لن أضيّع وقتي بالكلام الفارغ، سأخبركم عن حكايتي بالمختصر، سأتكلّم عن جرائمي، سأعترف بها علنًا، ولن أخجل من ذكرها أبدًا. ربّما ستظنّون أنّي ذو أطوار غريبة، وذو أخلاق فاسدة، حين أرفع لكم الستار عن جرائري التي اجترحتها قبل سنوات، والتي من جرائها زُجّ بي بغياهب السجن لثلاث مرات، ولكن كلّ ما أرجوه منكم يا سادة أن تتحلّوا بالصبر، وأن تقرؤوا ما سأكتبه إلى آخر السطر، ثمّ بعد ذلك، يمكنكم أن تحكموا عليّ بثقة وجسارة كما يفعل القاضي عندما يقرأ أولاً الأوراق التي تُدين المتهم، ثمّ يستمع إلى كلمات المدعي العام، ثمّ يصغي إلى الشهود، وحين يفرغ من كلّ هؤلاء يُصدِر ضد الجاني الحكم النهائي.
لم أكن من أصحاب التصنّع والاحتيال، ولم أكن أيضًا شريرًا أو كاذبًا، ولكنّي كنتُ مُتمردًا كالثائر، أستحق بتمردي أن أُنفى في مكانٍ قصيّ، في البريّة، بمنأىً عن النّاس، خشية أن أُلحق بنفسي الضرر. لم أكن أخشى شيئًا قطّ، كنتُ أفعل ما أحبّ فحسب، ولم أكن أضرب حسابًا لما يقوله النّاس وراء ظهري، لأنّهم في الخفاء أسوأ مني، ولم أكن أستمع إلى ما يقوله الوعّاظ والمرشدون، لأنّهم لصوص الله الّذين يملؤون جيوبهم بالأموال بعد أن يعبثوا بعقول النّاس، المؤمنون الحقيقيون يسيرون جهة اليمين، وهؤلاء المزيفون في جهة الشمال، يمشون نحو جهنم الحمراء التي ستلتهم أجسادهم لا محالة.
أوّل جريرة ارتكبتها كانت قبل عشر سنوات، عندما جئت بفتاة شابة لا تتخطّى الخامسة والعشرين من عمرها إلى بيتي، وطلبت منها أن أرسمها عارية كما خلقها ربها، وهي وافقت فورًا آنذاك كما لو أنّي سألتها عن شيءٍ تافه لا يستحق منها التفكير –ولو للحظة بشأنه. كان كل شيء يحدث بمحض إرادتها، لم أغصبها على شيء وربّ الأرض والسماء، كانت مغتبطة وراضية بما كان يجري بيننا، لا يغب ذهنك عمّا قلته قبل قليل "راضية" سنحتاج إليها فيما بعد. فخيّرتها بين أن أرسمها واقفة كالوردة القرمزية أم متكئة على الأريكة، فهي اختارت أن تجلس عارية على المقعد المنجّد كما لو أنّها من نساء الحضارة الرومية. وما إن شرعت في وضع ريشتي على اللوحة حتّى ضرب أحدهم جرس الباب.
بعد أن سمعت صوت الجرس، أشرت إلى الفتاة بأن تختبئ وهي عارية – لدقائق – في خزانة الملابس، ريثما أعود بعد أن أرى من وراء الباب. حين فتحت الباب، رأيت إزائي وجهًا غير مألوف، أسمر كقلبٍ محروق، مملوء بالخشونة والندوب. رجل ذو جسمٍ ضخم كواحدٍ من جنود النبي سليمان. قال لي: "أأنت صاحب المنزل؟" لم أجِب، فلم أزل مصعوقًا من مرأى هذا الكائن الّذي بان لي من العدم كما لو أنّه شبح تائه. سألني مرّة ثانية، فأفقت من غيبوبتي اللحظية، وأجبته بصوتٍ يملأه التعجب: "نعم، ما الأمر؟" أدخل يده في جيبه، وأخرج بطاقة صغيرة للمباحث العامة، وصوّبها نحو أنفي، فقال لي: "اسمح لنا بالدخول، لدينا أمر بتفتيش المكان" انفجرت ملامحي حيرة واستغراب، فقلت بصوتٍ يقطعه الوجل: "أنتم! ولكني لا أرى سوى شخص واحد يقف أمامي الآن، ثمّ بأي حق تريد أن تدخل؟! "، فنادى بصوت عالٍ لسيارتين كبيرتين، سوداوين، كانتا رابضتين بالقرب من بيت الجيران: " شباب، شباب تعالوا"، فُفتحت أبواب هاتين المركبتين الضخمتين، فخرج من السيارة الأولى أربعة أشخاص، أشباه هذا الرجل، لا فرق بينهم وبينه البتّة كما لو كانوا توائم، وأمّا الأخرى، فظهرت منها امرأة متوشحة بالظلام، فقال لي: "يمكنك أن ترفع ضدنا شكوى فيما بعد أمّا الآن فدعنا نقوم بواجبنا فحسب". اقتحموا البيت، وأنا في حالة يُرثى لها من الهلع والخوف، خشية أن يعثروا على الفتاة.
يتبع
تعليق