خسوف
ولمّا برّح به العطش, حملته على ظهر غيمة وكانت الملائكة تحف بنا من كل جهة. وكان كلّما أحرقه الظمأ قال لي :"اقطع لي قطعة من السّحاب وقرّبها من فمي." وكنت أمرّر يدي تحت السحاب الذي يمرّ بالقرب منّا وأحاول جمع قطرات الماء الثقيلة فلا أظفر بشيء على الأطلاق .ويتحوّل الدّخان الأبيض إلى يأس وحرقة ونار تلسع الفؤاد. ويمشي معنا العطش والبروق الكاذبة.
فتح فمه قليلا وأشار إلى شفتيه المتيبستين بيده طالبا شربة ماء...قال لي :" كيف نكون فوق سحابة ولا نجد ما نشرب؟ قم واضرب في لجة الغيمة واحتلب لنا شربة.". قلت له:" أوصاني الحكيم "تيريسياس" بألاّ أتركك لحظة. أخاف أن تضيع مني في السحاب...وعندما لمع برق الغيمة أشعل شاربه وزمجر في حلقه ولسانه وعلى شفتيه رعد الجفاف والعطش والقحط ,فماتت الكلمات على مسافة نَفَس من خطّ النار. صوّب نحوي نظرة تحتضر وأعاد عليّ محرّكا أصابعه:" في الغيوم ماء كثير ...قم واسع في مناكبها وجئني بشربة" .
وقفت على الغيمة وقفزت منها إلى غيرها دون أن تغادره عيناي. وواصلت أقفز وأتظاهر بجمع الماء المنفلق من خطوط البرق والمتقاطر من أصداء الرّعد ,كنت أفعل ذلك دون أن أحوّل بصري عنه. وحينما عدت إليه وهو على كرسيه المتحرّك يتأرجح بين الصبر و الموت ,بللت شفتيه وشاربه فارتفع دخان أبيض من شقوق الشفتين ومن جمر الشارب. فازداد الحلق اشتعالا. وازداد إلحاحه عليّ وهو يشير بيده إلى بعض الهضاب المائية المكتنزة ويحرك شفتيه قائلا بلا صوت "اسقني..اس.ق.ن.ي". كنت أسمعه بعينيّ . قلت له: ماذا أقول لـ"تيريسياس "؟لقد منعني من اعتصار الغيوم وقال لي : "سيكون ذلك كفرا للنعم"
كانت الغيمات شابات عاشقات طربات رشيقات يعبث الريح بشعورهنّ ويرفع من فساتينهنّ وهنّ يركضن في مراتع السماء. لوحت لهنّ بالتحايا فابتسمن لي وأشرن إلى الكسوف. فضاعت في الظلمة الرؤية وارتدّ البصر إليّ وهو حسير مفتت من كثرة ما أصابه من الرعود والبروق. وترتدّ إليّ صورته وهو يطلب الماء فتشتعل الإشارات وتضيء عتمة الخسوف ولا أجد ماء أسقيه إيّاه.
كنا نمر بين الغيوم وأنا أدفع به الكرسيّ المتحرّك. فاعترضنا الحكيم "تيريسياس" وهو يتحسس الطريق بعكازه فسألته :" هل أسقيه؟" فأشاح عني بوجهه وهمز غيمة حرونا فقفزت لتلتحق بأخواتها.
شغلني عنك الخسوف يا أبت. لم يكن في الغيوم ماء يا والدي. لم يكن ثمة ما يصلح لشربة ...كان بردا ,حجرا يجمّد الحلق ويسدّه...
حينما عدت رأيت "تيريسياس" يبكي...اقتربت منه ومسحت دموعه ورفعت يده فإذا فيها بقية بَرَد وقطع من ثلج وأشلاء من جسد غيمة أصابها البرق في مقتل واسفنج فحدقت في شفتيه فرأيتهما تتشققّان وهما تنبسان بالخبر ...أومأ إلى غيمة جعلت تخفّ وقد رحلت محفوفة بالملائكة ...رأيتها تسرع. رأيتها تسبق الريح والكرسي المتحرك الخالي يسكر بترنيم الملائكة.
قال لي تيريسياس :"أين غيمتك؟"
توفيق بن حنيش 6 أكتوبر 2018
ولمّا برّح به العطش, حملته على ظهر غيمة وكانت الملائكة تحف بنا من كل جهة. وكان كلّما أحرقه الظمأ قال لي :"اقطع لي قطعة من السّحاب وقرّبها من فمي." وكنت أمرّر يدي تحت السحاب الذي يمرّ بالقرب منّا وأحاول جمع قطرات الماء الثقيلة فلا أظفر بشيء على الأطلاق .ويتحوّل الدّخان الأبيض إلى يأس وحرقة ونار تلسع الفؤاد. ويمشي معنا العطش والبروق الكاذبة.
فتح فمه قليلا وأشار إلى شفتيه المتيبستين بيده طالبا شربة ماء...قال لي :" كيف نكون فوق سحابة ولا نجد ما نشرب؟ قم واضرب في لجة الغيمة واحتلب لنا شربة.". قلت له:" أوصاني الحكيم "تيريسياس" بألاّ أتركك لحظة. أخاف أن تضيع مني في السحاب...وعندما لمع برق الغيمة أشعل شاربه وزمجر في حلقه ولسانه وعلى شفتيه رعد الجفاف والعطش والقحط ,فماتت الكلمات على مسافة نَفَس من خطّ النار. صوّب نحوي نظرة تحتضر وأعاد عليّ محرّكا أصابعه:" في الغيوم ماء كثير ...قم واسع في مناكبها وجئني بشربة" .
وقفت على الغيمة وقفزت منها إلى غيرها دون أن تغادره عيناي. وواصلت أقفز وأتظاهر بجمع الماء المنفلق من خطوط البرق والمتقاطر من أصداء الرّعد ,كنت أفعل ذلك دون أن أحوّل بصري عنه. وحينما عدت إليه وهو على كرسيه المتحرّك يتأرجح بين الصبر و الموت ,بللت شفتيه وشاربه فارتفع دخان أبيض من شقوق الشفتين ومن جمر الشارب. فازداد الحلق اشتعالا. وازداد إلحاحه عليّ وهو يشير بيده إلى بعض الهضاب المائية المكتنزة ويحرك شفتيه قائلا بلا صوت "اسقني..اس.ق.ن.ي". كنت أسمعه بعينيّ . قلت له: ماذا أقول لـ"تيريسياس "؟لقد منعني من اعتصار الغيوم وقال لي : "سيكون ذلك كفرا للنعم"
كانت الغيمات شابات عاشقات طربات رشيقات يعبث الريح بشعورهنّ ويرفع من فساتينهنّ وهنّ يركضن في مراتع السماء. لوحت لهنّ بالتحايا فابتسمن لي وأشرن إلى الكسوف. فضاعت في الظلمة الرؤية وارتدّ البصر إليّ وهو حسير مفتت من كثرة ما أصابه من الرعود والبروق. وترتدّ إليّ صورته وهو يطلب الماء فتشتعل الإشارات وتضيء عتمة الخسوف ولا أجد ماء أسقيه إيّاه.
كنا نمر بين الغيوم وأنا أدفع به الكرسيّ المتحرّك. فاعترضنا الحكيم "تيريسياس" وهو يتحسس الطريق بعكازه فسألته :" هل أسقيه؟" فأشاح عني بوجهه وهمز غيمة حرونا فقفزت لتلتحق بأخواتها.
شغلني عنك الخسوف يا أبت. لم يكن في الغيوم ماء يا والدي. لم يكن ثمة ما يصلح لشربة ...كان بردا ,حجرا يجمّد الحلق ويسدّه...
حينما عدت رأيت "تيريسياس" يبكي...اقتربت منه ومسحت دموعه ورفعت يده فإذا فيها بقية بَرَد وقطع من ثلج وأشلاء من جسد غيمة أصابها البرق في مقتل واسفنج فحدقت في شفتيه فرأيتهما تتشققّان وهما تنبسان بالخبر ...أومأ إلى غيمة جعلت تخفّ وقد رحلت محفوفة بالملائكة ...رأيتها تسرع. رأيتها تسبق الريح والكرسي المتحرك الخالي يسكر بترنيم الملائكة.
قال لي تيريسياس :"أين غيمتك؟"
توفيق بن حنيش 6 أكتوبر 2018
تعليق