عمي الرّاعي المغبون- الله يرحمه برحمته الواسعة - المسكين ، " عاش ماكسب مات ما خلاّ " . الناس الغلابة من القبور إلى القبور، والمحظوظين من القصور إلى القصور . لم ير عمي النور منذ نشأته ، على الأقل منذ عرفته .ولم ينل يوم راحة في حياته وعمره كان قد تجاوز الستّين . كأنه وُلد ليموت راعيا . كان طيّب القلب ، كتوم ، يستحي ، كأنه من كثرة الاستحياء خجول ، و الخجل كظاهرة تتميّز باحمرار الوجه طبعٌ نعاني منه جميعا تقريبا . وزوجته المسكينة كذلك ، أحيانا تبدو لي ذليلة من كثرة ما تعاني من الإقصاء و التهميس داخل العائلة الكبيرة ، لم ترزق سوى ببنت ، وربما كان هذا من بين الأسباب التي زاد في معاناتها الطّويلة مع تحقير سلفاتها لها ، بالرغم من انها تكبرهن سِنًّا . لكن السن والأخلاق ليست من الأشياء التي يمكن أن تردع الكنّات في تغوّلهن على بعضهن البعض داخل الأسرة الواحدة . لم ترزق زوجة عمّي هذه بولد ذكر ، يحمل الهم عن أبيه الرّاعي المنبوذ ، و يعوّض الأم المهمّشة عما فاتها ولحق بها .ومن لم ترزق بولد يكون سندا لها بين الكنّات فتلك معضلة " تابو " . وقد شجّع الأمر هذا ودفع بأحد الأعمام إلى تكرار الزّواج .
عمّي الرّاعي الذي ظلّ صامدا مؤمنا بقدر الله راضيا بقضائه ، لم يكن هناك من يدافع عنه سوى الجدّة التي كانت كلما ذهبت إلى البادية تتفقّده وزوجته المسكينة وطفلتها الصّغيرة ، و التي كانت قد " سُميّت" لي وهي لا تزال في المهد رضيعة ، عملا بالتقاليد والأعراف ، هكذا كانت تأمر التقاليد و الأعراف التي لا تؤمن بقضاء الله . جدتي كانت كثيرة البكاء " رجراجة " كما يروى عنها ، رقيقة القلب رهيفة المشاعر، لا تتحمّل قسوة القلب أو الظلم . وكانت ترى وتراقب الكنّات من بعيد ، وتقارن غنّجهن بحالة زوجة ولدها الرّاعي المزرية ، وتتألم في صمت . لكنها لا تسكت على الظّلم أبدا ، يُقال ان جدي مات غضبانا عليها بسبب كثرة نزاعاتها مع الكنّات . حياة البؤس والشقاء التي تعاني منها أسرة عمي الرّاعي دفعت بجدتي إلى البكاء طويلا . وكاد يتسبب بكاؤها هذا في انتحار عمي الأكبر ، الوصي على المزرعة وعلى إخوته بعد رحيل جدّي ؛ ففي أحد الأيام وبعد عودته من مكّة المكرّمة وأدائه مناسك الحج ، أقدم عمّي على الانتحار ، " ورائحة مكّة لا تزال في لحمه و ثوبه" ، عندما ضجر من بكاء الجدّة ونحيبها الطويل الذي صدّعت به رؤوس الحاضرين ، من الزوار الذين كانوا في شوق إلى عمّي الحاج وهو يروي تفاصيل الشعائر بدقّة متناهية ، ويزيد عنها أشياء على سبيل الترفيه . لكن عويل الجدّة لم يرحمه ، فتسلّل من " دار الضيافة " دون أن يلفت إليه انتباه الحاضرين ، الذين انشغل بعضهم ببعض وآخرون منهم وجدوا في انصرافه فرصة للتلذّذ بما في الصحون التي تزيّن الطّاولة بانواع الحلوى من القاتو والمقروط والتّمر والفول السوداني " الكاوكاو " - كما يسمّى عندنا - يُشيّعونه ببعض الشّاي أو الحليب أوالقهوة كل حسب ذوقه ورغبته . كان عمّي الحاج حينها قد تسلّل إلى مكان معزول بالاسطبل المجاور، وصنع له من الحبل خرتة ، وعقدها ، وعلّق الحبل في إحدى الرّكائز الخشبية المتينة ، ووضع الحبل في عنقه ثم صعد فوق برميل حديدي وهمّ بإلقاء نفسه من أعلى البرميل .
لست أدري من أخبر بعض الزوّار ، هرعوا إليه ، وأمسكوا به قبل أن يشرف على الهلاك .
غفر الله لجدّتي فقد كانت رغم سنّها ومرضها وطيبة قلبها ، لكنّها " واعرة " جدًّا كما يقولون .
وفي أحد الأيام جاؤوا بعمّي الرّاعي المغبون من البادية ليلا ، بعدما انهكه المرض والتّعب و قلّة الرّاحة ، و يئسوا منه ، فدخلوا به علينا في بيتنا الذي في القرية ، ووضعوه فوق حصيرة حلفاء قديمة في إحدى زوايا الغرفة المهجورة . وتداول عليه المشعوذون و" الطُلْبة " ، من المشايخ الذين يكرّرون الآيات بألسنتهم دون أن نفقه عنهم شيئا ، وممّن يعزّمون دون أن نفهم منهم شيئا .
لكن العم المسكين أراد أن يخالف القاعدة هذه المرّة ، ليأخذ إجازة ولآوّل مرّة ، تاركا وراءه علامات استفهام ؟؟؟ .
عمّي الرّاعي الذي ظلّ صامدا مؤمنا بقدر الله راضيا بقضائه ، لم يكن هناك من يدافع عنه سوى الجدّة التي كانت كلما ذهبت إلى البادية تتفقّده وزوجته المسكينة وطفلتها الصّغيرة ، و التي كانت قد " سُميّت" لي وهي لا تزال في المهد رضيعة ، عملا بالتقاليد والأعراف ، هكذا كانت تأمر التقاليد و الأعراف التي لا تؤمن بقضاء الله . جدتي كانت كثيرة البكاء " رجراجة " كما يروى عنها ، رقيقة القلب رهيفة المشاعر، لا تتحمّل قسوة القلب أو الظلم . وكانت ترى وتراقب الكنّات من بعيد ، وتقارن غنّجهن بحالة زوجة ولدها الرّاعي المزرية ، وتتألم في صمت . لكنها لا تسكت على الظّلم أبدا ، يُقال ان جدي مات غضبانا عليها بسبب كثرة نزاعاتها مع الكنّات . حياة البؤس والشقاء التي تعاني منها أسرة عمي الرّاعي دفعت بجدتي إلى البكاء طويلا . وكاد يتسبب بكاؤها هذا في انتحار عمي الأكبر ، الوصي على المزرعة وعلى إخوته بعد رحيل جدّي ؛ ففي أحد الأيام وبعد عودته من مكّة المكرّمة وأدائه مناسك الحج ، أقدم عمّي على الانتحار ، " ورائحة مكّة لا تزال في لحمه و ثوبه" ، عندما ضجر من بكاء الجدّة ونحيبها الطويل الذي صدّعت به رؤوس الحاضرين ، من الزوار الذين كانوا في شوق إلى عمّي الحاج وهو يروي تفاصيل الشعائر بدقّة متناهية ، ويزيد عنها أشياء على سبيل الترفيه . لكن عويل الجدّة لم يرحمه ، فتسلّل من " دار الضيافة " دون أن يلفت إليه انتباه الحاضرين ، الذين انشغل بعضهم ببعض وآخرون منهم وجدوا في انصرافه فرصة للتلذّذ بما في الصحون التي تزيّن الطّاولة بانواع الحلوى من القاتو والمقروط والتّمر والفول السوداني " الكاوكاو " - كما يسمّى عندنا - يُشيّعونه ببعض الشّاي أو الحليب أوالقهوة كل حسب ذوقه ورغبته . كان عمّي الحاج حينها قد تسلّل إلى مكان معزول بالاسطبل المجاور، وصنع له من الحبل خرتة ، وعقدها ، وعلّق الحبل في إحدى الرّكائز الخشبية المتينة ، ووضع الحبل في عنقه ثم صعد فوق برميل حديدي وهمّ بإلقاء نفسه من أعلى البرميل .
لست أدري من أخبر بعض الزوّار ، هرعوا إليه ، وأمسكوا به قبل أن يشرف على الهلاك .
غفر الله لجدّتي فقد كانت رغم سنّها ومرضها وطيبة قلبها ، لكنّها " واعرة " جدًّا كما يقولون .
وفي أحد الأيام جاؤوا بعمّي الرّاعي المغبون من البادية ليلا ، بعدما انهكه المرض والتّعب و قلّة الرّاحة ، و يئسوا منه ، فدخلوا به علينا في بيتنا الذي في القرية ، ووضعوه فوق حصيرة حلفاء قديمة في إحدى زوايا الغرفة المهجورة . وتداول عليه المشعوذون و" الطُلْبة " ، من المشايخ الذين يكرّرون الآيات بألسنتهم دون أن نفقه عنهم شيئا ، وممّن يعزّمون دون أن نفهم منهم شيئا .
لكن العم المسكين أراد أن يخالف القاعدة هذه المرّة ، ليأخذ إجازة ولآوّل مرّة ، تاركا وراءه علامات استفهام ؟؟؟ .