أبي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الحميد عبد البصير أحمد
    أديب وكاتب
    • 09-04-2011
    • 768

    أبي

    القمر المستديرُ، يختالُ بغشائه الأبيضُ اللامع ، ثم ينحدر صوب الشرق مسرعاً ،ليُبدد كتائبُ الغيم المحتشد عند عتبة الأفق ،ثم يرسل سيلاً من لثماته الحارة تُداعب صفحة الدانوب ،كأنه ساحر أبيض، يُهرق ترياق الحياة، فوق لجة الماء الساكنة .وفوق ضفافه الصخرية، نبتت أبراج زيون الإسطورية، واستطالت مصابيح النجوم العملاقة فوق ضريح الأعمدة الفولاذية ، لترسل في الفضاء ضوئها الساطع بين حين وأخر، ثم لمع ضوئها الشديد الأخاذ، ورشق بحربته طعنات الضوء في سديم الظلام، كأنه راع ينحدر من أعلى تبة فوق صفحة الأفق الجميل، ليثب فوق جواده الشمسى، يقطع بسيفه ستائر الظلام والعتمة .ثم شرعت أفاعى الخمائل والحدائق الغناء، تزحف رويدا ، وتتمدد تحت الأعمدة السوداء، وقد التحفت بأشجار سندسية ذات عشب أخضر ندى، ينضح في ألفافه زهور الجلنار والأقحوان، لها شذا وأريج يمتد فوق طبقات الهواء، ليعانق قوافل الياسمين والفراش المنحدر من أعماق الأدغال القريبة .ثم ضربت أسوار الحدائق ،أشجار الدوح العالية ،وتسامق بعضها حتى عانق الغمام ، ثم التفت أكمامها وأوراقها ،وغاصت في لثمات عشق أبدية.وعند منتصف الحديقة زحف العشب الأخضر ،فوق المدرجات الصخرية المنضودة، التى تشبه مدرجات الكولسيوم ،واكتنزت أشجارها بألوان الأطايب، من الثمار ،والفاكهة .ثم انبثقت سلسلة من النافورات العملاقة، تُحيك خيوط الماء بتناغم وانسجام فريد، لتجري الجداول من تحتها في شكل هندسي ،فتقرع جدران الحياض التى التحفت بأسوار أسمنتية، لتسقي زهور الياسمين والجلنار ،ثم توسد رأسُها بوابات عملاقة، قدت من فولاذ، تحمل فوق ناصيتُها مسوخ صخرية مجنحة، ناصبة عيونها إلى النهر، كأنها تنتظر ثعابين الماء لتنقض عليها، ناشبة مخالبها في لحاء الحديد ،تحمل وجوه مكفهرة، تتلمظ بالغضب والوعيد ،وقد ألقمت أفواهها أبواق جنائزية تُنذر بالجحيم، والشر المستطير.وبالقرب منها أقيمت سلاسل ممتدة من المنشأت ،والمعامل،والمختبرات الحديثة التى صُممت على شكل أهرامات زجاجية رابضة تحت سفح الأبراج ، وقرب حوافها، برزت سراديب ،وأخاديد دودية حصينة ممتدة في عمق القشرة الصخرية، أُعُدت كملاذ آمن للفارين والمنكوبين حال وقوع الإعتداءات ، والمخاطر الجسيمة. وعند حلول الظلام ، ترى الصمت يرسف في أغلاله وحيداً في عباءة الليل ،والعتمة تجتر أشواك الوحدة والسكون ،أسنة المطر الثقيل، تقرع متاريس الطرق،وتلثم لحاء الشجر بقبلات عنيفة ، الصمت الكئيب يخيم ثانية، ويرسل العبرات، ويطلق الزفرات فوق أردية المكان ،كأنة عجوز متصاباً يلوك غصص الوجع تحت جدران الوحشة والأفول . وهاهى الأضواء ترقص تحت الأبراج ،وتضيء ساحة القاعة البيضاء ، حيثُ ضجت القاعة الصاخبة بالنخبة من المفكرين، والمثقفين، والعديد من العلماء المتخصصين في شتى المجالات العلمية،وكذلك حشد كثيف من الصحفيين والإعلاميين ، وأعضاء تابعين للأمم المتحدة ،وقطاع عريض من مندوبين رفيعين المستوى يمثلون دول العالم .بعد مرور دقائق صعد المنصة البروفسور فريمان المسئول الأول عن إدارة شئون الأكاديمية ،والأب الروحي لذلك الصرح العظيم :واستهل كلماته المؤثرة ،بدعوة العالم إلى إفشاء السلام ونشر المحبة ،ونبذ الحروب ،ودعم الحقوق والحريات ،من خلال نشر القيم والتعاليم السماوية التى تدعو في جوهرها إلى التسامح ، وتحض على إحترام حقوق الإنسان ،والحرص على نيل حريته ،ومقاومة كل أشكال العنف والكراهية ثم شرح بإسهاب المغزى الحقيقي من وجود المشروع في ذلك التوقيت . قائلاً: إن كل شيء خلقه الله في ذلك الكون ،قائماٌٌ على نُسق بديعاُُ وقاعدة أساسية هي التوازن والإعتدال ،دون الميل أو الإنحراف ،فإذا اختل التوازن اختل معه النظام .العالم ياساده كما ترون ..في طريقه إلى الزوال، جراء الإحتراب، والتناحر الذي يجري في كل مكان على كوكب الأرض ..لقد تغير سلوك الإنسان، وصار سادياً عدائياً .مسخاً، بشعاً، يسعى إلى خلق الدمار ، ونشر الفوضى ،بسبب عشقه للنفوذ ،وحبه للسلطة والتملك ..لقد إبتعد المخلوق كثيراً عن رحمة الخالق القدير، ونزع ثوب المحبة والإيمان من قلبه ،وتوشح بأردية العنف ،والحقد والكراهية ، العالم ياساده بحاجة إلى أبطال .. ابطال من نوع خاص ،قادرين على حماية الأرض ، وإنقاذها من الشر المحدق بها.. فإذا عدنا إلى الوراء ، الماضي البعيد ،وجدنا أن القدير قد أرسل الانبياء والمخلصين لإنقاذ البشرية من الفوضى والفساد.. بعدما تآكل النسيج الإنسانى على الأرض جراء أعمال الهمجية والوحشية ، وحب السلطة والإنقياد وراء الشرير حتى صار الإنسان هو مصدر الشر والدمار.. بل هو الخطر الحقيقي الذي يهدد الحياة على الكوكب ، كما تعلمون ياساده ، فإن المعرفة كانت هي البداية الحقيقية في إرتقاء الإنسان إلى ُسلم المجد والحضارة عن طريق الإبتكار والإختراع ،ونجاحه في رسم المستقبل كما يريد، مما ساهم في تحقيق عوامل الرخاء والإزدهار ،والحفاظ على وثيقة الوصاية في الأرض، بالتخلى عن الكراهيةـ، ونبذ العنف، ونشر السلام والمحبة ،وتعزيز حق الإنسانية في الوجود والحياة ..ولكن ذلك لم يدوم طويلاً، فمازالت جائحة السلطة والنفوذ تُسيطر عى عقله ،فسعى لبريق السلطة ، فباع روحه للشرير، واستغل العلم والمعرفة في تحقيق شهواته ،وإرضاء رغباته ،فأطلق سمومه في الكون ،فتلظت الأرض، ولم يسلم منه شيء ..أيها الساده لا يمكن بأي حال أن نغفل عن دور العلم والتجربة في تحقيق الرخاء والنمو، خاصة في المجتمعات الأوروبية أبان الحقبة- الوسطى - السوداء ،ولا يمكن بالتزامن أيضاً أن نصعر الخد عن الشر المطلق الذي رافق تلك الرفاهية ،وأقحم الإنسان في خصومة مُشينة مع الطبيعة ،وسعى إلى إمتلاك ألة الحرب والدمار ،فأُُعيد إلى الأذهان ،ميثلوجيات العصور القديمة في خلق وتطوير ألات الموت والفناء،، وسحق الحياة .ولن نستطيع أيضاً ..أن نتجاهل ما حدث في العصور القريبة ،ونذكر بما حدث في كوارث الحروب العالمية ،وجرائم الدول المنتصرة في اليابان ،وفيتنام وكوبا من أجل تركيع الأمم وإذلال الشعوب، وبناء المستعمرات ،وانتهاك حقوق الشعوب في نيل الحريات وسلب ثرواتهم، وتكريس مدخرات البلدان من أجل المستعمرين الجدد، بالإضافة إلى إستنزاف الدول عن طريق التكتلات الإقتصادية ،ودهس الإقتصاديات النامية من خلال غرس النظم الرأسمالية المتوحشة، وبسط الهيمنة والعولمة ،مما أودى بنا في نهاية المطاف ،إلى خلق بيئة مشوهة من العنصرية، والتطرف الدينى الراديكالي، المصبوغ بالأيدة القذرة الإستخباراتية التى تزرع الفتن ،وتُشعل اللهيب في كل بقاع العالم .ولن ننسى الدور المشبوه للمنظمات الخفية، التى تعمل تحت مطية الدول الكبرى بالعمل على نشر الأوبئة، وخلق بيئة مستحدثة من الجراثيم والفيروسات القاتلة من أجل السيطرة على سوق الدواء، والتحكم المطلق في النظام العالمى .لذلك كان لابد من إيجاد رادع لتلك الأخطار الكارثية التى تهدد الحياة على ظهر الأرض . إنها مجرد فكرة صغيرة تجولت في ساحة مخيلتنا ،حتى وجدت قبولاً لدى عقول الشرفاء من الأحرار الذي ساهموا في دعمها وتزكيتها لدى صناع القرار في العالم ..فشرعنا في بناء ذلك الصرح العظيم ،بأحدث التقنيات المتاحة المتوفرة على مسرح الحداثة والإستعانة بنخبة من العلماء والمفكرين والفلاسفة في اكتشاف وتبنى المواهب ،والقدرات العقلية الفذة من كافة أنحاء العالم ،وفي جميع المجالات العلمية .الفيزياء ،الكيمياء،الأحياء،البيئة ،الطبيعة ..وكل ما يمت بصلة للحياة على ظهر ذلك الكوكب وما يلمس المجرة ونظامنا الشمسي، من أجل إنقاذ العالم من مراجل العبث والفوضى . نحنُ رئة الكون الوحيده،وحائط الدفاع الأخير.. و في نهاية كلمته أثنى البروفسور فريمان على كل من أيد وساند المشروع خاصة رفاق الدرب من زملائه وأصدقائه ،وطلابه ، وتمنى التوفيق للجميع . الصباح يخطو فوق الأفق الشرقي خطاه الوردية ،وقد نثر على الأرض حبات اللؤلؤ البراقة الندية ،ونسائم الربيع عادت تهبُ من جديد ،فواحة بعبير المروج، والأدغال ،لتضبط إيقاع الأوراق المرتعشة .وفوق أديم المدرجات الصخرية ،نبت الجلنار رماناً شهيا ،واكتنزت حواشيه بزهور الأعشاب ،واستأسد على ضريحه تمثال بابلي قديم يحمل رأس نسر ،وجسد فولاذي قد نشر أجنحته العملاقه ،يقال له مردوخ .دنا الطفل اليهودى أدموند فرويد المولود في حيفا شمال إسرائيل ذو العاشرة ،قريباً من التمثال العملاق . كان أدموند فتى قصيراً، ذو بشرة بيضاء رقيقة ، قد ُرشق أديمُها ببقع حمراء ،وشعر ناعم طويل، يرتدى نظارة إلكترونية ،تحدد الأجسام بدقة متناهية، كبديل عن قصر نظره الطبيعى. وقف أدموند يتأمل رائعة بيجماليون، تلك الحوراء المكتنزة بصور الحسن ،وألوان الجمال، فشرع يقارن بينها وبين مردوخ الغاضب.ثنائية الجمال والقبح في عالم الخيال والفوضى ، طفق الفتى أدموند يُطلق سيلاً من النظرات المريبة إلى مردوخ العملاق ، ويحدد ملامحه من خلال النظر إلى صورته المجسمة في لوحه الإلكترونى .شعر أدموند العبقري الفذ بخطى وئيدة تتحرش بلفائف الأعشاب، فأصاخ السمع لوقع الأقدام ،ورفيف الأعشاب .فظهر صديقه العربي على الزيتونى المولود في السامرية شمال شرق بيسان ،فتىً ذو بشرة سمراء تميل للبياض الطفيف، ذو شعر أسود كأنه دُهن باللون البنى ،وعينان حادتان، ذاتا مسحه بنية داكنة .كان الفتى يبلغ من العمر الحادية عشر ،نُعت الفتى بالفيلسوف الصغير بين زملائه ،لما يتمتع بموهبة حادة ،تتميز بالعقل والحكمة .ربت الفتى بيده على ظهر أدموند وقال: هناك رسام لاتينى ذكر تعريفاً مثيراً للجمال حيث قال ياصديقي الموهوب : الجمال عبارة عن مجموعة من العناصر التى تعمل مع بعضها البعض دون أن يطغى عنصر على الأخر..منظومة تجري في تناغم وانسجام .ثم أردف ساخراً: ولعل بيجماليون صاحب التعريف الذكي..ولكننى أرى أن الجمال قطعة موسيقية صاخبة.. ثم رمق إلى أصدقائه قائلاً : حقاً ! كيف تمكن ذلك المهووس بيجماليون من إتقان تلك المهارة في نحت تمثاله بأزميل مصنوع من الخشب والحديد ..دون أن تطيش يده؟ أي مهارة تلك إمتلكها ذلك الفذ ! غالباً لايصحُ ميزان الجمال ، إلا بوجود مقدار قليل من القُبح .. فالقبح هو الغموض الذى تطليه فرشاة الرسام عندما يعتريها الضجر..القُبح هو ظل الجمال ، لاسيما عندما تنعكس صورته في مرآة الواقع .ثم التفت إلى التمثال مردوخ ..وقد دنا منه ساخراً -مردوخ ..مردوخ.. الملاك الساقط ،أو الشيطان الحاضر كما يُدعى كذباً في الأساطير . في كل العصور تراه حاضراً .ثم شرع يغرز في عينيه بأصبعه .. ويردد متسائلاً؟ - من أنت حقاً ؟..هل أنت أحد الملائكة الساقطة كما يزعمون كذباً.أم شيطان مارد ؟ لابد أن فأس النبي إبراهيم مازال أثره عالقاً في ذاكرتك المتربة ..انفجر أدموند ضاحكاً : -هل ترى أن له علاقة بحضارة "الأنوناكى .. الأربعين الذين سقطوا من السماء ..لقد بلغوا بعداً زمنياً حديثاً في إستخدام العلم والتجربة ..وشيدوا حضارة عتيقة ، مازالت إلى الأن لغز مُحير يبعث التساؤل والريبة ..كيف للأنسان الأول أن يؤتى بتلك العلوم والمعرفة ،وبتلك السرعة، وفي ذلك الوقت المبكر من التاريخ ? ..أثارت المعلومة إنتباه "تورجهان توريز "التركي المولود في "تشورلو" جنوب تركيا .كان تورجهان فتى طويلاً ذو شعر أبيض منسدل على عنقه، تغزوه مسحة فضية يرتدى نظارة سميكة تُخفي عينيه الحادتين ،يتمتع بقوام رشيق تبدو علي سيمائه ملامح الثقة الوقار ، برفقته صديقه الروسي "ألكسندر بافل "المولود في سان بطرسبرج. كان بافل يتمتع ببشرة بيضاء، وشعر أسود تغزوه مسحة حمراء قانية ..طويل ،حاد الذكاء قوى الشكيمة ،صعب المراس ..أرهفا السمع سوياً .للجدال الدائر بين أدموند والزيتونى. حول تحفة بيجماليون و إسطورة ماردوخ البابلي ..ثم قررا الولوج سوياً إلى دائرة النقاش ..حيث ابتسم تورجهان ساخراً بعدما خلع نظارته .. بيجماليون كان رائعاً حقاً في تجسيد تلك المنحوتة الفنية ، التى تعبر عن صادق المشاعر العذبة النقية ..لقد اخترع الرجل أبجديات الجمال الأول ،وصفف لبناته بمفردات متقنة الحرف ..الخيال يا أصدقائي صورة نمطية من صور المستقبل ..كذلك المستقبل نسخة أخرى، لأحداث جرت في الماضي بصور عدة ،الأثر دائماً ما يفنى ،كما تفنى الأجساد في حياة الأرواح ،لكن الصور تبقى وتعود مرة أخرى..ولكن بلون مغاير ..نظر الكسندر بافل إلى تورجهان وقال ساخراً - لم أكن أدري أن الأتراك ،يعتنقون الشعر والفلسفة ..علق تورجهان على سخرية بافل : -قليل من الصبر والعاطفة لن يضير أحداً ياصديقي ،قريباً يستدير الزمان ،وتتغير الأحداث والصور ، لاشيء يبقى على حاله ،ستعود الضباع يوماً ذليلة إلى جحورها، بعدما يستيقظ الراعي ،ويستقيم القطيع .. تغيرت ملامح الكسندر بافل بمسحة من الحزن والألم ،وارتسم على محياهُ مشاعر السخرية. ثم وثب من مكانه والتفت إلى مردوخ بعدما طعن فمه وعينيه بأصبعه قائلاً : الرزيلة هنا، والفضيلة تكمن هنا، والشر المطلق دائماًً برفقة الجمال المطلق .. الحكمة القديمة للإنسان اعتبرت أن الشرّ مركّب إنساني ونزعة إنسانية وجودية مازالت في صراع داخلي مع الخير ،وليس للشرير قسط منه ،وهاذ غير صحيح !..فكليهما الرزيلة والفضيلة مرآة للأخر ،للفوضى، للعبثية ، للدمار،للخير ، للسلام ، للرخاء ..هكذا تجري الأمور .. لم تجد فلسفة بافل صدى لدى أصدقائه الذين تبرموا من كلماته المباشرة .فقفز الزيتونى بين الأعشاب قائلاً :ما أدركته ياصديقي لايعدو قياس تلك القفزة الواهنة .قد يكون الشر مركب إنسانى كما تقول ..فالشر ،والرزيلة ،والغضب ،والكراهية ،ليست إلا ألواح ليلية على قارعة الطرق ،وليست مركب أو غريزة.. إذا كان الإنسان القدرة على تغييره،ومعالجته ،عن طريق التهذيب والتقويم كما يفعل البستانى بالأشجار، عندما تستطيل الفروع وتتشابك الأغصان. نظر بافل إلى الزيتونى وقال :أرى أنك مهووس بالفلسفة أيضاً..أيها الصغير القصير! الفلسفة مثل العاهرة التى ليس لها زوج ،،تمنحك السؤال الأوحد، لتعطيك إجابات من الأسئلة التى ليس لها أصل في العقل، أو نسب في المعرفة، إنها فقط تتركك تدور عالقاً في رحى المتاهة .ثم التفت بافل إلى الأمريكى فيكتور هول ذو الشعر الأشقر القصير، والبشرة البيضاء، وأشار إليه .كان فيكتور فتى طويلاً جسيماً قوياً ،برفقة ريتشيل البريطانية الحسناء ذات الشعر الكستنائي الطويل اللامع، والعينين الزرقاوتين، والبشرة البيضاء المشوبة بحمرة الأرجوان ،ترافقهما الفرنسية ليليان لوباج صاحبة البشرة البيضاء والجدائل الحمراء والعينين الزرقاوتين . كانت هناك مشاعر فاترة تدب بين الغريمين الروسي "بافل" والأمريكى" فيكتور"، ولم تفلح الأجواء الحميمية داخل رفقة الأكاديمية في تذويبها .تعمد الأمريكى فيكتور إغاظة بافل بتقديم صديقته الإنجليزية ريتشيل والفرنسية ليليان بصورة إستعراضية نكاية في بافل العنيد : طرح فيكتور يده في الهواء وانحنى بصورة إستعراضية قائلاً: أيها السادة ،لقد حلت بيننا الأن سليلة الملوك، وأميرة القصر الملكى، والمتخصصة في علوم الفيزياء، والكيمياء، والبيئة ،ريتشيل ريثبورن..ثم أشار إلى ليليان قائلاً : وهاهي الأنسة ليليان حفيدة الأمبراطورية الفرنسية العظيمة ،قاعدة الحضارات في العالم الحديث ،وشرارة الإنطلاقة الأولى للنهضة الحديثة في أوروبا.تقطرت النظرات المتجمدة من عيون بافل وإبتسم ساخراً : ليست هناك نهضة تجري الأن، ليس هناك سوى مجون، وسفور ،وحانات وراقصات، كما ذكر راعي الكنيسة . ثم تعمد أن يقطع ألفية هيكتور في الثناء والمديح بصورة ساخرة قائلاً:أجل يا راعي البقر، وسليل الرعاة ، حدث ذلك في الماضي التعيس.. قبل أن يدهسها هتلر بمدافعه المطاطية ،مما دفع ليليان لأن تبدى إستيائها من وقاحة بافل . لكن بافل لم يهتم ،وعلا صوته في الفضاء ساخراً كمن يقدم عرض مسرحي :الشر غريزة أساسية في ضمير الإنسان - شاهدوا معى ،هذا ماردوخ سيد الشر في العالم ..ولنتسائل يا أصدقائي.. ماذا جلبت الحضارة للإنسانية .. ؟التاريخ يسرد علينا حقائق مريعة للشر المطلق الذي نفث غضبه على الأرض في صور وحشية ،وهمجية ،بداية من حقب الأشوريين ،والبابليين ، والفرس مروراً بالرومان، مازحاً في عرضه المسرحي بمشاركة تورجهان التركى الذي شارك بطريقة تمثيلية،في تقليد الإمبراطور الرومانى قيصر، ومقتله على يد صديقه بروتس ثم كاليجولا المجنون ،وهذيان تراجان ،عروجاً على قيام الأمبراطورية العثمانية ،ولحظة سقوطها المشين ، وسخرية تورجهان من هوليوود التى كذبت في ادعائها بهزيمة الفاتح على يد الكونت دراكولا ثم تهاوي عروش الدولة التركية في صورة العجوز المريض ، وابتكار المصباح ،والتلغراف ،بصور ساخرة مضحكة، وتقليد الزعماء ،والملوك في أوروبا ،والسخرية من العصور الوسطى، وتسلط الكنيسة على الشعوب ،ثم قيام النهضة الصناعية في أوروبا ،وسرقة الكثير من العلوم العربية التى ساهمت في نهضة أوروبا ،ثم السخرية من قيام الجيوش الأوروبية باستعمار الأمم الضعيفة عبر الحديد والنار، وقتل الملايين في مستعمرات أفريقيا وجلب العبيد إلى أمريكا ،والسخرية من دهس الحقوق والحريات في تلك الدول ،ومطالبة الشعوب في نيل الإستقلال ..ثم انضم إليهم السنغالي "دوفي" ولعب شخصية العبد المسلوب إرادته والمغتصبه حقوقه في حقول أوروبا،وكذلك السخرية من قيام الجنود الفرنسيين بتصوير ذبح الجزائريين بوحشية مطلقة وتعليق رؤوسهم على الأسوار ،وقيام الزيتونى بتقليد الرؤوس المتدلية .مما أثار حفيظة ليليان التى أثارت سخطها على بافل متهمة إياه بالسخافة والوقاحة،ثم تابع بافل هجومه على فيكتور بصورة غير مباشرة ،متحدثاً عن الأرض الجديدة، والأساليب العنيفة المستخدمة من قبل المهاجرين الجدد في إستئصال شآفة السكان الأصليين من الهنود ، ثم تسويد صفحتهم الأثمة بقصف اليابان ،وقتل الأبرياء وخدعة النفط والدولار ..مما دفع هيكتور للرد عليه بقسوة : يبدو أنك تنسى سريعاً ما فعلتموه في تاريخكم المشئوم أيها المتعجرف ..هل نسيت أن الجيش الأحمر قد ترك الحرب وذهب لاغتصاب النساء الإلمانيات .. هل تريد أن أذكر لك الحصيلة ،ما يقدر بحوالى 2 مليون إمرأة تم إغتصابها ..حوالى 1،4 مليون في بروسيا الشرقية وسيلزيا ..وهنا تدخل تورجهان التركى قائلاً: -ولماذا تلوم عليه جريرة إقترفتها الأيدى الأثمة لأجداده ،وتنسى مافعله الجيش الأمريكى أيضاً الذي أمعن في إغتصاب النساء في ألمانيا ،ثم التفت إلى ريتشيل وليليان : والجيش البريطانى ،والفرنسي أيضاً من القيام بأفعال همجية ووحشية في اغتصاب وإذلال النساء الألمانيات أبان الحرب العالمية الثانية..لكنه حال المهزوم واستحقاق المنتصر.. غالباً ما تجري تلك الأمور على هذا النحو ..ثم رفع تورجهان يده : لم يذكر التاريخ في حيثياته أن الإمبراطورية العثمانية في فتوحاتها قامت بالإعتداء على المدنيين أو سلب حقوقهم إلا من بعض القصص المزيفة والشواهد المكذوبة ،التى تتعلق بأساطير الأرمن . والتفت ساخراً إلى بافل ..لا تثيرا إشمئزازي ياصديقي فالإنسانية حق مشروع يجب أن يسود بين الناس، والتاريخ لا يرحم أحدا... وهنا صفق الفتى هانيبال وأشار إلى الروسي بافل وقال مازحاً : يليق به أداء دور فرانكشتاين، وهذا التركي يقوم بدور التاجر أو الزائر ، لا أدرى أيهما يُصلح .. ثم رنا إلى الفتاتين وهذه تُصلح خادمة،والأخرى طاهية، وأشار إلى هيكتور وهذا ينفع في دور راعى كنيسة، ثم أشار إلى دوفي ياندو وهذا ينفع في دور عبد صغير يعمل في الحقول الأمريكية وأشار إلى الفتاة لاريسا لويجى قائلاً :وهذه الفتاة تنفع في دور غجرية .نظرت إليه ريتشيل وليليان بإشمئزاز وقالتا بصوت واحد : يا إلهي ..لقد حل بيننا أحمق أخر .حاول "هانيبال" أن يلطف من الأجواء بعدما أثار عاصفة من الغضب قائلاً : إننى أُدعى الكاتب ،أعتقد انها ستكون قصة جيده ،لاتنزعجوا يمكننى تغيير الأدوار ،وماكاد يلوذ بالفرار بعدما أثار العاصفة في كلامه ،حتى اصطدم بصدر "بافل" العنيد وتملكه الخوف والرعب خشية أن يبطش به الفتى الروسي، فركض "هانيبال" مذعوراً حتى اصطدم مرة أخرى باليابانى "تسو "الذي دعاه إلى المكتبة العُظمى كان "هانيبال" الأسبانى المدعو بالكاتب . فتى قصيراً ذو شعر حريري ناعم وبشرة بيضاء متقدة بحمرة ، ذهب برفقة تسو إلى المكتبة الكبرى، بناء على أوامر البروفسور "فريمان" . كانت القاعة تقع تحت أحد الأبراج العملاقة، وهى عبارة عن بناية عظيمة ،تكاد تشبه مثلث هندسياً ،حيث تسمو قبتها عالياً بصورة دائرية ،وتتراص الكتب القديمة فى رفوف كببيرة ، قياساً بالحقب التاريخية التى تنتمى إليها ،وتذخر المكتبة بالعديد من الكتب والمراجع العلمية ،وكل ما جادت به قريحة الأنسان ،أو علق في الذهن ، أو سمت به الروح. وعند قدوم البروفسور قاما الطلاب بتحية البروفسور فريمان الذي كان يترأس المائدة الكبيرة المتمركزة في قاعة المكتبة .جلس الطلاب كلاً على مقعده، وبادروا بتحية الإجلال والتعظيم للبروفسور. أشار البروفسور فريمان إلى الروسي بافل بتقديم نفسه بحكم أنه الأقدم داخل الأكاديمية .حملق "بافل" إلى الطلاب يميناً ويساراً ثم شرع في تقديم نفسه قائلاً: : - أدعى بافل..الكسندر بافل من فولغوغراد ..أدرس علوم الجراثيم والفيروسات ..ثم صمت بافل برهة من الوقت ، فغشيت ظلال الصمت وشوش الحاضرين ،كأن على رؤوسهم أسراب من الطير ،مما جعل البروفسور فريمان يتدخل عبر إبتسامة رقيقة ،لمحاولة إذابة قشرة الصمت التى تلبدت في الوجوه الغائمة بقوله ..يمكنك سيد بافل أن تشرح لنا خصائص العلم الذي تدرسه . بافل : حسناً سيدي
    العلم الذي أدرسه يارفاق ، يختص بدراسة الأحياء الدقيقة ، وحيدة الخلية، ومتعددة الخلايا،وكذلك عديمة النواة كالفيروسات، إضافة إلى بدائيات النوى مثل البكتيريا وبعض الطحالب. ورغم التطورات في هذا العلم ،فإن التقديرات النسبية تقول إنه لم يتم دراسة إلا 0.03% من الجراثيم الموجودة في الكرة الأرضية ،بالرغم من أن الجراثيم اكتشفت منذ 300 عام إلا أن هناك الكثير لم يُكتشف بعد .. ثم أشار إليه البروفسور فريمان بالتوقف، وأضاف قائلاً :وأيضاً يتم الإستفادة من علم الأحياء الدقيقة في الممارسات الغير شرعية لبعض الدول الكبرى مثل ،إستخدام تلك العلوم في التجارب الحربية ، وفي صناعة أسلحة الدمار الشامل، حيثُ يستطيع ذلك العلم أن يكون سوط عذاب على البشرية ،إذا حاول الإنسان إستخدامه في عمليات القتل والإبادة . شكر البروفسور فريمان الروسي بافل على تقديم نفسه .و أشار إليه بأن يتابع عمله في تقديم زملائه : قال بافل : حسناً سيدى .نظر بافل إلى زملائه. ثم أشار إلى الفتى التركي تورجهان قائلاً:
    - وهذا التركى يدعى الرسام ،وهو يدرس علوم المحيطات ،والجليد .. هلا حدثتنا ياصديقي عن تخصصك .خلع التركى "تورجهان" نظارته ،ودسها في فتحة قميصه ثم قال : إننى أدرس النواحى الفيزيائية ،والكيميائية ،والبيولوجية ،والجيولوجية للنباتات ،والحيوانات التى تعيش في قاع المحيط ،ودراسة كيمياء المحيط، وتفاعله مع الغلاف الجوى ،ودراسة قاع المحيطات. وتشكل النسيح الصخري في الأسفل ،والحالة الفيزيائية بما فيها هيكل الحرارة، والملوحة، والأمواج ،والمد والجزر. وبعد أن إنتهى التركي من تقديم نفسه ، وطرح نبذه عن ماهية التخصص الذي يدرسه ،أثنى عليه البروفسور فريمان . ثم نهض من مقعده قائلاً : سأغادر لتنالوا بعض الحميمية في التعرف على بعضكم البعض. أتمنى لكم إقامة طيبة بيننا .وقف الطلاب لتحية البروفسور فريمان . الذي ابتسم قائلاً: كلكم أبنائي، شكراً ..لوجودكم بيننا . ثم أشار إلى بافل قائلاً :هيا يابافل تابع عملك يابنى .وما إن غادر البروفسور فريمان القاعة، حتى ساد الصمت والوجوم قاعة المكتبة العُظمى . لكن بافل إبتسم ساخراً ،وأشار بغطرسة إلى السنغالي: أنت .هيا ..أخبرنا من أنت .شعر السنغالي دوفي ياندو بالإستياء من معاملة بافل ،فنهض بوجه مكفهر ، وشرع في تقديم نفسه بحدة : أُدعى دوفي ياندو من قرية تُسمى" كافونتين" كاسماس، جنوب السنغال ،وأنا أدرس علوم الأرض والكائنات الحية .الهياكل والوظائف ،..والخلية تحديداً، بسبب أنها وحدة الحياة الأساسية ،وكذلك الجين باعتباره وحدة التوريث.. ،والتطور باعتباره المحرك الرئيسي للنمو . بعدما انتهى السنغالي دوفي ياندو من تقديم نفسه ، حدق بافل إلى وجوه زملائه ،ثم أشار بسخرية إلى الفتى الإسرائيلي أدموند قائلاً : أيها اليهودى ..نعم ،أنت.. هيا قدم نفسك، ولا تُكثر، فليس لدى اليوم بطوله ..إلتفت أدموند يميناً ويساراً وقطرات العرق تتحلب من مسامه ،رنا إلى زملائه ،فتجمدت الكلمات في حلقه من شدة الخوف.. فقال بتلعثم : أدعى أدموند فرويد .. أنتمى إلى حيفا شمال إسرائيل ..أدرس علوم الأحياء الفلكية ..نحن ندرس الأصل والتطور ،والكشف عن بيئات مناسبة للحياة في النظام الشمسي ،والكواكب المتاحة لوجود الحياة ..والبحث عن أدلة تطور الحياة من الجماد، وكذلك فرضية الحياة على المريخ والأجرام الأخرى البعيدة عنا .. وكذلك البحث عن السؤال الأهم ..هل نحن صنيعة غبار النجوم، أو مايسمى بالتراب النجمى ؟ . ثم أشار بافل : حسناً ، يكفي ثم أشار إلى البولندى دومنيك ..وكان فتى طويلاً قوياً، ذو شعر طويل يميل للون الذهبي، وبشرة بيضاء مصقولة بسحنة إسكندنافية فقال: - أدعى دومنيك روث من فروتسواف غرب بولندا ،أدرس علم الزلازل والبراكين وهي الدراسة العلمية لكل من الموجات المرنة في جميع أنحاء الكرة الأرضية ،أو عبر الأجسام الأخرى التي تشبه الكوكب. ويتضمن هذا المجال دراسات حول تأثير الزلازل والمصادر الزلزالية المتنوعة مثل العمليات البركانية، والتكتونية والمحيطية ،وكذلك متابعة الزلازل التي تتشكل في الحواجز المحيطية ،وغالباً تكون نتيجة الصدوع العامودية , أي نتيجة لتباعد الصفائح.. والزلازل التي تحدث في السلاسل الحديثة ،قد يكون سببها صدوع مقلوبة نتيجة لعملية إنضغاط ،ويوجد أيضاً إنزلاقات ، وكذلك البحث وراء أنواع الصدوع السابقه المختلفة ..وكذلك العلوم المتعلقة بالبراكين والحمم البركانية المنصهرة ،والظواهر الجيولوجية ،والجيوفيزيائية، والجيوكيميائية .. وهو ما يعتد به كعلم جيولوجى يختص بدراسة النشاط الثوراني، وتشكيل البراكين، وانفجاراتها الحالية، والتاريخية. وخاصة تلك النشطة، لمراقبة الثورات البركانية ،وجمع المخلفات البركانية بما في ذلك تيفرا (مثل الرماد أو الخفاف) وعينات الصخور، والحمم البركانية.. ثم أشار بافل إلى الألمانى "أدوف" في تقديم نفسه، وكان فتى متوسط الطول،ذو بشرة بيضاء، وشعر أشقر ملتوى، وعينين زرقاوين : أُدعى "أدوف ميركل "من شمال دوسلدروف، أدرس علم الظواهر، والماورائيات أو مايسمى "البارسيكولوجى"دراسة علمية للظواهر كما تبدو على مستوى التجربة . وتقوم أسسه على ما تمثله الظواهر في خبرتنا الواعية من أساس للتحليل والأدراك، الذي يُمكن من رؤية حقيقة الأشياء ومعرفة ماهياتها وسبر أغوارها . غير أن ذلك العلم لا يدعي التوصل للحقيقة المطلقة المجردة سواء في الميتافيزيقا، أو في العلوم الحياتية بل يراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم..مثل الظواهر النفسية، والذهنية الخارقة ،التي تحدث لبعض الأشخاص حولنا ، والتي عجز العلم عن إيجاد تفسير لها.. لذا يبحث ذلك العلم الظواهر عن طريق الفيزياء الحديثة.. ومن أهم الظواهر التي يدرسها: التخاطر Telepathies، التحريك عن بعد Telekinesis، الاستبصار أو رؤية ماهو خارج نطاق البصر Clairvoyance، الخروج من الجسد Astral Projection بالإضافة إلى الاتصال بكائنات غير منظورة Spiritism ! ثم أشار بافل إلى الصربي جوفان ..وكان فتاً جسيماً ذو بشرة بيضاء، وشعر أسود قصير . أدعى جوفان هندريك من برشتينا، وأدرس العلوم الإقتصادية، المتعلقة بالهيمنة العالمية، والنظام العالمى الجديد ،وتأثير العولمة على الإقتصاديات النامية ،وسعى الدول المتقدمة إلى إستنزاف موارد الدول الفقيرة ، ،بالعمل على قتل الديمقراطية ،وكبح جماح الشعوب المتطلعة إلى نيل الحقوق والحريات ،وكذلك العجز عن عدم وجود موازين إقتصادية بديلة تحل محل الموازين الاقتصادية كالرأسمالية.والإشتراكية ثم أشار بافل إلى اليابانى تسو، وكان فتىً قصيراً ذو شعر ناعم طويل يرتدى نظارة طبية ،والذي بادر قائلاً : أُدعى "تسو ين "من أوكاياما ،اليابان ..أدرس السحر، أقصد الفيزياء الفلكية ..بما في ذلك الخصائص الفيزيائية من لمعان وكثافة، وتكوين كيميائي للأجرام الكونية، مثل النجوم والمجرات، والنشأة الأولى التى أوجدت الكون المحيط. تفرس بافل في وجوه زملائه ،كأنه يبحث عن شخص ما ،وعندما عثر عليه ، إبتسم مازحاً :أين العربي القصير فأشار بيده إلى الفلسطينى على الزيتونى ..هناك يختبيء في قوقعته ..هيا ..قدم نفسك، نهض الزيتونى من مقعده وقال: أُدعى على بن محمد الزيتونى ، من بيسان أدرس التشريح المجهري للخلايا ،وأنسجة النباتات ،والحيوانات ،وهو علم يقوم علي فحص شريحة رقيقة (قسم) من النسيج تحت ضوء المجهر، أو علي مجهر إلكتروني. فاستخدام البقع النسيجية يعزز في كثير من الأحيان القدرة على تصور أو تحديد تفاوت البنية المجهرية. علم الأنسجة هو أداة أساسية لعلم الأحياء والطب. ثم أشار بافل إلى الأمريكى فيكتور .. وكان فيكتور طويلاً جسيماً ذو شعر أشقر ،وبشرة بيضاء ،نهض فيكتور وقدم نفسه قائلاً : - فيكتور كوبر من بنسلفانيا ،وأدرس علوم الذرة، والكيمياء .. الفيزياء الذرية ،نحن ندرس بنية الذرات ،وتحديدا الغلاف الإلكتروني للذرات، وعلاقة هذه الإلكترونات بالنوى الذرية ، و بالتالي يجب تمييزها عن الفيزياء النووية، التي تدرس التآثرات و القوى المتبادلة بين مختلف مكونات القوى الذرية. الفيزياء الذرية تهتم أساسا بدراسة الأطياف الضوئية، الصادرة عن ذرات حرة مصدرة للضوء ، فقد تبين أن كل نوع من الذرات له طيف ضوئي مؤلف من خطوط ذات أطوال موجية معينة ، و تفسير هذه الظاهرة هو ما يقودنا إلى نموذج" بور" الذري الذي وضع أساسا لتفسير هذه الظاهرة مستفيدا من فكرة الكم التي أطلقها "ماكس بلانك". حقيقة تؤمن لنا الفيزياء الذرية تصورا عن نظرية المدارات الذرية التي تشكل أساس الفهم الحديث للكيمياء. ثم أشار بافل إلى الهندية "تشاندرا راي".والتى سارعت بتقديم نفسها قائلة : - أدعى تشاندرا ،وأدرس علم الغذاء الذي يختص بدراسة الغذاء، وهذا العلم يُفسر بأنه "المجال الذي يستخدم العلوم الهندسية، والبيولوجية، والفيزيائية لدراسة طبيعة الأغذية مثل كيمياء الأغذية وتُعنى بالتركيب الجزيئي للطعام واستخدام هذه الجزيئات في التفاعلات الكيميائية · الكيمياء الفيزيائية للأغذية، وتُعنى بدراسة التفاعلات الفيزيائية، والكيميائية في الغذاء، من حيث المبادئ الفيزيائية ،والكيميائية المطبقة على الأنظمة الغذائية، بالإضافة إلى تطبيق التكنولوجيا الكيميائية الفيزيائية والأدوات اللازمة لدراسة الأغذية وتحليلها ثم أخذت الفتاة المكسيكية "لاريسا لويجي" دورها في تقديم نفسها، وكانت فتاة طويلة سمراء، ذات شعر طويل مجعد، وبشرة داكنة، لها غمازتين تطفوان ، لاسيما عندما تراقص ابتسامتها المضيئة . لاريسا لويجى أدرس علم الصخور ودراسة خصائصها،صفاتها، دورتها في التشكل ، ومعرفة المعادن المكونه لكل صخر. ويتناول هذا العلم أصل الصخور، والحالة التي توجد عليها وعلاقاتها بالعمليات الجيولوجية ،فهو جزء اساسي من علم الجيولجيا.وهو تطبيق لمبادىء الكيمياء الفزيائية في دراسة المواد الارضية التي توجد بصورة طبيعية. ثم التفت بافل إلى المقاعد الخلفية من المائدة العُظمى ،وأشار إلى الفرنسية ليليان ،والتى سارعت بتقديم نفسها بكل ثقة . -أدعى ليليان لوباج من إيفيان، جنوب شرق فرنسا، وأدرس علوم الحركة، ودراسة السلوك الحركى للأنسان ،وكيفية تغير موقع الجسم بالنسبة للزمن ،ويتم خلاله قياس الموقع بالنسبة لمجموعة من الإحداثيات والسرعة معدل تغير الموقع..والتسارع هو معدل تغير السرعة ..حيث تعتبر السرعة والتسارع الكميتين الرئيسيتين اللتين يصفان تغير الموقع مع الزمن .. ثم أشار بافل إلى الفتاة الإنجليزية "ريتشيل"، بعدما انتهت ليليان من تقديم نفسها : أدعى ريتشيل مور من جنوب لندن .. وأنا أدرس علم الأحياء الخلوي أو بيولوجيا الخلية، وهو علم يقوم بدراسة الخلايا الحية؛ خواصها وبنيتها ومكوناتها، والعضيات الموجودة فيها وتفاعلاتها مع البيئة المحيطة، إضافة لدورة حياتها وانقسامها ثم موتها. تتم هذه الدراسة على نطاق مجهري، أو جزيئي . فالبيولوجيا الخلوية تبحث في مجالات تمتد من تنوعات الأحياء وحيدة الخلية إلى الأحياء متعددة الخلايا بخلاياها المتمايز جداً مثلالإنسان . وهو علم يُدرس كيفية عمل الخلايا الحية، ويشمل معرفة تركيب عضيات الخلية، ووظيفتها ،والجزيئات الكربونية التي تنتج الخلايا. والجزيئات الأكثر أهمية هي الحمض النووي، والحمض النووي الريبي والبروتينات.نظر بافل في ساعته ،وقال لقد أذف الوقت على الإنتهاء ، يارفاق علينا أن نخرج الأن ..هناك الكثير ،والكثير الذي يجب أن تعرفوه عن المنظمة الأم ..هيا بنا . فور الخروج من المكتبة .دعا بافل زملائه إلى زيارة المنشئات الترفيهية، والعلمية، داخل الأكاديمية ،فعرجا على سلسلة من المختبرات العلمية، والمعامل الطبية التى ذُخرت بأحدث الطفرات ،والمعدات العلمية المتخصصة في البحث، والإستكشاف، والتجربة ،ثم أشار بافل إلى ممرات أمنة تجري تحت الأبراج تقود إلى أنفاق تحت الأرض صممت بشكل أمن تفادياً لحدوث أي إختراقات، أو تهديدات قد تجري في المستقبل ..ثم انتهى بهما المطاف إلى برج الطعام، حيثُ المطابخ ذات الأحجام الكبيرة ،والثلاجات العملاقة ،التى تحوى الكثير من اللحوم والفاكهة، والخضراوات..وهناك أشار بافل إلى تلك الغرف قائلاً :إن الطعام الذي ترونه هنا لا يأتى من الخارج كما يظن البعض .فالأكاديمية ليست منظومة تعليمية فقط ..بل مؤسسة إقتصادية كبرى، تعتنى بحياة وصحة الطلاب ، ثم أشار بيده قائلاً : إنظروا هناك ..خلف النافذة ، حقول ومروج بعيدة على إمتداد البصر ،أسفل السهل المنخفض ،خصصت تربتها لزراعة كافة المحاصيل التى تؤمن الغذاء الصحي ،الذي تحتاج إليه الأكاديمية العلمية داخل "أوميترا"، وضمانة خلوها من الأساليب والطرق الكيميائية المدخلة في الزراعة الحديثة .. تلك المصفوفة الزراعية ،والحيوانية تمد الأكاديمية بأفضل اللحوم وأنقى الألبان في العالم ،إضافة إلى أفضل الأنواع من الفاكهة الطازجة ، والنادرة ،إضافة إلى العديد من المحاصيل الزراعية ،من بقوليات، وغيرها ..ثم ولجا إلى داخل أحد الثلاجات العملاقة ..وتطلعا إلى ألوان اللحوم الحمراء المُدلاة من أطراف السلاسل الحديدية ..قال بافل : البرودة لا تقتل الجراثيم والفيروسات ولكنها تجعلها خاملة ،إلا أن تستيقظ ..الجراثيم لا تطير ولا تقفز ..تستطيع الحياة في درجة حرارة متوسطة 50-100 فهرنهايت. ثم استل سكيناً حاداً قد نسيه أحد العاملين في المطبخ ،ودسه في اللحم المكتنز ،فغاصت شفرتها بين أنسجتها الطرية ،واقتطع جزاء كبيراً من اللحم ،ثم قشط اللحم والدُهن عن العظام بطريقة إحترافية، وكأنه جزاراً يُمارس هوايته المعتاده ، واستطرد بافل قائلاً: لماذا تبدو الحيوانات البرية ، خاصة المفترسات ،وكأنها تتمتع بالصحة والطاقة والسرعة ؟..ها..حسناً ..لأنها تأكل فرائسها حية ،طازجة ،تستنشق عبق دمائها الساخن ،وتسلب روحها ..أنا أرى أن الطعام الناضج ،يفقد كل طاقته فوق نار المواقد، حيث أنه يحرق البروتين الموجود في الدماء القانية ،ثم اجتزئ قطعة لحم ولاكها بين أنيابه، مما دفع ليليان وريتشيل أن تُبديا تقززهما، واستيائهما من ذلك المتبجح ..الأمر الذي جعل فيكتور يستشيط غضباً جراء صنيع بافل ..فتناول فيكتور السكين من بافل، واستعرض هو الأخر مهارته .لاسيما عندما شمر عن عضلاته الفولاذية ، وشرع في تقطع اللحم شرائح بمهارة واحترافية عالية، ثم طرح القطع فوق الطاولة ، وقام بتقطيعها وتفتيتها بالساطور وقال ساخراً " قديماً كان يزعمون أن طاقة الأرواح ..لاتغادر الدماء الساخنة، مالم تخمد جذوتها المشتعلة . . لذلك كانت الشعوب البربرية تتجرع دماء فرائسها ،وتعتقد أنها تمنحهم القوة والبأس ،والشباب الدائم،إنها فقط ميثيولوجيا الخلد المزعوم التى كانت تؤمن بوجودها الشعوب البربرية الفانية . .بعد انتهاء فيكتور من استعراض مهارته .تقدم تورجهان التركى واستل السكين المغروز في المنضدة ، ثم دار حول اللحوم المدلاة ،واقتطع بدقة وحرفية جزء من اللحم الأحمر القانى، خالي من الدهون والعظام ، وقال ساخراً: تناول اللحم النيء ،واحتساء الدماء ،مخالف للطبيعة البشرية ..وغالباً ما يسبب ضمور في السلوك الإنسانى ..وأقل العوارض التى تحدث ..إطلاق النعرات الحيوانية ..واكتساب سلوكيات همجية قميئة ،ذات دوافع بربرية . ثم نظر تورجهان إلى ساعته ،فرأى أن الوقت قد مضى سريعاً ، وكان قرص الشمس الأصفر، يجري في مسبحة الأفق حتى حلت ساعة الهجير ،فدقت الأجراس إيذاناً بحلول وقت الطعام ،هرع الطلاب إلى مقاعدهم والإلتفاف حول الموائد التى كانت عامرة بألوان الأطايب ،من الأطعمة البرية ،والبحرية ،والفاكهة الطازجة الشهية.بالإضافة إلى صحف ملئي بألوان الفاكهة النادرة توسط البروفسور فريمان مقدمة المائدة العظمى ،ثم التفت إلى اللوحة الضوئية حيث ظهرت سيدة ترتدي زياً أسود عليه سيم الوقار والحشمة. ابتسمت قائلة: مرحباً بكم في أكاديمية أوميترا للعالم الجديد ..أدعى "جين ستارك" ..وأنا مسئولة التغذية في الأكاديمية ..ثم أشارت بيدها إلى شاشة عملاقة حيث تجسدت حقول ومروج خضراء وسهول بعيدة، وأراض شاسعة ممتدة على مرمى الأفق ..ومزارع عديدة تحتوى على أعداد كبيرة من أجود سلالات الخيول ،والغزلان ،والأبقار ، والماعز ،بالأضافة إلى سلسلة من البحيرات والمزارع السمكية والحقول الممتدة التى تنتج كل المحاصيل الغذائية من البقوليات ، وكافة أنواع الفاكهة. ثم شرعت السيدة "ستارك" في شرح كثيف عن المزايا الصحية التى تقدمها الأكاديمية لنزلائها مقارنة بما تقدمه البيئة العادية. قائلة: نحن نعتمد في غذائنا على ما تنتجه البيئة النظيفة الأمنة دون المساس أوالتدخل بأى وسائل كيميائية مخالفة للصحة العامة في إنتاج الأطعمة المثالية التى تحتوى على البروتين والفيتامين الآمن والمذاق الطيب ..نحن نعتنى بكم ..وصحتكم هى مسئوليتنا ..ستجدون طعاماً مغايراً لما عرفتموه من قبل ..أتمنى أن تستمتعوا بإقامتكم ..شكراً لوجودكم بيننا كان لهاث هانيبال الأسبانى وخفقانه يسبق وقع أقدامه التى غاصت في مرجل الوهن والتعب ،وعندما وصل إلى عتبة الغرفة انحنى من شدة الإرهاق ،وأخذ يلتقط أنفاسه بصعوبه حتى كاد الإعياء ينال منه ، فتماسك قليلاً حتى تهالك إلى أقرب مقعد وأغمض عينيه في إغفاءة قليلة عله يستعيد بعض من قوته ونشاطه
    ..
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 07-03-2022, 10:01.
    الحمد لله كما ينبغي








  • عبد الحميد عبد البصير أحمد
    أديب وكاتب
    • 09-04-2011
    • 768

    #2
    رحم اللهُ من كانوا بيننا
    الحمد لله كما ينبغي








    تعليق

    • عبد الحميد عبد البصير أحمد
      أديب وكاتب
      • 09-04-2011
      • 768

      #3
      ثم
      تسللت تباعاً روائح الطعام اللذيذة الشهية، وحلقت في كل مكان ،حتى نفذت إلى حواس هانيبال، ودغدغت أرنبة أنفه، فتداعت حصون الإرهاق والتعب، داخل أمعائه المصطلية من وطئة الجوع ،وما كاد يفتح بؤبؤ عينيه ،حتى وجد المائدة الكبيرة ،مكتنزة بألوان الأطايب من اللحوم والفاكهة،وعامرة بما لذ وطاب من مختلف الأصناف ،فهشم بقبضته هيكل الحمل الممدد أمامه فوق الصحيفة ، وتناول قطعة لحم ملتهبة من الشواء ، ثم عمد إلى تناول زجاجة صغيرة من العسل، ونزع قشور اللحم ،وصب قطرات منه حتى تسرب العسل ،داخل قطع اللحم ،ثم غرز مقارضه ،واقتطع جزء طري لدن،ورفعه إلى فيه ، ثم دسه بين أنيابه ، حتى غاص في حلقه. حلق هانيبال في فضاء مترع بلذيذ الشواء والشراب ،مما أثار دهشة الأنسة المكسيكية لاريسا لويجي التى ظلت تحدق إليه في استغراب شديد ،حتى فطن هانيبال إلى دهشتها وابتسم قائلاً :
      - معذرة .. أدُعى هانيبال الكاتب ..أقصد هانيبال كراغ من أسبانيا . الأنسة لويجي
      - إننى لم أرك في قاعة التعارف من قبل ؟..أين كنت ؟
      - لقد كنتُ قريباً منك .. أصطاد الفراشات..أقصد أكتب عن الفراشات
      -ماذا تدرس؟
      علم الأوبئة يا آنستى ..كان هانيبال بالكاد يُخرج بقايا الكلمات التى حُشرت مع الطعام في زقاق حلقه عنوة ،فيصدر على أثره جشاء من أثر الطحن الذي تمارسه عجلات الفك العلوي فوق القضبان السفلية .تابع هانيبال حديثه :
      -الطعام هنا جيد جداً ..إنهم يتقنون العمل حقاً ،ثم رشقت ومضات من الإبتسامات فوق جدران شفتيه المُزكمة باللحم وقال ساخراً :
      -أخى الصغير ناتشو ..كان سعيداً جداً برحيلي ،حيثُ ظن الأحمق ،أن المطبخ سيخلو له ..لو كان يدري مدى جودة الطعام ولذته هاهنا ،ومتعة العصائر والمرطبات ،يقيناً كان سيقضم باقي أصابعه الواحد تلو الأخر ، ويعيش طول حياته مكتئباً بائساً طيلة أيامه التعيسه ..ثم أطلق ضحكة ساخرة طويلة إمتد صداها إلى الطوابق العلوية . إنهمك الطلاب في تناول طعامهم دون حديث ،كأن على رؤوسهم الطير ،حيث ساد صمت طويل، وحلق فوق ربوع المائدة البيضاء .وعند منتصف الليل، خرج الروسي بافل، والتركى تورجهان، يوقظان الطلاب ويتحسسان الطرق أثناء مغادرتهما الطابق العلوي ،يتوخيان الحيطة الحذر بغية مراقبة الكاميرات والحراس، أثناء خروجهما المسائي إلى فناء الحديقة ، وذلك من أجل الذهاب إلى الأرض السفلية المتاخمة للغابة السوداء .تبعهما السنغالي "داف" والأمريكى "هيكتور" وبقية الطلاب ،حيث وقفا على مشارف الأسوار الحديدية ..وأشارا إلى السماء حيثُ تلألأت ومضان النور في سديم الظلام ، وكأن الأفق قد زُينت عبائته بعناقيد من الضوء، ورشق بطانته بهالة من الجمال والدهشة ،حيث تجلت سحابة ماجلان الكبرى في رؤية باهرة للعيان. كأنها عذراء قد اغتسلت لتوها، وأبحرت في حياض الفردوس، ثم أرسلت جدائلُها المعقودة بحبات النور على مرمى من الأفق القريب،كأنها تبدو للعيان،زهراء تراقص قطعان النجوم في حلبة الفلك الواسع ،حيث كانت تلتف حول خصرها المطرز بهالات الجمال أحزمة الضوء فتزيد من جمالها وفتنتها .
      تسور تورجهان السور الحديدي، وقفز بين الحشائش القريبة منه ،وأشار بيده إلى الغابة السوداء ،قائلاً : هناك وراء تلك الغابة الموحشة ..يسكن الشرُ المُقيم، وسينطلق يوماً ما.. من هناك ، يختال كالعملاق بين أعمدة الدخان والغبار ،تاركاً وراءه عوالم من الفوضى والإضمحلال .. هناك أسطورة يُطلقها الغجر في أناشيدهم ،تتحدث عن حروب ومعارك دموية ،ستجتاح الأرض في وقت من الزمن ،ألا ترون الغربان السوداء تُحلق عند مغيب الشمس فوق تلك الأشجار البعيدة ، نشاهدها تلوذ بالأغصان، وتلتحف بالأوراق، وهى تُنكس رؤوسها تحت أجنحتها ،ولايزال نعيقها المشئوم ينذر الأرض بالسوء ،والشر المستطير..إنظروا هناك ..
      في عمق الغابة السوداء،حيثُ تشتعل نيران سوداء شديدة .. يحرص الغجر الذين يعيشون هناك على خدمتها، وتزكيتها ويرددون نبوءات قديمة عن عودة سيدهم المزعوم للسيطرة على العالم.
      ضحك البولندى دومنيك روث وقال ساخراً : وهل تصدق هرطقة هؤلاء المجانين، في البحث عن سيد االعالم ،إنه الصمت الكئيب يا "بافل "الذي يسكن مسابر العقول العفنة،ويطلق تلك الأكاذيب ..العالم ياصديقى يعيش في جو من الكآبة والتوتر ،بسبب الرتابة ،يريد أن يخرج من تلك الحالة الغائمة إلى فضاء الغريب والجديد والطريف ،إنه يبحث عن التغيير، الإثارة، والتشويق . يوماً ما سيجد العالم الراحة الأبدية االتى ينشدها ،وغالباً ستكون في حتفه ..ونحن ننتظر من هاذ العالم أن يُرحب بنا .. هيا بنا يا أصدقاء..لقد حل البرد والصقيع الليلة ،يجدر بنا الرحيل. لكن بافل قاطعه
      ساخرأً: لقد جلبونا هؤلاء الحمقى من أنحاء العالم وهم يظنون أننا الأنبياء والمخلصين الذين سينقذون العالم قبل أن يسقط في مستنقع الشرير .
      ثم أشعل بافل سيجارة وسط دهشة رفاقة قائلاً: لقد كنا نعيش في سيبيريا أنا وأخى بيدروف ..أسرة صغيرة، حياة هادئة تتسم بالسلام والطمأنينة ، كان أبي ميكانيكياً بارعاً وكنا نساعده في عمله ، وعند الهجير تأتى أمى محملة بسلال الطعام والفاكهة ،مرفقة بقوارير المياة الباردة ،كنا أسرة سعيدة ،تنعم بالدفء والسكينة ، تمنيت حقاً أن أسير على درب أبي، كان رجلاً طيباً ، كانت لديه تطلعات وأحلام بسيطه في بناء مستقبل أفضل .أراد أبي الإنتقال من من سيبيريا ،والذهاب إلى موسكو حيث مهاتفة الواقع الكبير ،المصانع ،والورش العملاقة ،والعروض الخيالية ،كان في أشد الحاجة إلى المال فقط، لشراء ورشة صغيرة، ولم نكن نملك الكثير منه .نصحه أحدهم بالذهاب إلى صالة القمار ،ربح أبي ..ربح الكثير في باديء الأمر ،ونسى حلمه ،رافق الخمور، صاحب المومسات ،ظل يعربد في الحانات حتى أدمن الكأس والنرد، وبدأت حقبة السقوط تتوالى تباعاً ،وتتأكل معها جذور أسرتنا .
      خسر الكثير، وتوالت عقارب الخسارة إلى الوراء ، حتى فتكت بقلبه ،ونهشت ماتبقى من أمل ،فألقى بنفسه في النهر البارد ،..لن أنسى جثته وهى تطفو فوق صفحة النهر أمامى ،قبل أن تصل إلى رجال الشرطة ،ثم تولت أمى رعايتنا ،وكانت تأمل في أن نعيش بمكان أفضل بعيداً عن حياة الشارع ،دأب صديق أبي العربيد" كورنيكوف" على مضايقة والدتى والتحرش بها، وحاول إغتصابها ،لكننى طعنته في ساقه ،فأقسم على قتلى حاولت أمى مساومته فاغتصبها ،وداوم على النيل من جسدها ،كنت أرى ذلك الذئب الوضيع ،وهو يغرز أنيابه في جسدها ،وينهش منه ،وفي يوم من الأيام كنت أتحين الفرصه لقتله وتمزيق جسده العفن ، لكن أمى سبقتنى وطعنته في قلبه ،حاولت الهروب لكن رفاقه أطلقوا عليها الرصاص وأردوها في الحال. سارعنا أنا وأخي بالهروب ،والتخفى في الأحراش حتى ابتلعتنا الغابات ، عشنا في الكهوف والممرات وتأقلمنا على حياة البرية ،وجعلنا الأرض فراش، وباطن الصخور وسائد ،وعندما تضورنا من الجوع أكلنا في البداية الجيف الباردة ،وثعابين النهر.كنت أجيد القنص والصيد وحياة البرية ..
      وكان أخى "بيدروف" يحب العلوم الفيزيائية ،كنت أتمنى أن أملك السيطرة على الحشرات والجراثيم والتحكم فيها للقضاء على "بالفو" ،و"ميرش" وكل عصابات موسكو الذين أذوا والدتى وأبي...وعندما سمع أخى بوجود مستكشفين للمواهب للعلمية داخل موسكو موفدين من قبل الإكاديمية، رفضت الذهاب معى أخى حتى أنتقم لوالدتى، وفي يوما ما رأيت أخى بيدروف يجري نحوي ويخبرنى بأنه نجح في إختبار المستكشفين ،وأن عليه أن يجهز أمتعته للرحيل غداً في قطار المساء، قمت بتهنئته ،ولم أستطع أخفاء مسحة الحزن التى خيمت فوق قلبي لفراق أخى، صعدت معه القطار ،تذكرنا قليلاً الأيام الخوالي ،ثم انحدرت الدموع من عينى،عانقنى أخى ثم أودع شيء في قبضتى بعدما دوت صافرة القطار وانطلق سريعاً وتمكن من تقييدى دون أن أشعر ،بحثت عنه لم اجده حاولت التملص من القيد دون فائدة .علمت فيما بعد انه تقدم للإختبار بإسمي وتركنى وحيداً من أجل ان يحمينى من الإنحراف والضياع ، ليواجه هو سطوة العالم القذر .
      بيدروف هو الزهرة المضيئة النادرة الوجود في ذلك العالم المنحدر من أوعية الشر المطلق..خمش السنغالي دوف الحشائش بقبضته، وأشعل جذوة من النار ،ثم رنا إلى الفضاء وقال :لم يكن لدينا مأوى أو سكن ، كنا نعيش على ما تجود به الأرض من ثمار ولحم ،وما تسقطه السماء
      من ماء وطير، لم يكن لدينا رفاهية تلك المصطلحات الغبية التي تثري عالمكم وتتقاتلون عليها ..جمهورية ،ديمقراطية ،ملكية دستورية ... بل كان لدينا عالماً خاصاً بنا تحكمه القوانين والقواعد التى اعتدنا عليها ،وتوراثناها عن أبائنا وأجدادنا ..فزعيم القبيلة ليس منصب ترفاً تحيط به هالات الوجاهة والخيلاء ،والعز والكبرياء ،بل تحكمه أسنة الحراب، وقواطع المفترسات ، صراع يجري من أجل البقاء. سباق محموم يجري في عالم الدماء والأشلاء .لم يكن يجرؤ أحد أن يتقلد زعامة القبيلة طواعية ،بل يتم اختياره عنوة ،.قبل الخروج إلى الصيد تقام المهرجانات ، والإحتفالات بالزواج المميت، حيث يتم التلقيح قبل الخروج إلى حلبة الموت والفناء ، ثم يتم اختيار الزعيم عن طريق الكاهنة السوداء ..غالباً ما يكون شاباً قوياً ،ولا نضار في نسبه ولا شرفه ،وفي طقوس يشرف على إقامتها الكهان يقترن بأجمل فتيات القبيلة ،ويعيش أيام قليلة مستمتعاً هانئاً في فيافي النعيم ،وبعد أيام ترتحل كتائب الصيد من أجل إحضار مؤنة الشتاء القادم، وتعتمد طريقة الصيد على قنص الحيوانات البرية المسنة،التى تذخر باللحوم والشحوم ،والفراء ، كنا نزاحم المفترسات في الصيد ،ولا نأخذ إلا ما نحتاجه ،وعندما تتعرض كتائب الصيد للهجوم، تتصدى لها كتيبة الزعيم المدججة بالفؤوس والرماح ،وعندما تتأزم الأمور ،يقدم الزعيم نفسه ورجاله ,,من أجل حماية الأفراد الأخرين حتى يفنى هو وكتيبته .الذين عادوا وحالفهم القدر في الحياة ، ظلوا أشلاء متحركة وأعضاء مبتورة.
      الشر موجود في داخلنا منذ الأزل ،وليس زائر مقيم ،يرحل عندما ينتهى وقت ضيافته .هناك الكثير من الأديان التى تعتقد بحتمية الشر ،من أجل صلاحية الإختبار ،فإذا انتفى الشر من الفعل ،لا يكن للخير و القدر وجود أزلي ..
      هناك الكثير من الأشياء في ذلك العالم ستسقط من حقيبة الإيمان وتصير بلا فائدة مثل القيم والمباديء ،والخير نفسه ..
      جثى الطفل على الزيتونى على ركبتيه وخمش الأعشاب بأصابعه ،ثم حلق بعينيه ناحية الأفق المضيء بسحابة ماجلان وقال :كنا في طريقنا إلى بيسان حيثُ كانت الأكمنة متراشقة على إمتداد الطريق السريع ،وفي كل مرة كان الخناق الأمنى الذي تفرضه سلطات الإحتلال على القطاع ،يضيق شيء فشيء ،كنا نرى ذلك أثناء العبور إلى المدينة ، جسور مغلقة ،بذريعة البحث عن الإرهابيين ،وتأمين المستوطنين الجدد. أذكر في ذلك اليوم المشئوم تعنت الجنود في معاملتهم لنا ، وأصرارهم على تفتيش السيارة ،إننى أتذكر تلك اللحظة جيداً وكأن الصور والأحداث تتابع في حلقات مرئية أمام ناظراي، قذيفة مدوية ،تُحيل الكمين إلى ركام ورماد ،لقد أُصيب أحد الجنود وقتها بشظية نارية ، صكت عنقه الضخم ،فسقط لا يلوى على شيء ،التف حوله الجنود يحاولون إسعافه ،ظل يتلوى من الألم، والدماء تطفو وتسيل على نحره ، وقد سبغت عنقه المذبوح ،كانت الفرصة مواتية للمرور والهروب في ظل إنشغالهم بزميلهم المصاب ،لكن أبى رفض الفكرة، وأملى عليه ضميره المهنى، أن يترجل من سيارته، ويقوم بإسعاف الجندى حتى تمكن من إنقاذ حياته .
      بعد عبورنا الطريق كان أخى يعتب على أبي فكرة إنقاذ الجندى الإسرائيلي ،فلم نلق منهم إلا الوقاحة في المعاملة ،بالإضافة إلى عمليات القمع والإضطهاد التى يمارسونها بحق الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة ..
      وفي أحد الأيام كانت أمى تعانى من أزمة صحية بسبب علة السكر ،وبعد نفاذ علب الإنسولين التى بحوذتنا ،اذدادت حالتها سوء ،كانت الشوارع خالية بسبب التضييق الأمنى الذي تفرضه سلطات الإحتلال
      حاول أبي العثور على حقن أنسولين .لكن الصيدليات كانت مغلقة فاتصل بصديق له يقطن في مدينة قريبة من بيسان،وقص عليه الخبر ، فأخبره صديقه الطبيب أن بحوذته الأنسولين الذي يطلبه ،فتوجهنا بالسيارة إلى المدينة وكانت حالة أمي تسوء بمرور الوقت ،كان عدد الكمائن يزداد أكثر بامتداد الطريق اللعين ،حتى استوقفنا الكمين الذي أنقذ فيه أبي أحد الجنود ، ظن أبى أنهم سيسمحون لنا بالمرور جراء الصنيع الذي قدمه لهم سابقاً ،كونهم مدينين له بإنقاذ زميلهم .
      لكنهم حاولوا تفتيش السيارة بحجة البحث عن مطلوبين ،حاول أبي أن يخبرهم أن زوجته تحتاج الأنسولين ،وليس هناك وقت للتأخير ،لكنهم رفضوا عبور السيارات ذلك اليوم ،فقدت أمي الوعي بعد تردى حالتها الصحية ،مما دفع أبي إلى الإنهيار في وجوههم ، والإشتباك معهم فعاجله أحدهم برصاصة في ظهره ،لن أنسى ذلك الوجه طيلة حياتى ،لقد دفع أبي حياته ثمن إنقاذ ذلك الحقير الذي أرداه قتيلاً .نظر بافل إلى أدموند وقال ساخراً:
      :أعلم أن اليهود أوغاد ،هم دائماً هكذا ،جبناء ،كنتم إتعامل معهم شرقي موسكو ،كانوا يبيعون الماريجوانا المغشوشة ،ثم أطلق ضحكات ساخرة ..مما دفع أدموند للذود عن كرامته بعدما ألمه نظرات بافل فقال بعصبية مشبوبة بالغضب :ليس كل اليهود راضيين عن تصرفات قادة اسرائيل ،نحن فئة من اليهود ،نؤمن بحق الإنسان في الوجود، ولا شأن لنا بما يحدث لأشقائنا في فلسطين،أنا وأبي وأخي الذي يعمل راع في المعبد نتبرأ من تلك التصرفات ،والسلوكيات التى تحدث هناك ..كانت كلمات أدموند تخرج بصعوبة بسبب حالة الغضب التى إنتابته ،حتى شعر بالدوار، وكاد أن يسقط على الأرض،لولا أن تلقفه الزيتونى بذراعيه قائلاً :هون عليك ياصديقي ..إننى أعرفك جيداً ..أنت أخى
      نزع تورجهان نظارته ،وأطلق زفير ساخن مشوب بنفحات من الغضب : لقد كنت أعيش في ملجأ، وحيداً ،فريداً ..لا أعلم شيء عن والداي ..لم تكن لي صداقات مثلكم ..أكثر شيء إشتقت إلى قوله ..أبي ، أمي .. أخى ..لكننى تأقلمت مع حياتى ، وأخترت العزلة ،فكانت قدري من الحياة ،ثم التفت إلى أصدقائه ..

      : البوذية ترى أن الوجود البشري ذو طبيعة شريرة متأصلة، بسبب وجود الغرائز الكامنة داخل الكائنات العاقلة ،كما قال كانط : للنفس البشرية مبدأين متعارضين مبدأ الخير، ومبدأ الشر، لكن الانسان من حيث طبيعته الحيوانية ومن حيث إنسانيته ،ومن حيث شخصيته، فإنه مستعد لعمل الخير ،وهو في نفس الوقت وبالتزامن مستعد لاحتضان الشر.. حاول الأمريكى هيكتور أن يعزف على الهارمونيكا عدة مرات لكنه لم يفلح ،جال ببصره في رقعة الليل المظلم وقال : لقد جلبنا الشر معنا منذ الإعتقاد الأول بخطيئة الوجود البشري، والسقوط المدوي لأدم وإيفا، وصارت تلك المأساة جزاء مهيمناً في دواخلنا له سطوة على سلوكياتنا ،وسيطرة الشر أصبحت كائنة داخل الإنسان، وفي جسده، على نحواُ "ناموسى" يتخذ منه الجسد تسويغًا لاقتراف الشر . قال الزيتونى وقد اقتعد العشب الوثير :الخير نقيض الشر، ثنائيات التضاد مثل القبح والجمال ،القوة والضعف ،كليهما وجد من أجل سبب واحد هو المعرفة والبحث عن المعنى لايخدم الحقيقة .حواء أكلت من الشجرة من أجل المعرفة، كذلك الشر وسيلة لمعرفة الخير.
      صعد الصربي جوفان فوق المدرجات العشبية ودس ذراعيه في أكمامه وقال : إذا كنا نتحدث عن الشر المقيم ،سنجده في تلك الصورة المزعجة، والتى تتخذ أشكال وأقنعة للتحكم في وعي الناس عبر تشكيل السلوك العالمى ،بما يتفق مع أهداف الرأسمالية والنزعة الإحتكارية للإقتصاديات العالمية، لاتنخدعوا بالوعود البراقة التى يصدعون بها رؤوس الناس عن الديمقراطية ،والحقوق ،والحريات .الدول الكبرى هي أس الشر في العالم ..هى التى صنعت تلك الفوضى ،وخلفت كل القاذورات والنفايات في العالم من أجل عقود المال وبساط القوة..
      .نظر هانيبال الأسبانى إلى لاريسا لويجى، وأشار إلى الفتاة الإنجليزية ساخراً :إنها تشبه جوديث بارسي الفتاة المشهورة في الثمانينيات ،كانت رائعة حقاً ،لكنها قتلت على يد والدها الأنانى ..لا أعلم عزيزتى لويجى ؟،كلما نظرت إليك تذكرت أخى ناتشو ،وقتها أشعر بالجوع وأكاد ألتهم أذناى ..ثم أهرق وعاء من الضحك الساخر بين رفاقه . جلس هانيبال بجوار اليابانى تسو الذي اعتزل رفاقه ،وتنحى جانباً ،ليقتعد فوق المدرجات العشبية وهو يرمق إلى سحابة ماجلان وتسائل هانيبال
      - هل يمكن أن نرى الماضي ياصديقي ؟
      تسو:
      نحن نرى ماضي الشمس و القمر و النجوم وغيره بسبب الضوء الذي قطع وقت معين ليصلنا .. اي اننا نرى ماضيهم بالفعل .. ولكن اذا استطعنا اختراق سرعة الضوء و غادرنا الأرض من الممكن ان نرى ماضي الارض ولكن من بعيد ... وعند عودتنا اليها من الممكن ان لا تكون مكانها ... فالشمس و الكواكب تسير في الفضاء بسرعات خيالية ،الرهان على إكتشاف سرعات مضاعفة لا تخضع للقياسات النسبية .
      في صباح اليوم التالي كان التركي تورجهان يعد حقائبه للسفر وفوجيء أصدقائه برحيله لكنه ابتسم قائلاً : نسيت أن أخبركم في الليلة الماضية ،هناك بعثة سترحل اليوم إلى القارة القطبية الجنوبية لدراسة النشاط البركانى والكائنات الحية ،وتأثير ثقب الأوزون، كونه يقع فوق القارة الجنوبية ..غادر تورجهان مقر الأكاديمية بعدما صافح أصدقائه ،وشيعه بافل عند الباب الكبير قائلاً : كن حذراً ياصديقي ،فالعالم مكان غريب .علق تورجهان قائلاً :يجدر بك أن تغير من طبيعتك ، هناك مثل تركى شائع : التغيير حصانة البقاء .ثم أحنى قبعته ومضى في طريقه حتى توراى عن الأنظار..

      توجه الطلاب إلى المائدة العظمى ،لتناول طعام الأفطار، ثم انطلقوا جميعاً إلى قاعات المحاضرات ، حيث كانت قاعة التشريح تضج بالدارسين الذين أصاغوا السمع لرؤية الزيتونى وهو يشرح بإسهاب طريقة إجراء عملية التشريح ..

      تناول الزيتونى المبضع ،وشرح بإسهاب المغزى من إجراء عملية التشريح قائلاً: إنه إجراء طبي يتكون من فحص دقيق للجثة لتحديد سبب وطريقة الوفاة وتقييم أي مرض أو إصابة قد تكون حدثت للجثة ،غالباً تجرى عمليات التشريح بسبب أغراض قانونية أو طبية أو لأغراض البحث والتعليم .. ثم أفاض من نبعه قائلاً :
      -الحياة مثل جذوة مشتعلة تحتاج إلى هبوب الرياح حتى يتناثر ضوئها في نسيج المكان،فجذوة الحياة تشتعل بداخلنا ،ولكى تبقى متقدة ،تحتاج لوقود يمدها بالطاقة لتظل شعلة مستضاءة في الجسد.. أنظروا ..لدى هذا الجسد نظامين مختلفين للتأكد من أن الوقود أو الأكسجين الذي تحتاجة جذوة الحياة ،يدخل الجسد ويغطى كل مساحاته..لدينا الرئة التى تسحب الأكسجين إلى داخل الجسم،ولدينا مضخة القلب والتى تضمن توزيع الأكسجين لباقي أجزاء الجسد،وهذين النظامين التنفسي والدوري،سنتبع رحلة جزيء من الأكسجين ،يدور بالجسد ثم يحترق ثم ينبعث ثانية..سنبدأ رحلتنا بالرئة ،ثم تناول الزيتونى المبضع قائلاً: سنقوم بعملية قطع من النوع "واي"مباشرة فوق الترقوتين ،من اليسار إلى اليمين..النسيج الأبيض نسيج دهنى غائم،نحاول إزالة القشرة الخارجية بعيداً عن القفص الصدري، والعضلات الباطنية ،تمثل الضلوع حماية للرئة والقلب ،الرئة عبارة عن أنسجة أسفنجية طرية ،العضلات مغطاة بطبقة من الأنسجة تحت الجلدية..إنها عملية دقيقة ومعقدة في بدايتها ..لكن قليل من الممارسة سُتصبح أكثر بساطة .
      انتهت جلسة التشريح وخرج الزيتونى برفقة إصدقائه لتناول المرطبات . في الوقت ذاته كان صديقه أدموند فرويد يستمع إلى أطروحات البروفسور كرمللي ،والبروفسور فريمان حول فرضية الحياة داخل النظام الشمسي حيث قال البروفسور كرمللي : إذا نظرنا إلى النظام الشمسي سنلاحظ وجود كواكب قريبة من الشمس كالأرض التي نعيش عليها. وفي هذه المنطقة تحديداً ..حيث ُيوجد عدد كبير من الكويكبات في المسافة الفاصلة بين مدار كوكب الأرض، ومدار كوكب المشتري. هذه الكويكبات تملك الكثير من المساحات الفارغة, لكنها لاتقارن بالأرض من حيث المساحة إضافة لكونها غير صالحة للحياة كالأرض نظرا لأن معظمها عبارة عن كتل كبيرة من الصخور والمعادن.بمعنى أنها ليست فقط باردة, بل شديدة الجفاف أيضا.. لذلك, فالكويكبات معظمها عبارة عن كتل كبيرة من الصخور والمعادن.. إذا مانظرنا أبعد قليلا, إلى المنطقة بعد مدار الكوكب نيبتون هناك, بعيدا عن الشمس, نبدأ بمشاهدة مساحات فارغة سنجد الملايين أو المليارات من الأجسام في المنطقة المسماة بحزام كويبر أو سحابة أورط، هذه المنطقة عبارة عن تجمعات من أجرام صغيرة تبدو كالمذنبات عند اقترابها من الشمس. معظم الوقت, تكون متواجدة بعيدا عن الشمس في المنطقة الباردة من النظام الشمسي، مع برودتها الشديدة، فهي ماتزال مثيرة للإهتمام من الناحية الأحيائية نظرا لتكونها بشكل رئيسي من الجليد والمعادن المناسبة لتكوين مظاهر للحياة .
      لذلك يمكن للحياة البدء هناك حيث تتواجد جميع الأساسيات من مواد كيميائية، وأشعة الشمس الكافية لظهور الحياة.. لذلك, إذا كانت الحياة قد تكونت في محيطات القمر يوروبا فمن الممكن لها أن تظهر على السطح مع أنه لاوجود للهواء على سطح يوروبا إضافة للبرد القارس هناك، مازال من الممكن ظهور هذه الكائنات على السطح تخيلوا النباتات هناك تنمو كالأعشاب البحرية خلال التشققات الثلجية حتى تظهر على السطح ..فمالذي تحتاجه هذه النباتات لتنمو على السطح ؟ أولا ستحتاج إلى طبقة سميكة لتجنب خسارتها للمياه من خلال هذه الطبقات، إذا هذه النباتات ستحتاج لشيء مشابه لما تملكه الزواحف في بشرتها ،ولكن بشكل أفضل وأقوى مما هي لدى الزواحف ..الأهم هنا هو أن هذه النباتات يجب أن تركز الأشعة الشمسية القادمة إليها.. لأن الأشعة التي تصل لكوكب المشتري وأقماره أقل شدة مما يصل للأرض بـ25 مرة نظرا لكون المسافة بين المشتري والشمس هي خمس أضعاف المسافة بينها وبين الأرض .لذلك, يتوجب امتلاك هذه النباتات لما أسميه بـ زهور "عباد الشمس" التي أتخيلها تعيش على سطح يوروبا حيث تمتلك مجموعة من العدسات أو المرايا لتجميع أشعة الشمس للحفاظ على دفئها على السطح حيث تبلغ درجة الحرارة هناك 150 درجة مئوية تحت الصفر برودة قارسة لاتوفر بيئة مناسبة لتكوين الكثير من مظاهر الحياة، أو مظاهر الحياة كما نعرفها نحن على الأقل. لكن إذا كان بإمكانها النمو مثل أوراق النباتات عدسات ومرايا صغيرة لتركيز أشعة الشمس, كفيلة بإبقائها دافئة على السطح.. والاستفادة من جميع فوائد أشعة الشمس ومد جذورها في الأسفل إلى المحيط حيث المياه وقتها ستزدهر الحياة .
      انتهت وقت المحاضرة وبادر أدموند بطرح بعض الأسئلة على البرووفسور كرمللي فيما يتعلق بفرضية الحياة داخل النظام الشمسي .وفي الممر الرئيسي المؤدى إلى قاعات المحاضرات وقفت مجموعة من الطلاب يتجادلون حول النظم الإقتصادية خاصة الرأسمالية والهيمنة العالمية للدول الكبرى، ومحاولة تشكيل النظام العالمى الجديد عبر خلق الأزمات السياسية والإقتصادية داخل الدول الفقيرة ..أشار أحد الطلاب إلى العبقري جوفان الذي لب الدعوة فأنصتوا إليه عندما قال : العولمة و التكنولوجيا تشكلان العاملين الرئيسين اللذين يصوغان العلاقات الدولية، فإن العولمة تعني تشكلا جديدا من إدارة الأعمال الاقتصادية، مندمجة كليا على صعيد عالمي، مع الشركات المتعددة الجنسية، التي تمثل جزءا مهما من الإنتاج العالمي.
      لابد لنا من إعادة تعريف قواعد اللعبة السابقة المفروضة من قبل الدول الكبرى والتى يحق لها أن تدير مائدة الإقتصاد العالمى ،عن طريق دراسة لغة العولمة ،والعولمة بلغة مبسطة، هي الإقتصاد الرأسمالي الجديد، و النمو الجديد،والإنتاجية الجديدة، الناجمة عن تطبيق التكنولوجيات الجديدة (خاصة الإنترنت)، و الأسواق الجديدة
      ثم حمل بعض الطلاب الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية عن الأزمات الطاحنة التى تجتاح العالم من أجل بقاء نفوذها وسيطرتها الإقتصادية واستشهد بوقوفها وراء الإنقلابات التى حدثت في إيران وتشيلي وتركيا ..إبتسم جوفانى قائلا: دعونا لا نحكم على الأحداث بميزان العاطفة ،لا تلوموا أميركا ،فقد قدمت أفضل العروض ..النظام القائم على الأرض يشبه النظام الشمسي لابد أن تكون هناك نواة ،الأمبراطورية الرومانية قدمت أفضل عروضها ،شبكة طرق ،واتصالات ،الامبراطورية العثمانية ..قدمت عوامل التخطيط والتنظيم العسكري والإداري ،ألمانيا قدمت عروضاً قوية بلغة عنيفة مدمرة ... لكنها لم تستطيع الحفاظ على مكاسبها، بعد سقوط ألمانيا وتنحىى إنجلترا لم يكن هناك عروض لتشكيل نواة جديدة للسيطرة على العالم ،هكذا تجري الأمور ،أمريكا قدمت الدولار والقنبلة النووية ،وربحت اللعبة، هكذا جرت المعادلة قانون سائد في كل الحقب السابقة ولكن السؤال الأهم :ماذا بعد أميركا ،وانهيار النواة ،وذوبان فكرة النظام العالمى الجديد، وتلك سيرورة زمنية حتمية من أجل بقاء النظام العالمى وعدم حدوث الفوضى ..من سيكون التالي في القائمة ؟.ثم انفض النقاش على تعزيز فكرة جوفانى الرامية إلى ضرورة وجود نواة حاكمة عادلة بعيدة عن إطار العولمة .
      في مساء ذلك اليوم كان الطالب البولندى دومنيك روث في غرفته يُعد حقائبه بعدما أخطرته الأكاديمية بسفره، وكان برفقته الطالب السنغالي دوفي ياندو حيثُ قام بمساندته تلك الليلة بعدما علم بالكوابيس التى تنتابه ،فكان يضع أصابعه فوق رأس دومنيك ويتلو بعض الطقوس الأفريقية كتعويذه تدرأ عنه الكوابيس والمخاوف التى تراوده ثم منحه قلادة القبيلة لتقيه الشرور والمخاطر أثناء رحلته ،نظر دومنيك إلى دوفي وابتسم قائلاً : شكراً لك ياصديقي ..كنت نعم العون
      - لاعليك يا أخي ..أتمنى لك رفقة طيبة ..غادر دومنيك روث بعدما شيعه أصدقائه لدراسة الأحزمة الزلزالية والبراكين في العالم خاصة دول اليابان وأمريكا حيث تمتد رحلته بعد ذلك إلى شمال آسيا ..إجتمع الطلاب بعد مغادرة روث حيث خيمت سحائب الحزن فوق جباههم بعد مغادرة أصدقائهم ،،وتندروا حول مواقف تورجهان ودومنيك داخل الأكاديمية ،حيث لانت عريكة بافل الذي أبدى حزنه لرحيل أصدقائه واعتذر لهم عن سوء سلوكه معهم وطلب منهم أن يتجاوزوا عن اخطائه ، وقاموا بمعانقة دوفي ياندو ومساندته في الإستعداد لبعثته المرتقبه ومغادرته القريبه لمقر الأكاديمية ،وبعد أيام رحل دوفي ياندو إلى شمال المكسيك، لدراسة تطور القشرة الأرضية والكائنات الحية ،ثم لحقته ريتشيل إلى شمال النرويج لدراسة الخلايا الحية في مختبرات آيتون التابعة لأكاديمية أوميترا،وتبعها الأمريكي هيكتور بعد أيام في بعثة إلى كرواتيا لدراسة الغلاف الإلكترونى للذرات ،وعلاقة هذه الإلكترونات بالنواة الذرية .شعر الطلاب بالفراق الموحش الذي إنتاب بعضهم بعد رحيل أصدقائهم. لكن الحياة العلمية داخل أوميترا استمرت تنبض داخل عقول الطلاب الأخرين .

      في المختبر الثالث الخاص بالمعادن والصخور كانت لاريسا لويجى برفقة هانيبال تستخدم المجهر الإلكترونى الماسح لفحص إحدى القطع الصخرية التى أرسلتها أكاديمية أوميترا مؤخراً.حيث قالت لاريسا : ننظر إلى الصخور نظرة إعتيادية،لكنها تحمل توقيع الحياة .يتسائل العلماء كيف نشأت الأرض من صخرة مذابة عديمة الحياة إلى كوكب نابض بالحياة. الصخور قامت بلعب دور رئيسي في نشأة الحياة، ثم دعت لاريسا هانيبال إلى فحص مكونات الصخور عبر جهاز الأشعة السينية الحيوية .السؤال الذي يحير العلماء ياعزيزي كيف تحولت الأرض من الأسود للرمادي إلى الأرض المغطاة بالمياة الزرقاء ..حجر الزركون ،أو بللورات الزركون يتم البحث عنه عبر سحق الصخر الصلدة وإذابتها ومن ثما فحصها للعثور على الزركون،يعود تاريخ بعض البللورات لأمد بعيد حوالي أكثر من 100 مليون سنة بعد تكوين الأرض ..الزركون يخبرنا أن الأرض كانت لوقت طويل صالحة للحياة ..نظرت لاريسا إلى هانيبال قائلة :أننى أحب علم الصخور ،ومخاطبة الطبيعة .ولكم تمنيت وأنا طفلة أن أصير راقصة باليه، ثم نزعت نظارتها ،وفضت ضفيرتها، وطوحت بجسدها في الفراغ .كان البروفسور" إيدن هارد "يصول ويجول في ساحة "نايث" للعلوم الماورائية والميتافيزيقيا، والبارسيكولجى ،ويحاضر في شأن الظواهر الخارقة حيث استهل مقدمته بسعى الأنسان للمعرفة، وعلل ذلك على أن نزعة الخلود مازالت تؤجج اللهيب في أحلامه، وذكر أن إيفا في ملحمة الفردوس المفقود أكلت من الشجرة المحرمة أو شجرة المعرفة من أجل أن تنال حلم الخلود كما أوعز لهما الشيطان ،لذلك يبقى سعى الأنسان للمعرفة هو السر الحقيقي في هزيمته لكل المخلوقات كما قال الله في كتاب المسلمين "وعلم آدم الأسماء كلها " من تلك تلك المعرفة علم مصادر القوة والضعف ..الأحداث والظواهر الغير اعتيادية هي رسائل تحمل معان سامية للإنسان وفي بعضها قد يكون نذيرا لحادث جلل

      التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 17-11-2021, 06:53.
      الحمد لله كما ينبغي








      تعليق

      • عبد الحميد عبد البصير أحمد
        أديب وكاتب
        • 09-04-2011
        • 768

        #4
        الخامس


        تأكلت الأيام تباعاً ،وانفرط عقد الشهور من مسبحة الزمان ،وعاد التركى" تورجهان" إلى الأكاديمية ،برفقة صديقه دومينيك،وقد مُسدت خصيلاته الناعمةُ بلمعان فضي . وفي أجواء حميمية إحتفى الطلاب بزميليهما العائدان بعد سفر طويل ،وتبادلا عبارات الترحاب والعناق الحار .كانت الأكاديمية عبارة عن مشعل لا ينضب ،من التحصيل العلمى، والدراسي ،والتجريبي ..وفور انتهاء المحاضرة داخل المختبر، دعا "تورجهان توريز" زميله السنغالي" دوفي ياندو" للذهاب إلى الكافي شوب .من أجل تناول قدحاً من القهوة التركية المفضلة لديه ،إحتسى "تورجهان" كوباً من الماء، وقدم لرفيقه قدحاً من القهوة،تسائل دوفي :لماذا أراك تشرب الماء والقهوة فقط ..ابتسم "تورجهان" ،وأشار إلى صديقه : القهوة التركية يا أخى تساعدنى على التركيز، ومراقبة الموازين الدقيقة المتحركة والثابتة من حولى، والتى أراها في ذهنى تزنُ صميم الأحداث في العالم ،والماء يُخبرنى بالمزيد من أسرار الحياة الغامضة ويكشف لي كوامنها ..لا تنسى أننى أدرس علوم المحيطات والجليد. وما يتعلق بالنشأة الأولى ،مُنذ أول دفقة ماء سقطت فوق الأرض ..هل تعلم ياصديقي أن تلك الأجساد اللدنة التى تحمل أرواحنا عبارة عن قطعة صخرية ، فالصخور هي المسبب الرئيسي لملوحة المحيطات ،حيث يحتوي المطر الذي يسقط فوق الأرض على كميات قليلة من ثاني أكسيد الكربون المذاب من الهواء المحيط به، ممّا يُسبب حمضية مياه الأمطار بشكل قليل، فالصخور تحتوي على حمض الكربونيك الذي يتكون من ثاني أكسيد الكربون والماء، وعندما تصطدم مياه الأمطار بالصخور، فإنّ الأحماض في الماء تتحلل، لينتج عن هذه العملية أيونات، أو جسيمات ذرية مشحونة كهربائياً، ومع جريان الماء تُنقل هذه الأيونات أو الجسيمات إلى الجداول والأنهار ثم إلى المحيطات إنها دورة حياة ياصديقي لاتنتهى حتى تبدأ من جديد .. انتهىيا الصديقين من إحتساء القهوة ووضع "تورجهان" يده على كتف صديقه قائلاً :يوماً ما ياصديقي سيغلى مرجل المحيطات بالعواصف والأمواج العاتية ،عندئذا لن يكون هناك وقت لسفينة نوح الأخيرة ،حيث أرى العالم كثيراً في أحلامى يُبحر إلى مرافيء الحتمية.نظر "دوفي" إلى تورجهان بتوجس قائلاً: بعيداً عن النظرة المشئومة التى تغزو أحلامك ، العالم مكان غريب ياصديقي ،والأيام حُبلى بالمفاجأت،والزمان يرسم صور المستقبل ،أثناء خرطه للصور والأحداث .ثم مضيا في طريقهما إلى قاعة الرياضة حيث كان الروسي "بافل" يمارس رياضة كرة السلة، ويمسك الكرة بقوة ويخترق صفوف منافسيه بجسده الفولاذي ،ثم يثبُ عالياً ليضع الكرة في عمق السلة .أشار إليهما" بافل" عندما مرقا أمامه وهو يتناول قطعة قماش قريبة منه ، ليجفف بها عرقه المتفصد من جلده وعنقه .جلسا يتسامران سوياً .ثم تناول بافل قنينة الماء .وأفرغ القليل في جوفه قائلاً : لا أدري أي حماقة غشيت هؤلاء الدجالين حتى يظنون أن بإمكاننا إنقاذ البشرية ،الشر المطلق يا أصدقائي.. سيغشى العالم ويهيمن على كل شيء ،حقبة الشر قادمة لامحالة .؟..لا مفر ،وسنكون أول من يُضحى بهم، في مرجل القرابين السوداء. وقتها سيسود الشر الأعظم ،ويسيطر على العالم .نظر دوفي إلى تورجهان باستغراب ثم التفت إلى بافل قائلاً :لديك أنت أيضاً نظرة سوداوية تجاه العالم ..ضحك بافل ساخراً : لأنك لم تشاهد العالم الحقيقي بعد .. العالم الذي نعيشه يتخطى في قسوته ووحشيته ،الحياة البرية التى كنت تعيشُها في إفريقيا،فالطبيعة في عالمك هي من تحكم الحيوان ،وترفق به ،وتسيطر عليه ،ويذعن لها..لكن هنا الواقع يختلف ياصديقي لقد تمرد الأنسان ،وتخلى عن إيمانه، والسقوط الأول لم تنتهى وطئته بعد .. ثم التفت إلى دوفي :تريث يا أخى ،قريباً ستكون أنت أول من يسعى لقتلي .. ثم ابتسم قائلاً : سيحدث ذلك يوماً ما .. قبل أن تغيب سحابة نهار ذلك اليوم..ثم انخرطا في وصلة من الضحك..
        كانت الانجليزية ريتشيل مور تستمع إلى محاضرة الدكتور روبرت فاس في قاعة العلوم ، حول دراسة الطفرات الوراثية، وتطور الجينوم حيث استعان البروفسور فاس بريتشيل في تعريف الطفرة الوراثية للطلاب قائلة : الطفرة هى تغير في تسلسل أو عدد النيوكليوتيدات في الحامض النووي الـ DNA مما يؤدي إلى تكوين تسلسلات جديدة من النيوكليوتيدات فينتقل آثارها بصفات معينة إلى الأبناء. إن أصغر وحدة وراثية قابلة لاحداث طفرة يطلق عليها ميوتون" Muton "والذي يمثل أصغر عدد من النيوكليوتيدات المتنقلة والقادرة على انتاج طفرات مظهرية. وإن الميوتون يمكن أن يكون من الصغر إلى غاية نيوكليوتيدة واحدة، تؤدي اغلب الطفرات إلى اختلاف في عدد الكروموسومات أو التغيرات في تركيب الكروموسوم الواحد، وإن هذه التغيرات يمكن أن تحدث بصورة تلقائية ،أو بصورة مستحدثة من خلال المطفرات (mutagens) (الإشعاع والمواد الكيميائية) إذ كان التغير على مستوى الجين قد يؤدي إلى تغير صورته، أي تحول إلى حالة أخرى، وقد يكون هذا التغير خطراً يؤدي إلى وقف عمل الجين لعملية معينة (كانتاج انزيم أو هرمون معين) ويصل إلى حالة الخمول، أو قد يقلل هذا التغير من إنتاج الجين، أو قد يزيد هذا التغير من مقدرة الجين في إنتاج نشاط معين..كانت ريتشيل العبقرية الفذة تمضي في شرحها بثقة واحترافية كأنها عالم كبير يجول في شواطيء العلم والمعرفة ، وتابعت ريتشيل شرحها :
        وفي العديد من هذه الأنواع يا أصدقائي، تبدو هذة التغيرات مفيدة في مساعدة الخلايا على صناعة البروتينات بشكل أكثر فاعلية،ولكن ذلك لا ينطبق على البشر ،والحديث هنا عن قدرة الطفرات الصامتة في صحة الإنسان ومرضه ،وتشير النتائج البحثية إلى إيجاد طرق جديدة لتحسين مخطط الجينات تستهدف في ذاتها إلى علاج الأمراض المستعصية . إنتهت ريتشيل من شرحها فنالت إعجاب وتصفيق زملائها الذين وقفوا يشيدون بزميلتهم ريتشيل مور .وفي القاعة المجاورة كانت الفرنسية ليليان تدرس الكينماتيكا، وتستمع لشرح الدكتور" راينارد ساكر "عن مفهوم الحركة الفيزيائي للأجسام ،وتبدى ملاحظتها حول نسبية الحركة أثناء الإقلاع . حيث قال البروفسور "ساكر": الجسم يتحرك عندما يغير موقعه بالنسبة لنقطة السكون، والتى تُعرف بنقطة المرجع ..لاشيء يبدو ساكناً في الكون،عليكم ياأبنائي تصوير الحركة في مخيلتكم .. فالكوكب الأرضي يجعلنا ندور بسرعة 62،500 ميل في الساعة.. أى إننا نرى الأرض ليست متحركة وكل الحركات المرتبطة بها تعتبر حركات مطلقة ..تُعرف الحركة يا أعزائي بأنها على هيئة خطوط مستقيمة، عندما يكون المسار المنحنى للحركة خطاً مستقيماً ..ولكن إذا ما اتخذ المسار المنحنى شكل قوس فإن الحركة تعرف بأنها على شكل خطوط منحنية ،الهاجس الذي يشغل الإنسان الأن ،كيفية إمتلاك أسباب الحركة وتطويعها لخدمته ،والحركة هي الهدف الحقيقي لتحقيق مبتغاه خاصة في الأهداف العلمية الخاصة بارتياد الفضاء ..الحركة على هيئة خطوط مستقيمة ،قد تكون ثابتة أو متغيرة ،فإذا كانت ثابتة فإننا نقول إنها على هيئة خطوط مستقيمة ،فعندما أقود سيارتى تزداد السرعة بمرور الوقت ،بمعنى أنها تتسارع إذا كان التسارع ثابتاً.. فإننا نقول أن الحركة تتزايد على نحو موحد.. مثل تلك الحركة يا أبنائي تحدث أيضاً للأجسام الساقطة بفعل الجاذبية الأرضية .وعند إنتهاء المحاضرة إلتقت ريتشيل بليليان وذهبا سوياً في نزهة مسائية برفقة فيكتور ..كانت ريتشيل تبدى إستيائها بشأن معاملة بافل لها ،لكنها تلتمس له الأعذار بسبب الأوقات الصعبة التى قضاها في موسكو ، لكنها لم تخفي سعادتها بقرب إنتهاء المرحلة الأولى من الدراسة في اكاديمية أوميترا، والعودة إلى لندن للإستجمام في بورثموث.لكن ليليان قالت أنها سترافق لاريسا لويجى للعروج على هانيبال الأسباني لقضاء نصف العطلة في أسبانيا بعد أن وجه لهما الدعوة لزيارته في بونتفيدرا ..لكن فيكتور قال إنه متشوق للعودة إلى سياتل حيث يقضي معظم وقته في مزرعة الخيول التى يملكها جده .
        بعد انتهاء العام الدراسي، وبداية العطلة الصيفية ،غادر الطلاب مقر الأكاديمية متوجهين إلى بلدانهم ،حيثُ كان في وداعهم البروفسور "كرمللي" نيابة عن البروفسور" فريمان"، ولفيف من العلماء والعاملين في الأكاديمية.وكان في وداعهم أيضاً الروسي "بافل" الذي آبى الرحيل إلى بلده بعدما علم باختفاء شقيقه هناك ، حيث أثر البقاء في الأكاديمية ، برفقة البروفسور" فريمان" ،وقد أبدت" ريتشيل" تعاطفها الشديد معه أثناء مغادرتها ،لاسيما بعد أعتذار "بافل" عن سلوكه، وقد سحت الدموع من عينيها خلال نظرات الوداع التى تخللها نشيج مرير.رحلت ريتشيل إلى لندن ،وكذلك "ليليان" ،برفقة لاريسا لويجي إلى أسبانيا ،وغادر على الزيتونى إلى فلسطين حيث كانت الأراضي المحتلة تشهد موجات من الإنتفاضات ضد الجيش الإسرائيلي المحتل في قطاع غزة المحاصر ،ورحل السنغالي دوفي ياندو إلى السنغال حيث التقى بأصدقائه القدامى في القبيلة ،وتفاكه معهم عن الأحداث التى جرت له داخل الأكاديمية .وكذلك البولندى دومنيك روث الذي كان أخر من يرحل إلى بلاده.
        .وفي مساء ذلك اليوم كان البروفسور فريمان يتناول قدح من القهوة ،أعدته له الدكتورة "كينيث ماندى" حيث رأت سحابة من الحزن تخيم على أفق البروفسور فريمان فقالت متسائلة ؟:
        ما الذي يجعل البروفسور "فريمان" مهموماً إلى ذلك الحد ! ،أراك تبدو قلقاً دائماً..الأمور تسير على ما يرام ..لقد جلبت خيرة المواهب ..ولديك نخبة من أعظم العلماء في العالم ،الذين تطوعوا لمساندتك في إنجاح المشروع ..ماذا بعد؟..خيمت سحابات الحزن فوق أطلال الأمل العالقة داخل ذهن البروفسور. فنظر إلى ماندى، وقد اغتصب إبتسامة باهتة بين شفتية الواهنتين سرعان ما تبخرت عندما وخزتها أشواك الحزن :
        عزيزتى ماندى ..لقد كذبت في شأن إنقاذ العالم ..لقد فات الوقت ..عندما وثب الإنسان وثبته الأولى، وركب قطار العلم والتجربة ،سعى للحصول على القوة بشتى الطرق والوسائل من أجل إشباع غريزة السلطة والتملك.. فلن يوقفه شيء في سبيل الحصول على أهدافه.. وكلما تحققت أهدافه إزدادت أطماعه.. ولن يكتفي أو يردعه شيء.. الإيمان ياعزيزتى هو الوازع الحقيقي للسيطرة على شراهة الإنسان في حب التسلط والحكم.. بدون الإيمان سيعقد صفقته مع الشرير الأول الذي سقط بسبب حسده وأحقاده ،وأظن أنه فعل ذلك، الإنسان في طريقه للصدام ..الصدام الوشيك ..المنحدر جارف ياماندي ..ولن يتوقف ..مانفعله هو تأجيل الوقت، وليس تعديل النهاية أو نزع الفتيل..توقيت الإنفجار الذي سيحدث لاحقاً. بات قريباً جداً.إننى قلق لما سيحدث بعد ذلك لأبنائي ،لن يتركهم العالم ،سيلاحقهم ..المستقبل هو مايخيفنى ياعزيزتى .حاولت الدكتورة ماندى أن تبدد سرب المخاوف التى اجتاحت عقل البروفسور فريمان :
        لا تخشى شيئاً سيدى البروفسور.. سيتحقق الحلم الذي سعيت وناضلت من أجله ،ستُفضي نبوءة الخير ما في جعبتها ،وينجح هؤلاء الموهوبين في نزع فتيل الإنفجار ،والقضاء على الفوضى ..استدار البروفسور فريمان ،وحاول أن يغتصب ابتسامة ذابلة سرعان ما تلاشت فوق شفتيه ، لكنه تهالك فوق المقعد قائلاً:
        - ما نعيشه الأن هو الماضي الذي نراهُ بعين المستقبل ،كما نرى النجوم الأفلة منذ قرون في قبة السماء ،لكن المستقبل صار كما نتوقعه أسوداً بعين التجربة ،والمصير المرتقب قادم وراء غلالة سوداء من المجهول.أخشى على أبنائي ألا يتقبلهم العالم ،سيعانون كثيراً،ويُضطهدون.لن يقبل بهم العالم كما فعل مع الذين من قبلهم .وضعت ماندى يدها الحانية فوق رأس البروفسور "فريمان"وشرعت في محاولة التخفيف عنه قائلة :عليك أن تؤمن بهم ياعزيزي
        - إننى أفعل ..إننى أفعل ياماندى .
        بعد مُضي شهور وانتهاء الإجازات ،عاد الطلاب إلى الأكاديمية،وكان باستقبالهم البرووفسور كرمللي الذي دعاهم إلى قاعة العلوم
        وقف البروفسور كرمللي يتبادل الحديث اللطيف مع ثلة من الطلاب الموهوبين داخل قاعة النظريات العلمية الخاصة بالأبعاد الزمنية، ومناقشة مدى مواكبة النسبية ومدى تطورها في تحدى الزمن ومواكبة التغيرات التى ستحدث في المستقبل..ثم صعد البروفسر كرمللي إلى المنصة ،وأشار لهم بالجلوس ،وشرع في الحديث عن دور الأكاديمية في الإرتقاء بالعلوم ومواكبة الحداثة ،ثم تحدث عن صديقه البروفسور فريمان وقوة العلاقة التى تجمع بينهما منذ عقود ،حيث أشاد بالنجاح الذي حققه البروفسور فريمان داخل الأكاديمية من أجل خدمة البشرية سواء على الصعيد البحثي، أو التجريبي .بالإضافة إلى دراسة شتى المجالات العلمية وتقديم الدعم والمساعدة لكل مختبرات العالم خاصة في مكافحة الفيروسات التى تهدد البشرية، وكذلك تقديم كافة الحلول والتوصيات لتلك الدول التى تعانى من مشكلات بيئية، واجتماعية ،واقتصادية، حيث قال في معرض كلماته : البروفسور فريمان فقد والديه في ظروف غامضة ،حيث كان والده أحد العلماء الذين عارضوا فكرة تصنيع القنبلة النووية ، وانسحب من فريق العمل، وهدد بإخبار الشعب الأمريكي بكل الكوارث التى ينوى ترومان صنعها، ثم عرض البروفسور كرمللي تسجيل لخطاب ترومان: اسمعوا ماذا يقول ذلك الكذاب الوقح الذي خدع الشعب الأمريكي.-وردت هذه الكلمات الشنيعة بتاريخ 9 آب/ أغسطس 1945، على لسان الرئيس الأميركي ترومان خلال خطاب إذاعي وجّهه للشعب الأميركي.. قبل ثلاثة أيام من هذا الخطاب كانت القاذفة الأميركية إينولا غاي قد قامت بإلقاء القنبلة الذرية التي أطلق عليها اسم "الطفل الصغير" فوق هيروشيما، وفي الوقت ذاته كانت قنبلة أخرى تنشر الموت والدمار والفوضى في ناغازاكى،لم يكن هاري ترومان مرتكباً لجرائم القتل الجماعي فحسب بل كان كاذباً وضيعاً. لقد كذب على شعبه، لم يكن الهدف من وراء استعمال القنبلة الذرية إنهاء الحرب العالمية الثانية أو دفع اليابان للاستسلام. حيث قال الإمبريالي الآخر المعروف-والجزار مثل ترومان .ونستون تشرشل: "من الخطأ الافتراض أن القنبلة الذرية هي التي قررت مصير اليابان. لأن هزيمتها كانت محتّمة قبل إلقاء القنبلة الأولى ،كان هدف الحكومة الأميركية من وراء استعمال القنبلة الذرية، إخافة الاتحاد السوفييتي. كانت إدارة ترومان، عبر إلقائها القنابل ونشرها الموت والرعب في اليابان،ترسل رسائل تهديد للحركة العمالية العالمية التي اشتد عودها من خلال الكفاح ضد الفاشية في الحرب العالمية الثانية. ثم أشار البروفسور كرمللي إلى الطلاب قائلا: هناك سؤال يتبادر إلى أذهان البعض منكم ..ماهو المغزى من وجودكم ؟..أنتم المختارون يا أبنائي .. الذين يعول عليكم تقديم الإجابات، عندما يحين الوقت.. نحن نقوم بدعمكم وتغذيتكم علمياً حتى ينشط وقود الموهبة ويتفاعل داخل عقولكم ..نحن نواجه مخاطر كارثية تصنعها منظمات مشبوهة ،تدير دفة العالم وتدفعه إلى المجهول، إلى الفناء ، تلك المنظمات هي المسؤولة عن الدمار والفوضى التى تجتاح الكوكب ..لقد واجهنا الصعاب من أجل إنجاح فكرة المشروع حيث تخلى عنا الكثيرين بسبب الضغوطات التى مارستها الدول الكبرى، من أجل إفشال رأس الفكرة .لكن البروفسور فريمان، ثابر وتحمل الكثير من الألم والمرض من أجل أن يمرر لفكرته طريقاً أمناً بين الصعاب والمشاق ،الأمل يعول عليكم يا أبنائي في إيجاد الحلول للأزمات التى تواجه الأرض .واستحداث الأفكار الجديدة ،والعمل على تطوير مجالات البحث والتجربة من أجل تغذية أُسس النظرية العلمية..
        نحن لا نحملكم ما لا تطيقون ،لكنها محاولة لفعل شيء على الطريق الصحيح.

        .في صباح اليوم التالي كان تورجهان التركي قد تسلق أحد الأبراج ،وشرع في رسم لوحة تعبر عن قارب صغير مهتريء يشق ستائر الضباب ،ويمخر عباب النهر ،يقل مجموعة من الأطفال، لكن الماء يطعن القارب بأسنة الأمواج والأعاصير ،ويحاول أن يعصف به ويبتلعه داخل الأعماق ،وحول القارب حطام سفن عملاقة، وأشرعه ومبانى غارقة ،وأقوام ابتلعتهم الأمواج ،كل شيء كان يتهاوي تحت سفح الأمواج العالية .توافد الطلاب من كل ناحية داخل المؤسسة العلمية لرؤية تورجهان وهو يخاطر برسم اللوحة في مكان عال غير آمن ،أبدى الطلاب مخاوفهم وأصابهم الهلع حيال تورجهان ،وقاموا بطلب النجدة من إدارة الأكاديمية ، حضر البروفسور كرمللى ولفيف من العلماء الذين هرعوا لتقصي الخبر. لم تتحمل ريتشيل وليليان رؤية زميلهم يواجه الخطر والموت ،إغرورقت أعينهم بالدموع وأجهشوا بالبكاء ،وصرخت لاريسا وتشاندرا ،لكن بافل وفيكتور انخرطوا في وصلات من السخرية والمزاح بشأن صديقهم، ونعته بافل بالفتى الرعديد ،حينما انتهى تورجهان من رسم لوحته ،قفز بين أعمدة البرج هبوطاً ،حتى لمست قدميه الأرض ،ثم اندفع صوب بافل والقى باللوحة الورقيه في صدره قائلاً :لقد رأيت ذلك أمس ، ثم مضى بعيداً . صعق بافل عندما نظر إلى محتوى اللوحة ..وبدت عليه علامات الفزع والدهشة .كان البروفسور فريمان مختفياً بسبب المرض الذي ألم به ،وقد بدت عليه علامات الوهن والضعف، عندما أطل من النافذه بعدما رنا إلى مسامعه صراخ الطلاب فأسرع لتفقد الأمر ..طلب البروفسور فريمان من دكتور كرمللي أن يعقد غداً جلسة عاجلة بمشاركة جميع طلاب الأكاديمية .
        في اليوم التالي حضر جميع الطلاب، وساد اللغط والحيرة بين الأوساط العلمية داخل الأكاديمية وبثت رسائل القلق، تساؤلات الريبة بينهم، حتى حضر البروفسور فريمان ،وكان يبدو ضعيفاً هزيلاً،وقد استنزف المرض ماء الحياة من جسده. وقف الطلاب تحية للبروفسور فريمان وأبدوا سعادتهم بتواجده بينهم .ثم أشار إليهم بالجلوس ،تناول البروفسور فريمان كوباً من المياة ،ثم تحدث بصوت واهن قائلاً :لقد قضيت سنين عمري في حقول العلم من أجل خدمة البشرية ،وطرقت جميع الأبواب من أجل أن ترفرف "أوميترا" في سماء العلم ،لكنهم الأن يعرفون خطر "أوميترا"وما تحمله من تهديد ،وإفشال لمخططاتهم وأطماعهم ، لذا فإنهم يحاولون قطع الإمدادات ،والمساعدات بسبب التوصيات الأخيرة التى خرجت بها أوميترا للرأي العام العالمي ،الأرض يا أبنائي لن تتحمل تلك التداعيات والكوارث البيئية، التى يصنعها الإنسان، كذلك الفوضى المستشرية في بقاع العالم .
        الصورة التى رسمها تورجهان رأيتها في صباي من قبل،ولكن بلون مغاير، حيث سيفقد العالم إنسانيته ويغرق في مستنقعات الفوضى، عندئذا ستفقد الأرض توازنها ،وتستعر بالغضب والغليان، وتبدأ حينها عصور السقوط والفناء، تزحف للقضاء على الجنس البشري، والكائن الحي برمته ، لن تكونوا بأمان يا أبنائي ،كما قال السيد المسيح "إذا العالم كرهكم ،تذكروا بأنه كرهنى من قبلكم،تذكروا ما من خادم أعظم من سيده،إذا كانوا إضطهدونى فسيضطهدونكم،يجب ألا تخافوا فإن المنقذ قادم" لقد اضطهدونى ،وكذلك فعلوا معي ، يجب أن تمضوا في رسالتكم إلى العالم، إظهروا لهم نواياكم ،لاتفقدوا الإيمان في قلوبكم ،يوماً ما ستحتاجون تلك الكلمات، حيث تتلاشى كل معان الأشياء من الوجود والحياة ، ولن يبقى شيء يُذكر في معين الذكريات .
        لقد حاولوا تفتيت عزيمتى وصبري ،عبر إذلالي ،وتهديدي ، إستخدموا معى كل وسائل الترغيب والترهيب، لكننى كنت أستميت في الدفاع عن ما أؤمن به ، حتى نفذت كل طاقات الأمل من مخزون الصبر لدى، وفقدت الأمل والحياة . وفي أحد الأيام كنت عائداً من المستشفى، عندما أُصبت في حادث مرور ، سيارة سوداء غامضة كانت ترصد تحركاتى، دفعتنى بعيداً عن الطريق، فُهشمت أضلاعى ،و نظارتى وتناثرت أوراقي في الهواء ،هلعت زوجتى وإبنتى لرؤيتى وصدموا عندما شاهدوا الجروح التى خمشت وجهي وجسدى. وقتها قررت العدول عن فكرتى ،والتخلى عن أحلامى وأهدافي . وأثناء بحثى في المكتبة القديمة التى كانت تحتفظ بمقتنياب أبي العلمية، وجدت كتاباً غير عادي ..لا أسميه كتاباً بقدر ماهو عبارة عن نافذة من الأمل. مجموعة من الرسائل ،والتقارير الصحفية ،أُرسلت من مكان ما بالشرق الأوسط، يتحدث فيها الكاتب عن حقبة الأربعينات وتحديداً ماجرى في مصر . تلك القصة كانت الشرارة التى أُضيئت في داخلى ،وبعثت الأمل في ربوع فؤادى المترع باليأس والإنكسار،لقد منحتنى تلك الرسائل القديمة ، الأمل العظيم ،حيث تراجعت عن فكرة الإستسلام والخنوع،ومضيت في طريقي لتحقيق حُلمى وبناء "أوميترا" وتمكنت من هزيمة اليأس. بعدما أمن بفكرتى واقتنع بها حشد كبير من العلماء، والمثقفين، والأحرار في العالم، بسبب قصة قديمة غيرت أفكار ومعتقدات في داخلى وأعادت تشييد الحلم من جديد .. قد لا تحمل القصة أي معان ، لكنها تركت أثراً بليغاً داخل روحى. ثم أخرج البروفسور فريمان مخطوطات ورقية قديمة وشرع في قرائتها قائلاً إنصتوا يا أبنائي ، سنعود للوراء كثيراً إلى حقبة زمنية ليست بعيدة عنا : لقد ذكر الصحفي الإيطالي مارك لوجيانو تفاصيل ماجرى ، حيث كان شاهد عيان على ما حدث وقتها الرسالة الأولى :الحرب العالمية الثانية تكاد أن تضع أوزارها، الجيوش المنتصرة تدك أسوار برلين المنكوبة ، والهواء الخانق يُخيم فوق المدينة، قطعان من الكلاب الضالة تلتهم الجثث التى مضى عليها أيام،جنود الجيش الأحمر يطاردون قطيع من النساء ، دماء الفتيات العذارى المسفوح بنشوة الحرب والهزيمة ، يخضب جدران الكنائس التى إستبيحت بفعل الجنود ،عمليات الإغتصاب في زوايا الكنائس لا تنتهى، وصيحات النساء تستجدى استنزال العفو والرحمة داخل القلوب المتصخرة للجنود السوفيت ، الغربان تحلق فوق أسوار المدينة المشئومة ، الصليب المعقوف يتهاوى تحت جنازير العربات الثقيلة ، الدبابات والمعدات الثقيلة تجتاح طرقات المدينة التى تئن تحت سنابك الحديد ومراجل النار،الأعلام السوفيتية ،والأمريكية والفرنسية والإنجليزية ترفرف فوق أطلال برلين ،بعد مرور شهور من إقتحام برلين ،الأزمات الإقتصادية تعصف بمكانة إنجلترا بين حلفائها . بريطانيا العُظمى أفلست بالكامل، الأفواه الجائعة واحتجاجات العمال تطرق الأبواب بعد تأخر الرواتب، مما يُنذر بتمرد وشيك على الحكومة الإنجليزية ، فاضطرت حكومة "كليمنت" إلى الإستدانة من الولايات المتحدة الأمريكية لسد العجز المتفاقم في الخزانة الإنجليزية ، ،حكومة كليمنت تخشى من سعى أمريكا لإزاحة بريطانيا من السباق الإستعماري في الشرق ، ولعبة تبديل العروش تجري بوصلتها على مسرح الأحداث ،كليمنت يبحث مع الجنرالات في الشرق إيجاد موارد لسد العجز المتفاقم في الخزانة .في منتصف الأربعينات عثرت بعثة بريطانية للتنقيب عن الأثار الفرعونية في مصر ،على نقوش قديمة تُشير إلى وجود مائة مخطوطة ذهبية تحوي تفاصيل ووقائع عن مائة مدينة أثرية مطمورة تحت رمال الصحراء،وبعد شهور من أعمل التنقيب ،تمكنت تلك البعثة التى عملت في سرية تامة من العثور على المخطوطات الذهبية، وتم نقل الخبر عاجلاً إلى حكومة كليمنت التى أخفت الحقيقة برمتها عن الحكومة المصرية ،وسارعت بتأمين نقل المخطوطات إلى لندن .في ذلك الوقت علمت الإستخبارات الألمانية التى كانت تعمل لصالح الأمريكان بعد هزيمة ألمانيا ، مساعي لندن للخروج من أزمتها الإقتصادية الطاحنة وتمكنت عبر وسائلها السرية من إستجلاء كوامن الأحداث والكشف عن حقيقة المخطوطات الذهبية ،وتكليف الجنرال "راينارد كينيث" بتأمين القطار الذي يحمل الغلال إلى أفواه لندن الجائعة ،أمد العملاء الألمان المخابرات المركزية الأمريكية بكل المعلومات التى تتعلق بعملية "الأفواه الجائعة" وكان الألمان على إتصال وثيق بمجموعات مسلحة من المقاومة والخارجين على القانون الذي الحقوا أضراراً شديدة بالمعسكرات البريطانية في مصر،، أبان حقبة الثلاثينيات قُبيل الحرب العالمية الثانية ،وباتوا على قائمة المطلوبين والمستهدفين من قبل جنرالات الجيش البريطانى،على الجانب الأخر الولايات المتحدة الأمريكية كانت تهدف إلى تدمير مخطط بريطانيا العظمى، وإنهاء جسور العودة للتخلى عن حلم الأمبراطورية الُعظمى الثانية ،في الوقت نفسه حاول الإنجليز التعتيم على عملية نقل الغلال التى تحوى في باطنها المخطوطات الذهبية ،وتأمينها عن طريق البر وصولاً إلى البحر، على أن تتولى البحرية الملكية حراستها ، وعلى الجانب الأخر من حافة البلد المسلوب ،وفي زاوية نائية من مدينة الأسكندرية ،قرب البحر الأحمر كانت هناك عشرة قوارب تُقل أربعين صياداً يلقون شباكهم في الماء ،لإصطياد الإطارات والصناديق الخشبية ،و كذلك الغوص بعيداً داخل أعماق المياة الضحلة ،لإقتناص الصناديق والإطارات الجلدية المدلاة عبر السلاسل الحديدية ،وبعد تفريغها ،قاموا بإخراج قطع السلاح والبارود ، والمدافع الصغيرة وخزائن الرصاص وتركيبها ،و كذلك صناديق الديناميت الأصفر، والقنابل صغيرة الحجم ،حيث كانت كلمة السر المتفق عليها بينهم "القرد الجائع ،يعشق تقشير الموز الأصفر " ، إضافة إلى الرصاص الألمانى المدبب ،تناول شخص غليظ الملامح غائر العينين ذو لحية كثة سلاح إم –جى 34 رشاش ألمانى وابتسم ساخراً : يارفاق ..إنظروا ..النسخة المعدلة والأحدث ..الألمان يعتنون بنا حقاً . كان يُدعى إبراهيمي أو كما يطلق عليه رفاقه السيد برهوم ،ويلقبونه بالطبيب ،عمل طبيباً فترة من الوقت ،قبل أن ينتقل للإنضمام للمقاومة ثم انضم إلى عصابة الأربعين ،وعُين مدرساً للغة الفرنسية والألمانية داخل مخيمات الفقراء ،لكن الوباء قتل أعظم ما لديه ،زوجته وطفلتيه فاعتزل الجميع ،وظل وحيداً حتى عاد وانضم لعصابة الأربعين في نهاية الثلاثينيات ..إنضم إليه شاب نحيف أبيض تتدلى خصلاته فوق نظارته وسيم ، يبلغ الثلاثين ، عبقرياً، يدعى "جاد" يلقبونه بالمهندس كان يتقن اللغة الإنجليزية والألمانية أيضاً، قام بأفراغ محتويات الصناديق وقال :هناك رشاش إم جي 42 ولدينا أيضاً صندوق فاكهة عناقيد من القنابل اليدوية العضوية ، ثم أشار إلى قنابل نموذج 39 كيرباينر 98ك (بندقية وأيضا قطع بانزر شريك ،بانزر فاوست بالإضافة إلى ام بي 18 .إبتسم ساخراً:

        التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 19-11-2021, 06:07.
        الحمد لله كما ينبغي








        تعليق

        • عبد الحميد عبد البصير أحمد
          أديب وكاتب
          • 09-04-2011
          • 768

          #5
          لا بد أن هناك عملية كبيرة، تستدعى كل ذلك الإهتمام .شرع أبوجوده في حث الصيادين على الإسراع بإخراج القوارب من الماء، قبل أن ُيشرق الضوء، وينبلج الصباح. طفق الرجل في مساعدة رفاقه، بجمع الشباك، وطيها تحت قدميه .كان أبو جوده رجل نصرانياً من جنوب الصعيد، تجاوز الخمسين من عمره ،عمل قس في كنيسة العذراء، ثم تركها بعد إقتحامها وتدنيسها من قبل الجنود الإنجليز أبان حقبة الثلاثينيات ، سعياً وراء مناضل قومي ،فاراً بجراحة المثخنة ،فلاذ إليها طلباً للأمان ،فقام الجنود بسب أبى جوده ولعنه ،وإيذاء رفاقه داخل الكنيسة . كانت حياته الأسرية مثل ضباب الصباح سرعان مايتبخر، فلم يتبقى من عائلته سوى إبنة أخيه المفقود "سمعان"، والتى تُدعى " كلير" ولا تعرف عنه شيء سوى بعض الرسائل القليلة التى يرافقها القليلُ من النقود ،كان أبو جوده ،طويلاً ،جسيماً ،له شعر ناعم قصير ،تغزوه شُعيرات بيضاء ،وشارب تركي مفتول ،ولحية خفيفة . هو المسئول الأول عن إعداد الخطط الهجومية ،والإشراف عليها ،وتفعيل ألية الإنسحاب ،وقت تأزم الأمور، واشتداد الصعاب. يلقبونه أحياناً بالناسك أو القديس الذي يتحكم في زمام المجموعة .يرافقه أدهم الجيار،أو سلطان الإسكافي الزعيم الحقيقي لمجموعة الأربعين ، كما يُطلق عليه بين رفاقه .حيث دائماً ما يغيب كثيراً داخل المدينة ، يتجول بصندوق الورنيش ، لاسيما عند القيام بمهمة إستطلاع داخل الأسواق والمحال ، وبالقرب من ثكنات الجنود الإنجليز، خاصة وأن له علاقة وطيدة بالصحفي الإيطالي ذائع الصيت في ذلك الوقت" مارك لوجيانو" ،كان الجيار شاباً طويلاً ، وسيماً يتمتع بجسد رشيق مفتول العضلات بمسحة بيضاء ،ذو شعر ناعم قصير ،وعينين سوداوتين.قيل أنه ينحدر من شمال القاهرة .تحدث الجيار قليلاً مع أبو جوده عن فحوى الرسالة التى جلبها معه ،وقرأها شقيقه "جاد" لترجمة معانيها ،فأشار الجيار إلى رفاقه بالحضور .قائلا: هناك عملية بالغة الأهمية ، لقد تلقيت الرسالة ،وفحواها ،سري للغاية . الإنجليز سيقومون بتأمين عملية نقل كبيرة من البر إلى البحر، ثم رنا الجيار إلى الأفق متسائلاً : أي شيء ذلك الذي يحظى بإهتمام الإنجليز هذه المرة .. لابد أنها عملية كبيرة بحجم لندن . أشعل عتريس غليونه وكان رجلاً طويلاً جسيماًً في منتصف الأربعينات ، ،ذو بشرة سمراء، أصلع، ذو لحية كثة طويلة . أطلق عتريس سحابة من الدخان ،سعل على أثرها قليلاً ،وبعد أن هدأت أنفاسه .قال ساخراً: تقصد عملية سرقة كبيرة ،إلتفت الجيار إلى عتريس قائلاً : أجل ..إنها عملية سطو كبيرة ،تجري على تلك الأرض المسلوبة ..مثلما قال الصحفي مارك لوجيانو :لقد ربحت بريطانيا العُظمى الحرب، وخرجت منتصرة ،لكنها خرجت مفلسة ،لاتملك سوى الديون التى تُثقل كاهلها ، قال لي لوجيانو : لقد تلقت الحكومة البريطانية قرضاً كبيراً من الأمريكان من أجل تغطية العجز المتفاقم في الميزانية ،وكذلك دفع رواتب العمال المتأخرة ..وهاهي الأن تفكر في محاولة العودة إلى طاولة اللعب،وصدارة المشهد العالمي..خوفاً من صعود الامريكان..كل ذلك سيحدث
          ، عبر سرقة كبيرة ستحدث على تلك الأرض .الخبر الجيد أننا نعلم ماذا سيجري ،والخبر السيء، ليس لدينا تفاصيل، تمكننا من مشاهدة الحدث بزاوية أفضل ..هناك طبول تدق في رأسي، تُخبرنى أن اللغز يتعلق بقطع أثرية، الإنجليز دائماً يلهثون وراء الذهب، ثم أردف ساخراً: ألم تذهب إلى السينما من قبل ! لابد أنها سرقة كبيرة تستدعي إهتمام كليمنت ، تُرى ماهي القصة ،هؤلاء اللصوص الإنجليز سُحقاً لهم .قال جاد :ينبغى لنا أن ُنسرع ،فالوقت يمضي وليس في صالحنا ، قال الجيار لقد أرسلت في طلب عباس الحانوتى ، صديقنا تاجر الموتى ..لقد ذهب إلى لقاء صديق قديم .ثم نظر إلى ساعته .
          ورمق إلى الساعة المغروزة في الحائط : وأحسبه سيدخل عليكم الأن ويزف إليكم الأخبار المتعلقة بصناديق الموتى ،والتفت إلى الباب ،حيث ظهر عباس الحانوتى، وكان شاباً طويلاً مليحاً يتكلم بلهجة شامية، ينحدر من أصول لبنانية ، نزع طاربوشه ،ثم دنا من الجيار وهمس في أذنه ،حيث أفضى إليه تفاصيل اللقاء السري الذي دار بينه وبين الصديق الألمانى ،ثم سلمه مخطوطه باللغة الألمانية تتكون من سطر واحد "لقد سمنت الخراف الحمراء ،وحان وقت الجز "وهنا إلتفت الجيار إلى رفاقه وقال بلهجة حادة : يارفاق .. الخراف الحمراء سمنت ،والراعي يريد أن يبيع صوفها .. من يخبرنى ،متى يزحف القطار الأحمر ،قال غريب الجزار، وكان طويلاً جسيماً ،ذو بشرة سمراء ،وشعر قصير ناعم ،وعين معطوبة تكسوها قطعة جلدية سوداء :سيتحرك الزاحف الأحمر مساء الجمعة ،وهنا قال إبراهيمى : ليس لدينا متسع من الوقت ياسيدي، هناك عدة قطارات تزحف غداً، وفي ذات التوقيت ، قطار البضائع والغلال، والقطار الملكى البريطانى وكليهما أكثر تأميناً ،وهنا قاطعه أبو جوده : لاتنسى قطار الأقصر ،وهو الأقل تأميناً بينهما إبتسم الجيار بناجذه :إنه ذاك القطار الأحمر الذي يحوى المخطوطات الأثرية ، يارفاق سنغادر بعد منتصف الليل ،يجب أن نُعسكر قريباً منه ،هنيهات وأحضر مدبولي أبو شعر، وكان رجلاً سميناً يرتدى طربوش تركي وعباءة أندلسية ،صحيفة كبيرة مكتنزة بلحم الأسماك، والخضار والخبز البلدي ،فحضر شناوى ،ومهدى ،وسعيد الحلوانى وبقية الرفاق لتناول الطعام ،واحتساء الجعة المصنوعة من شراب التوت والحمص سواء .غادرت رفقة الأربعين ليلاً في شاحنات نصف نقل قديمة، تم ترميم قطعها على أيدى سعيد الحلوانى الملقب بالميكانيكى، كان سعيد الحلوانى فتى وسيماً ،ذو بشرة بيضاء وشعر ناعم طويل ،يجيد استعمال كافة الأسلحة ،وترميم كل المعدات الميكانيكية ،انضم إلى عصابة الأربعين ،متأسياً بشقيقه الذي كان عضواً سابقاً في المقاومة الشعبية ولقي حتفه على أيد الإنجليز في إحتجاجات العمال أواخر الثلاثينيات. وفي منتصف الليل قطعت ثلاث شاحنات نقل كبيرة الطريق الزراعي إلى الأقصر. كان غريب يشعل سيجارته ويقضم قطع السمك المملح داخل العربة ،والشناوي يتفقد بندقيته الألية ويحشر الرصاصات في جيبه ،ثم يرنو إلى رفاقه بمؤخرة عينيه ،ويقول ساخراً :ينبغى أن تعامل البندقية برأفة ،وعناية ،كما تعامل طفلتك المدللة ،فالبندقية، والراقصة أحياناً يتبعان عزف واحد،نداء المرونة ،وخطى الرشاقة ،والإيقاع المنسجم مع النغمات يمنحك مرمى جيد، وبعد أفضل أثناء التصويب ،ضحك أبو جودة ،والتفت إليه مدبولي وهو يحشر لفافة التبغ بأصبعة بين شفتيه الغامقتين وقال ساخراً :كانت مستشفى المجانين ،ملاذاً أمناً لهؤلاء الحمقى ،قال الجيار مازحاً :لقد كنتم معاً..هل نسيت :كلا ..لقد ولجت إليها متسلحاً بأردية المكر والدهاء وتصنعت بدور المجنون من أجل إنقاذه ..لقد رموه داخل حجرة مظلمة ،وقيدو جسده ، بعدما قبض على زوجته ،وهى تخونه مع شاب كان يعمل إستورجي .سرعان ما تغير وجه الشناوي، وتلبدت ملامحه ،وجرت الدماء في عروقه حتى كادت أن تتفلت من أوردتها ، وفي سرعة البرق ألقم الذخيرة في أحشاء البندقيه ،ثم صوب أشداقها في وجه مدبولي .تجشأ مدبولي من شدة الخوف ،حدق الرفاق إلى مدبولي الذي ابتلع لفافة التبغ في حلقه ،لكن الشناوي عدل من وضعية بندقيته قائلاً : وأين هو الأن ؟..تراه يتعفن في قبره ،فانفجرت العربة بوابل من المزاح وانخرط الرفاق في وصلة من الضحك، وصلت الشاحنات إلى الطريق الغربي للمدينة وعسكرت داخل حقول الذرة المنخفضة .قال الجيار : الحظ يحالفنا:غابة من الذرة ،وليل أخضر، يكفي حاجتنا حتى تنتهى العملية ،هرع الرفاق إلى الشاحنات ،تلقفوا الأسلحة، وحملوا البارود ،وغابوا جميعاً في حشود من سيقان الذرة .في اليوم التالي مساء الجمعة ،انطلق قطار الأقصر ،وعبر الحقول والقرى . وفي المقابل كانت هناك قوات انجليزية ،تؤمن مسار القطار ،خاصة العربة التى تحمل رقم ثمانية "وعندما غاب القطار داخل حقول الذرة ،إنطلقت دراجتين بخاريتين خلفه ،وتمكن سائقيها الذين يرتدون الرداء الحربي للجنود الإنجليز ، من القفز وتسلق الأعمدة الحديدية والإرتقاء إلى السطح ،ثم زحفا فوق السطح حتى رأوا ثلاث جنود داخل العربة يحملون البنادق ويحتسون الخمور ، أشار إلى صديقه بالتعامل معهم،وقتلهم في الحال ،فدخل عليهم عتريس ،وتحدث معهم بلكنة إنجليزية رديئة ، ثم صوب سلاحه إليهم ،وأمرهم بإلقاء أسلحتهم ،ثم فتح النافذة، ودفعهم إلى الهواء الطلق ،ثم قاما بتنفيذ الخطوة الثانية ،فصل العربة الثامنة عن القطار ، وقامت المجموعة "ب" بمناوشة الجنود المتمركزون في العربات الأولى ،ولم تمضي لحظات حتى تمكنوا من إخراج صندوق المخطوطات الذهبية بعد تفجير القطار، وحملها إلى الشاحنات التى انطلقت بدورها إلى مكان نائي داخل أحد الأوكار النهرية،قام عتريس بإفراغ محتوى الصندوق الملكى ،حيث تراصت المخطوطات الذهبية فوق بعضها ،وتم تعطيرها وتبخيرها بعناية فائقة ،كانت المخطوطات تحوي كلمات ونقوش هيروغليفية ،لايمكن قرائتها ،أو حل رموزها ،قال الشناوى :لن نضيع الوقت في قرائتها ،ما يعنينا هو 20 مليون جنيه استرلينى ،وأرى أننا يجب أن نلعب على ذلك ،لقد تغيرت اللعبة ،بعدما أصبح الكارت الرابح بإيدينا ، قال أبو جوده: يجب أولاً أن نعرف قيمتها ،ثم نظر إلى جاد ..هل تستطيع أن تفعل شيئاً .غاب جاد في فضاء من الصمت ثم قال :أعرف فتاة يمكنها قراءة تلك المخطوطة .إنها مولعة بالتاريخ القديم ، قال الجيار : من تقصد ؟قال جاد : سميرة :وهنا بهت الجيار وصدم قائلاً" إنها فتاة خرساء ،قال جاد : إنها ليست خرساء ،لقد تعرضت لصدمة شديدة ،بعدما اغتصب الإنجليز أمها أمام عينيها ،لاتقلق.. أستطيع الحديث معها ،وهنا تعجب الرفاق ونظروا إلى بعضهم البعض مندهشين ،لكن جاد أزال ما يعتريهم من دهشة وغرابة ،عندما قال: أقصد أستطيع الاتصال معها عن طريق لغة الإشارات..قال الإبراهيمي :حسناً حسناً..ليس لدينا وقت..إحضرها هذا المساء

          التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 20-11-2021, 06:51.
          الحمد لله كما ينبغي








          تعليق

          • عبد الحميد عبد البصير أحمد
            أديب وكاتب
            • 09-04-2011
            • 768

            #6
            السابع

            في مساء ذلك اليوم ،أبحر قارب خشبي، يحمل الفتاة سميرة برفقة صديقها جاد إلى الوكر النهري ، وعلى ضفته كان بانتظارها غريب ، بوجه متجهم ، وملامح خشنة ، تتراقص عينيه ،يمينا ويساراً ،وبين شفتيه سيجارة تنضب في مشعلها الأخير ،بصق في الهواء ثم أطاح بسيجارته في الهواء ،وأمسك بالقارب ،وقيده في الوتد . كانت سميرة تعمل في زاوية لبيع المطبوعات من الكتب، والمراجع القديمة التى يحتاجها طلاب الجامعات، وغيرهم من الباحثين عن شتى العلوم في مجالات الطب، والهندسة، والميكانيكا ،والإقتصاد وغيرها من الكتب ، التى يعود تاريخها إلى القرون الأولى للعصور السحيقة .كانت "سميرة" فتاة سمراء رقيقة ،حرة، مهلهلة الشعر ،لها عينان زرقاوتين ،تشعان بريقاً ولمعاناً، تتسم بالجرأة والجدعنة التى عادة ماتطلق على الفتاة المصرية الأصيلة. أشار جاد إلى رفاقه أن أصول سميرة تنحدر من جذور عربية ،تعود قديماً إلى حقبة الأمويين ،وتعيش مع والدتها المقعدة "أم الربيع"في حارة السقايين .كانت والدتها تُعانى من أمراض عدة كالضغط والسكر ، إضافة إلى أنها عجوز مقتعدة .جاءت الفتاة برفقة صديقها جاد الذي كان كثيراً ما يعرج عليهما بشاحنته العتيقة أثناء بيعه فاكهة البرتقال في سوق العصر أنذاك .تعلمت "سميرة" من والدها الحاج" تميم العارف" الكثير من العلوم التى تتعلق باللغات، والثقافات القديمة ،وورثت عن والدها شغف الإطلاع ،وحب المعرفة، والإبحار في علوم الثقافات ، والحضارات القديمة .وما إن وطئت قدميها أعشاش الوكر حتى رأها مدبولي وعتريس ،ومن خلفهم جاسر الأشهب الذي قال ساخراً :ماهذا القنديل الذي يشع بريقاً ولمعاناً ،كأنه يصدر طنيناً من فحمة الليل .جلست سميرة بجوار أبو جودة، وقد راودها شيء من الخوف والقلق ،فنكست رأسها بين جناحيها . وعلى الفور أحضر جاد المخطوطات، وطرحها بين يدى الفتاه ، وشرعت على الفور في فحص المخطوطة بشغف ولهفة ، وما إن وقعت عيناها على ضوء الكلمات والحروف التى تلمع ببريق ووميض مثير .حتى شعرت بالخوف والرعب يدب في أوصالها من جديد، وصار العرق يتحلب من مسامها ،فرفعت رأسها ،وأخذت تنظر إلى وجوههم بريبة شديده ،ثم أشارت إلى جاد بيديها ، وحركت أطرافها ،فقال مستغرباً: إنها تقول أن والدها حدثها منذ وقت بعيد عن تلك المخطوطات ،أجل .. تابعى ..إنها تشير إلى أن بعضها يرمز إلى خليط ثقافي من لغات متعددة ،هناك حروف من اللغة الأكدية والسومرية القديمة..ثم تابعت تفسير الحروف اللاتينية المكتوبة في صدر المخطوطات عن طريق لغة الإشارات ، فتابع جاد ترجمة تلك الإشارات : إنها تقول .. هناك حروف أيضاً مستعصية على الفهم تتكون من مزيج مختلط أيضاً، بعضها ينحدر من الثقافات الهيروغليفية، والأشورية ،والبابلية القديمة ،ولغة آلهة الحرب ،ثم أشارت إلى حروف معقودة داخل صليب معقوف ، تُشير إلى لغة قبائل الجن الأول الذين سكنوا الأرض في حقب غابرة ،وتشير بعض الرموز إلى حركة الأجرام السماوية واصطفاف الكواكب ،والنجوم ، وتتحدث أيضاً عن حقبة بابل ،وأعمال السحرة وسفر الملوك ، ثم تناولت المخطوطة الثانية ،وأشارت فيها إلى حدوث صراع، قديم نشب بين الممالك القديمة .لكن أشخاص أو كائنات لايتعدون الخمسون . هبطوا إلى الأرض في الساعة الأخيرة من الليل . ثم إنحازوا إلى مملكة الشمال ،وقامت الكائنات العملاقة التى اتخذت صور وحوش مفترسة .بهزيمة مملكة الجنوب والقضاء عليها،ثم تناولت المخطوطة الثالثة، والتى أفضت بتلك الكلمات :قبل رحيلهم أنشأوا مائة مدينة من الذهب، تقع في جوف الصحراء مطمورة تحت الرمال . مليئة بالكنوز ،والنفائس ،والأسلحة .. خيمت سحابة من الدهشة،على وجه الجيار. فقال متسائلاً :أسلحة ! أي أسلحةتلك ؟. وهنا قاطعه أبو شعر : لابد أنها دروع ،وحراب.. لقد حدث ذلك في زمن قديم ، وتابع جاد :وهناك في الظلمة يقع تابوت قديم مدون عليه أسرار الحرب الأولى، التى قامت على الأرض ، ثم أشارت النبوءة إلى عودة الملوك مرة أخرى لنصرة مملكة الشمال .وهنا قاطع الجيار حديث جاد وقال له : مهلاً .. مهلاً..قل لها ما هى حقيقة تلك الأسلحة ،أشار لها جاد ،بتلك الكلمات التى ذكرها الجيار،تناولت الفتاة المخطوطة الثالثة وما إن نظرت إلى محتواها، حتى طلي الخوف ملامح الفتاة ،ولفها الرعب، وارتجف جسدها ،وانتفض كالعصفور المبتل ،. غشيت الحيرة والقلق وجه الجيار الذي سارع بمحاولة إستجلاء غوامض الأمر : ماذا ؟ ..ماذا هناك ؟ الفتاة وهى تشير لجاد : مدن كاملة أقامتها حضارات قديمة، وكائنات سكنت الأرض قبل مجيء الأنسان ،وأسرار تحكى عن عوالم ذكية متقدمة تعيش بيننا . الجيار ::أي نوع من الأسلحة التى تركوها هناك . أشارت الفتاة إلى جاد الذي ترجم كلماتها قائلاً : أسلحة كونية ..يمكنها إنتاج شحنات هائلة من الطاقة ،تستطيع إفناء أجرام ،وعوالم كونية بعيدة ، قال عتريس : من يملك الذهب والسلاح ،يملك العالم .. فما أدراك بمائة مدينة مدفونة تحت الرمال ..مدن وأعمدة، وقلاع من الذهب وأسلحة كونية . قال جاد: حقاً الذهب هو الأغلى قيمة على الأرض ،خلع أبو جوده نظارته، وشرع في تلميع عدساتها وقال : الذهب هو فلز ثمين جداً وعدده الذري 79 في الجدول الدوري ،وأكبر كتلة من الذهب تم إكتشافها في إستراليا في نهاية القرن الثامن عشر ،لكن يبقى السؤال الأهم ؟..ماهو اللغز في حب العالم له وتخزينه وحراسته حتى صار المعدن الأوحد في العالم ،لكل قصة سبب وبداية ،كما هي الأحداث التى نعيشها الأن فما حدث في الماضي يتكرر في المستقبل.. ولكن بصور ،وألوان مغايرة .هناك إسطورة قديمة تحكى أن كائنات الأنوناكى كانوا يعانون من نقص عنصر الذهب في غلافهم الجوي لكوكبهم المسمى "نيبرو".. لذلك فكروا في البحث عن المعدن الذي يتخلف عن طريق الغبار الكونى ،وأثناء رحلة أحدهم إلى أبعاد سحيقه في الكون، هبط إلى الكوكب الأزرق واكتشف كميات هائلة من الذهب شمال أفريقيا ،وتم تخصيص عمال للحفر والتنقيب عن الذهب ثم قام العمال بالإحتجاج ورفض أعمال السخرية والمطالبة بحقوقهم ..فقام الأنوناكى بالإستعانة بفرق من البشر عن طريق ،إخضاعهم بوسائل ما ،للقيام بتلك الأعمال الشاقة وتخزين الذهب من أجل إرساله إلى كوكبهم المريض .. واستطرد ابو جوده قائلاً: ومازال البشر يُخزن الذهب دون فائدة تٌذكر منه سوى التخزين ،وهناك من العناصر ما هو أفضل نفع منه مثل الحديد. وهنا تسائل الجيار : تُرى هل يعلم كليمنت بوجود تلك الأسلحة !..يارفاق قد تتسببُ تلك المخطوطات حرباً كونية هنا ،ثم طوى أبو جوده المخطوطات قائلاً: شكراً لك أيها المخطوطة ،لاحاجة لنا بترجمة الباقي ..شكراً لك "سميرة" ..كنت نعم العون ..الأن فلنخلد إلى النوم أمامنا عمل كبير غد، ثم صاح : عتريس، وشناوي، ومدبولي ، الحراسة بأيديكم الليلة..لاتنسوا يارفاق

            .لم تنعم القاهرة بليلة هانئة منذ حادثة السطو الأخير،وصدى الحادث يؤرق مضاجع الجنرالات القابعين داخل العاصمة المحتلة .وسرعان ما دقت طبول الحرب ،وأطلق النفير من أجل إسترداد صندوق المخطوطات الذهبية .فتم الإستعانة بأفضل العملاء السريين ،لمعرفة الجهات التى تقف وراء الحادث . حيث عكف العملاء السريين على فحص المكان الذي تم فيه قطع القضبان، وفصل العربات ،وتتبع أثار الشاحنات الثلاثة ،والدراجتين البخاريتين ،ثم الإنكباب على تحليل رائحة البارود المتفجر التى تنبعث من العربات المتفحمة، والرصاص المتناثر بين القضبان .حيث أكدت الشواهد الأولى أن الأسلحة المستخدمة في عملية السطو تعود للصناعة الألمانية .ثم أسفرت التحقيقات الجارية وقتئذاً عن ضلوع كيانات تنظيمية تنتمى لأذرع المقاومة أحدهما كيان منفصل يُدعى عصابة الأربعين ،وهي المسؤول الأول عن تخريب القطار، وسرقة المخطوطات . تلقى الجنرالات في القاهرة سيلاً من التوبيخ والتقريع بعد سرقة المخطوطات، وقامت لندن بتأنيب الجنرال ميجور" أريكسون" لتقاعسه عن حماية القطار ،مما جعل مرجل الغليان يشتعل في عقول الجنرالات. فاضطروا لعقد إتفاق سري غير معلن، جرى بين زعماء المقاومة ، والجيش البريطانى ،تقضي نصوصه بالإفراج عن المعتقلين من أفراد المقاومة المحتجزين لدى المستعمر. مع إطلاق سراح المحكوم عليهم بالإعدام ،والإشارة أيضاً إلى وجود نية لدى صانعى القرار في بريطانيا ،إلى مغادرة مصر في القريب العاجل ،وفي المقابل مساعدة السلطات الحاكمة في القبض على عصابة الأربعين، واسترداد ما سلبوه من حقوق مشروعة تمس كرامة الإمبراطورية العظمى.
            سادت رياح الهدوء سماء البلاد ،ولطفت من الأجواء المحتقنة داخل العاصمة.وكأنه الهدوء المزعوم الذي يسبق هبوب العاصفة ،عمت الفرحة الأجواء المصرية بعد الإفراج عن المعتقلين، كانت سميرة تتردد كثيراً على الوكر، وتقوم على خدمة الرجال ،وتطهو لهم الطعام، وتغسل ملابسهم وتقرأ لهم عن طريق لغة الأشارات ،وكثيراً ما كانت تُحدث الجيار وأبو جوده عن أمنياتها في أن ترى الوطن ينعم بالحرية والإستقلال، وأنها تتمنى أن تذهب شهيدة فداء للوطن والأرض . وكثيراً ما كانت تحثُ الجيار الحفاظ على المخطوطات، كونها إرث قومي،لاينبغى لأحد التفريط فيه، وليس من حق أحد الإنتفاع به سوى الوطن وأبنائه، وترجو منه ألا يخضع للمغريات، ويفرط في إرث الأجيال .
            وبعد مرور شهرين على الحادث ،كان سعيد الحلوانى قابعاً في ورشتة ،وملابسه ملطخة بالزيوت والشحوم ، تراه يتمدد أسفل الشاحنة ،ليصلح أعطاب الشاسيه ،والمحرك المتهالك،فإذا به يُفاجأ بشاحنة تتبع الجيش الإنجليزي ،يترجل منها بعض الجنود ،ويقومون بجر شاب ،وإلقائه فوق بؤرة للمياة الأسنة، ثم مضت الشاحنة مسرعة حتى ابتلعها الطريق،تكاوم الأهالي حول الفتى الهزيل،فكان ظهره ملتهب بالسياط التى حفرت أخاديد في جسده ،حملوه بعيداً ،وحاولوا إسعافه ،لكن الأعياء نال من قوته ،فصار يتلوى من شدة الألم ، وكأنه ينازعُ في الرمق الأخير ،حتى فقد وعيه، وبرد جسده .هرع إليه سعيد الحلوانى لاسيما بعد صراخ النسوة اللاتى طلبن المساعده منه ،وضع سعيد طرف أصبعه حول عنقه وتحسس نبضه ،وفحص عينيه ،فتأكد أنه على قيد الحياة ،فكر سعيد ، كيف يمكن مساعدته ،فغاب بين الحشود، ثم أتى برفقة أبو جوده وعتريس ، قام أبو جوده بفحصه ،وكتب روشته سريعة ،تحتوى على مراهم ، وشاش طبي ،ومضادات حيوية الخ... ثم حمله عتريس ،وأدخله الشاحنة التى مضت مسرعة، تنهب الطريق إلى الوكر من أجل تضميد جراحه النازفه، والعناية به حتى يسترد عافيته .أثارت جروح الشاب عاطفة سميرة،فتذكرت شقيقها الذي لقى حتفه على أيد الإنجليز فدأبت
            "سميرة" على الإعتناء به ،والسهر على تمريضه ،فكانت تعطيه الدواء في وقته ،وتقوم بإطعامه حتى استعاد القليل من عافيته .تأثرت الفتاة بإصابته ،وتألمت للجراح المتراشقة في جسده الهزيل، حتى شبت رياح العاطفة ولفحت قلبها، فرقت روحها له وسكنت إليه ، ثم رنا إليه بعين المحبة والوله ،حتى تخدر قلبها ،وذابت في ينابيع العشق والهوى ،كان يدعى عمار شاب فلسطينى أزهري ،تم القبض عليه ،أثناء المظاهرات المطالبة بالحرية والإستقلال ،ومغادرة الإنجليز للإراضي المصرية ،تم جلده وتعذيبه ،وما سقط معه من رفاقه غُيب مطموراً في السجون ، كما حكى أمامهم بإسلوب درامي يستنزل به الدموع ، ويستذرف به الصدوع ،مكث أياماً حتى التئمت جراحه ،وتوطدت علاقته بعصابة الأربعين ،وخاصة الفتاة سميرة ،وتمكن في فترة وجيزة من إكتساب ثقتهم ،واستمالة الفتاة إليه عبر قلادة بسيطة أهداها إليها فيما بعد ، وذلك من خلال قصة مؤثرة تعود لوصية والدته التى حثته على حسن اختيار الفتاة التى سيقترن بها ، بالإضافة إلى إطلاق الدعابات ،وإثارة العاطفة الجياشة داخلها ،حتى خمش قلبها،بمخالب الحب فسقطت في بحر الهوى ، وظل يراودها عن نفسها حتى تهاوت قلاع الفضيلة ،وشربا سوياً من بحر الرزيلة، خاصة بعدما علم بمعرفتها عن أسرار المخطوطة وأين تُخفى .ثم عرض على سميرة الزواج منها ،فكادت تطير فوق الأرض من شدة الفرحة ،وحلق فؤادها المترع بالنقاء ، فوق مروج السعادة .لكن عتريس لم يتجرع كؤوس الخديعة دفعة واحدة ، دون أن يرتشف أول دفقة ويبحث عنها بواسطة مجسات الفحص، ومجهر الكشف. إذا كان عتريس يحمل في قلبه مشاعر الريبة والقلق من الوافد الجديد ،ولم تفلح مساع مدبولي من تبديد الهواجس التى تنتابه ناحية الفتى ،وفي ليلة الزفاف، دقت الطبول، ورفرفت أعلام الفرحة فوق شاطيء السعادة ،وتبادل الرجال وصلات الغناء والرقص،وحفلت الموائد بأطايب الأطعمة والفواكه،ثم شيُع العروسان إلى مخدعهما ،حيث تبادلا العناق والقبلات وغاصا سوياً في نهر المتعة والسعادة ..
            إستيقظ عتريس مبكراً ،وساورته الشكوك حيال رفاقه الذين سقطوا في نفق النوم العميق،أنصت عتريس لدبيب صامت تهتز له حشائش النهر ،فرأى كتائب من الجنود الإنجليز المدججين بالأسلحة والعتاد قادمين بإتجاه الوكر ،حاول إيقاظ رفاقه دون فائدة ،علم أنهم سقطوا في المصيدة لا شك ،دنت الكتائب الإنجليزية من الوكر وتمركز بعضهم خلف الحشائش، ومراكب الصيد ،وصوبوا أسلحتهم باتجاه الوكر ، وماكادت نيرانهم تُصلي ساحة الوكر. حتى فوجئوا بوابل من الرصاص والقذائف تنهال عليهم من كل جهه.خرج رجال المقاومة من الجحور ،ورشق رصاصهم ستائر الهواء والجدران ،فأتيحت الفرصة لعتريس كى يُنقذ أصدقائه ، تفقد عتريس صندوق المخطوطات فوجد أن الحفرة قد نُبشت، ونزعت مغاليق الصندوق الخشبي ،وسُرق ما في داخله .حمل عتريس رفاقه داخل أحد الشاحنات، وقام رجال المقاومة بتغطية عملية الإنسحاب،تسلل عتريس بين ستائر الدخان وحاول أن ينقذ عمار و"سميرة" ،لكنه صُعق عندما وجد الفتاة مذبوحه ،ودموعها قد سالت على نحرها ،وهي تشكو غدر البشر ،غادر عتريس بوجه مكفهر يتشظى بمرجل من الغضب والوعيد ،ويكيل اللعنات والسباب لذلك الغادر المأفون. وعندما استيقظ رفاقه داخل الشاحنة ،كانت رؤوسهم مثقلة من أثر الشراب فتسائلوا جميعاً أين نحن ..كانت الصدمة تخيم على وجه عتريس ،وهو يشير إلى جثة ممددة ،حيث صعقوا عندما شاهدوا وجه سميرة وهو ملطخ بالدماء .قال عتريس بصوت شجي متقطع :لقد قتلها الخائن الوضيع ،وسرق المخطوطات ،وأبلغ الإنجليز عنا .ثم أسند ظهره لحائط الشاحنة، وخنق سيجارة بين أصبعين داميتين ،وغاب في سحابة من الحزن والألم .صعق جاد وانهمرت الدموع من مقلتيه ،وحمل جسد الفتاة بين يديه وعانقها ،ثم رفعه بصره إلى السماء وأطلق صراخ أليم ،حتى علا نحيبه واخترق حجب الفضاء .الشمس في طريقها للزوال ،والشفق الأحمر يكسو تيجان الأفق الغربي،كان الرفاق يشيعون جثمان سميرة ،ويذيلون قبرها بأيات الحزن والرثاء ،ومرجل الغليل ،يستعر تحت موقد الثأر والإنتقام ،وقف جاد أمام قبرها ،يرطب ثراها بدموع الذكريات ،يتذكر ضحكتها البريئة ،ويجلد روحه المستعرة بالغضب ،ونفسه التى فرطت في حمايتها ،سكب جاد من قنينته بضع قطرات من الماء فوق قبرها وأقسم بأغلظ الإيمان على الإنتقام لها


            التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 20-11-2021, 12:45.
            الحمد لله كما ينبغي








            تعليق

            • عبد الحميد عبد البصير أحمد
              أديب وكاتب
              • 09-04-2011
              • 768

              #7
              مشاعر الإخفاق، والهزيمة الجسيمة ، تسود بين أفراد عصابة الأربعين في يوم كئيب ،جراء الحادث الأليم الذي عصف بكيانها ، وهز جدرانها.وبعد مرور أيام على مُضي الفاجعة ،اجتمع الريس زينهم زعيم المقاومة الشعبية أنذاك، بأفراد عصابةُ الأربعين ، وأبدى تعاطفه الشديد للمصاب الأليم الذي حل بهم ،.لكن الجيار تسائل قائلاً : السؤال الذي يدور بخلدى الأن ومازال عالقاً في ذهنى ،كيف ..كيف حدث هذا؟ كان الأمر مرتباً على نحو خطير .ابتسم زينهم، وكان سميناً أبيضاً ،مُشرباً بحمرة، ذو لحية سوداء، كثة مخضبة بالحنة : هون عليك ..لقد ظن المُعربد أقصد الجنرال الأحمر المدعو "إيزاك" أننا قد إستسلمنا بسهولة ،وتركنا ساحة المقاومة ،والنضال ،وتخلينا عن مبادئنا وقيمنا ،من أجل حفنة جنيهات،في مقابل أن ينعموا بقليل من السلام ،.لكننا ياصديقي كما تعلم رئتنا تستنشق عبير الحرية، عبر البارود وأعمدة الدخان ، وكلما كان في أيدينا وسيلة للمقاومة لا نهدأ ولا نكل ، في الدفاع عن حقوق الوطن المسلوب، وطرد المستعمر الغاصب. ثم التفت إلى الجيار، وقد غشيته إبتسامة ماكرة فابتسم بناجذه :يجب عليك أن تشكر صديقك القديم ،وهنا بدت سحب الدهشة ،تغزو وجه الجيار المترع بعواصف الألم والحزن : من تقصد ..لوجيانو !وهنا رنا الجيار وجه المغرب، وشاهد سحب الأفق الأحمر، وهى تجتر متثاقلة أردية الرحيل ،فغاب عقله في غلالة من الشرود والتيه، ثم استفاق قائلاً: إننى بحاجة إلى أن أقابل لوجيانو في أمر هام ،وهنا رفع أبو جودة رأسة المطرقة ،وفهم مايعنيه الجيار فقال : ولم العجلة ياصديقي ..أليس الصبح بقريب .
              الصباح الوردى يهمس برفق في أذن النهار، ويتمدد على استحياء قبل شروق الشمس ،وسوق الوايلي العتيق لتجارة الأسماك البحرية، يكتظ أول النهار بالباعة الجائلين ،وطاولات الثلج تهتز بقوة فوق الأعناق المشرئبة لبلوغ الأسواق. العمال يهرعون ذهاباً وأياباً، لنقل الأسماك من قوارب الصيد إلى الشاحنات، ثم إفراغ الألواح في السوق الكبير .كان لوجيانو يطوف بين الباعة ،يحاول أن يشتت الأنظار، والعيون التى تراقبه، وترصد كل تحركاته ، وماهى إلا ثوان معدودة، حتى غاص بين االجموع الغفيرة ،والحشود المتنازعة حول طاولات الأسماك ، وشرع يطوف بين المنافذ السمكية ،والباعة المقتعدين فوق الأرصفة .ثم اقترب من طاولة سمكية ،وشرع يستفسر من البائع عن أسعار السمك البوري، والبلطى، والقارص ،والهامور...،وهنا رفع الصياد قبعته قائلاً: شكراً لمجيئك ياصديقي . الصجفي :مرحباً عزيزي
              أدهم : لن أنسى لك مافعلته
              الصحفي :
              صديقك القديم يرسل لك تحياته
              الجيار:أريد منه صنيعاً أخر
              الصحفي :
              أعلم ماتريد ..ثم نقضه ورقة نقدية :أريد واحد كيلو من البلطى، ومثله من البورى ولاتنسى القليل من الجمبرى ،دعنى أرى .ثم أشار له بمؤخرة عينه :
              الهدفُ الذي تبحث عنه ، عميل بريطانى مزدوج ، لص لئيم ينحدرُ من أصول عربية ..يُدعى عارم الديلمى، منذ أيام كان يتسكع في غزة ، لكن الجرذ رصد عيوننا فهرب إلى حيفا ،من أجل أن يساوم جهات إستخباراتية على بيع المخطوطات.قلة من هذا الشطر في العالم يعلم بقصة المخطوطات وما تعنيه تلك الثروة .الأمريكان يتصدرون المشهد ..يقترحون عروضاً قوية حتى الأن .الجيار

              :سنرحل إلى غزة .. لكننى أريد منه صنيعاً أخر .. الكثيُر من المؤن والعتاد ..فقد يروق لنا المقام هناك الصحفى :لابأس ياعزيزي ..فقد يطيب لي المقام معكم أيضاً، ثم نقضه الجنيهات المصرية ،وغادر لوجيانو سوق الأسماك .
              كانت القوات الإنجليزية تحكم قبضتها على المدن المصرية ،وتفرض حظر التجوال ليلاً . وفي الليلة الموعودة، تحركت سبع شاحنات بقيادة عتريس ،وغريب ،والشناوى ،وجاد ،وأبو شعر،والإبراهيمى ،وابو جوده ،يحملن في أحشائها قنينات من الخمور، كالفودكا،والمارتينى...ممددة داخل صناديق خشبية ،منضودة فوق بعضها، ومحشوة بألياف من العشب الجاف، منعاً للإحتكاك والكسر ،وأسفل الزجاجات ،تتمدد قطع الأسلحة الألمانية التى أُعيد تركيبها فور الوصول. كانت الحواجز ،والكمائن ، التى نصبها الجيش الإنجليزى بإمتداد الطريق ، كفيلة بتضييق المساحات على الهاربين ، وملاحقة المطلوبين منهم ،وتجفيف كل الوسائل التى تتيح لهم طرق الدعم والمساعده .وأثناء المرور على أحد الأكمنة المزروعة على رؤوس الطرق ، إعترض أفراد من الجيش الإنجليزي الشاحنات، وقاموا بتفتيشها وتوجيه الشتائم والسباب لسائق الشاحنة ،وفي أثناء ذلك كان عتريس ممدداً داخل تابوت خشبي ،يخمش بأظافره مقبض السلاح المستلقي فوق صدره ،ويتحسس كل برهة سلاحه الآلي،وعيناه تجول في كل زاوية تعتقل الهمسات ،التى تصدر من الخارج، وتتحين الفرصة للإنقضاض عليهم والفتك بهم ،لكنه تراجع بعدما تمكن أبو جوده من خداعهم والإحتيال عليهم ،فوجدوا زجاجات الخمر،ممدة داخل الصناديق الخشبية ، وأدعى أبو شعر أنه تاجر يهودي في طريقه لنقل الحمولات إلى الحانات القريبة من المعسكرات الإنجليزية، وتذرع بحجة أنها تُقدم مجاناً للجنود الإنجليز ، بسبب وعد بلفور ،ومساندة إنجلترا لليهود في حرب 1948 ،ثم منحهم صندوق من الخمر المعتق مجاناً ليسمحوا لهم بالعبور .وفي مساء السبت بعد منتصف الليل ،إنطلقت ثلاث شاحنات أخرى،يحملن الرجال والمؤن داخل الصحراء المصرية ،قاصدين غزة حيث كانت الحدود غير مؤمنة، بسبب حروب 1948 وبعد مسيرة ليلتين في غبار الصحراء. وصلت الشاحنات، وعسكرت قبالة غزة ،ثم خيمت قرب المناطق المتنازع عليها بين العرب وإسرائيل ،حيث كان في إنتظارهما عدنان الشوكى ،وصهيب الفلسطينى ،عضوين بارزين في منظمة التحرير، والدفاع عن الأراض الفلسطينية .حيث قال عدنان :سمعنا بنبأ مقدمكما .لم نصدق ..لكن العالم مكان غريب .خمش الجيار لحيته برفق وقال : لديكم مطلوب لدينا . قال عدنان وقد ابتسم ساخراً :تقصد الديلمى، الجيار : هو ذاك، عدنان : مالذي سرقه منكم هذا الجرذ، وأنتم من أنتم ! عصابة الأربعين ،أكثر التنظيمات المسلحة شراسة، وشهرة في العالم ..الرجال الأشداء ،والأبطال الأفذاذ الذين لم تصمد أمامهم الأمبراطورية العظمى .ورجال هتلر المخلصين ..صحراء العلمين ماتزال تتغنى بأمجادكم الجيار : لسنا رجال أحد ..إننا نعمل لأنفسنا وحسب ،ولسنا مرتزقة كما تظن يا عدنان : لا تغضب ياصديقي ..إننى أمزح فحسب..حسناً ..إليكم الصفقة كما تجري العادة ..سنحضر ذلك الجرذ بين أيديكم ،ونسلمه لكم ، مقابل ثمن زهيد ،الجيار: أي مال تريد؟ عدنان : نحن لانريد المال ياصديقي ..ثم جذبه من ذراعه، وخرجا إلى الهواء الطلق،يجدر بنا الحديث قليلاً :لدينا حامية محاصرة في قلعة قريبة من وادى كيناروت ،نريد أن نشق طريقاً من أجل إرسال الإمدادات والتعزيزات العسكرية . وهنا فكر الجيار، والتفت إلى رفاقه، ثم قال : أي طريق تقصد ؟ عدنان :نريدكم طرفاً في المعركة ..تعلم جيداً أن غالبية الجيوش التى تحارب هنا ليس لها فائدة ..فالأسلحة التى بأيديهم تتميز بالحداثة والسرعة ،نحتاج إلى الخبرة والإحتراف ،الحرب بات يميل ميزانها إلى اليهود والحلفاء ..بسبب نقص الخبرة وقلة التدريب.. الجيار :ليتك تكون أكثر وضوحاً . عدنان :بمعنى أخر حصن آخيل هو الورقة الأخيرة في محصلة الجيوش العربية ..لديكم الخبرة والإحتراف ،والمهارة على القتال الفردي والجماعي ،والتشكيلي ..نحتاج إليكم في تدريب عناصرنا ،وقيادة الهجوم القادم للدفاع عن حامية الحصن ،ريثما تأتى التعزيزات العسكرية من الجيوش العربية ،نحتاج إلى الوقت فقط. الجيار :أحتاج إلى الوقت .. ليس الأمر سهلاً ..لدى شركاء . ثم مضى الجيار في طريقه، وقد خيمت سُحب التفكير على جهه ،وتراكمت الأثقال فوق عقله وقلبه .. وكثُرت الهموم فوق رأسه المترع بالغصص والعلل ، ورغم معارضة بعض الأفراد للأتفاق الوشيك بين المقاومة الفلسطينية والجيار، إلا أن الغالبية منهم أبدوا موافقتهم مقابل القبض على ذلك اللص ،وإستعادة المخطوطات . تمكن أفراد المقاومة الفلسطينية من تتبع أثر عارم الديلمى ،واكتشاف مخبأة ،وتمت حياكة الشباك من أجل سقوطه في الفخاخ ،حيث تنكر أفراد المقاومة في شكل عملاء روس ،وتمت المقايضة على تسليم المخطوطات مقابل حفنة من الماس ، وتحركت كتائب من عناصر المقاومة الفلسطينية ،حيث تمكنوا من القبض عليه، واقتياده إلى جهة غير معلومة ،وأثناء التحقيق معه دخل أفراد عصابة الأربعين، وعلى رأسهم الجيار، وأبو جودة، والإبراهيمى ،وجاد،وغريب ،وعتريس. صعق الكنعانى عند رؤيتهم ،وصرخ طلباً للعفو والرحمة ،لم يتمالك جاد نفسه، فوثب فوقه حتى ارتقى فوق جسده ،وسدد إليه اللكمات حتى نزف الدماء، وطفحت من فيه ،وصرخ :أيها الوضيع .. يابن الساقطة ،ماذا فعلت لك الفتاة ..حتى تقتلها ،لقد كانت بريئة نقية ..لقد نزعت أرواحنا ، لن أتركك حتى أقتلع أحشائك العفنة .ثم رماه إلى الحائط ، فأمسك به عتريس، وقبض على رأسه، وخنقه بيديه قائلاً: لم أكن أحبك من البداية ..ثم قيده ووضعه في عربة جيب قائلاً :لديك فرصة ذهبية للفرار، ثم تناول صفائح البنزين، وسكبه فوق رأس الديلمى ،وألق بجواره خنجر ،ثم أشعل ،سيجارة قائلاً :العالم مكان غريب كالعادة ..عندما يعج باللقطاء ،وأبناء العاهرات أمثالك .ثم مضى في طريقه بعض خطوات .حاول الديلمى أن يزحف ويتناول الخنجر ،لتقطيع القيود ،توقف عتريس برهة، وتناول السيجارة المخنوقة بين شفتتيه ،ثم ركلها عالياً بأصبعه ،لتحلق في الفضاء ،كأنها يرقة فراش تبحث عن الحرية بين طبقات الهواء ،فلما عجزت عن اختراق مصدات الهواء نزفت ،وهوت داخل السيارة ،وعندما شاهدها الديلمى صرخ :لا ..لا فاشتم البنزين رائحة اللهب وسرعان ما اشتعلت النار في جسد الديلمى وصارت المركبة كومة متفحمة من النار .حمل رجال المقاومة صندوق المخطوطات إلى الجيار وقال زينهم : لقد وفينا بأحد أطراف العقد المبروم بيننا ،والكرة الأن في ملعبكم .نظر أبو جودة إلى الجيار قائلاً :هذه المخطوطات ..يجب أن تعود إلى الديار المصرية ،وتُحفظ في مكان آمن بعيداً عن الأخطار، نظر الجيار إلى شقيقه جاد ..فشعر جاد أن شقيقه سيختاره من ضمن المغادرين، فأغرورقت عينيه بالدموع وأجهش بالبكار وأصر على البقاء برفقتهم .لكن الجيار احتضن شقيقه وقبل رأسه قائلاً .عليك أن تعود ..أنت الوحيد الذي يمكنه أن يقوم بتلك المهمة ..ثم دفعه قائلاً :هيا ..حمل الرجال صندوق المخطوطات إلى الشاحنة ،ومضيا يخترقان الحدود في طريق العودة .ثم صاح الإبراهيمي :لدينا عمل يجب علينا إنجازه ،ثم غادرا في طريقهم إلى حصن آخيل. حيثُ كانت القوات الإسرائيلية المدعومة بالطائرات، تقوم بقصف حصن آخيل المنيع .ولكن إستبسال الحامية حال دون سقوطها ،فسارعت إسرائيل بتكثيف الغارات ،والقضاء على التعزيزات العسكرية ،التى حاولت الوصول إلى الحصن .وبعد نفاذ المؤن والعتاد ،أرسل قائد الحامية البكباشي فؤاد عزيز ،رسائل إنقاذ واستغاثة إلى كل الجيوش العربية لإمداد الحامية بكل ما تحتاجه من أجل الصمود في وجه العدو .لكن محاولات إمداد الحامية بالتعزيزات باءت بالفشل بعد أن كبدت القوات الإسرائيلية المدعومة بالعصابات الإجرامية، الجيوش العربية خسائر فادحة في الجنود والعتاد ،وتمكنت عصابة الهاجاناه من التسلل داخل الحصن، وقتل البكباشي فؤاد عزيز أثناء قيلولته .

              حصنُ آخيل كان يقع في منطقة نائية ، يلفُها مثلث من الجبال الصخرية ،وتتميز بالتضاريس الجغرافية الصعبة ،حيث القطع الصخرية الناتئة من باطن الأرض تشبه الأبراج ،وتغطي مساحة كبيرة منه، إضافة إلى الأنفاق الدودية التى يستخدمها الجنود في نقل المؤن من الطعام والسلاح ،مع إنتشار كثيف للأشجار والصخور ، مما عزز من مناعته وتحصيناته الدفاعية ،عسكرت عصابة الأربعين قريباً منه وقام أفرادها بالتعبئة العسكرية ،وأعداد الخطط للتسلل إلى الحصن ،ومراقبة حجم الإنزال العسكري للعدو عن طريق البر والبحر .

              التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 21-11-2021, 12:56.
              الحمد لله كما ينبغي








              تعليق

              • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                أديب وكاتب
                • 09-04-2011
                • 768

                #8
                كان الليل عنيفاً، شرساً، قاسياً،كوحشٍ بربري، يرقُص ،ويُزمجر فوق جُثة الفريسة ،ثم يسحق بقايا العظام والأشلاء، ويذرها عالقة في الفراغ. ويتجرع في نشوة نخب الإنتصار على الأرواح المهزومة التى ذرتها الرياح في الفضاء والعدم .ثم يُسكب قطرات الدماء الساخنة فوق العظام ساخراً" الدم هو الحياة"..
                الفجر يجُر رداءه الفضي المشوب بنسماته الباردة ، مثل قديس يمشي على استحياء، يتمنى أن يتلو صلواته قبل العشاء الأخير ،وفي الصباح ، يتسلق قرص الشمس سُلم الأفق رويداً ،ليستدير متأوهاً عند عتبته القريبة ، وترى السماء الزرقاء ،باتت تختنق أنفاسُها غرقاً تحت الأمواج المتلاطمة، والمعربدة لذرّات البارود وشظايا النار،. وبعد مرور ثلاثة أيام من إجتياح غزة ،تسللت حفنة من الميليشيات اليهودية ،وبعض المرتزقة من عصابات الهاجاناه، وتمركزت داخل النقاط الأمامية التابعة للحامية العسكرية المرابطة حول أسوار الفالوجا ،في محاولة إستفزاز الحامية العسكرية داخل الحصن . ظن العرب أن اليهود يحاولون تشتيت الإنتباه من أجل تخفيف الحصار عن باقى المناطق التى تشهد معارك ضارية قرب غزة .حرك اليهود وقتها رتلاً عسكرياً كبيراً، ورابض خلف الجدران ،والمنازل المهجورة ، وداخل الخنادق التى أقامها حال الإنسحاب والتقهقر إلى الوراء، وأنشاء تقاط دفاعية حصينة في أعماق الحفر، التى زرعها داخل رؤوس الطرق ، وسدود الرمال التى أنشائها حال الدفاع والهجوم . ثم أقام العدو نقاط دعم مركزية للإتصالات ،وتحديد أماكن الأهداف، وكشف الثغرات . ثم تصدر المشهد في الخطوط الأمامية كتيبتين يناوشون الحامية بالأسلحة التقليدية الخفيفة لإخفاء نوايا الهجوم السريع . كانت المكيدة أشبه بخيوط العنكبوت التى تلتف حول اليرقة ، تكاد تكون "مقصلة هانيبال للإيقاع بروما ، في وقت إرتدت فيه المقصلة وقصفت عنق هانيبال " وأقرب قليلاً إلى فخ طرواده حينما صنع الذئاب عشاء للخراف " هكذا أشار أبو جودة في حديثه قائلاً :اليهود دائماً يخشون من مقصلة هانيبال المرتدة، إنه الخوف القديم الذي يعتمل في القلوب ..لا أعتقد أنهم أذكياء في الرهان على عامل الحسم ،ومحاولة الهجوم الخاطف، خشية نزيف أخر من الخسائر في الأرواح والعتاد ،وإن كنت أرجح ذلك على المدى القريب .. إلا في حال وصول الإمدادات والتعزيزات من الغرب . على الجانب الأخر من الحرب الدائرة في عموم فلسطين. ظلت الجيوش العربية ساكنة ومرابضة في معسكرات الأردن ، يحلقون دوائر من التيه، ظنوا أنهم يحتجزون اليهود ولم يفطنوا أن من يخُط الدائرة يكون داخلها. أشعل أبو جودة سيجارته التى تأجج دخانها في الغرفة، وهو يشير إلى الخريطة الممددة فوق الطاولة قائلاً : يمكننا المساهمة في تغيير بوصلة الحرب برمتها، في وقت يمكن للعرب أن يستعيدوا ما ُسلب منهم خلال الأيام الماضية،مثلما حدث في وادى كيناروت. اليهود دائماً يعتمدون في حروبهم على عامل الإرهاب والمكيدة، وتشتيت العقول من خلال إضعاف البنية النفسية داخل أعدائهم ، ثم تناول كوباً من الماء ،أفرغه في جوفه دفعة واحده ،وأردف قائلاً : عند وصول الإمدادات ،سيقل التركيز ،ويمنحنا الوقت حيز ضئيل للهجوم الخاطف السريع ،وقتها سيتكبد العدو خسائر فادحة ،مما سيمنحنا ورقة أخرى، وهي المزيد من الوقت ،لأنهم سيعيدون تنظيم صفوفهم وعتادهم خشية الهجوم الثانى، وسنلغى من رؤوسهم بصورة مؤقته حتمية الهجوم الحاسم ..لابد أن حصن آخيل يمثل لهم أهمية كبيرة.لا أدري ماهي في الوقت الحالى ؟، الصبر دائماً ما يُفصح عن الكثير من الأسرار .لكن قائد الحامية أسعد باشا الخازندار كان له رأي أخر ،حيثُ رفض الأخير ، فكرة الهجوم المضاد ،وتمسك بالأوامر الصادرة من قادته بعدم الهجوم والإكتفاء فقط بالدفاع عن الحصن..ريثما تأتى التعزيزات ،من خطوط الإمداد المتمركزة على أطراف غزة .
                في اليوم الرابع كانت الجيوش العربية تفكر في كيفية إستعادة غزة ،وكانت الفرصة سانحة أمام اليهود للإنقضاض على الفالوجا ،مما أتاح الفرصة لبعض الكتائب اليهودية من إقتحام النقاط الدفاعية للمدينة
                ،والإستيلاء على بضع أميال داخلها . مما جعل الحامية العسكرية تققهقر إلى الوراء ،وتتخلى عن بعض النقاط الدفاعية الأمامية ، وانكفأت تناوش الميليشيات اليهودية المتقدمة ،ريثما تأتي التعزيزات من الجنوب، ولم يتبقى لديها سوى الدفاع عن حصن آخيل . أدرك اليهود أنها مسألة وقت ،فاشتبكت قواتهم المدججة بالأسلحة الحديثة مع التعزيزات القادمة من القاعدة العامة لهيئة أركان الجيوش العربية في الأردن ، من أجل قطع الإمدادات والعتاد عن حامية الفالوجا. حاولت الكتائب العربية إستعادة الفالوجا .لكن القرار الأممى الذي صدر بوقف إطلاق النار ،حال دون ذلك، فصدرت أوامر بالإنسحاب والعودة إلى النقاط المركزية، لكلا الطرفين المتنازعين .إستطاع اليهود إخفاء حقيقة وجود حامية لاتزال تستبسل في الدفاع عن الفالوجا حتى لا يربح العرب على طاولة الصراع ، ورقة يقايضون عليها ،ويكون لهم أحقية المطالبة بها وإستردادها .
                في الشطر الأخر من العالم، كانت الدول العظمى تتابع مجريات القتال عن كثب ، وعلمت إجهزة الإستخبارات لديها أن اليهود يتسترون على وجود حامية عربية ماتزال قابعة في الفالوجا ،وترفض الإستسلام .في الوقت ذاته حاول العملاء الأمريكان عقد صفقة مع عصابة الأربعين للتخلى عن المخطوطات الذهبية وتسليمها مقابل مبالغ مالية طائلة ،وتوفير ممر آمن لهم ،بالإضافة إلى هوية جديدة، والعمل على حمايتهم ،لكن المحاولات بائت بالفشل، واتخذت عصابة الأربعين قرار حاسم بعودة المخطوطات إلى مصر وإخفائها في مكان غير معلوم .وحتى لا يتركوا ثغرة للتردد والتراجع، أصر الجيار على عودتها في تلك الليلة ،بعدما حاول غريب وعتريس دعوة الرفاق للتريث ومناقشة الخيارات المتاحة بجدية حتى لايندموا فيما بعد،خاصة أن العرض المقدم يتيح لهم الرحيل إلى بلد آمن ،والتنعم بحياة هانئة سالمة .
                داخل المعسكر مسح عتريس شاربه ،واخرج علبة فضية من جيب سترته ،وتناول منها سيجار "كان "الألمانى وأشعل اللهيب في سيجارته ،ثم رنا إلى الأفق، ورمق النجوم البعيدة ،وهي تضوى تحت الغيوم الثكلى بالمطر وقال: يارفاق أرى أن العرض الذي لدينا هو أفضل الخيارات المتاحة حتى الأن ..لايمكننا أن نغامر ،أو نجازف دون حسابات ..يارفاق علينا الرحيل والقبول بالواقع ..قريباً ستختنق السماء بدخان الحرب ،لدينا فرصة كبيرة لتحقيق مكاسب آمنة ،ثم التفت إلى الجيار بعد أن سحق السيجارة تحت قدميه ، أيها الزعيم لا أرى أن تُغرر بهؤلاء الرفاق الذين لطالما وضعوا رقابهم بين يديك ،لن يجدى في ذلك الوقت ترجيح ميزان الحماس ياصديقي، أرى أن تُشاهد الأحداث بميزان المصلحة العامة ..فإذا أردت أن تمكث وحدك فتلك معركتك أنت ..ولن نخاطر بأرواحنا من أجل أن تسدد ديونك ..زمام الأمور بدأ يتفلت من يديك ياصديقي..يؤسفنى أن الأحداث الأخيرة قد أثرت على موازين الحكمة والعقلانية لديك .وهنا غضب الجيار، واحمر وجهه من شدة الغضب وأمسك بقميص عتريس قائلاً : والدماء البريئة التى سفكتها الأيادى الآثمة،سميرة ..هل نسيتُها؟ ..وكل الرفاق الذين زُهقت أرواحهم ،ذهبت هباء بين أفكارك القبيحة، انفجر عتريس هو أيضاً ،وتلمظ من الغضب بعد أن نزع يدي الجيار عن قميصه بقوة : أنت تفكر في نفسك فقط ، هل استيقظ ضميرك الأن ؟، أخبرنى ، ماذا أخذنا من الوطن المقهور.الوطن المسلوب ، غير القيود ، والهروب ،ثم الهروب ،لم نحيا مثل الأخرين ، أنظر إلى هؤلاء .. نحن نجوب الطرقات والمدن في الظل ،والعتمة، نختبيء مثل الزواحف ،ونعيش في الجحور والأوكار مثل الجرذان ،نلتهم الطعام مثل القردة ،والكلاب الضالة، نخشى رصاصة غادرة يطلقها الخوف المتغلغل في إحشائنا منذ عقود ، هل فكرت في أن يكون لديك أسرة ؟،عائلة ،أطفال . لقد كنت أحلم مثل الأخرين.. لكن قطار العمر مر سريعاً، وخط الشيب في رؤوسنا جسور اللاعودة ،هناك من يتنعم بالحياة ،السعادة ،ودفءالعائلة، والأبناء ،ونحن نعيش في الظل والطين، ولا نأكل إلا الفتات كالفئران . ثم رفع رأسه في كبرياء وقال ساخراً: ينبغي عليك أيها الزعيم الفذ أن تدرك أن قواعد اللعبة تغيرت هنا ،ولم تعد الأمور تجري على الطريقة القديمة المعتادة ،يجب عليك أن تأخذ في الحسبان المصلحة الكبرى للمجموعة التى تقتضيها الأمانة العامة التى خولناك إياها ،خاصة بعد رحيل زعيمنا تيفور الناسك ،أم أنك قد نسيت تيفور ..تيفور الذي افتدى حياتك بحياته يوماً من الإيام، وقد قطعت معه عهداً بمواصلة الطريق والحفاظ على مصلحة المجموعة . أيها الزعيم ليس لك الأن أن تتخذ قرار منفرداً فيه هلاكنا جميعاً ..أنت لا تدرك خطورة الوضع، ثم حدق في وجه رفاقه وأشار إليهم : يجب أن تراعي تلك الحقوق لا أن تدفعهم للموت والفناء حيث لاعودة .. ليست هذه معركتنا ..هل تجازف بمواجهة قوى عسكرية كبرى..الدول المنتصرة في الحروب الأخيرة ستزحف إلى هنا من أجل المخطوطات..جهنم ستوقد نيرانها هناك.. وأشار إلى الحصن، ثم إلى المخطوطات الساكنة داخل الصناديق ، بسبب تلك المخطوطات اللعينة ستندلع حرب ضروس هنا ؟ ..يا إلهي .. أخشى أنك قد أصبت حقاً بعقدة آخيل ..آخيل الذي خدعه صديقه ، وحدثه عن ذكراه التي سُتخلد وُتبعث بعد مقتله..ثم أشار إليه غاضباً : أنت شخص أنانياً حقاً !.. لا يجيد إلا البحث عن ذاته، ولو فوق التضحية برؤوس الأخرين ،هل جُننت في عقلك أيها الزعيم .!،وهنا إنفعل الجيار ولم يتمالك نفسه ،وغضبا غضباً شديداً ،فصرخ في وجهه ،وقام بصفعه على خده . حاول الرفاق تهدئة الأجواء،. لكن عتريس غادر الإجتماع بوجه مكفهر يتلظى من شدة الغضب ، وهو يكيل اللعن للوقت والمكان .غشيت سحابة من الحزن والندم وجه الجيار، لكنه تمالك نفسه ودعا الرفاق لإجتماع عاجل قائلاً: كنا مرتزقة ،نقاتل من أجل المال فقط ،ولم يكن هناك سوى أنفسنا ،لم نكن ننتمى لشيء سوى المال والبارود،حصدنا الكثير من الأرواح ، وخضنا الكثير من المعارك ،من أجل المال فقط ،ليس هناك الكثير لتعرفوه ،لكن تلك الفتاة لها دين في أعناقنا ،ثم رمق إلى السماء :أشعر أن النهاية قد دنت يا أصدقائي، ثم استدار إليهم ،من يريد منكم الرحيل ،فليذهب ،كل شخص لديه حق الحرية والخيار .لكننى سأمضي في طريقي ،سأقاتل هنا لشيء قد أجهله حقاً، لكنه ينمو داخلى، شيء حدثتنى عنه تلك الفتاة يوما ما . ثم امتشق بندقيته ،قائلا :لأجل سميرة التى مازالت روحها تحلق ها هنا ..في ذات المكان ،ثم تمتم بنفس الكلمات المخنوقه ..في ذات المكان.ثم إلتفت إلى جاد وأمره بحمل المخطوطات إلى مصر، وإخفائها في المكان المتفق عليه،نظر إليه جاد وقد إغرورقت عينيه بالدموع : كنت أريد أن أبقى معك ..أقاتل إلى جانبك، كما كنت أفعل دوماً ..ربت الجيار على كتفه ثم عانقه بقوة ..لاتقلق يا أخى ..سأعود ،سنعود جميعاً ،وسنلتقى هناك ،في بيت العائلة ..هيا أمضي ،ولا تخذلنى ،غادر جاد برفقة المحاربين بعدما حملوا المخطوطات إلى الشاحنة .نظر أبو جوده إلى قلاع الفالوجا ،وأنفاسه تحمحم من الغضب : لدي إبنة أخى تدعى كلير.. لم أرها منذ زمن بعيد ،كنت أرسل المال فقط..لم أهتم برسائلها .لم يكن لدى الوقت لقرائتها ..لكننى أحتفظ بها ثم أخرج لفافة رسائل تتدلى من حمالة جلديه، ملفوفة حول صدره ،ثم فض عنها الغبار وشرع في قرائتها ،وهو يذر التراب عن صورة إبنة أخيه ، كم أتمنى لو رأيتها مرة أخيرة ،لكننى سأجعلها فخورة بي، وشرع بقية الأعضاء في محاولة رأب الصدع الذي حل بين عتريس والجيار ،لكن دون فائدة . إبتسم غريب قائلاً : لا تقلقوا يارفاق ..أنتم تعرفونهم ، إشياء مثل تلك تحدث في بيت العائلة ، تناول غريب سلاحه قائلا :إنتهت أوقات العاطفة أيتها الراقصة .. وسيبدأ العرض قريباً ..لدينا عمل يجب أن ننجزه. في تلك الأونة قُتل قائد الحامية أسعد باشا الخازندار على أثر قذيفة بترت ساقه اليسرى فظل ينزف حتى برد جسده ،ثم تولى القيام بمهام القائد الجديد الملازم الشاب نيجيل غسان، وكان لبنانياً وسيماً ينحدر من دير القمر ،علمت المخابرات الإسرائيلية بمقتل عارم الديلمى ،فعملت على إستغلال ذلك لصالحها ،فعقدت إتفاق مع بريطانيا يقضي بمساعدتها في إستعادة المخطوطات مقابل دعم إسرائيل في الإستيلاء على الحصن ،ثم عقدت إتفاق مزدوج مع أمريكا ،يقضي بمنع تسليم المخطوطات إلى بريطانيا، مقابل المساعدة في الإستيلاء على الحصن ،ثم نقلت مساعى بريطانيا وأمريكا في الإستيلاء على المخطوطات الذهبية من أجل فرض الهيمنة على العالم، إلى صانعو القرار في الإتحاد السوفيتى مقابل المساعدة العسكرية في الإستيلاء على حصن آخيل، وبعد سلسلة من المفاوضات والمساومات ،رفضت عصابة الأربعين التخلى عن المخطوطات الذهبية. وفي مساء تشرينى عام 1948 حل زائر مدنى على معسكر عصابة الأربعين ،وطلب مقابلة الجيار برفقة الصحفي لوجيانو ،فوجيء الجيار بدخول الزائر المدنى حيث تبين أنه الجنرال الألمانى "توماس آلجرين" صديقه القديم، تصافحا بحرارة، وناقشا الأحداث الجارية، وحاول آلجرين إثناء الجيار عن تمسكه بالقتال والوقوف ضد الحلفاء ،وكشف له أن الطريق الذي يسلكه يُعد مغامرة غير محسوبة ،بل هو ضرباً من الجنون ، وأنه طريق هالك لاعودة فيه ،ولا مفر منه .لكن الجيار أكد للجنرال الألمانى أن شمس الأمل حاضرة في أفق المغيب ،وأن الوقت قد أذف للرحيل والخلود للراحة ،وأن هناك وعود يجب أن يقطعها ،ونذور يجب أن يفي بها . غادر الجنرال آلجرين معسكر الأربعين بعد مصافحة شديدة المودة مع الجيار، وربت على صدره وتمنى له أن يحالفه الحظ ،لكن الصحفي مارك لوجيانو أصر على البقاء برفقة الأربعين ،من أجل تسجيل وقائع الصورة ،وتوثيق زمنية الأحداث، ثم إرسالها إلى كبرى الصحف الإيطالية . كانت الأمور مضطربة في الغرب بين قادة الجيوش المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ، حيثُ عُقد إجتماع عاجل في تشرين الأول ، بين قادة الحلفاء لرآب الصدوع التى حلت بسبب عقدة المخطوطات الذهبية ، وتم عقد الإجتماع تحت رعاية الإتحاد السوفيتى ،وصدر عنه حزمة من القرارات الصارمة ،والتى تقضي بمساعدة إسرائيل في حربها ضد عناصر المقاومة داخل فلسطين بذريعة محاربة الإرهاب .وعلى الفور صدرت الأوامر داخل القيادة العليا في الجيش الإسرائيلي بالزحف تجاه الفالوجا، وتدميرها والقضاء على المجموعات المسلحة داخلها ،حتى لا تتراجع هيبة إسرائيل فوق طاولة المفاوضات .أظهرت الحامية العربية بطولات مبهرة في التصدي لزحف الميليشيات اليهودية، وعجز اليهود عن هزيمتهم ،فأرسلت أمريكا وبريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفيتى سواء، رتل عسكري مدجج بالأسلحة الحديثة والمعدات الثقيلة ، بالإضافة إلى سرب من الطائرات، من أجل دك حصون الفالوجا ،والقضاء على الحامية العسكرية داخلها . في الوقت ذاته أرسل الجيار غريب وأبو شعر خيفة للتنسيق مع قائد الحامية ،وفي طريقهم إرتديا زيا جنود إنجليز ، وابتاع غريب لفافة تبغ من فتاة مقتعدة تُدعى سُهيلة سمراء منفوشة الشعر تناهز الرابعة عشر ، حيثُ علما منها الطرق المجهولة والممرات الآمنة التى تؤدي إلى داخل الحصن ، وتمكنوا من التسلل عبر نفق يؤدى إلى مجرى مائي يصل إلى داخل الحصن ،وما كاد الجندى يملأ دلو الماء حتى علقت رأس أبو شعر بالدلو، وصعق الجندى عند رؤيتهم ، وما لبثا أن خرج غريب وأبو شعر عراة والتقيا بالقائد الجديد . الذي رحب بهما وأطلعهما على مستجدات الأمور ،وأنهم عزموا جميعاً على القتال والإستبسال، وعدم تسليم الحصن بأي ثمن، مهما كانت الخسائر والتضحيات. غشيت سحابة من التفكير سماء القائد الجديد الذي قال : لا أخفي عليكم ..لسنا في وضع نُحسد عليه ،كما ترون ،الأسلحة التى لدينا تقليدية ،لن تصمد الكثير ، فقدنا الكثير من المدافع ،وكاد البارود أن ينفذ ،والجنود يتضورون جوعاً .نحن في أمس الحاجة إلى الدعم والمساعدة، أتمنى من القيادة الموحدة في الأردن أن تلبي حاجاتنا على وجه السرعة، أشعل أبو شعر لفافة تبغ ثم رمق القائد ساخراً : نصيحة لك ..لا تعول على أحد ،أنت تقف وحيداً في منتصف المعركة أيها القائد ..لن يهتم أحدا بك أنت وجنودك ،الجميع يترقب سقوط المدينة والحصن حتم يتم الإعداد للمرحلة التالية ،التفاوض ثم التفاوض ، نظر القائد بريبة إلى أبو شعر وأدرك حقيقة ما يقوله .ثم قفل غريب وأبو شعر عائدين إلى معسكر الأربعين،وفي طريقهما إبتاع علبة أخرى من التبغ، وشكر الفتاة على مساعدتها ،ومنحها قلادة يتدلى منها مشبك ذهبي ،قائلاً :هذه كانت لفتاة إيطالية مثلك ..سرت الفتاة كثيراً ، ومضيا غريب وأبو شعر في طريقهما، وأطلعا الجيار على مجريات الأحداث خارج المدينة وداخل الحصن ،عزم القائد على إخبار القاعدة المركزية في الأردن قبيل التوقيع على الهدنة المزمع إبرامها بين الجيوش العربية واليهود ،الذين أعلنوا كذباً سيطرتهم على المدينة. لكن الملازم حسان آل دامر استنفر قائلاً : لن يكون هناك وقت أيها القائد ..قوات الحلفاء أرسلوا قطعاناً من الجنود والعتاد ، هم في طريقهم إلى مساعدة اليهود من أجل إجتياح المدينة والقضاء على الحامية. لقد وصلتنا برقية سرية تحمل تحذيراً شديداً من مغبة الهجوم الوشيك. القائد : بماذا تشير..؟ الملازم حسان آل دامر: لم نأتي الى الحرب للتوقيع على بيع أرضنا لحفنة من الأشرار،لم نجازف بحياتنا ،من أجل التمسك بأمل واهي،وإلا كان الإستسلام هو الخيار الأخير القائد : أيها الملازم "دامر" أراك تُشير على بمخالفة القيادة العامة.. الملازم: سيدى القائد..أسف سيدي ..ولكن القاده قد أسقطونا من حساباتهم .. فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم ،أين هم الأن؟، والعتاد والسلاح يتقاطر على اليهود من أمريكا وأوروبا ،ليس لدينا ما نخسره بعد اليوم ،وقد تخلى عنا الكثير ..ثم قطب جبينه، وولى ظهره قائلاً :إنك تقف لوحدك ..أيها القائد غسان .وعلى الجانب الأخر من المشهد المتأزم داخل ساحة المعركة ،معسكر الأربعين يشهد مناورات ليلية بين المجموعة وجنود الحامية ،حيث عكف الجيار على دراسة كيفية محاولة صد الهجوم الوشيك دون خسائر ،أمر أبو جوده الرجال بضرورة حفر جحور دودية داخل باطن الأرض ،تكون مخبأ بعيداً عن أعين العدو ،ثم كثفت عصابة الأربعين من تدريباتها للمتطوعين من الرجال الجدد والنساء ،على كيفية إستخدام السلاح، وزرع الألغام الأرضية . أمر الجيار باصطفاف كتيبة من الجنود كى ترابض خلف النقاط الأمامية خارج أسوار الفالوجا لتخفيف الهجوم المحتمل ،وكتيبة أخرى تغطى الأولى عند الإنسحاب ،وثالثة ،ورابعة ...حتى يفقد الهجوم قوته شيء فشيء ريثما يحل الليل ، ساد الصمت عباءة الليل الكئيب ،ثم انتهك ستارته ،أسراب من الطائرات تحلق فوق قلاع المدينة .. هنيهات وتلونت السماء بسحب من الأدخنة على أثر قذيفة مدوية قضت على نصف الكتيبة الأولى ،ومنحت الأخرين طريقة للموت يوما أخر،جال قائد الكتيبة بعينيه مفزوعاً، الفضاء معتم بفعل الأدخنة والتراب، حرك كفيه في الهواء محاولا إيجاد منفذ للرؤية، زكمت أنفه رائحة البارود ،واللحم البشري المصطلى بنار القذائف . لم يسمع سوى صوت قذيفة شعر بأنفاسها الساخنة، فتهاوى على أثرها فوق الجدار، والدماء تخضب بزته العسكرية . ارتدت أنظارهم إلى أسوار المدينة وقلاعها تهوي تحت قذائف الطائرات ،وحديد الدبابات ، صوت العتاد يتقاطر على بوابات المدينة ،شعروا بالمذلة والعار ،ورايات اليهود تكاد أن تخفق فوق الأسوار، والمدينة الأسيرة تكاد تسقط حصونها الأخيرة، إنطلقت حمم القذائف من أفواه المدافع كالسيل المنهمر.دفنوا موتاهم بعدما اصطبغت الشمس بحمرتها القانية ، و قبل نهاية اليوم الأول . غرزوا سلاح القائد فوق قبره، وعلقوا فوق سمكه قبعته. وسطروا بضع كلمات ،هنا يرقد الملازم أحمد آل فريد . قائد الكتيبة 114 . الشرر يقدح ويتطاير من أعينهم، والغضب يتأجج في قلوبهم، فيحيل الحمم إلى بركان يتلمظ من شدة الغيظ ، دقائق وانقشعت الأدخنة ،وتبدد الغبار في طبقات الهواء، ابتعد أزيز الطائرات شيء فشيء ،واختفى خلف السحب المارق في ساحة الفضاء ..حملوا أشلائهم ،دفنوا موتاهم ..تحجرت العيون وهى ترمق إلى الجثث المصطفاة بجوار بعضها البعض،
                مثل جنديٍ يافعٍ يمتلك جسارة الوقوف على جسد صاحبه الذي مزقته طلقة أو شظيةٌ خائنة، شدوا قاماتهم وألحدوه في حفرةٍ ضيقةٍ، حيوهُ وودَّعوهُ بأدمعٍ أرطبت قبره،ورنت أعينهم إلى مشهد الغروب في ذلك اليوم .
                ،ثم لفوا شاهد قبرهِ بقميصه وأتى أحدهم بقطعةٍ حديديةٍ مسننةٍ ،وحفر فوق الشاهد اسمه وموطنه وتاريخ وفاته، ثم صبّ في النقشِ طلاءاً أسوداً حتى يتشربه النقشُ فتحفظ ما كتبه، وقد ذيلَ كلّ ذلكَ بكلمةٍ بالغَ في التفنن فيها: جندي مجهول. ظلت أعينهم يقظة ، لا تأخذهم هجعة من الليل ، يتفقدون أسلحتهم .لم يتحادثوا تلك الليلة ،لم يتفاكهوا مثل الليالي الماضية ، لقد شحذت أذهانهم بما هو آت غداً ،لم تشرق الشمس ذاك اليوم ، إحتجب القرص الذهبي خلف ستائر من الغيم ، الأفق الغربي يبرق ويرعد ، زخات من المطر تلثم نواصيهم المعفرة من غبار يوم صلف ، عيونهم الحادة تلحظ إلى قدور الماء الساخن، وهي تغلي فوق النار فتستطير وتقدح شرراً ،تناولوا طعامهم وارتشفوا قليل من الشاي ،إمتشق الجيار سلاحه ،وألصقه كالرضيع على عاتقه :
                يجب أن نطيل أمد المعركة ، نفتح ثغرة في الجبهة الشمالية، ريثما تصلهم الإمدادات القادمة من الأهالي والمتطوعين ،يقيناً أن الأوغاد سيدفعون بإمدادات هائلة في سبيل إجتياح اليهود للفالوجا ..إنهم يعلمون بأمر الحامية ..وهذا شيء سيء ..لكنهم لا يعرفون بأمرنا وهذا شيء طيب ...سنختبيء بعيداً عن أعين الطائرات ..وعند حلول المساء سنتسلل تباعاً ،كيفما اقتضى الإتفاق الأخير .

                التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 24-11-2021, 07:54.
                الحمد لله كما ينبغي








                تعليق

                • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                  أديب وكاتب
                  • 09-04-2011
                  • 768

                  #9
                  هطل المطر بغزارة، وسح كشلال أُهرق من نهر متصدع..وانتصفت الظهيرة . فغدت طائرات الإمدادات تحلق فوق المنطقة الشمالية للحصن، حيث تتمركز كتيبة عسكرية من اليهود على مشارف الحصن تنتظر الأومر باجتياح الحصن المنيع.سارعت الطائرات بأسقاط أكوام من صناديق الطعام والأدوية ،كانت عيون القناصة ،فوق أسوار الحصن، ترقب الأعداء وهم يتلقفون الصناديق بالرقص والطرب ، وينتزعون سدادات قنينات الخمر الفرنسي،ويفرغون سائلها فوق رؤوسهم ..أذف النهار وقتها على الرحيل ،مع أفول أخر شمعة من ضوء النهار، وتسلل الليل الزاحف، وعربد فوق صدر المدينة، ثم طرح أسماله الثقيلة على عتبتها..توقف المطر هنيهات ، إلا من زخات خفيفه ترشق الأديم المخضل ،ساخت الأرض تحت أقدامهم . فكانوا يزحفون كالديدان تحت أبط الموت ،وقد اصطبغت وجوههم بالماء والطين ، تمركزوا داخل نقاط الهدف في الجحور الدودية التى حفروها بأزميل الصبر والألم، نصبوا بنادقهم المستلقية على أكتافهم خلف الصخور والجدران ، حددوا الأهداف ،عبأوا جوف المدافع بكرات النار ، ثم طمرت أفواهها بكساء من العشب والطين .وانتظروا جميعاً إشارة البدء .وعند حلول منتصف الليل إجتاحت الكتائب الإسرائيلية مدينة الفالوجا دون مقاومة تذكر، مدعومة بغطاء جوي من قبل قوات الحلفاء ،دقت الساعة الخامسةُ مساءاً، وحدث إشتباك عنيف خارج الحصن، وابل من الرصاص ينهال على الكتائب الإسرائيلية التى وقعت في الفخ ،ضوء الإنفجارات يراقص الظلال على مسرح الجدران ..الإشارة يارفاق .. الأن ..أشغلوهم ..انطلقت أفواه البنادق بأصواتها الصاخبة، فدوى شرارها وانطلق يسابق الريح ،ويخترق جدران الحصن ، البارود الأسود يتناثر فوق الأجساد ، فيحيل اللحم إلى شواء ورماد . صوت القنابل في سباق محموم مع طلقات الرصاص التي تردي أي حركة خافتة، وتعتقل أي نسمة عابرة .أشداق المدافع ترسل خوارها في الفضاء ،فتذيب الأجساد والعظام، والحصى والرمال .شعر اليهود أن الجبهة الجنوبية للجيش تخترق بنيران غريبة ،اندفعوا بكل قواتهم وتركوا الباقي يناوش الحامية . حدثت الثغرة في البوابة الشمالية، و كانت الفرصة سانحة لنقل الإمدادات إلى الكتيبة المحاصرة. تمكنت عصابة الأربعين بمساندة عناصر المقاومة الفلسطينية، من نقل معدات وألغام ،وديناميت وصناديق بارود إلى الحامية ،بالإضافة إلى قطع مدفعية ألمانية الصنع ، إضافة إلى صناديق من الإطعمة الأمريكية استولوا عليها أثناء عمليات الإمدادات التى أسقطتها الطائرات . بعد ساعات فض الإشتباك عند حلول الفجر ،سقط 3 من عصابة الأربعين ،التعزيزات العسكرية لقوات الحلفاء ،تحاول غسل وجهها ودعم القوات الإسرائيلية المتقهقرة .لقد تورط الحلفاء في معركة غير متكافئة ، أصوات المدافع الثقيلة ،تزمجر كأنها شياطين غاضبة، كسرت أغلالها، وانطلقت تعربد بجنون. القذائف تنفجر في كل مكان، وتتناثر في كل اتجاه، لا تفرق بين لحم البشر، وحديد الدبابات، ورمل ونبات الصحراء. بين آن وأخر تمرق طائرة فتعبث بسلام السماء، وتمزق وجه الأرض وما عليها. تقهقروا للوراء بعدما اطمأنوا لوصول الإمدادات ،شعر القائد نيجيل غسان بحريق يضطرم في ظهره ، شظية ملتهبة من أثر البارود ،اخترقت ملابسه ونفذت إلى جلده . ظل يزحف على خاصرته، ويجتر ساقه الدامية التى تلونت بالدم القاني ،واصطبغت بالحصى والتراب ،حتى اهتدى إلى جدار هار، يتقي به شلال الأعيرة النارية ،التي كادت أن تطيح برأسه.تفقد بندقيته تارة ،ورمق مؤخرة ساقه التي تنزف جرحاً غائراً تارة أخرى.إنتزع سدادة ركوة الماء،بصق الدماء، تجرع القليل،سكب الباقي على جرحه العميق،خلع خوذته،حدج إلى طلقات الرصاص المتراشق فوق الجدار ،وضباب الأدخنة يصرع الميدان بظلاله المترامية الأطراف ،حاول النهوض ،فلم يستطع الثبات، الرصاصة اخترقت قصبته ،هشمت أنسجتها ، برزت عظمة ناتئة تزيد من ألمه كلما حاول الحراك ،كأن ساقيه قضبان من لحم تحمل عربات مثقلة بالعتاد ، تناول لوح صغير من الخشب الفاحم نزع حوافه الناتئة بسكينه الحاد ،ثم حشا الجرح بقطعة قماش ،ووضع فوقها القطعة الخشبية بطريقة عمودية ،ويداه ترتعشان من شدة الألم ،وقد تحلب العرق من جبهته وانبثقت الدماء من الجرح .فألقم فاه قطعة من الخشب ظل يلوكها كلما أشتد نصل الألم ،
                  ثم عقد عليه برداء إقتطعه من بزته ، وقال مقطباً : الحمقى الذين قبلوا بالهدنة..أوقعونا في مأزق..تذكر الوعد الذي قطعه أمام زوجته ، أنه سيعود يوماً ما.غشيت وجهه سحابة رقيقة من الحزن ،وهو يرى السماء تمطر قذائف مدوية، والأرض تشتعل باروداً، فتحصد رفاقه الذين سقطوا حوله كأوراق الخريف .معذرة. يبدو أنني لن أستطيع أن أفي بوعدي اليوم. عند حلول المساء ،سكن صوت المدافع ،وعاد الصمت يخيم فوق أسوار المدينة .إرتدى الجيار خوذته ،واتكىء على بندقيته، بعد أن أدمت ساقه، قذيفه مستعرة باللهيب ، حدق إلى رفاقه من عصابة الأربعين . لدينا أخبار طيبة ،وأخرى سيئة ..قُمتم بعمل جيد حتى الأن ،تمكنا معاً من دعم الحامية بالعتاد ،والإمدادات ،بمعنى أخر نجحنا في إطالة زمن الحرب ،وقمنا بزيادة معاناة اليهود والحلفاء ..الأخبار السيئة ..لقد انكشف أمرنا ،أراهم الأن يعدون العدة ليغسلوا ماء وجوههم .. ثم جالت عينيه قبل الشفق الأحمر ..لا شك أن الأمور باتت تغلي الأن في الغرب ..سيسارعون بإرسال التعزيزات للقضاء علينا..لقد تورطوا هنا ..لن يمنحونا موت سريع .ثم أطلق ابتسامة باهتة مشوبة بالكدر .. التفت الجيار إلى رفاقه وقد تعفر وجهه بالغبار والتراب قائلاً: يارفاق ستكون معركة غير متكافئة .. أشيروا على..هل ننسحب ونعود أدراجنا ،ونكتفى بما حققناه، ونعول على القادة في إرسال جيوشهم لإنقاذ الفالوجا .حلقوا حوله ،خلع أحدهم خوزته وهو ينفض التراب والغبار ،ثم أطرق برأسه ،مط شفتيه ،ثم أطلق بضع كلمات : أيها الزعيم ..ليس لدينا مانخسره ..قطعنا شوطاً كبيراً ها هنا ..وهناك أطفال ونساء وشيوخ يعقدون أمال على وقوفنا معهم..لا تنتظر شيء من الجيوش العربية ..لقد هُزمت قبل أن تأتي إلى هنا ...قال غريب :معك حق ..كنت أسمع معلم التاريخ يختال ببطولات العرب وإننا أمة لا تُهزم ..وعندما أتيت هنا ، رأيت بطولات وأمجاد، ورأيت خيانة وعار، تحدث لاسيما عندما وسد الأمر إلى غير أهله ،وأقصد سيدى - الجنود الذين صدرت لهم أوامر بالإنسحاب ..قال أبو جوده لن تكون المعركةُ الأخيرة ،قد تكن بداية لمن ياتوا بعدنا، ويسمعوا بحديثنا ..فلنرى إلى أي مدى سترسو بنا سفينة الأحداث ..دعنا نقاتل حتى يجد من بعدنا أن أجدادهم لم يستكينوا ولم يرتعدوا ..وأن الأمل عالق في لهيب شمعة .قال الإبراهيمي وقد حمل سلاحه على عاتقه : لاتروق لي نسمات الحماس المحلقة فوق رؤوس الرجال هذا اليوم.. المعركة غير متكافئة ..أرى أن نكتفي بما حققناه ،وأن نعود أدراجنا فلا قبل لنا بهم. الجيار: حسنا ..من يريد العودة ،ومن يريد أن يمكث معنا رفع يده، ورفعوا أيديهم تباعاً ،تمتم بصوت خافت :أقل من 40 رجل إضافة إلى حامية تقدر ب400 جندى ،سيقاتلون أكثر من نصف العالم ..- حسناً يارفاق .ثم أشار الجيار إلى أبو شعر والشناوى :كم لدينا من الذخيرة ..أريدك أن تقدم لي تقريرا دقيقاً بما تبقى لنا من العتاد والبارود .ثم التفت إلى عمار ..انت فني ماهر ولديك خبرة بالأعطاب ..عليك بإصلاح المدافع التى أصابها التلف داخل الحصن ..هيا يا رفاق .لدينا عمل شاق الليلة ..انبروا في احصاء المعدات والذخائر وإصلاح الأعطاب ..تناولوا القليل من الطعام ،تفاكهوا بينهم ..تسللت الشمس خلسة من ستار الغيم، ورنقت للمغيب. والليل يزحف ببطء في أعين الخوف ،مخلفاً وراءه عناقيد من الغضب والألم. وعند منتصف الليل فوجيء الجيار بأفراد من المقاومة الفلسطينية يطلبون مقابلته بوجوه مشبوبة بالحزن والألم تقدم أحدهم قائلاً : سيدى يجب أن تأتى معنا الأن .تسرب القلق إلى وجه أبو جوده وغريب ،وسارعا بالمضي مع الجيار، حيث تسللا خلسة خارج المدينة، وفوجيء بالشاحنة التى تقل المخطوطات وقد تهالكت من أثر الرصاص والقذائف. سارع الجيار والقلق يجز فؤاده، حيث صُعق عندما وجد شقيقه جاد في حالة رثة ،ملقي على الأرض ، ورفاقه يحاولون إسعافه . قال جاد بصوت محشرج وصدره يعلو ويخبو ، ودم غزير يطفح من فيه : كانت الحدود مغلقة ..حاولنا التسلل ..لكنهم اكتشفوا أمرنا ..ظلوا يطاردوننا بموكب من الجنود والأسلحة ..ثم تنهد وخفق قلبه بقوة من شدة الجراح التى ألمت به ..لكننى سعيد أننى لم أخذلك ..لم يتمكنوا من الإمساك بنا ..المخطوطات بأمان ..قل لي يا أخى : هل أنت راض عنى؟ ثم أسلم الروح، وفارق الحياة ،وأثر دمعة حارة تنساب على وجنتيه ،صرخ الجيار صرخة عظيمة لفقدان شقيقه، وسالت دموعه، وهو يعانق رأس أخيه بقوة .قام الجيار بدفن شقيقه ،ورطب ثراه بالماء ،حاول الرفاق تهدئته والتسرية عنه ولكن دون جدوى ، حيث قتل الحزن جزء كبيراً في قلبه واقتلع احشائه. في اليوم التالي إشتد الحصار على المدينة ،وضاق الخناق عليها حتى نفذ الطعام. ولم يبقى لديهم سوى الفلفل والزيت. الذي يُشوى على مواقد النار،كان غريب يمزح مع أصدقائه داخل الجحر،حيث كانت بطونهم تتضور من شدة الجوع، فتذكر الأيام الخوالي التى قضاها عند الوكر ،حيث لحوم الأسماك وشوائها الذي يعطر الأنوف ويسكن الأمعاء والبطون. مضت أيام وهم يعانون الحصار في ليالي الشتاء حيث نفذ الطعام،ونفذت معه كل طاقات الأمل . فتهاوت قوتهم ،واستعرت نيران الجوع في أحشائهم، فأكلوا كل ما يطرق قشرة الأرض، ويدب عليها، من فئران، وزواحف، حتى امتصوا سيقان العقارب والحشرات ،وعند حلول الظلام، قامت الفتاة سُهيلة بحمل صرة كبيرة من الطعام، وحاولت التسلل إلى داخل المدينة لكن جنود الحصار إكتشفوا أمرها ،وسائلوا عن وجهتها فقالت : إننى في طريقي إلى سوق" الكير"، فندت أعين الذئب الجائع في ملامح الجندى فشرع في التحرش بها والعبث بجسدها : وماذا تفعلين هناك والطريق محفوف بالخطر. قالت والخوف يلف جسدها : أبتاع الحلي ثم أبيعها في بلدتى حتى يتسنى لي رعاية أمي القعيدة . سمح لها الجندى بالمضي وهو ينهش جسدها بنظراته الجائعة ،فحملت صرة الطعام إلى عصابة الأربعين الذين صُعقوا عند رؤيتها خاصة غريب الذي سارع بالترحيب بها وإسداء الشكر على صنيعها ،أقبل الرفاق يأكلون الطعام ويتقاسمون قطع اللحم المجفف وحبات الزيتون المخلل بنهم شديد. ووعدتهم بإحضار المزيد في المرة القادمة ،وهى تواري دمعة ندت من عينيها، جراء الألم الذي لحق بها. دأبت سُهيلة على إحضار الطعام لعصابة الأربعين وكانت تدفع ثمن ذلك إحتساء الألم حتى أخر قطرة متبقية من كؤوس العفة والفضيلة ، وفي أحد الليالي
                  التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 24-11-2021, 08:11.
                  الحمد لله كما ينبغي








                  تعليق

                  • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                    أديب وكاتب
                    • 09-04-2011
                    • 768

                    #10
                    تعرض لها جنود الحراسة، وتحركت فيهم غريزة الذئاب الوضيعة، فجردوها عارية من ثيابها ،وتناوبوا على إغتصابها بوحشية طيلة ساعات، ثم سمحوا لها بالمضى، وهى تجتر لباس الذل، وتلعق ملح العار . وبينما الرفاق يأكلون بنهم شديد، رنا إلى مسامعهم بكاء ونحيب خافت،أغرورقت عينيها، وسحت الدموع من مأقيها كشلال غزير، مما إستدعى قلق غريب الذي لمح كدمات واحمرار ملتهب أسفل عنقها .فلما رفع الرداء عنها وجد قميصها ممزق، والكدمات تُغطي جسدها الصغير، أمسك غريب بوجهها وحملق في عينيها ،والدموع تنهمر منهما كشؤبوب فاض من الغيث.أدرك غريب أن الفتاة قد دفعت ثمن المخاطرة بشرفها وعفتها من أجل إطعامهم ، كظم غيظه ،وركل الأرض بقدمه ،ولعن الحرب والحلفاء ،وسب تشرشل ،وكليمنت ونعتهم بأبناء العاهرة . ثم استدار إليها قائلاً :أريد أن أعرف منك شيء واحداً ..كيف هي وجوههم ؟، فشرعت الفتاة في البكاء والنحيب ،وطفقت تقص عليه ،وتصف له صورهم وهيئتهم. فتناول غريب سكين حاد كبير، ثم وضعه في جرابه خلف ظهره ،وتناول سكين صغير دسه خلف حذائه، نظر إليه الشناوى وهو منهمك فى قضم قطعة كبيرة من اللحم، وقال ساخراً: لاتنسى أن تسمل لي أعينهم ،فإننى بحاجة إلى تعويذة جديدة ، ولا تنسى أفخادهم فليس هناك أطيب من اللحم الإنجليزى المدخن، ثم انخرط في وصلة من الضحك ،ولعلنا لانجد شيئل نأكله فيما بعد .مضى غريب ومرجل الغضب يتقد في قلبه، ويعتريه بركان من الحمم، يقطع صمت الليل الكئيب ،تسلل بحذر داخل القاعدة ، وزحف تحت الأسلاك الشائكة ، وطفق يبحث داخل المعسكر عن المطلوبين ، فسمع ضحكاتهم وتندرهم على الفتاة المسكينة خلف المتاريس، فتسلل خلف أحدهم ، وعرفه من صلعته التى برقت ،عندما انعكست أشعة القمر فوق صفحتها ، فأمسك بعنقه ،وقبض عليه بقوة ،وهمس في أذنه : يابن العاهرة ،ثم مرر السكين على عنقه فغاص في حلقه ، حتى غرغر الدما ءمن فيه، ثم بصق في وجهه ،وسقط صريعاً، والتفت إلى الأخر، ورمى السكين بقوة فاستقر نصالها الحاد في صدره ،ثم عالج الثالث بضربة في خاصرته ،ووجأ عنقه فتحطمت عظام رقبته ، حاول أحدهم أن ينزع السكين بكلتا يديه ،لكن غريب أمسك بمقدمة البندقية ،وطرق بمقبضها على السكين بقوة فاخترقت صدر الجندى فسقط صريعاً في الحال ثم قام بجز رقابهم جميعاً ،وحملها على عاتقه ،وألقاها بين يدي الفتاة، وصرخ فيها قائلاً : لا تجازفي بحياتك مرة أخرى.إذهبي بعيداً عن هنا .نحن كائنات تافهة لا تستحق الحياة أو التضحية، نحن لا شيء .ساد الذعر داخل قلاع المعسكر الإنجليزي ، بعد مقتل الجنود الثلاثة ،وأسفرت التحقيقات عن ضلوع الفتاة في مقتل الجنود، فقاموا بالقبض عليها ،والتنكيل بها حتى فقدت بصرها .في الوقت ذاته كان الجنرال ميجور "أريكسون" والكولونيل "جورج هارفي" يتشاوران داخل قاعدة تشرشل البريطانية، بشأن المخطوطات حيث أشار أريكسون أن الفرصة سانحة لترويض عصابة الأربعين، وإستعادة المخطوطات من أجل إنقاذ الإمبراطورية من السقوط في حقب الضياع والفناء . كان الميجور "أريكسون" يحدق النظر إلى الخرائط الممددة فوق الطاولة ،ويتحسر على ضياع المستعمرات الإنجليزية في العالم .نزع الميجورأريكسون قبعته وأشار إلى هارفي :كل الحقب التاريخية التى شهدت حضارات عظيمة، استعمرت العالم القديم ،وشيدت إمبراطوريات عُظمى ،لم يتركها الزمن صحيحة حتى أكل نواتها وأفنى لُبتها ،وأشار إلى بلاد اليونان ،مصر ،فارس، بابل ،تركيا،بريطانيا ،إنظر ياهارفي ،لقد اندثرت تلك الحُقب القديمة ، وطُمرت تحت رمال النسيان ،فلنعد إلى أزمتنا مع هؤلاء الصعاليك ،كليمنت لن يُمهلنا مزيد من الوقت : إن ثمار الحصار أتت أوكلها يا هارفي :مائة مخطوطة ذهبية بحوزة هؤلاء الأقزام ،تشير إلى مائة مدينة مطمورة تحت الرمال ،كفيلة بعودتنا للساحة العالمية واستعادة ريادتنا ،وصعودنا إلى مقاعد السلطة والهيمنة، وإقصاء القادمين الجدد من الشيوعيين ورعاة البقر .. لم تعد تعنينا المائة مدينة ياهارفي ،بقدر ماباتت تلك المخطوطات تتعلق بمستقبل بريطانيا العظمى ..تخيل ياعزيزي هارفي ..أسلحة كونية ،طاقة هائلة من الدمار ،تكون بحوذتك ،العالم سينحنى أمامنا ..تخيل كيف سيكون مستقبل بريطانيا العُظمى ،سنقضى على تلك العاهرة أمريكا ،هؤلاء المستئذبون القادمون من الحظائر وروث الخيول، مازالت رائحتهم العفنة عالقة في عقولهم المترعة بالأنانية وحب الذات ، أتمنى أن يفلح "آلجرين" في مسعاه ،لقد تقاضى ذلك النازي اللعين ثمن باهظاً من أجل إستدراج ذلك المرتزق البائس .بعد مرور أيام من رسالة كليمنت شديدة اللهجة والتى تلقاها الميجور أريكسون القائد العام للقوات المتحالفة في فلسطين، أرسل الجنرال الألمانى المتقاعد توماس آلجرين لعقد تسوية مع الجيار، تقضي بتسليمهم المخطوطات مقابل إطلاق سراحهم ،والتخلى عن حصار المدينة قبل دكها. تشاور الجيار مع رفقائه قائلاً :إنهم يريدون المخطوطات مقابل إطلاق سراحنا ،واليهود يريدون الإستيلاء على المدينة بعد مغادرة الحامية من أجل التسوية التى تضمن التفاوض على الأرض وحق الوجود، اطلع الجيار على مستجدات الأحداث الأخيرة في مناطق القتال ،والتى شهدت نزاعاً محتدماً بين قادة الجيوش العربية. حيثُ أخبر رجال المقاومة الجيار بمعلومات خطيرة عن إنسحاب وشيك للجيوش العربية من فلسطين مقابل تسوية بين الطرفين تحت رعاية مجلس الأمن .وهنا أشار الجيار بسلاحه إلى قلاع المدينة المنكوبة قائلاً:هناك حشود من القوات المتحالفة تنتظر دك تلك المدينة ، لكن فوهات البنادق الغاضبة والساكنة في أحضان الجنود،تنتظر صيحة الحرب ومهاجمة المعتدين.ثم التفت إلى رفاقه، وعقله مازال يسبح في بحر من الشرود :قريباً سيتخلى عنا الجميع ،الجيوش العربية ،لم تأتى هنا للقتال ..ولكن من أجل حفظ ماء الوجه ، لعلنا نحتاج مزيدا من الوقت والتفكير للرد عليهم ،سنحتاج إلى يومين ،ثم نرى ماذا تُخبيء الأيام في جعبتها .بعد مرور ثلاثة أيام قبل الجيار ورفاقه، دعوة الجنرال أريكسون ،للإجتماع به ،داخل القاعدة البريطانية .حيث استقبلهم الميجور أريكسون بفائض غزير من عبارات الحفاوة والترحيب ،واغتصب الرجل ابتسامة صفراء بين شفتيه ، قائلاً :مرحباً عزيزي الجيار ..الأمبراطورية الإنجليزية ترحب بك وتعول عليك الكثير..لقد أرهقتنا أنت وأصدقائك في مستعمراتنا يارجل. ابتسم أبو شعر وأشار إلى رفاقه ساخراً : الرجل معه حق ..لقد قتلنا الكثير منهم، وأشعلنا الجحيم في القطارات الإنجليزية،وسرقنا الغلال ،والملابس ،والذهب ،والمخطوطات ، ولم ينسى أبوشعر أن يتفاكه مع رفاقه قائلاً: هل تذكرون الشيخ حسن العوضي ،عندما كنا نحرق القطارات الإنجليزية ،ونسلب ما فيها ،كان يكتب أية قرأنية على صدر القطار "هذه بضاعتنا رُدت إلينا" علقت غصة شديدة في حلق الميجور فابتسم مكرهاً ،وتناول كأسا من الخمر تُطفيئ جمرة الغضب المتقدة في قلبه : أجل ..نحن لن ننساكم أبدا ..ولن نفرط بكم .ثم دعاهم لطعام العشاء حيث كانت المائدة تكتنز بألوان الأطايب من اللحوم ،والفاكهة، والمقاعد المذهبة، والأوانى الفضية : يقيناً أن أمعائكم مازالت خاوية تتضور من الجوع بسبب الحصار الذي فرضناه على مجموعة من قطاع الطرق والأرهابيين. ثم أشار عليهم بالجلوس والإستمتاع بالعشاء .كانت بطونهم تئن من الجوع ،ينتظرون زعيمهم الذي أبدى إمتعاضه الشديد ، بسبب النوايا السيئة التى يخفيها الميجور . قال الميجور ساخراً بعدما رأى الجيار ممتنعاً لا يمد يده لتناول شيء : استمتع بالطعام ياعزيزي ..هذه الفاكهة من أجود أنواع الفاكهة في فلسطين، وتلك اللحوم تأتى من مراعينا هناك .. لقد أُعدت بشكل جيد من أجل خدمة الإمبراطورية العظمى وشعبها النبيل ..ثم رفع الميجور كأس النبيذ عالياً :نخب الأمبراطورية العظمى ،ونخب الصفقات الجيده .لكن عقل الجيار غاص في غلالة من الشرود والتفكير، حينما تخيل العمال الفلسطينيون ،وهم يكدون ويكدحون في حقولهم ومروجهم ،وعند قطف الثمار ،وحصد المحاصيل، يأتى المستعمر الغاصب ،يسفك دمائهم ويسلب قوتهم ..وهنا إستيقظ الجيار على صدى صوت الميجور وهو يدعوه لتناول النبيذ ،والإستمتاع بالطعام .إبتسم الجيار بناجذه ..معك حق ..ثم رفع كأس النبيذ قائلاً: نخب العمال الكادحين ،والمعتقلين في غياهب السجون الإنجليزية ..نخب المغيبين تحت التراب ،والأرامل والثكالى والأطفال الذين قتلتم ابائهم واستعمرتم حقولهم ..نخب القتلى ،واللصوص من أمثالكم .ثم رشق وجه الميجور بالنبيذ، وغادر المائدة، فتبعه رفاقه وقد اغتصب أبو شعر قطعة لحم كبيرة .رحل الجيار والكيل يطفح على وجه الميجور الذي استدعى الكولونيل رامسي قائلاً :للأسف لم تفلح مساعينا في إخضاع ذلك اللص الوضيع ،ثم حدق إلى الكولونيل قائلاً : أنت تعرف ماذا عليك أن تفعل ياكولونيل ،.عاد الرفاق إلى معسكرهم ،وابتسامة ظفر تتسلل إلى وجه الجيار الذي قال : لن ينام الميجور الليلة ،ولن تنام لندن أيضاً ..يقيناً أن كليمنت سيتحدث إلى الميجور وينعته بابن العاهرة، وهنا انخرط الرفاق في وصلات من المزاح والضحك . أشعل غريب سيجارته قائلاً: ليست صفقة جيدة ..تباً لهم ،لقد تعبت من كثرة الهروب والتنقل ،وأشعر أن جسدي سيتمدد هنا في ذلك المكان البائس .خلع الإبراهيمي خوذته قائلاً:قيل أن آخيل مر من هنا ،وتعثر جواده في ذات المكان فبنى حصناً منيعاً يخلد إليه كلما ضاقت به بلاد الإغريق ،يقال أيضاً أن هذا المكان شبت فيه معركة حامية الوطيس حيث تخلى رفاق آخيل عنه ، فلعن جنوده الذين تركوه وحيداً ..قال أبو شعر : قصة جيدة ، ولكننى لم أفهم شيئاً، ثم اقتعد الأرض وشرع في وخزها بمديته الحادة ،وقد أطرق رأسه قائلاً : لقد عشت حياة بائسة ..كنت لص وقاطع طريق ، لم أنل حظاً من العلم مثلكم ،كل ما أعرفه ، هو تلك السكين الكبير التى صاحبتنى طيلة عشر أعوام مضت ، كنت أرى النساء يسخرن منى بسبب قبحى ،كنت أبكى ..لم يكن لي أم أو والد أو حتى شقيق أو صديق أفضي له ،الأشواك التى لم يفلح الزمن في تجريفها داخلى ، لم يكن لدي معين،لم يكن لدى أحد .عشت وحيداً، وساموت وحيداً ، ..سواء مت أو حييت ..لن يتذكرنى أحد ..ثم دنا منه أبو جوده وربت على كتفه : لا عليك ياصديقي القبيح ..إننى أعرف ماهية ذلك الشعور .. ثم جال بصره عند الأفق وقال : عزيزتى كلير أتمنى فقط أن تسامحينى .خلع غريب كل متعلقاته
                    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 27-11-2021, 06:54.
                    الحمد لله كما ينبغي








                    تعليق

                    • مصباح فوزي رشيد
                      يكتب
                      • 08-06-2015
                      • 1272

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد مشاهدة المشاركة
                      غيبتهُ رياح الغربة، حتى تلاشى من ذاكرة الماضي ،وبعد أعوام عديدة، وعك أباهُ وعكاً شديداً،واشتاقت نفسه لرؤية إبنه الغائب ،قبل أن يغيبه الموت عن سرادق الحياة ..وعلى الفور تحركت قنوات الإتصال : لتحضر سريعاً ،والدك يتوق إلى رؤيتك ،لكنه تعلل ،بزخم العمل، وعدم وجود أجازات ،ساءت حالة الأب وغشي الحزن معالم وجهه الذابل ،فظل يئن ويبكى ،وتشظت الروح، واضطربت داخل الجسد الهزيل، حتى انفرط عقد الصبر من مسبحة الأيام ..فسارعوا بإحضار صورة قديمة لرجل يحمل على عاتقه طفله الغائب ،فلما رأها مستقرة أمام عينيه ،سكن فؤاده ،وغشيت السكينة روحه التواقة إلى رائحة إبنه وقرة عينه ،فندت إبتسامة رقيقة من شفتيه الواهنتين،وارتسم ظلُها على صفحه خده ،فبددت عقارب الحزن وثعابين الألم ، جال ببصره في أرجاء الغرفة ، وأشار بيديه ،يذر التراب عن صورة طفله ،ويمسح بأصبعه الغبار العالق على صفحتها ، تمتم ببضع كلمات، ثم أطرقت عينيه الساكنة ، وقد غشي وجهه دفقات من النور ،وسرعان ما انسلت الروح من الجسد ، وحلقت راضية إلى بارئها
                      ( رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)

                      سلمت يمينك أيها الأخ العزيز على ماكتبت ، وسدد الله على طريق الخير خطاك وأعطاك وزادك من خيره وفضله حتّى ترضى .
                      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                      تعليق

                      • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                        أديب وكاتب
                        • 09-04-2011
                        • 768

                        #12
                        ومر شريط الصور والأحداث في مخيلته، فتذكر الفتاة التى كان يبتاع منها علب التبغ، وتمنى أن تعفو عنه ،لأنه نسى يوماً أن ينقضها ثمنه، ثم حمل سلاحه على عاتقه، وعيناه تحدقان إلى الأفق .في الوقت ذاته كان عتريس يرثي جاد بدموع أرطبت قبره قائلاً : لقد غادرت ياصغيري دون أن تودعنى ،دون أن تسامحنى ، لم يكن هذا الإتفاق الذي جرى بيننا ، منصفاً على الإطلاق ، لقد تركت وراءك فراغاً كبيراً، لن يزول صداه سريعاً ، فراغ أجوف يسبح في صدورنا المترعة بالألم ، لم يعد هناك شيئ في ذلك العالم تحلو رؤيته بعد رحيل الأخوان ،لقد تلاشت نضرة الحياة وبهجتها،وجفت ينابيع المرح ،لم تكن صديق فقط ..بل كنت أخي،ورفيق دربي ..لن أنساك يا جاد حتى نلتقى معاً ،أعدك أننا سنلتقى قريباً، لن أنسى ضحكتك ،ولن يطمرك النسيان ماحيينا بعدك .عاد عتريس متسللاً إلى المعسكر ، والتقى بالجيار وقال له : لن أطلب العفو من أحد ،وما جئتُ من أجلك ،ولكن لم تعد الحياة تنضح بالعذوبة ،أو تصفو في غياب الرفاق.وعندما جن الليل أرسلت المدافع خوارها إلى الفضاء من جديد ،فحاول القائد أحمد زهران، الزحف بكتيبته عدة أميال ،فتسلل إلى النقاط الأمامية التى استولى عليها العدو ،وبادر بإطلاق الرصاص والإشتباك مع العدو .استمرت المناوشات ساعتين ،ثم تراجعت الكتيبة إلى داخل الحصن ،يحملون جثث الجنود الذي أصيبوا في الإشتباكات ،إتكيء قائد الحامية أحمد زهران على جدار هار، ودس يده في فتحة قميصه، فغاصت قليلاً، ثم استخرج صورة لغادة حسناء ،داعب بأصبعه مفرك رأسها ثم أعادها إلى موضعها . واستدعى رفاقه وأمرهم أن يتحلقوا حوله ،ثم أشار إليهم : يارفاق .أنصتوا إلى ..مضى وقت طويل هنا ،ونحن نقاتل ،ندافع عن بلادنا ،ضد المغتصب ،والمستعمر ..
                        سنموت يوماً ما ، هذه حقيقة لا يمكن أن نغفل عنها ،وسنمسي ذكرى بعد هذا اليوم ، حينها سيهال علينا الثرى، وتطمر أشلائنا في هذه الأرض ،لن يعرفنا أحد ، سيجهلنا الكثير ، من أبناء جلدتنا ،سنتلاشى مثل ذرات الغبار، حينما تذرها الرياح في الفراغ والعدم . نحن قلة تكاد ذخيرتنا تنفذ ،والطعام ينضب ،وهم كثره..لديهم عتاد وعدد ،وأسلحة أضعاف ما نملك ..لكننا سنقاتل على أي حال ،لن نستسلم ، لكنن أعدكم أننا سنمنحهم ألماً كبيرا .. ثم ربت بيده على أكتافهم مبتسماً : كنتم خيرة الجنود الذين قاتلوا معى،إننى حقاً فخور بكم أيها الأشداء ،ثم امتشق سلاحه، وأطعمه البارود ..وأطلق ابتسامة ساخرة : حينما يحل الظلام يارفاق ..سنُطعم الأرض بالبيض الفاسد .تسللوا تباعاً وحفروا حفراً حميقة ضيقة ،وطمروا قشرة الأرض بالألغام ، ودسوا بين كل خمسة أمتار لغم بصورة مثلثية ، ثم زرعوا خواذيق خشبية في قشرة الأرض وذيلوا رؤوسها بقبعات .وقفلوا إلى كمائنهم ،في باطن الأخاديد التى حفروها ،ثم حدق إليهم القائد بمؤخرة عينه ودعاهم: هناك بعض الأشقياء ياساده يعبثون بالمدينة المقدسة، وينشرون الفوضى ،لقد نصبنا الخوازيق لهم ،حتى يعلموا أن قبورهم تتلهف إلي أشلائهم .ثم طلب الجيار من لوجيانو أن يسديه صنيع أخير،أمره أن يسطر كل ماحدث بصدق ودقه ، حتى تعلم الشعوب، زيف القادة الجدد الذين يحكمون العالم . ثمساد صمت بعمق السماء ،قاطع كحد السيف، بارد كالجليد ، تجمدت الأوصال، جفت الحلوق، حملقت العيون بثبات دون رَمش ، فُغرت الأفواه مشدوهة إلى ذلك المشهد ..حدجوا إلى القائد جميعاً ،وقد تلونت رؤوسهم بالغبار والتراب، فمكثوا يلتقطون الأنفاس، حتى صاح بهم القائد ، يارفاق :سنموت جميعاً ..سنرحل كذرات التراب ، لن يبقى شيء من أثرنا ،ولن يعرف أحد ماذا حدث ذلك اليوم ..!! التاريخ ينتظر هذا ! سيسطر لنا في صفحاته الدامية قصص ومآثر شتى .لن يذكر شخوص كعادته، ولكنه سيذكر أمجاد وبطولات ، ثم أشار بسبابته إلى أسوار المدينة ،وقال ساخراً: شاهدوا يارفاق ،إنهم قادمون ،كأننى أسمع طبولاً تدق في رأسي ،لن يسقط الإيمان ذلك اليوم .شاهدوا يارفاق ،الأرضُ تهتز تحت عتادهم وجيوشهم، .. لكننا لن نتراجع ،آي وربي ..لن نفعل .. سنعزف معاً يارفاق، ثنائية الدماء والبارود، ستشدو موسيقانا ، وسنرقص معاً على إيقاع الأشلاء وسحق العظام ، ونثر الدماء ، نكس أبو جوده رأسه برهة ،ورمق إلى قلادة متدلية على صدره، أزال الغبار بأصبعه المعفر بالدماء من فوق صورة إبنة أخيه "كلير" وهمس قائلاً : عزيزتى كلير ،ولثمها بقبلة حانية ،ورأى الشناوى طيف إبنه "رابح" المُقعد في المشفى ينهض من كرسيه المتحرك ويقبل عليه، يخترق الضباب والغبار ،يركض نحوه تسبقه ضحكات بريئة : بنى سأجعلك تفخر بي للأبد. دوى صوت القائد عالياً : سنحيل الأرض إلى دمار وفوضى ،سنموت جميعاً ..لكن ليس اليوم يارفاق ..! تبادلوا فيما بينهم ابتسامات ساخرة وهزوا رؤوسهم بإيماءة الرضا، القائد : تخلصوا من أي شيء يعيق طريقكم ..لا تتركوا عتاد ورائكم ، تناثر البارود من أيديهم وهم يلقمون بنادقهم ، انتظروا ساعة الصفر مكثوا ملبدين تحت زخات المطر ولسعات البرد ،والأسلحة تعانق صدورهم قُبيل المعركة . فيالق الأعداء تزحف إلى المدينة، والأرض تهتز تحت وطأة الدبابات، والمدافع، والعربات التي تقل الجنود .والعتاد الثقيل يتقاطر قرب الفالوجا في حشود عسكرية هائلة . كأنها ذئاب مسعورة تحمحم بأشداقها، وهي تدك الجدران، وترصف الحص والرمال بعجلاتها وجنازيرها .. والأرض تسعر بألألغام ، تنكيء جراحها ، فتحيل الجنود إلى أشلاء وعظام ، والمركبات إلى رماد ، وغبار ، فيصعد حطامها إلى أعلى ثم يعود ليرتطم بالأرض ، الإنفجارات تتوالى فتحيل المركبات الى صفائح ساخنة من النار، ورائحة الدماء تعانق حمم البارود ،الأدخنة تُلقي أرديتها وستائرها فوق ساحة المعركة، وتعتقل أي منفذا للضوء والرؤية، إنطلقت شرارة الهجوم الخاطف المضاد ،أحالوا المعركة إلى فوضى .إندفعوا مثل كرة مشتعلة ،تحرق الأخضر واليابس ،ثم تنحدر فوق جدران اللهب، تتلمظ بالغضب والكراهية ، تزحف إلى خارج الحصن لرد الهجوم الكاسح للقوات الإسرائيلية المدعومة من جيوش الحلفاء . أزيزُ الطائرات ، يسبق الهجوم، ويرسل نعيقه في السماء ، فيهتز له بأس الرجال ،وتنخلع القلوب ،أشداق المدافع الأرضية ترشُق السماء بخوارها الذي لاينقطع في الفضاء ، والأرض تصلى من تحتها بجحيم القنابل ،والرصاص ..اشتبك البارود بالبارود فلمع كساء الأرض .المدافع لاتفتأ تحيل الحصى والنخيل إلى رماد .الطائرات تتقاطر من كل طرف في ملحمة قتالية شرسة ،تعترض طريقها المدافع الأرضية المضادة للطائرات، فيسقط بعضها كالثمار المعطوبة المتدلية من عناقيد السماء .القنابل تدك الأرض بزائيرها فتفني التراب الحي . أشتد القتال وحمي الوطيس،صارت الفالوجا كرة من اللهب،تقذفها البنادق وتركلها المدافع ،امتشق الجيار سلاحه ،وخرج من جحره ،وراح يسدد الطلقات حتى نفذت ذخيرته فتناول سلاح ملقى بجوار جثة يعرفها، وعبأ ذخيرته بالبارود ،تبعه رفقاء الدرب والسلاح . صوت الرصاص يخترق الأذان والأجساد ،سقط الجيار على قدميه بعدما اخترق الرصاص ساقه السرى ،ثم حاول النهوض فعاجلته كتائب الجيوش المتحصنة خلف الدبابات بوابل من الرصاص والقذائف، لتحيله إلى رماد وغبار. الغضب يجتاح عصابة الأربعين لرؤية زعيمهم يسقط أمامهم ،فتتوالى سلسلة السقوط المدوى للكيان الأربعينى .الرصاص يمارس هوايته في اعتقال الحياة، وإزهاق الأنفس، فيسقط غريب ،وعتريس على أثر قذيفة مدوية أطاحت بهما ،وقد تمدد سكينه العملاق بجانبه ،أبو شعر ينتقل بين الصخور والجدران ،يسدد الطلقات من سلاحيه حتى نفذت ذخيرته فيخرج عارياً بسكينه الضخم، فيسقط على أثر قذيفة بترت نصفه العلوي ،حاول أبو جوده التراجع لكن صورة كلير تتراءى بين السحاب عابرة طيف الأدخنة والأتربة ،فيحدق ببصره إلى السماء ،ويمضي بسلاحين يسدد من خلالهما الرصاص حتى يسقط مضرجاً في دمائه وابتسامته لا تغادر شفتيه، وقد بترت ساقيه ،والإبراهيمي يزحف يئن من الجراح التى جللت جسده ، حتى سكن إلى رفيقه الشناوى، ثم برد جسده أخيراً ،سقطت عصابة الأربعين الواحد تلو الأخر، سقطوا مثل أوراق الخريف ، ولم يبقى سوى جنود الحامية، الذين تخلوا عن الحصن واندفعوا تباعاً كالسيل ، يستبسلون في القتال ،والقائد أحمد زهران يحثهم على الصبر في القتال . فشرع يسدد الطلقات من سلاحه،حتى نفذت ذخيرته
                        التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 28-11-2021, 12:25.
                        الحمد لله كما ينبغي








                        تعليق

                        • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                          أديب وكاتب
                          • 09-04-2011
                          • 768

                          #13
                          و شرع يزحف بين الأشلاء ،والجثث المتناثرة هنا وهناك ،والمدافع لا تفتأ ترسل خوارها المحموم حوله .سقط الكثير من جنود الأعداء أثناء محاولة إجتياح الحصن، ونجحت الحامية في صد الهجوم الكاسح، وتدمير ،العشرات من الدبابات والمدافع ، وإسقاط العديد من الطائرات التى هوت كالفراش المحترق في ساحة المعركة، ف صارت حطاماً متكاوماً ،يُعيق تقدم العتاد الثقيل للقوات المتحالفة ،فُأتيحت الفرصة السانحة لجنود الحامية من التقدم بضع أمتار، وصد الهجوم الكاسح للقوات المعادية ،فصُدرت الأوامر بالإنسحاب الجزئي ،بعدما تكبدت قوات الحلفاء خسائر فادحة في العتاد والأرواح . لكن القوات الإسرائيلية ، واصلت القتال،خوفاً من زعزعة ثقة الجنود ، بعدما انسحبت قوات الحلفاء من أرض المعركة. وفي خضم القتال، شعر القائد أحمد زهران ببرودة تدب في اوصاله،سالت الدماء من أنفه بغزارة ، تحسس ثقوباً حارة أخترقت بزته ، فقد توازنه، سقط جاثيا على ركبتيه، تسللت الدماء بكثرة بين شفتيه ،رنا ببصره إلى السماء، ورغم كثافة الأدخنة والغبار العالق في الفراغ ،رأى السحاب يمرق بين إجفال العين من شدة الجراح، وارتداد الطرف عند يقظة الروح وهى تعانى في سكرة الألم . تجشأ الدماء فطفح من فيه ، حاول أن ينهض، لكن قواه خارت ، فترنح قليلاً ،سقط متكيء على ركبتيه، مستنداً على بندقيته وصدره يعلو ويخفض.إنسابت دمعات ثقيلة على خده، مرق نصفها على نحره ،وعلق شطرها بخصلة متدلية من شعره، ثم تناثرت وعلقت بلحيته ،دس يده المخضلة بالدماء داخل صدره المترع بالجراع والألم ،فنزع ،وشاح ابيض،تخضب بالدماء،يفوح منه عطر الياسمين، ثمُلت

                          عينيه على امتداد الألم ، وتضائلت الرؤية في عينيه، شيء فشيء، حتى كاد أن يُغشى عليه ، رنا بعينيه إلى القتال الدائر فاستحالت أرض المعركة ، حقول ومروج خضراء، والغبار صار غيوم تسح المطر فوق الجداول والأنهار ، وحطام الدبابات والطائرات، صار أشجاراً وحدائق غناء ،وجداول يكثر على حوافها زهور الياسمين والجلنار ، والطائرات صارت فراش أبيض يحط على أوراق الزهور ، ثم تحلق فوق الجداول بتناغم وانسجام ،وبينهما حسناء تُدلى ساقيها الدقيقتين فوق ضريح نبع صافي ،تشطر الماء وتنثره في أعراف الهواء . دنا منها ولثم جدائلها المعقودة كحبات الرمان، فانسدل منهما قطوف التوت والعنب، ثم طبع قبلة رقيقة بلثمة حانية من شفتية العذبتين على خدها الأرجواني الأسيل، ففتر ثغرها الوضاء عن ابتسامة ساحرة أضاءت محياها الكحيل بأيات الجمال، ثم ولت مدبرة في غنج ودلال ..تكايده وتنافحه بكل ما تظفر به يداها على امتداد ذراعيها ،حتى أدمى الشوك أخمص قدمها فتأوهت وكادت تسقط فوق الغدير، لولا أن أمسك بطرف ثوبها، ثم حملها بين ذراعيه وأجلسها على صخرة ملساء .وطفق يتحرى الألم ، ويغسل الدماء برشقات من الماء ،ثم لثم طرف أصبعها الدامي بعذوبة شفتيه ،ولعق ماتبقى من عسل أنساب من جرحها ، ثم نظر إليها : هل أنت بخير الأن ياسيدتى ..أشارت إليه بإيماءة الرضا، ثم ألقت بنفسها بين ذراعيه ودست رأسها في صدره المترع بالحب والحنان . لم يبقى سوى أيام قليلة ،وتزف إلى حبيبها ،بعدما عقد قرانها ، والقرية الصغيرة تنتظر بلهفة إقترانهما الأبدي، والشموع البيضاء تتسابق لكي ترقص تحت إيقاع اللهيب ..لكن ناعق الحرب دق طبوله قرب الفالوجا، عندما اجتاحت عصابات يهودية أرض فلسطين .ظلا سوياً يقضيان سحابة اليوم بين الروابي والمروج .يقطف لها أزكى الثمار والزهور قبل رحيله إلى أرض المعركة .عقد عليها لكنه لم يبني بها ، ورهن ذلك حتى عودته .في اليوم الأخير كانت تعاونه في إرتداء بزة الحرب ،وتطمئن على متاعه وطعامه وكتبه، تجهش بالبكاء أحياناً، والدموع تجري ساكنة على نحرها ،تكفكفها بقبلات الدعاء والرجاء ،كلما خشيت أن يراها على تلك الحالة، فينوء بثقل الحرمان ،أضعاف ما يحمله من لوعات الفراق .وبينما يتأهب للرحيل نظر إليها ، فما راعه إلا الدموع تنحدر على نحرها وجلبابها فصاح " ياإلهى ؟ إنك ترتجفين ماهذه الرعشة ..هوني عليك ،وما كادت تولي ظهرها حتى خنقتها العبرات والزفرات فأجهشت بالبكاء وأسندت رأسها إلى الحائط ، تنتحب إنتحابا مريراً،ثم عمدت إليه وارتمت إلى عنقه وهي تتشبث به تشبث الميت بالحياة . غادر الفتى في قطار الجنوب يحمل معه أماني الحب المعقودة داخل فؤاده المترع بالأمل والحزن معاً ، وجراح الوطن التى أوغلتها الأيدى الآثمة للمحتل والمستعمر الغاصب، لا تغادر مخيلته .كان بريد الرسائل العاجلة يخفف من ألام قدحت في أحشائها ،وأذابت سويداء قلبها .تلثم الرسائل وتدسها إلى وثير صدرها الحاني .وفي الصباح تغادر إلى المروج والحقول تظل سحابة اليوم تطوف بين الجداول والروابي ،تستعيد أيامهما الأولى، وتمكث عند الصخرة الملساء، تستجيش صدى صوته المترع بالحب والحنان، بعبارات تستنزل فيافي العشق
                          الصبابة .وفي أحد الأيام تأخرت رسالته، فكادت شعبة من مهجتها تقع ، فحلقت إلى مكتب البريد ،وهناك تعلل الموظف بأن الحرب قد دمرت معظم الطرق والكباري ..وفقد المكتب عدد كبير من سعاة البريد..كانت تلتمس له العذر في تندر رسائله بسبب القتال الدائر على الجبهة ،حتى انقطعت رسائله تماماً، فكانت تذهب لمكتب البريد تتفقد الرسائل علها تجد واحده هناك .لكن الحظ لم يحالفها ولم يحالف الكثير من الفتيات والأمهات الذين احتشدن هناك ،متسائلين عن تأخر الرسائل .. أيام العلل والحزن تسربت إلى روحها ،فسالت نفسها وذابت كالشمعة البيضاء يأكلها اللهيب .ثم سار الخبر في القرية كالنار تسري في الهشيم . أن أحد أبنائها لقي حتفه وهو يقاتل ببسالة ضد عصابات اليهود .أخفت القرية عنها حقيقة الخبر خشية وطئة الألم .فكانوا يسارعون في قضاء حوائجها والتسرية عنها حتى شعرت بمجهول يراودها .و بذور الشك تسري في قلبها حتى عزمت على استجلاء غامض الأحداث، ولعبت الصدفة دور في الكشف عن السر الأعظم الذي تخبئه القرية .عندما كانت منهمكة في الإعداد لوليمة على شرف المصابين العائدين من الحرب ..فتناهى إلى مسامعها حديث فتاتين إحداهما تفضي لصديقتها نوادر الحروب وأخبارها ،مما يسمعونه من أبائهم حتى وصلا لحادثة الفتى ومصرعه في الميدان .. وإخفاء الأمر عن زوجته خشية عدم تحملها لصدمات الألم ،قرع الخبر فؤادها المكلوم هرعت مهرولة إلى منزلها . كان والدها رجلاً سميناً ذو وجه عريض ، ولحية كثة يرتدى نظارة طبية ، ملتهب الحمره، مثقفاً، يشغل منصب رفيع في البلدة وعلى سيماءة علامات الجد والوقار، فوقفت تناديه وهو منهمك في مكتبته يقوم بتصفيف الكتب فوق الرفوف..أبي ..ما الذي تخفونه عني ؟.


                          التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 28-11-2021, 12:26.
                          الحمد لله كما ينبغي








                          تعليق

                          • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                            أديب وكاتب
                            • 09-04-2011
                            • 768

                            #14
                            ما الذي حدث لزوجي يا أبي ..؟ خيمت سحائب الحزن والكآبة ،داخل غرفة المكتبة، وكست وجه الرجل العجوز فتغير لونه ، نكس رأسه حزنا وألما ، نزع نظارته ،ثم رفع رأسه وقد أغرورقت عيناه بالدموع قائلاً : إبنتى وقرة عينى، لم يعد هناك حاجة ،لأن نخفي عليك بعد اليوم ..فليرحمني ربي..ولتسامحيني يا ابنتي .. شعرت الفتاة بكلمات والدها كأنها نصال حادة تنهش فؤادها المترع بألام الفقد ،فوضعت يدها على صدرها الذي شرع ينبض بتسارع ، ثم شهقت شهقة حادة مؤلمة ، وطفق الرجل يقص عليها الحدث،وسقوط أحمد قتيلاً على أرض المعركة ..أغرورقت عيناها بالدموع ،وأجهشت بالبكاء ،وسرعان ما فقدت توازنها ،وأغشي عليها ..فصرخ والدها :بيسان ..بيسان.. هرع الطبيب إلى منزل السيد نُصيف ..وأعد تقرير بحالتها الصحية، مُذيل ببضع كلمات ..صدمة عصبية تستدعي الراحة التامة على الفور ، ومع المتابعة الجيدة، ستكون على مايرام ..استفاقت بيسان من صدمتها، وقد اصطلحت عليها أعاصير المرض والذبول فكانت تردد دائماً ..ويلي .. ثم ويلي، فما في قلبي مهجة إلا ذابت شجى ..ولا مقلة إلا أسبلت أسى ..، ثم يُغشي عليها مرة اخرى.. مرت شهور عدة ومازالت بيسان ترتدى ثياب الفجيعة حتى تمكن منها المرض فيبست ، وأصيبت بالهزال فتغير لونها وصورتها بعدما كانت زهرة وضيئة ذات جمال وحسن آخاذ،وفي أحد الأيام خرجت برفقة جروها الصغير إلى المروج الخضراء، تستنشق الهواء العليل ، حيث تشعر بالراحة والسكينة ..ثم يغلبها البكاء فتردد : معذرة حبيبي ..لا يمكنني إيقاف ألم المعيشة دونك.. ثم تسقط في وصلة من النشيج المرير ..ظلت أعوام تتردد على الحقول والمروج .. تستعذب مناجاة الأطياف والأشباح حتى جفت دموعها الرقراقة..وكلما عاتبت عليها صديقاتها كثرة الحزن والدموع كانت تجهش بالبكاء وتردد :

                            الدموع تغسل الجراح والأشجان، كما يغسل السحاب الجدب،، قال الشاعر «توماس مور»:بكت الفتاة على قبر حبيبها ،ونور القمر يتوسد فرش الثلج، فانطلقت دمعة حارة جمدها الهواء القارس، ولبثت طول الليل حتى برق الصباح، فبرقت في شعاعه، وكان أحد الملاك قد فارق فلكه يرفرف على عظام الموتى، فأبصر تلك الدمعة الجامدة فحملها إلى «الرحمة» ذات العين الندية.ثم لا تفتأ تذهب في وصلة من البكاء والنحيب المرير ،حتى ذهب صفائها ،وذبلت نضارتها،فكانت مثل صباح ربيع باهت، متمسك ببرودة الشتاء ، حين انتزعت منها روحها ، وخارت قواها امام ضريحه المزعوم، وعندما اسدل الليل الطويل حلكته ،اتشحت بيسان بالسواد ،واستترت به.ومضت دون وعي ، لاتلوى على شيء ..
                            وفي يوما من الأيام ذهبت إلى المروج تتكيء على طفل شقيقتها قاصدة ماء النبع.. جلسا سوياً يدليان ساقيهما ..ويشطران الماء هنا وهناك . ثم حلقت الفراشات فوق رأس الصغير ،الذي شرع في القبض عليهن، ومطاردتهن بين الزهور والجداول ..رفعت ساقيها وسارت برفق حتى أدمى الشوك أصبعها النحيل، تأوهت قليلاً ،فنادت على الطفل الذي كان منهمك في ملاحقة الفراش بين الأعشاب والأغصان الملتفة ، لم تستطيع أن تحفظ توازنها وهى تتعثر بين الصخور كل برهة ،كانت قد فقدت بصرها جراء الدموع التي أذابت بريقهما
                            ،تحسست برفق موطي قدميها حتى اهتدت للصخرة الكبيرة الملساء ،
                            بدت على وجهها ابتسامة خجولة، وكأنها تستدعى في ذهنها صور الأيام الخالية التى جمعت بينهما في ذات المكان ،لكن شيء قطع عليها خلوتها ،أحست بوطئته، حركة مريبة تندس بين الأعشاب ،فالتفتت يميناً ويساراً ،وشرعت تنادى على طفل شقيقتها ، مروان ،مروان .وتحسست مقبض العصا، وشرعت تلتفت خلفها وهى تصيح من أنت ، أظهر نفسك ، حتى دنا منها الظل، وشرع في تأملها على استحياء ، فرأى عينيها دامعتين، وأهدابها ذابلة.همس لها: أو تعلمين ،لقد مر وقت طويل .نظرت إلى طرفِ عينيه بصفاءٍ، وقد بدت صورته شيء فشيء، فرأت عينين مثقلتين بالدموع تحكي وتدمع ،نزع كوفية بيضاء وعمد إليها ..يتحرى الجرح الذي يقطر دماء فلثمه بفيه، ولعق ماتبقى منه .. شعرت بالسكينة بين يديه ..أخالت نفسها في حلم نمطي أخر ..قطع غفوتها صوته الحاني وقال :معذبتي هل أنت على ما يرام الأن..عركت مابين عينيها فرأت طيف منهمكاً يحاول أن يساعدها في ارتداء حذائها، لقد وعدتك أنني سأعود يوماً ما ..! ثم رفع رأسه : لم أكن لأحنث بوعدى ،فشهقت شهقة كادت أن تنتزع روحها من جسدها ، فألقت بنفسها بين ذراعيه ، وغاصت رأسها بين وثير صدره الحاني ..وضمها من جديد ،وشدها أكثر، وغابا في الحنين.وبدون أن تدري اندفعت أنامله بين خصلات شعرها ثم غابا في قبلة طويلة، ثم احتملها كالطفلة الوديعة ،يمضي بها بين الحقول والمروج ..ومضت الأعوام في خرطها للأيام والأحداث، وظل حصن آخيل مكاناً موحشاً مُرعباً تحيطه الكثير من الأسرار والغموض ، وصارت قلاعه المدمرة طريقاً معروفاًُ للموتى الذين لعنت أرواحهم ذلك المكان الكئيب ،حيثُ يبست جذور الأشجار ،وجفت الأنهار حوله ، وذبلت الأعشاب الخضراء، وتفتت قطع الصخور، وكأن الوباء خيم وعشش فوق المكان ،حاول رجال الدين اليهودى تلاوة الترانيم ،واستعمال التعاويذ الدينية من أجل طرد الأرواح الشريرة كما يزعمون ،لكن الرياح الغاضبة كانت تهب بحممها وزفيرها الساخن فتصدهم وتلفح وجوههم. فقامت البلدية ببناء سور شائك من الأسلاك وذيل بعبارة "خطر ممنوع الإقتراب" ، وكثرت الأساطير من حوله فقيل إنه حصن ملعون ،بسبب الرياح الغاضبة التى تهب منه كلما حل شهر تموز، وتصرخ بحممها في فضاء المكان ،وفي عصر أحد الأيام كانت هناك عجوز شمطاء تقتعد الأرض، وتفترش الحصى وتبيع بعض الحلوى والتبغ . مر من أمامها ظلال ،وأصوات ،ثم دنا منها أحدهم وهمس في أذنها :هل أجد عندك تبغاً منغولياً .. ثم ألقى إليها قطعة ذهبية، رن جرسها في سمعها ..فتراقصت ابتسامة ندية بين شفتيها اليابستين ،ورددت : لقد عادوا ..لقد عادوا.بعدما انتهى البروفسور فريمان من تلاوة قصته على مسامع الحاضرين، أغلق الكتاب الذي يحوى الرسائل .. ثم أشار البروفسور إلى عجوز مسن مقعد على كرسي متحرك .رفع العجوز رأسه المنكسة قائلاً بصوت واهن ..أُدعى لوجيانو ..مارك لوجيانو .. لقد كانوا رجالاً عظماء..أعتقد أنهم أخر الرجال العظماء في العالم ..ثم ساد صمت طويل وبسط أجنحته فوق رؤوس الجميع مما دفع الكسندر بابل للصياح قائلاً:وأين ذهبت المخطوطات الذهبية ؟ .. ساد صمت بحجم السماء ،وشعر بافل بالحرج ، حدق إلى رفاقه الذين أبدو استيائهم من جرأته ووقاحته ..لكنه أصر على المطالبة بحقه في المعرفة والرد على سؤاله ..ابتسم لوجيانو قائلاً : لاتراع يابنى .. لاتراع ..بعد انتهاء المعركة حدث شيء مريع ،عصي على الفهم ، لقد اختفت جثة الجيار ،ورفاقه من ساحة المعركة بعد انقشاع الغبار والدخان ، لا أدرى كأنهم رحلوا بعيداً ،أو أن الأرض قد اخفتهم في مكان ما .. بافل : لكننى مازلت أريد أن أعرف أين ذهبت المخطوطات ..؟سأخبرك يابنى ،هناك رجلين يعرفان مكان المخطوطات ياعزيزي .. ثم رنا ببصره إلى الأفق .أحدهما سقط في أرض المعركة واختفى دون أثر..والأخر حي يُرزق يعيش في مزرعة صغيرة أقصى الشمال، برفقة زوجته وأبنائه .بعد أيام سرت شائعة قوية تردد صداها بين أروقة أوميترا عن رحيل بعض طائفة من العلماء ،والباحثين، العاملين في المنظمة ،نظراً للأزمة المالية الطاحنة التى تمر بها "أوميترا" وانخفاض حجم التمويل ..حيث تعمدت الدول الكُبرى أن تشن ضغوطاً مالية على رؤساء المنظمة من أجل التأثير على توجهات أوميترا المناهضة لسياسات وسلوكيات الدول العُظمى .لكن أوميترا لم تُذعن لتلك التهديدات ،فتقلصت عقود التمويل شيء فشيء ،حتى فقدت أوميترا الكثير من عقول النخبة والمفكرين ،ومع إنقطاع التمويل باع البروفسور فريمان كل ما يملكه من مدخرات، حتى لا تتأثر أوميترا بنقص الدعم المالي . ومع توقف العديد من الخدمات الصحية والثقافية .عانى الطلاب الموهوبين في أوميترا من تلك الأزمات العاصفة التى حلت بهم .مما كان له أثر سيء على صحة البروفسور فريمان، حتى باتت شمعة الحياة يخبو ضوئها في جسده العليل، ومع مرور الأيام ساءت صحته ،وقضى البروفسور فريمان نحبه، وحلقت روحه فوق أعمدة أوميترا، ثم صعدت إلى السموات العلى.علم الطلاب فيما بعد أن البروفسور فريمان قد فقد بصره تدريجياً، وأخفى عنهم حقيقة الأمر حتى لا يؤثر ذلك على تحصيلهم العلمى والتجربي.شيعت جموع من العلماء والطلاب جثمان البروفسور فريمان إلى مثواه الأخير. ونعى البروفسور ريتشارد هيز في كلمته المأثورة الجهود العلمية المُضنية للبروفسور فريمان وسعيه من أجل تشييد صرح علمى أكاديمى، يضم العديد من النخب العلمية والعقول الفكرية ،التى حلقت طية خمسة عقود في سماء أوميترا. حيثُ قال في كلمته المآثورة- سنواصل النضال يا أبنائي ولن يهتز إيماننا أو تخور عزيمتنا،سنواصل عملنا هنا في محاولة إنقاذ العالم ..لن نعود إلى الوراء سنصمد ونقاتل الشر أينما كان ،ثم حدق إلى طلابه، وتفرس في وجوههم : لن أتخلى عنكم يا أبنائي ..فأنتم الأمل القائم ،الذي سيتشبث بها العالم يوماً ما.سنظل معاً حتى يتحقق الحلم الذي راود البروفسور فريمان .ثم التفت إلى قبر الدكتور فريمان وعيناه تذرفان :لن تسير وحدك ياصديقي
                            التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 29-11-2021, 07:22.
                            الحمد لله كما ينبغي








                            تعليق

                            • عبد الحميد عبد البصير أحمد
                              أديب وكاتب
                              • 09-04-2011
                              • 768

                              #15
                              الحمد لله كما ينبغي








                              تعليق

                              يعمل...
                              X