
(مقالة)
1) منذ ورود فكرة المقالة هذه في علاج "العته الوجودي" على بالي ونصُّ الحديث الشريف الصحيح:"كُلُّ مَولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ، فأبَواهُ يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُشرِّكانِه أو يُمجِّسانِه ويُكفِّرانِه..."(رواه أبو هريرة، رضي الله عنه) يدور في ذهني؛ ونص الحديث بتمامه، كما رواه الإمام مسلم، رحمه الله: "ما مِن مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُشَرِّكَانِهِ"، فَقالَ رَجُلٌ: "يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لو مَاتَ قَبْلَ ذلكَ؟" قالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كَانُوا عَامِلِينَ"؛ وفي حَديثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: "ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهو علَى المِلَّةِ"؛ وفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، عن أَبِي مُعَاوِيَةَ: "إِلَّا علَى هذِه المِلَّةِ، حتَّى يُبَيِّنَ عنْه لِسَانُهُ"؛ وفي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ، عن أَبِي مُعَاوِيَةَ: "ليسَ مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا علَى هذِه الفِطْرَةِ، حتَّى يُعَبِّرَ عنْه لِسَانُهُ." وللحديث روايات أخرى لكنها تتناول الفكرة نفسها بألفاظ مغايرة تزيد أو تنقص حسب الرُّوَّاة؛ وهو نصٌّ مهم لإبراز دور التنشئة الاجتماعية بمختلف فاعليها في تشكيل عقلية الإنسان، أيِّ إنسان، وبناءِ شخصيته.
2) والفاعلون في التنشئة كثيرون يبدأون بالوالدين والأقارب ثم المعلمين، والمربين في المؤسسات المختلفة من المدرسة إلى النادي الرياضي أو الثقافي، وفي المعابد بأنواعها، وغيرها من المؤسسات التي تؤثر في تشكيل عقل الإنسان وتؤسس لثقافته وتبني شخصيته سوية كانت أو معوجَّة، منحرفة، ولا ننسى دور الأصدقاء والأقران في التأثير المباشر، أو غير المباشر، في تشكيل شخصية الإنسان.
3) يقال: "إن شخصية المرء لا تكتمل إلا عند موته"، فبموته ينتهي التأثر بما يحيط به من الأفكار؛ والإنسان، في النهاية، حصيلة ما يختزن من تلك الأفكار: قيِّمة كانت أو رديئة، طيِّبة أو خبيثة، صالحة أو فاسدة، حقة أو باطلة؛ فمن أين يستقي الإنسان أفكاره، التي تصوغ شخصيَّتَه، إن لم يكن من أسرته، ومدرسته، وجماعته، وكتبه وأقرانه من أترابه أو غيرهم؟
4) ثم هناك عوامل أخرى، مادية/عضوية هذه المرة بعد الأخرى سالفة الذكر في 2 و3، تؤثر كثيرا في تحديد ملامح شخصية الإنسان لا يُلتفت إليها إلا نادرا، أو لا يلتفت إليها أصلا، ومن تلك العوامل المؤثرة تأثيرا مؤكدا:
1- الهرمونات (إفرازات الغدد الصماء) المختلفة ولاسيما الغدة الدرقية الخطيرة، فهي تظهر، عند اختلالها، الشخص بمظهر الإنسان العصبي، أو سيء الخلق، وما هو في حقيقته كذلك لولا "مكر" غدته الدرقية به، وهذا موضوع كبير يحتاج إلى وقفة متأنية لا يستطيعها إلا المختصون ولست منهم؛
2- نشاط الفصوص الدماغية المختلفة وقشرة الدماغ، ولهذا النشاط تأثير مباشر ومؤكد كذلك على سلوك الفرد، وقد عالج الأستاذ، الأمريكي الجنسية اللبناني الأصل الماروني الدين، دانيال ج. أمين، هذا الموضوع المهم في كتابه القيم الفذ "غيِّرِْ من عقلك تتغيرْ حياتُك"(change your brain change your life) وإن كنت أرى العنوان بالعربية خاطئا لأن التغيير يكون في الدماغ بفصوصه وقشرته وليس في "العقل" لأن العقل شيء غير مادي ولا يمكن التأثير فيه إلا بالأفكار، أو المعقولات، فقط، أما "الدماغ" فيمكن تغييره بالعقاقير المؤثرة أو بالجراحة المحلية أو بالتغذية الجيدة؛ فلوظائف فصوص الدماغ المختلفة وقشرته الحساسة تأثير مباشر في سلوك الفرد، بل في أفكاره ومن ثمة في حياته؛
3- التغذية وما يلتهمه الشخص من الأطعمة والأشربة تؤثر تأثيرا مؤكدا أيضا على تفكير الإنسان حتى يمكننا الزعم: "إن الإنسان نتيجة ما يزدرد" بلا تردُّد ولا تريُّب ولا خوف من عرض هذه الفكرة الغريبة هنا، ولذا فلا عجب إن جاء الشرع الحنيف، الإسلامَ، بتحديد المطعومات والمشروبات من حيث ذاتُها، المباحات والمحرمات لذاتها، أو من حيث اكتسابُها من حلالها أو من حرامها، وهذا ما يبِّينه الفقه الإسلامي، ولذا كان المربون الروحيون ("أرباب السلوك" في التصوف الإسلامي) يحثُّون المريدين على أكل الحلال فقط وتجنب المشبوهات من المأكولات والمشروبات، وترك حتى المباحات حذرا من الوقوع في المحرمات؛
4- التقدم في السن، فقد يزداد المرء حكمة وعقلا ورزانة لم تكن عنده في مراحل حياته السابقة بما يكسبه من تجربة في حياته فتتأثر شخصيته نتيجة لذلك؛
5- المرض الطارئ المؤقت أو المزمن، ولاسيما هذا الأخير، وما يسببه من تغير في شخصية الإنسان، وهذا الأمر مشاهد ومجرب ومعيش؛
6- العاهات الجسمية الكبيرة (المهمة) كالإعاقة الجزئية أو الكلية، و العمى، و الصمم، و الخرس (البكم) فكلها تؤثر تأثيرا عميقا في الشخصية. (**)
5) وبناء على ما تقدم كله فليس "الإنسان" مجموعة من العضلات والعظام والأعصاب والعروق والأعضاء والأجهزة الباطنة فقط وإنما هو إضافة إلى ذلك كله: عقله وثقافته وأفكاره، فعنها يصدر، ومنها ينطلق، وبها يفكر، وعليها يقَوِّم (يحكم) ما يتصل به من الأشخاص ومن الأفكار ومن الأشياء؛ فإن كان ما تلقاه منذ صِغره حتى كِبَره صحيحا جاء ما يصدر عنه كذلك وحكم عليه بالصحة والجودة، وإن كان سقيما حكم عليه وعلى فكره وما يعبر عنه بالسقم والرداءة حتما.
6) لكن الإشكال الذي يفرض نفسه علينا هنا والآن هو: ما هي المعايير، أو المقاييس، التي يُحْكم بها على شخص، فكره وعمله، أنه صحيح، صالح، وجيد، أو أنه سقيم، فاسد، ورديء؟ هنا مربط الفرس كما يقال عادة، أو "هنا مربط الخيل"، كما أقول، و"الخيل معقود بنواصيها الخير"؛ ولا خروج من هذا الإشكال إلا بالاتفاق على معايير تكون لنا ميزانا محكما دقيقا، ونحن، المسلمين، نرضى بما يلي معاييرَ:
1- الشرع الحنيف: الإسلام، بنصوصه الصحيحة الصريحة؛
2- العقل الصحيح المؤيد بالدليل والبرهان والحجة؛
3- الواقع المعيش المحقَّق، فالواقع أصدق إنباءً من الكتب؛
4- التاريخ الموثَّق المدقَّق، ولنا في التاريخ فِكَرٌ وعبر؛
وليس بعد هذه الأربعة معيار يمكن الاطمئنان إليه أو الاتفاق عليه كلية؛ ونحن، المسلمين، نطمئن إلى النصوص الصحيحة الصريحة (النقل) ونقدمها على العقل (الفكر) لما قد ينتابه من خدع ويعترضه من تشويش تلقائي أو مقصود مُغرض يَضِلُّ (العقلَ) بسببه ويتيه.
7) هذا المدخل الطويل قصدا ضروري للوصول إلى فكرة العنوان المثبت:"التجاهل الوجودي لعلاج العته الوجودي" فما ينتج عن عقل لا يعتمد الشرع فتفكيره وتعبيره وتصرفاته ومواقفه ضلال وضياع وتوهان أو هو، باختصار، "عته" (جنون وخبل) يمكن معالجته بالمناقشة والحوار، أو بالقرع، أو الرّدع، أو الدّفع، وإلا عولج، إن استعصى على العلاج "الطبي" (الشرعي)، بـ"التجاهل الوجودي" لأنه "عته وجودي" ناتج عن فكر مريض سببه التنشئة الخاطئة، والتربية الفاسدة، والتلقي المشبوه والتوجيه المغشوش فنتج عن هذا كلِّه "عقل سقيم" تصعب معالجته أو تستحيل.
هذا، وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى، إن كان في العمر بقية، والموضوع بعد ذلك أكبر من أن يعالج في مقالة وأخطر، والله أعلم ونسبة العلم إليه، سبحانه، أسلم وأحكم وأفهم، وقراءة ممتعة مفيدة إن شاء الله تعالى.
البُلَيْدَة، مساء يوم الأربعاء 13 من ذي الحجة 1440 الموافق 14 أوت/أغسطس 2019.
(*) بتاريخ 09 الجاري، وفي متصفح أختنا القديرة أميمة محمد: "أوراق صغيرة (2)"، كنت أعلنت، في مشاركتي رقم# 402، عن موضوعي هذا غير أن ظروفي لم تكن تسمح بتحريره رغم دورانه في ذهني باستمرار، ونحن لا نتحكم في خواطرنا متى تدرُّ ومتى تجِفُّ، أو متى يصفو الذهن ومتى يتكدر، وأرجو من القراء ألا يبخلوا علي بملاحظاتهم وتصويباتهم لما قد يتسرب إلى المقالة من أخطاء إملائية أو نحوية أو لغوية ولهم مني جزيل الشكر سلفا.
(**) استدركت اليوم (3 سبتمبر/أيلول) ما فاتني أول مرة (14 أوت/آب) من سرد العوامل المادية المؤثرة في تشيكل شخصية الإنسان فأضفت الثلاثة الأخيرة (4 و5 و6) حتى تكتمل تلك العوامل، وهكذا الإنسان ينسى ويغفل ويسهو وعليه أن يستدرك ما تنبه إليه من ذلك، وما سمي انسان إنسانا إلا لكثرة نسيانه.
تعليق