُنْفلتاً من ضجيج عُرْسهم وجَلَبَتِهِ، تقودُني ذكرياتُ الطفولة وأحلامُ الشباب حيث الجهة المقابلة لمنزل عمي العتيق، وهو يُطلُّ في جلالٍ وشَمَم ٍعلى فضاءٍ مترامٍ من الخُضرة الوارفة الغناء، بينما تبدو الشمسُ في خِدْرِها كَدُرَّةِ تاجٍ مَلَكِيٍّ على هامةِ الأُفُق، وقد أَرْخَتْ غُلالتَها العَسْجَدِيَّة الشفيفة إيذاناً بليلٍ شاعريٍّ وشيك!
تقدمتُ نحو أريكةٍ خشبيةٍ أثيرةٍ إلي نفسي ــ أَلِفْتُها قَبلاً ــ ترتكزُ إلى جِذْع سِدْرةٍ عريقةٍ لم يزدْها الزمنُ إلا سماكةً وتَحَشُّفاً.
وبدتْ الأريكةُ كَشُرفةِ مسرحٍ رُومانيٍّ عتيقٍ، تفضحُ ما يدورُ من عناقٍ يضيقُ بين الشمسِ والأُفُق!
لمْ تطأْ قدماي تلك البقعة المطبوعة في جَنَانِي لِمَا يرْبُو على عشرين عاماً! هجرتُ فيها قريتي كسيرَ النفسِ، مَهِيضَ الفؤاد، أَجُرُّ أذيالَ عجْزي وخيْبتي...وبينما شَرعتْ الذكرياتُ تُراوِدُني لتقدمَ عرضَها الإيقاعيَّ الحزينَ؛ قطعتْ "عفافُ" البثَّ بِمَقْدِمِها العَفْوِيِّ المُباغِتِ؛ فانتصبتُ قُبَالتَها يفْصلُنا دَغَلٌ صغيرٌ من الورد البلدي، باتساعِ خُطوتين أو ثلاثٍ.
كادتْ المفاجأةُ تدفعُها لِتتجَاهَلني وتردَّها إلى حيث كانتْ، فاسْتَبَقْتُ نِيَّتَها للاستدارةِ بقولي:
·أخيراً أَشرقْتِ مِنْ بعد أُفُولٍ!
أثارَها ما قلتُ فردَّتْ بِتَوَتُّرٍ وحياءٍ باديين ومعْهودين:
ــ عُذْراً، أَلكَ بِي سابقُ معرفة؟
فقلتُ بين التَّجَهُّمِ والابْتسامِ:
·قدْ أَقبلُ تَجَاهُلَكِ، وَأُمَرِّرَ إِهْماَلَكِ لوجودي؛ لكنَّ أَشَدَّ مَا يُؤْذيني أَنْ تُنْكِريْنِي يا ابْنةَ العَمِّ! أَلهذه الدَّرجةِ أَسْقَطْتِنِي مِنْ حِسابِ الذاكرةِ!
فقالتْ بعدما استجْمَعتْ ـ فِيما أظنُّ ــ نَفْسَهَا، ورِبَاطَ جَأْشِها:
ــ أُفَضِّلُ أنْ لا نَنْبِشَ الماضي، يا محمد.
·ولِمَ يا ابنةَ العمِّ؟
ــ أحياناً يُصْبح غَلْقُ الحساباتِ أَجْدى نفْعَاً، وأَرْبَحُ لِلدَّائِنِ وَالمَدِيْن.
·كيفَ؟... وهل يَسْقُطُ الدَّيْنُ بالتَّقَادُمِ؟
ــ رُبَّما أَضْحى إِسْقاطه أَعْدَل، وأَوْجَب! إِنَّنِي اليومَ امرأةٌ تحتَ جَنَاحِ زوْجٍ أُخْلِصُ له، أَحْفَظُهُ وأُقَدِّرُهُ، ولِي منه أبناءُ يَملؤنَ حياتي جَمَالاً وسعادةً، ولستُ على استعدادٍ لأَفْقِدَ احْتِرَامهم لي، واحْتِرامي لذَاتي في سَبيْلِ نَزَقِ لَحْظَةٍ!
·عفافُ، ابنةُ عَمِّي الجَميلةُ النبيلةُ، أَهذا عهْدُكِ بِي؟! أَلِهذهِ الدرجةِ القَمِيْئَةِ تحْسبِيْنَنِي دنيئاً؟
ــ كلَّا وربِّي، لَكِنَّنِي أَردْتُّ أَنْ نَسْتَبِقَ الشيطانَ بِخُطْوَةٍ!
فقلتُ مُبْتَسِمَاً مُنْتَشِيَاً:
·يا لِبُؤْسِ شيْطَانِكِ! قَطَعْتي عَيْشَهُ بَاكِراً، وأَحرَقْتِ كَبِدَهُ! لَمْ تُغَيِّرْكِ السُّنون قِيْدَ أُنْمُلةٍ.
افْتَرَّ ثَغْرُها عن بسمةٍ ساحرةٍ آسِرَةٍ، ثمَّ قَالتْ:
ــ أَعْلَمَنِى الأقاربُ أَنَّكَ صُلْتَ وجُلْتَ، تزوجتَ وأنْجبْتَ، حُزْتَ مَالاً واسْتِقْراراً، و حَقَّقْتَ نَجَاحاً عَريِضاً...
·الحمدُ لله، أما النَّجاحُ فهو نِسْبِيٌّ، وقد يكونُ ما حقَّقْتُهُ مُبْهِراً للبعض؛ لكنَّهُ لا يَعدُو أَنْ يَكُونَ مَقْبُولاً لَدَيَّ.
ــ لا زلتَ تتفلسفُ إِذّنْ! وتَرى الحياةَ مِنْ شُرْفَةِ مِثَالِيَّتِكَ، لمْ تَفْقِد صِبْغَتَك، ولمْ يذْبُلْ طَبْعُكَ.
·يبدو أنَّنَا تَجَلَّدْنا تحتَ مِعْولِ السنينَ فلَمْ تَسْتَبِحْ طِبَاعَنَا، و إِنْ أَجْهضتْ بَعضَ أَحْلامِنَا.
ــ بِظَنِّكَ أَيُّ أَحْلامِنَا أَجْهَضَتِ السُّنُونَ؟ وأَيُّهَا حقَّقتْ؟
·بالنِّسبةِ لي، وعلى وجه اليقينِ، كُنْتِ حُلْمِي الأَوَّلَ والأَثِيْر! وما دُونَ ذلك يتساوى لديَّ في سُلَّمِ الترتيبِ والأَوْلَوِياتِ.
على إِثْرِ ذلك عَاودتْها نَوْبةُ الارْتِبَاكِ والخَجَلِ؛ لكنْ أكثر حدةً منْ ذِي قبل قائلةً:
ــ بِرَبِّكَ يا محمد، تَجاَوزْ هذه النُّقطةَ، ولا تنْكأْ جُرُوحَ الماضِي، بعْدَما انْدَمَلَتْ!
·فضلاً يا عفاف، اعذري خِفَّتِي ونَزَقِي فتلكَ اللحظةٌ أَفنيْتُ لها عمراً!
ــ وهي ذاتُ اللحظةِ التي أهدرتُ عُمُري أَتوَجَّسُ منْها رعباً!
·و ما الذي يُجبِرُنا أَنْ نُهدرَ أَعمَارَنا ما بين حُلُمٍ نرجوه تارةً ، وتارةً نخشاهُ.
ــ العِفَّةُ يا محمد! الطُّهرُ يا محمد! الشَّرفُ يا محمد! ذَاكمُ الذي أُرْضِعناَهُ أطفالاً نحبو بين هذه الرياضِ، وأُشِرِبنَاهُ شباباً نركضُ بينَ هذه المُرُوجِ، أَمْ تُراك تَنَكَّرْتَ لما أُشْرِبْتَ؟!
·لا وَربِّكِ ما تنكرتُ، وما ينبغي، وإنَّما أَردتُ أنْ لا أُغادرَ مَوْئلَ طُهْرِنَا هذا، الذي شَهِدَ براءةَ طفُولتنا، وأُمنياتِ صِبانَا، ومشاعر شبابِنا النبيلةَ، ويشْهدُ الآن عِفَّةَ رُشْدنا إِلا وقدْ تخَففتُ مما ينوءُ بهِ صَدْري! فهل تَضِنِّينَ عليَّ بِذلك؟
قالتْ بنبرةِ أَلمٍ أزعجتْني كثيراً:
ــ تَخفُّفُكَ يُثقلُنِي يا ابنَ عم، أما زلتَ لا تفهم! ارْحَمْ بَشريَّتي، ودع ما استكن تحت أطباقِ الفؤادِ وادِعاً، ولا تعبثْ وجِنَّ الذكرياتِ.
ثم أردفتْ وهي مبهورةُ الأنفاسِ يغْشاها الحزنُ و الضيقُ، بعدما قلتُ ما قلتُ:
ــ ليس معنى أَنْ نُشيِّعَ مشاعرَنا إلى مَثواها العميقِ، ونواريَها في غياهبِ نفوسِنَا أَنَّها قد فارقَتْنا إلى غيرِ رجْعةِ، بل نحْفظُها في قلوبِنا كذِكْري نبيلةٍ، إنْ لمْ نَعِشْ معها متعةَ واقِعِنَا الحاضرِ، فلا ضيرَ أنْ نُنْشِي بها خيالنَا الخَاطِر!
ثمَّ همَمْتُ مائلاً نحو دَغَلِ الوردِ قُبالتِي لأَقطفَ لها واحدةً، فناشدتْنِي باستجداءٍ، وعتابٍ، وذُعرٍ:
ــ أرجوكْ لا تَقْصفْها أو تَجرحْها، أمَا اكتفيتَ جرحاً، وإهاضةً!
لحظة إذٍ، أَلجَمني خجلي، ولم أدرِ ما أفعلُ أو أقولُ، حتى قطع حديثنَا طفلانِ يعدوانِ أحدُهما إثرَ الآخرِ، يضحكانِ ببراءةٍ بدَّدَتْ ما غَشيَ اللحظةَ منْ تَوَتُّرٍ، فأَشرتُ إلى الطفلةِ الصغيرةِ في ابتسامة هادئة:
·إنها ابنتي الصغيرةُ والأثيرةُ لديَّ " عفاف".
فردتْ بابتسامتِها الآسرةِ الساحرةِ، وهي تشيرُ إلى الطفلِ الصغيرِ:
ــ وذاكَ ابني الصغيرُ الغريرُ " محمد"!
أعقبَ ذلكَ ثوانٍ منَ الصمتِ اللذيذِ قَطَعَتْهُ بِقولها:
ــ أظنُّ زوجي الآنَ يفْتَقِدُني! هيَّا لأعرِّفْكَ بهِ يا ابنَ عمِّي، إنَّهُ حبَّةُ الفؤادِ، رفيقُ الدربِ، بلسمُ الروحِ ، وتاجٌ أحملُهُ بِفَخارٍ على رأسي.
كعادتي انسحبتُ مُنْفلتاً من ضجيج عُرْسهم وجَلَبَتِهِ، تقودُني ذكرياتُ الطفولة وأحلامُ الشباب حيث الجهة المقابلة لمنزل عمي العتيق، وهو يُطلُّ في جلالٍ وشَمَم ٍعلى فضاءٍ مترامٍ من الخُضرة الوارفة الغناء، بينما تبدو الشمسُ في خِدْرِها كَدُرَّةِ تاجٍ مَلَكِيٍّ على هامةِ الأُفُق، وقد أَرْخَتْ غُلالتَها العَسْجَدِيَّة الشفيفة إيذاناً بليلٍ شاعريٍّ وشيك!
تقدمتُ نحو أريكةٍ خشبيةٍ أثيرةٍ إلي نفسي ــ أَلِفْتُها قَبلاً ــ ترتكزُ إلى جِذْع سِدْرةٍ عريقةٍ لم يزدْها الزمنُ إلا سماكةً وتَحَشُّفاً.
وبدتْ الأريكةُ كَشُرفةِ مسرحٍ رُومانيٍّ عتيقٍ، تفضحُ ما يدورُ من عناقٍ يضيقُ بين الشمسِ والأُفُق!
لمْ تطأْ قدماي تلك البقعة المطبوعة في جَنَانِي لِمَا يرْبُو على عشرين عاماً! هجرتُ فيها قريتي كسيرَ النفسِ، مَهِيضَ الفؤاد، أَجُرُّ أذيالَ عجْزي وخيْبتي...وبينما شَرعتْ الذكرياتُ تُراوِدُني لتقدمَ عرضَها الإيقاعيَّ الحزينَ؛ قطعتْ "عفافُ" البثَّ بِمَقْدِمِها العَفْوِيِّ المُباغِتِ؛ فانتصبتُ قُبَالتَها يفْصلُنا دَغَلٌ صغيرٌ من الورد البلدي، باتساعِ خُطوتين أو ثلاثٍ.
كادتْ المفاجأةُ تدفعُها لِتتجَاهَلني وتردَّها إلى حيث كانتْ، فاسْتَبَقْتُ نِيَّتَها للاستدارةِ بقولي:
·أخيراً أَشرقْتِ مِنْ بعد أُفُولٍ!
أثارَها ما قلتُ فردَّتْ بِتَوَتُّرٍ وحياءٍ باديين ومعْهودين:
ــ عُذْراً، أَلكَ بِي سابقُ معرفة؟
فقلتُ بين التَّجَهُّمِ والابْتسامِ:
·قدْ أَقبلُ تَجَاهُلَكِ، وَأُمَرِّرَ إِهْماَلَكِ لوجودي؛ لكنَّ أَشَدَّ مَا يُؤْذيني أَنْ تُنْكِريْنِي يا ابْنةَ العَمِّ! أَلهذه الدَّرجةِ أَسْقَطْتِنِي مِنْ حِسابِ الذاكرةِ!
فقالتْ بعدما استجْمَعتْ ـ فِيما أظنُّ ــ نَفْسَهَا، ورِبَاطَ جَأْشِها:
ــ أُفَضِّلُ أنْ لا نَنْبِشَ الماضي، يا محمد.
·ولِمَ يا ابنةَ العمِّ؟
ــ أحياناً يُصْبح غَلْقُ الحساباتِ أَجْدى نفْعَاً، وأَرْبَحُ لِلدَّائِنِ وَالمَدِيْن.
·كيفَ؟... وهل يَسْقُطُ الدَّيْنُ بالتَّقَادُمِ؟
ــ رُبَّما أَضْحى إِسْقاطه أَعْدَل، وأَوْجَب! إِنَّنِي اليومَ امرأةٌ تحتَ جَنَاحِ زوْجٍ أُخْلِصُ له، أَحْفَظُهُ وأُقَدِّرُهُ، ولِي منه أبناءُ يَملؤنَ حياتي جَمَالاً وسعادةً، ولستُ على استعدادٍ لأَفْقِدَ احْتِرَامهم لي، واحْتِرامي لذَاتي في سَبيْلِ نَزَقِ لَحْظَةٍ!
·عفافُ، ابنةُ عَمِّي الجَميلةُ النبيلةُ، أَهذا عهْدُكِ بِي؟! أَلِهذهِ الدرجةِ القَمِيْئَةِ تحْسبِيْنَنِي دنيئاً؟
ــ كلَّا وربِّي، لَكِنَّنِي أَردْتُّ أَنْ نَسْتَبِقَ الشيطانَ بِخُطْوَةٍ!
فقلتُ مُبْتَسِمَاً مُنْتَشِيَاً:
·يا لِبُؤْسِ شيْطَانِكِ! قَطَعْتي عَيْشَهُ بَاكِراً، وأَحرَقْتِ كَبِدَهُ! لَمْ تُغَيِّرْكِ السُّنون قِيْدَ أُنْمُلةٍ.
افْتَرَّ ثَغْرُها عن بسمةٍ ساحرةٍ آسِرَةٍ، ثمَّ قَالتْ:
ــ أَعْلَمَنِى الأقاربُ أَنَّكَ صُلْتَ وجُلْتَ، تزوجتَ وأنْجبْتَ، حُزْتَ مَالاً واسْتِقْراراً، و حَقَّقْتَ نَجَاحاً عَريِضاً...
·الحمدُ لله، أما النَّجاحُ فهو نِسْبِيٌّ، وقد يكونُ ما حقَّقْتُهُ مُبْهِراً للبعض؛ لكنَّهُ لا يَعدُو أَنْ يَكُونَ مَقْبُولاً لَدَيَّ.
ــ لا زلتَ تتفلسفُ إِذّنْ! وتَرى الحياةَ مِنْ شُرْفَةِ مِثَالِيَّتِكَ، لمْ تَفْقِد صِبْغَتَك، ولمْ يذْبُلْ طَبْعُكَ.
·يبدو أنَّنَا تَجَلَّدْنا تحتَ مِعْولِ السنينَ فلَمْ تَسْتَبِحْ طِبَاعَنَا، و إِنْ أَجْهضتْ بَعضَ أَحْلامِنَا.
ــ بِظَنِّكَ أَيُّ أَحْلامِنَا أَجْهَضَتِ السُّنُونَ؟ وأَيُّهَا حقَّقتْ؟
·بالنِّسبةِ لي، وعلى وجه اليقينِ، كُنْتِ حُلْمِي الأَوَّلَ والأَثِيْر! وما دُونَ ذلك يتساوى لديَّ في سُلَّمِ الترتيبِ والأَوْلَوِياتِ.
على إِثْرِ ذلك عَاودتْها نَوْبةُ الارْتِبَاكِ والخَجَلِ؛ لكنْ أكثر حدةً منْ ذِي قبل قائلةً:
ــ بِرَبِّكَ يا محمد، تَجاَوزْ هذه النُّقطةَ، ولا تنْكأْ جُرُوحَ الماضِي، بعْدَما انْدَمَلَتْ!
·فضلاً يا عفاف، اعذري خِفَّتِي ونَزَقِي فتلكَ اللحظةٌ أَفنيْتُ لها عمراً!
ــ وهي ذاتُ اللحظةِ التي أهدرتُ عُمُري أَتوَجَّسُ منْها رعباً!
·و ما الذي يُجبِرُنا أَنْ نُهدرَ أَعمَارَنا ما بين حُلُمٍ نرجوه تارةً ، وتارةً نخشاهُ.
ــ العِفَّةُ يا محمد! الطُّهرُ يا محمد! الشَّرفُ يا محمد! ذَاكمُ الذي أُرْضِعناَهُ أطفالاً نحبو بين هذه الرياضِ، وأُشِرِبنَاهُ شباباً نركضُ بينَ هذه المُرُوجِ، أَمْ تُراك تَنَكَّرْتَ لما أُشْرِبْتَ؟!
·لا وَربِّكِ ما تنكرتُ، وما ينبغي، وإنَّما أَردتُ أنْ لا أُغادرَ مَوْئلَ طُهْرِنَا هذا، الذي شَهِدَ براءةَ طفُولتنا، وأُمنياتِ صِبانَا، ومشاعر شبابِنا النبيلةَ، ويشْهدُ الآن عِفَّةَ رُشْدنا إِلا وقدْ تخَففتُ مما ينوءُ بهِ صَدْري! فهل تَضِنِّينَ عليَّ بِذلك؟
قالتْ بنبرةِ أَلمٍ أزعجتْني كثيراً:
ــ تَخفُّفُكَ يُثقلُنِي يا ابنَ عم، أما زلتَ لا تفهم! ارْحَمْ بَشريَّتي، ودع ما استكن تحت أطباقِ الفؤادِ وادِعاً، ولا تعبثْ وجِنَّ الذكرياتِ.
ثم أردفتْ وهي مبهورةُ الأنفاسِ يغْشاها الحزنُ و الضيقُ، بعدما قلتُ ما قلتُ:
ــ ليس معنى أَنْ نُشيِّعَ مشاعرَنا إلى مَثواها العميقِ، ونواريَها في غياهبِ نفوسِنَا أَنَّها قد فارقَتْنا إلى غيرِ رجْعةِ، بل نحْفظُها في قلوبِنا كذِكْري نبيلةٍ، إنْ لمْ نَعِشْ معها متعةَ واقِعِنَا الحاضرِ، فلا ضيرَ أنْ نُنْشِي بها خيالنَا الخَاطِر!
ثمَّ همَمْتُ مائلاً نحو دَغَلِ الوردِ قُبالتِي لأَقطفَ لها واحدةً، فناشدتْنِي باستجداءٍ، وعتابٍ، وذُعرٍ:
ــ أرجوكْ لا تَقْصفْها أو تَجرحْها، أمَا اكتفيتَ جرحاً، وإهاضةً!
لحظة إذٍ، أَلجَمني خجلي، ولم أدرِ ما أفعلُ أو أقولُ، حتى قطع حديثنَا طفلانِ يعدوانِ أحدُهما إثرَ الآخرِ، يضحكانِ ببراءةٍ بدَّدَتْ ما غَشيَ اللحظةَ منْ تَوَتُّرٍ، فأَشرتُ إلى الطفلةِ الصغيرةِ في ابتسامة هادئة:
·إنها ابنتي الصغيرةُ والأثيرةُ لديَّ " عفاف".
فردتْ بابتسامتِها الآسرةِ الساحرةِ، وهي تشيرُ إلى الطفلِ الصغيرِ:
ــ وذاكَ ابني الصغيرُ الغريرُ " محمد"!
أعقبَ ذلكَ ثوانٍ منَ الصمتِ اللذيذِ قَطَعَتْهُ بِقولها:
ــ أظنُّ زوجي الآنَ يفْتَقِدُني! هيَّا لأعرِّفْكَ بهِ يا ابنَ عمِّي، إنَّهُ حبَّةُ الفؤادِ، رفيقُ الدربِ، بلسمُ الروحِ ، وتاجٌ أحملُهُ بِفَخارٍ على رأسي.
تعليق