مهداة للأستاذ المحترم الحسين ليشوري
مع خالص المحبة والتقدير
البندول
بدا له المقعد تحت أيكة ظليلة بالحديقة العمومية مغريا و منقذا من التعب الذي غزا كل مناحي الجسد . جلس العجوز لاهثا وأراح رأسه فوق يده اليمنى الممسكة بالعكاز ..
ظل الشجرة وارف منعش كلمسة حنان ، أغمض عينيه قليلا ليستمتع بتلك البرودة ، تباطأ إيقاع التنفس لديه ، و بالتدريج بدأ يسترجع القدرة على الإحساس بما يحيط به من الأصوات والكائنات الموجودة بالمكان.
أثار انتباهه صياح الأطفال وضحكهم وجريهم المتواصل ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ، هكذا يحصل دائما عندما يرى الأطفال ، يجرون بلا انقطاع يسبقون عقارب الساعة ،لا يدركون ما يحدث في العالم ، ربما لهذا السبب يكبرون بسرعة ونحن غافلون، و فجأة نجدهم كبارا على حين غرة…
كنت أرى العجوز وأنا في طريقي إلى العمل بخطى مسرعة لألحق بأية وسيلة نقل متاحة ، وهو على جانب الطريق يخطو خطواته البطيئة ، ظهره منحن قليلا وهو يسير مستندا إلى عكازه كرجل ثالثة تحميه من فقدان التوازن.
كثيرا ما راودتني الرغبة في التعرف عليه ومحادثته ، فهو من الجيران على كل حال، لا أدري لم كان الكلام يحتبس في صدري حتى للسلام عليه ، لأنه في المعتاد لا يكلم الناس وهم أيضا لا يبدون حماسا للحديث معه ، ربما لأن كلا منا صار يخشى اقتحام حياة الآخر، كأن في المحاولة خدشا لغلافه الوجودي.
استمر مسار الأشياء ،الأطفال ما زالوا مستغرقين في جريهم غير مبالين ، يسرعون لبلوغ الرشد، يستيقظون كل صباح ليباشروا همهم اليومي في الجري والقفز والضحك ، يجرون غير مدركين لما يحدث في خط بلا نهاية ، خط روتيني على إيقاع بندول لا يتوقف في حركته ذات اليمين وذات الشمال.
تحت الأيكة كان الشيخ وما يزال جالسا مستمتعا بظلها الوارف …
صار الأطفال الآن كبارا ….
بكى الشيخ بصمت ، وفكر هذا يصبح حال الحياة حين يغيب البر ويسود لبر الدواني ولمز الأحرار...
رآهم يدوسون الأزهار ، ولا ينصتون لغناء الأطيار ، وعيناه تتابعان رقاص ساعة قطار مقابلة للحديقة.
لم يعد الكبار منتبهين لشيء ، لم يعد بمقدورهم إدراك ولا رؤية أي شيء ، ولا حتى أطفالهم يكبرون ، ولا ماء الجدول ، ولا جمال الفجر ولا غروب الشمس في المساء…
هو هنا الآن يسند رأسه بعكازه ، يمشي الهوينى لأنه لم يعد يقوى على الجري ، هو هنا ويدرك أنه سيقال غدا بأنه كان هنا…
تثاقل التفكير ، وغزا الجسد وهن وإعياء ، لكن القلب مثقل والهم كبير ، لا يهم ما يحمله هذا القلب ، نبضاته تتوالى على إيقاع حركة البندول …
لا يدري لم يتصور الزمن مقعرا على شكل نصف دائرة تعلو تارة وتارة نقلبها لمعرفة المكتوب عند قارئة الفنجان .
شيء مثير أن نتعامل مع الزمن بهذا الشكل الهندسي ، يفقد رعبه وجبروته ، فيصبح مجرد فنجان مقلوب.
هو هنا مثل الكثيرين قد يغيب هو أو أي واحد من الآخرين ، كان هنا في زمن ما…..
لا شيء سيتغير بالتأكيد ، لن يتألم لمغادرة عالم لن يحزن فيه على فراق الآخرين ..
كبار يدوسون الأزهار
ولا يرون صفاء الأفق تخترقه طيور ونوارس وأسراب أخرى بكل الألوان،
لا ينتبهون لبكاء الأطفال
ولا لحركة الموج في البحار.
ومن حيث لا يدري سالت من عينيه دمعتان ، أغمضهما قليلا ليس أكثر ، فقط ليجنبهما رؤية ما يؤلمه عميقا فيغلي سخطا لرؤية الأضرار.
أغفى قليلا ، الظلمة مغرية و لذيذة ، فاستسلم لنداء الطبيعة..
صارت أصوات الأطفال قريبة ، تسربت إليه كلماتهم كلمسة حنان ، شعر بأياديهم الصغيرة تنفض عن معطفه ما علق به من تراب وهم يساعدونه على الجلوس :
_ لا عليك يا جدي ربما أغمي عليك قليلا.
لاحظت ما جرى فجريت قليلا لإسعاف العجوز ومساعدته على العودة إلى البيت.كعادته كان صامتا، لاحظت أنني كنت أسرع الخطو بلا وعي بينما كانت خطواته بطيئة سلسة على إيقاع حركة البندول.
مع خالص المحبة والتقدير
البندول
بدا له المقعد تحت أيكة ظليلة بالحديقة العمومية مغريا و منقذا من التعب الذي غزا كل مناحي الجسد . جلس العجوز لاهثا وأراح رأسه فوق يده اليمنى الممسكة بالعكاز ..
ظل الشجرة وارف منعش كلمسة حنان ، أغمض عينيه قليلا ليستمتع بتلك البرودة ، تباطأ إيقاع التنفس لديه ، و بالتدريج بدأ يسترجع القدرة على الإحساس بما يحيط به من الأصوات والكائنات الموجودة بالمكان.
أثار انتباهه صياح الأطفال وضحكهم وجريهم المتواصل ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ، هكذا يحصل دائما عندما يرى الأطفال ، يجرون بلا انقطاع يسبقون عقارب الساعة ،لا يدركون ما يحدث في العالم ، ربما لهذا السبب يكبرون بسرعة ونحن غافلون، و فجأة نجدهم كبارا على حين غرة…
كنت أرى العجوز وأنا في طريقي إلى العمل بخطى مسرعة لألحق بأية وسيلة نقل متاحة ، وهو على جانب الطريق يخطو خطواته البطيئة ، ظهره منحن قليلا وهو يسير مستندا إلى عكازه كرجل ثالثة تحميه من فقدان التوازن.
كثيرا ما راودتني الرغبة في التعرف عليه ومحادثته ، فهو من الجيران على كل حال، لا أدري لم كان الكلام يحتبس في صدري حتى للسلام عليه ، لأنه في المعتاد لا يكلم الناس وهم أيضا لا يبدون حماسا للحديث معه ، ربما لأن كلا منا صار يخشى اقتحام حياة الآخر، كأن في المحاولة خدشا لغلافه الوجودي.
استمر مسار الأشياء ،الأطفال ما زالوا مستغرقين في جريهم غير مبالين ، يسرعون لبلوغ الرشد، يستيقظون كل صباح ليباشروا همهم اليومي في الجري والقفز والضحك ، يجرون غير مدركين لما يحدث في خط بلا نهاية ، خط روتيني على إيقاع بندول لا يتوقف في حركته ذات اليمين وذات الشمال.
تحت الأيكة كان الشيخ وما يزال جالسا مستمتعا بظلها الوارف …
صار الأطفال الآن كبارا ….
بكى الشيخ بصمت ، وفكر هذا يصبح حال الحياة حين يغيب البر ويسود لبر الدواني ولمز الأحرار...
رآهم يدوسون الأزهار ، ولا ينصتون لغناء الأطيار ، وعيناه تتابعان رقاص ساعة قطار مقابلة للحديقة.
لم يعد الكبار منتبهين لشيء ، لم يعد بمقدورهم إدراك ولا رؤية أي شيء ، ولا حتى أطفالهم يكبرون ، ولا ماء الجدول ، ولا جمال الفجر ولا غروب الشمس في المساء…
هو هنا الآن يسند رأسه بعكازه ، يمشي الهوينى لأنه لم يعد يقوى على الجري ، هو هنا ويدرك أنه سيقال غدا بأنه كان هنا…
تثاقل التفكير ، وغزا الجسد وهن وإعياء ، لكن القلب مثقل والهم كبير ، لا يهم ما يحمله هذا القلب ، نبضاته تتوالى على إيقاع حركة البندول …
لا يدري لم يتصور الزمن مقعرا على شكل نصف دائرة تعلو تارة وتارة نقلبها لمعرفة المكتوب عند قارئة الفنجان .
شيء مثير أن نتعامل مع الزمن بهذا الشكل الهندسي ، يفقد رعبه وجبروته ، فيصبح مجرد فنجان مقلوب.
هو هنا مثل الكثيرين قد يغيب هو أو أي واحد من الآخرين ، كان هنا في زمن ما…..
لا شيء سيتغير بالتأكيد ، لن يتألم لمغادرة عالم لن يحزن فيه على فراق الآخرين ..
كبار يدوسون الأزهار
ولا يرون صفاء الأفق تخترقه طيور ونوارس وأسراب أخرى بكل الألوان،
لا ينتبهون لبكاء الأطفال
ولا لحركة الموج في البحار.
ومن حيث لا يدري سالت من عينيه دمعتان ، أغمضهما قليلا ليس أكثر ، فقط ليجنبهما رؤية ما يؤلمه عميقا فيغلي سخطا لرؤية الأضرار.
أغفى قليلا ، الظلمة مغرية و لذيذة ، فاستسلم لنداء الطبيعة..
صارت أصوات الأطفال قريبة ، تسربت إليه كلماتهم كلمسة حنان ، شعر بأياديهم الصغيرة تنفض عن معطفه ما علق به من تراب وهم يساعدونه على الجلوس :
_ لا عليك يا جدي ربما أغمي عليك قليلا.
لاحظت ما جرى فجريت قليلا لإسعاف العجوز ومساعدته على العودة إلى البيت.كعادته كان صامتا، لاحظت أنني كنت أسرع الخطو بلا وعي بينما كانت خطواته بطيئة سلسة على إيقاع حركة البندول.
تعليق