في أحراش تلك العتمة، في ذلك المستنقع الرحب، الّذي يسمّى الحبس، تحوّلت إلى هيكلٍ عظمي في غضونٍ أشهر قليلة.
سأحكي لكم تلك التجربة المريرة بعد أن كنتُ رافضًا لسنوات طويلة أن أبوح بها لأحدٍ من الخلق، خشية أن أترك انطباعًا مُكدرًا ومؤلمًا في النفوس، ولكن بما أنّي لم أستطع، بل لم أقوَ على تُحمُّل صوت السياط، وعلى مرأى سحنة السجّان البشعة، وابتسامته الخبيثة، في أحلامي ويقظتي، سأنفجر كالبركان لكي أرتاح، لكي تموت النار المستعرة في صدري إلى الأبد.
على الرغم من أن السجن صُنِع لغايتين لا ثالث لهما: التهذيب والإصلاح، إلاّ أن ما رأيته في ذلك المكان، ينأى عن كلِّ مقصد رفيع ونبيل، كيف لا، وأنا عشتُ فيه طوال التسعة أشهر، مُهانًا وذليلاً إلى أبعد الحدود، مُنذُ أوّل يومٍ ولجتُ إليه إلى انعتاقي منه قبل أيّام قليلة.
أؤمن بشكلٍ مُطلق أنّ الرحمة حين خلقها الرب، ونثرها على الأرض، لم تذهب بتاتًا إلى وراء تلك الأسلاك الشائكة، والجدران العالية، إلى تلك الأماكن في قعر الظُلمة. هناك تختبر خِلاف ما اعتدت أن تراه وتشعر به في العالم الحُرّ، لأنّ السجن ضد الحياة، وضد الإنسان، وضد نواميس الإله العادلة. إنّه ضرب من ضروب الموت، إنّه منبع القسوة والتعذيب والصراعات النفسية. هناك لا يوجد ما يسمّى بحريّة الإرادة في فعل ما تشاء، ليس بمقدورك أن تختار بين أمرين؛ عبد أو سيِّد، مُحترم أو مُحتقر. إنّك تعيش طوال الوقت مسلوب الحقّ من كلِّ شيء، مُسَيَّرًا غصبًا عنك، راضخًا للقوانين الجائرة التي تضنيك وتنهكك، القوانين التي وضعها من لا يملك أدنى ذرة من رِقَّة القَلب والتعطُّف. إنّك مُجبر على أن تقتات على الأوهام المُرعبة، وعلى الخيالات البائسة من فرط وحدتك. إنّك تُقاتل كلّ يوم من أجلِ أن تحيا.
ريح القدر جلبتني إلى ذلك المكان الّذي أسميه "وكر الشيطان"، الّذي سُلب منه –بقصد- كُل الخير والرحمة والمحبّة، واُغرِق من أوّله إلى آخره بالمظالم، وبالوجَع والأَلَم، وبالصراخات الظاهرة المفضوحة، والصراخات الباطنة غير المسموعة.
أقول لكم شيئًا بديهيًا، لا أحد مسرور في الحبسِ المُظلم من سلوك السجّان، ذلك الوحش الكاسر، ذو القلب الميِّت بفظاعة، الّذي دائمًا يُشغِل باله في صُنع الشرور للمقيدين بالأغلال. لا أحد منّا يبتهج في أعماقه من أفعال حُرَّاس المحبس القذرة التي لا اختلاف بينها وبين حماقات الطغاة. إن كان ثمّة سجين يجد لذّة في ألمِ السياط، وفي تلقي أصنافٍ من الإهانات الشفهية والجسدية، وفي تعذيبه بالرشِّ عليه بالماء القارّ في باحة السجن، في الطقس الصقيعي، وفي اللّيالي الثالجة، فهو بلا مراء، مُصاب باضطراب الماسوشية، وبحاجة مُلحّة إلى جلسات نفسية مُكثّفة، وإلى تناول أقراص من الأدوية لكي يتخطّى تخوم النفس غير السوية.
ما كنت أُبدي اللامبالاة، أو أن أتصنّع رباطة الجأش، في ما يقوله لي السجّانون، الكلاب الشرهة، من ألفاظ نابية وكلمات بذيئة، لغرض سحق كرامتي، ومن أجلِ التلذُّذ بمرأى ارتباكي، وفي ما يفعلونه نحوي من أمور تُناقض الآداب الإنسانية، وتُخالف القيّم الخُلقية. كان دائمًا وراء أضلعي عاصفة تحمل في جوفها صاعقة، وحرائق تشتعل ليلاً ونهارًا، تبين كلّها في عيني اللتين كانتا تشعّ منهما نيران مدينة مُحتلة، تينك العينين اللتين كانتا في تلك اللحظات، متورمتين وحمراوين على الدوام. وددتُ بشكل مُفرط – وهذا ما يتمناه كلّ شجاع مُقيّد بالسلاسل: الّذي أرغمته الظروف ليكون تحت سلطة الجبناء- لو أنّ بجانبي مطرقة أُحطِّم بها رأس السجّان حين يهجس بخاطره لمس جسدي، أو مُدية أغرزها في كلّ موضع من صدره إلى أن يُفارق الحياة. ولكن لأنّهم يتفوقون علينا في ضعف النفس، فإنّهم يتخذون أشدّ الحذر والحيطة في منع الأشياء الحادة من أن تصل إلى أيدينا.
ليس في نيِّتي أن أُطلِعكم على كلّ الأشياء التي جرت لي في داخل الزنزانة، أو في أوقات راحتي في باحة السِجن. بعض الأحداث تبدو مُتشابهة إلى حدٍّ قريب، تُكرِّر بعضها بعضًا، مثل مشاهد مسرحية هزلية، لأنّ في أغلب الأحيان، كان حُرّاس السِجن يُمارسون ضدنا ذات الطقوس الشريرة، كما لو أنّهم لم يكونوا يعرفون أساليب تعذيب أخرى غيرها، ولكن ثمّة سجّان لعين، كلب شره، يُدعى "سليمان"، يناديه بعض السُجناء فيما بينهم "شقيق إبليس"، وآخرون يطلقون عليه لقب "أمير الشرّ".
كان ذلك السفّاح، يمتلك مهارة فائقة في إثارة الألم الكئيب في نفسك، ذلك الألم الّذي لن يهجرك مُطلقًا، ذلك الألم الّذي جعل بعض المساجين يسجدون تحت أقدامه لعلّه يرحمهم من عذابه.
ما إن ذكرت اسمه للتو، حتّى تبلّل خدي دمعًا، وعاد الألم إلى ظهري مجددًا. لقد كان قلب سليمان، يقطّر ضغينة وحقدًا علينا، كما لو أنّنا قتلنا أحد أطفاله، وقد كانت دائمًا أسنانه الصفراء تصطك حنقًا، بسبب أو من دون سبب، إنّها على ما أظنّ، عادة من عادات الظالمين، ذوي الأفئدة السوداء. ما فتئتُ أشكُّ أنه قد عرف المحبّة في أيّ وقتٍ مضى، أو أنّه قد حاسب نفسه في ليلةٍ من الليالي، أو أنّه قد رزح تحت وطأة الندم على ما اجترحه من قساوة وعنف عظيم بحقّ المسجونين. أقولها بكلِّ صدق، لقد كان سُليمان أكبر عينة تمثل خبث البشر.
أتذكّر جيِّدًا كلامه لي من الألف إلى الياء كما لو أني سمعته قبل دقائق. لقد ألقى عليّ كلماته المُدمرة في اليوم الأول من وجودي في الحبس. لقد قال لي بنبرة غاضبة: "أنت أيّها الجديد، في هذا المكان لن تنام، سوف تكتفي بإرسال تأوهات تشبه تأوهات المحكومين بالإعدام، سوف تمقت بشدّة العودة إلى هنا، إلى مرتع عصابات الشوارع والحثالة، إلى القاع السحيق الّذي يكتظ بالكثير من الأوباش من أمثالك." وكان صادقًا في بعض حديثه معي، فلا أذكر أنّي نمتُ لأربع ساعات متواصلة في أيّ ليلةٍ من تلك الليالي المُعتمة التي قضيتها هناك خلف القضبان، لأنّ ذلك الشيطان المُجرم، بل ذلك الجلّاد الّذي لا يكلّ ولا يملّ، جعلني أعقد صداقة لا تنقضم عُراها مع الأرق والألم.
كُنتُ في زنزانتي، أصيخ سمعي وأنا مستلق على ظهري إلى سمفونيات مُدهشة وعذبة، كانت تتسلّل إليّ من خارج السجن. عندما كنتُ أستمع بسرور إلى أناشيد الطيور التي تبعثها إليّ من خلال تلك الكوة الضئيلة في الحائط في مطلع إحدى الصباحات، وإذ بي أسمع وقع خُطى على الممر الداخلي، كانت الخطوات تقترب شيئا فشيئًا إلى أن تلكأت عند باب زنزانتي، فالتفتُ إلى ذلك الزائر الّذي جاء إليّ في بواكير النهار، فتعجبتُ حين ألفيته سُليمان الّذي لا يُطاق النظر إليه لا من الإنس ولا من الجان!. قد وقف صامتًا لوقتٍ قصير وراء الباب، فانتابني في ذلك الحين قليل من الذعر، ودارت في رأسي عشرات الأسئلة ...لِمَ جاء سليمان؟ ولكنني في لحظة سماعي إلى قرقعة مفاتيحه، نسيتُ ما أُفكِّر به، واكتفيتُ بمراقبته وهو يلجٌ بهدوءٍ إلى غرفتي الكئيبة. كان يمشي إزائي ذهابًا وإيَابًا دون أن ينبس بكلمة، كمن يريد أن يحلّ مشكلة عويصة بدون مُضايقة من أحد. وكان يُكثِر من نظراته الحادة كأنّها رمح مُسنَّن. وددتُ لو أنّه أخرج السّوط وضربني به، خيرٌ من أن يرمقني بشراسة كما لو أنّه يبتغي أن يؤنبني بصرامة !.
تحت وطأة ذلك الضغط، ذلك المناخ المُشتعل، تجرأت وسألته عمّا يجري بصوت يكتنفه الهدوء: "هل يمكنني أن أعرف لم أنت غاضب؟ ولماذا تعاقبني بهذا السكوت؟
فجّر في وجهي الكثير من الضحكات الخبيثة، كما لو أني قلت له أشياء تبعث على القهقهة. ولكنه سكت هنيهة، وعاد ليحدجني بذات النظرات الحانقة. ثمّ نطق قائلا: "عصر أمس في باحة السجن، عندما كنتم جميعًا هناك، تتنفسون في الهواء الطلق، تناول (طغمة) من المحبوسين، صنفًا من أصناف المخدرات، أخبرني من هؤلاء، ومن مِن السجّانين الّذي مرّر الممنوعات من الخارج إليهم؟ سؤالان، إن أجبتني عليهما بكلِّ أمانة وِصِدق، سوف أنقلك إلى عنبر أفضل من هذا، وسأسمح لعائلتك أن تجيء إليك في الوقت الّذي تشاء، وسأعطيك مزايا خاصة يحلم بها كُل سجين".
فطنت لعرضه الكذوب، فلم أحفل بإغوائه لي، وقلتُ لنفسي: طوال عمري أخبئ أسراري في أعماقي، ولا أخبر بها أحدًا، فما بالك بخبايا الآخرين! لجمت فمي بالأقفال، فلن يسمع مني حرفًا واحدًا هذا الوغد اللعين... ليغلي صدره، ولتشتعل في قلبه نارُ سكوتي.
وخزني بعينيه المنتفختين، وقال لي بغضب: "لا تريد أن تخون رفاقك، فهمت إذن، أيّها الوفي المسكين.. تودّ أن تُسجَن هنا طوال عُمرك، وأن يكون هذا العفن برزخك، وبيتك الأخير... سأجعلك تعض بنان الندم على تسترك يا ابن الزانية."
لم أستطع أن أكظم غيظي، اشتطتُ غضبًا وانفجرتُ في وجهه كالبركان الثائر، ثمّ لكزته في صدره بقوة شرسة حتّى ارتطم ظهره بالجِدار، وسمعتُ صوت عظامه وهي تتكسّر. انزلق إلى الأرض بهدوء كما لو أنّه دم يسيل من حفرة في الحائط. نادى على الشرطي الّذي يقف وراء الباب، بنبرة متعبة: "يا خفير، ادخل إلى هنا."
حين ولج الحارس إلى الغرفة، وجد سليمان على الأرض وهو يشير بيده نحوي. انطلق هذا الوحش صوبي، وأخذني من ياقتي، وقال لزعيمه: "ماذا تريدني أن أفعل به يا سيدي؟"
قال سليمان بصوتٍ يملؤه الإعياء: "ليذوق العذاب والمذلة في أقصى حدودهما."
"حاضر، حاضر" قالها هذا العبد المطيع. ثمّ جرّني وراءه في الممرات إلى أن وصلنا عند سجن مُظلم، لم أره قبل ذلك اليوم، فرماني فيه كالكلب المدهوس، وأغلق عليّ الباب، ثمّ اختفى. لقد شممتُ برعم العذاب يفوح في أرجاء الغرفة.
بعد دقائق رجع إليّ ومعه طغمة من السجّانين، كلّ واحدٍ منهم، يمسِك أداة خاصة بالتنكيل في يده. شرعوا في نزع أظافري العشرة الواحدة تلو الأخرى، وأنا أصرخ بالبكاء كالعجوز الثكلى، ثمّ صبُّوا عليَّ ماءً قذرًا، ممتلئاً بغائط الحيوانات من قمّة رأسي إلى أسفل قدمي. ثمّ جاء أحد هؤلاء الملاعين، وأطبق فمي بقطعة مستديرة من القماش، ثمّ فعلوا بي ما لم يفعله إنسان بأخيه الإنسان.
أغمى عليّ من فرط التعذيب الّذي لاقيته منهم. فتحتُ عيني في سجني. طريحًا على الأرض مثل ورق الخريف. شعرت أنّي في وحشة خانقة، وأنّي عاجز تمامًا عن النهوض كما لو أنهم هشّموا كلتا الساقين أثناء غياب وعيي. أدرتُ وجهي على سرير المذلة، وسحبتُ نفسي كعصفور على وشك الهلاك في قفص الظلام.
وصلتُ إلى فراشي، ورفعت جسدي إلى أعلى بصعوبة كبيرة حتّى ارتميت فوقه. كان الوقت ليلاً، وكانت الريح تصفّر في الخارج، والغربان المشؤومة تعبث في الداخل، في رأسي. سألت نفسي في ذلك المساء المتمرد، وفي قلبي دعاء إلى إلهي الّذي يسمع أصواتنا المتعبة والمتوجعة، ونداء إلى الملائكة التي تضرب بأجنحتها فوق سماء المدينة، دون أن تمرّ من هنا، لتنقل مآسينا إلى ربّ العباد، لعلّه يرحم ضعفنا وقلة حيلتنا. متى الخلاص؟ متى الانعتاق من هذا المكان الّذي يطفح ببؤرة الشر واللاإنسانية؟ فلم نُخلَق لكي نُسجن، بل لنعيش، ولم نُولد لنحزن، وإنما لنفرح، ولم تنمو أجسادنا لتُحرق وتتشوّه، وإنّما لتبقى على هيئتها الأولى! ولم تُخلق القلوب وراء الصدور، لكي تكره وتحقد، بل لتُحِبّ!.
كان بإمكاني أن أجلس على الرّصيف وأقطع حذائي... كان بإمكاني أن أصعد الجبل وأصيح بأعلى صوت...وكان بإمكاني أن أمشي في أيّ وُادٍ مناديًا الأحياء والأموات... وأجهش بالبكاء لكني خفت أن تلوموني فاحتجتُ إلى كتابة كلّ هذه السطور، لأقول سرّي للعالم، ولكي أقتلع جذور الألم من قلبي، ولكي أُشفى وأنسى...فسامحوني.