وليد
كان وليد من النوع المتمرد وهو يناهز الثالثة عشرة من عمره ، بل كان التمرد بعينه . في نظراته المفعمة ذكاء وفي تصرفانه ما يشي بذلك . عيناه السوداوان اللتان ورثهما عن أمه كانتا تجذبان الناظر إليهما مما كان يحدث في نفسه توجسا وريبة خاصة ما كان يتناهى إليه من أخبار بقايا الفتوات الذين كانوا يصطادون بعض الغلمان ويرغمونهم على مرافقتهم إلى الوادي تحت أنظار رفقائهم وبعض سكان الحي . لقد ولى ذاك الزمان لكن نظرات بعض الباعة لم تكن تخلو من رغبة صامتة . أسرته الفقيرة لم تكن تكترث لنزقه فصار حرا طليق مذ انفصل والداه وحضنته جدته لأمه ، فصار يتنقل بين المنازل حسب ما تمليه عليه نزواته ، فتارة يلوذ بجدته حين يلقى من أمه اعتراضا على طيشه وغيابه الطويل رفقة زمرة من رفاقه الشغوفين باصطياد العصافير. وتارة أخرى يقيم عند والده الذي لم يكن يراه إلا لماما لانشغال الرجل بالتنقل اليومي إلى سبتة .
نظرات زميلاته كانت تلاحقه لوسامته رغم إهماله لمظهره ولا مبالاته بهندامه ورغم ضعف مستواه البين خاصة في اللغات . وكان يقابل هذا الإعجاب بالاستخفاف والسخرية ويصدم تعامل الإناث ، وخاصة الموسرات منهن ، بفظاظة ، معرضا عن مزاحهن وتقربهن ، مما أثار حفيظة البعض واستياء البعض الآخر ، بل ونقمة الكثيرين ممن رأوا في تصرفاته سلوكا أرعن ينم عن شعور دفين بالدونية وحقد على من يحظين بمركز اجتماعي متميز . لكن هذه النقمة لم تكن لتنال منه ومن اعتزازه بنفسه بسبب عدم تجرؤ المناوئين له على الجهر بها وأيضا لاستهتاره بما يصله من أصداء النيل منه في غيابه وما يتعداه من التعريض به وبأسرته . بل إنه لم تبد منه أية رد فعل حين وصله نعته باللقيط من بعض الولهين بمعجباته وما لاكته الألسن عن كون أبيه انفصل عن أمه لشكه في أبوته له .
أما إعراضه عن الأكل بمطعم المؤسسة رغم حاجته لذلك فكانت مثار السخرية والشفقة التي امتزجت بالشماتة لوضعه العائلي المزري . لكن المقربين إليه كانوا يتناقلون بحذر ما كان يردده عن القائمين على المطعم وعن القسم الداخلي وينعتهم باللصوص ، وفي ذلك تعريض ضمني ببعض آباء زملائه الموسرين . غير أن تلك السخرية لم تصل الى درجة استهزاء أقرانه بمستواه المتدني خاصة في اللغتين العربية والفرنسية . وكان لضعفه هذا أثر في تمرده أثناء الحصة بحيث كان يعرضه ذلك للعقاب والطرد ، فصار لا يحضر حصة إلا ليتغيب في حصص أخرى . وكان أشد ما يضحك زملاءه ويثير نقمة مدرسيه عليه تعامله المثير مع موضوع الإنشاء . فتارة يكتفي بجملة واحدة حين يتعلق الأمر بوصف نزهة نهاية الأسبوع ، فيجيب باقتضاب :"بقيت في الدار ولم أخرج." ، أو يسرد ما فعله أثناء العطلة بقوله :"لم أفعل شيئا سوى النوم." ، ثم يذيل ورقته برسم من رسوماته التي كانت تأخذ بلبه ، خاصة العصافير . وغالبا ما كان يخلط الفصحى بالدارجة .
صادف التحاقي المتأخر بالمؤسسة انتهاء فترة العقوبة التي ألزمته بالتغيب لمدة أسبوع بسبب شنآن وقع له مع ابن أحد الأعيان وكان محط الأنظار رغم شغف التلاميذ بالتعرف على هذا المدرس الجديد الذي جاء ليعوض مدرستهم الحامل التي أخذت رخصة الولادة . وهذا يعني أننا سنقضي بقية الموسم معا . وقد أحطت بموضوع وليد قبل أن ألج القسم بحيث أسر لي المدير بوضعه وتمرده ثم ما تلا ذلك من تحذير بعض زملائي من عدوانيته واستهتاره .
تطلعت العيون إلي بعد أن طرقت على المكتب وقدمت نفسي ، ثم أخبرتهم أن الحصة هي حصة للتعارف ووضع خطة للعمل في ما تبقى من السنة الدراسية . كان هناك شبه همس وإشارات إلى السبورة ، وكأن الجميع كان يدعوني للنظر إليها . لكني حدست أن شيئا ما غير لائق كتب أو رسم على السبورة فلم ألتفت ، بل توجهت إليهم طالبا منهم أن يكتبوا فقرة عن انطباعهم عن العام عن المرسم الدراسي وما ينوون فعله بعد انتهاء الامتحانات مع التركيز على هواياتهم المفضلة .
كان الجو مشحونا . فنظرات وليد إلى زميله الذي تسبب في عقوبته لم تخف على أحد . لكنه ظل هادئا متوجسا من هذا المدرس الجديد الذي لم يبد عن شخصيته وطباعه . واغتنمت فرصة انشغال الصغار بالكتابة واختلست نظرة إلى السبورة العريضة حيث رسم بإتقان جسدان عاريان لرجل وامرأة وتحتهما كتب : "هذا أبو وأم فلان ." . ولم أحتج لأجهد فكري كي أعرف الفاعل والمقصود بالرسم . لكن ما جذب انتباهي هو دقة الرسم وكأنه صنعة نحات . تأملته قليلا ثم مسحته دون أن أثير انتباه التلاميذ .
جمعت الأوراق وكلي لهفة في الاطلاع على ما كتبه وليد . بل إن كل الأعناق اشرأبت لمعرفة ما تحويه الورقة وما ستكون عليه ردة فعلي . وبعد صمت خيل للجميع انه دام دهرا ، ابتسمت قائلا :
- تأكد لي ما قيل لي عن هذا القسم وسعة خياله . فعلا شيء رائع .
وانبرى أحدهم يقول في خبث :
- كل الأوراق .. أستاذ ؟
- كل الأوراق .. وبدون استثناء .
ساد الصمت من جديد .. لا احد صدق ما تفوهت به . وليد أيضا ، عقدت الدهشة لسانه وبانت الحيرة على وجهه . ربما كان ينتظر أن أفصح عن الحقيقة ويكون الاستثناء . لكني قطعت شك الجميع باليقين وأنا أقول بهدوء :
- سأختار كل يوم ورقة لأعطي حقها من التقدير .. اليوم سآخذ ورقة ... وليد . أين هو وليد ؟
رفع يده باحتشام بينما التفتت إليه الوجوه في ذهول .
- يمكنني أن أقول أن من أجمل ما قرأته من تعبير هو ما وضعته في ورقتك .. فقط كان محتاجا لبعض كلمات ليكتمل الموضوع .
في الحقيقة ، لم يكتب وليد شيئا على ورقته بل اكتفى برسم شجرة ضخمة وعليها عصفور كبير مفردا أحد جناحيه وهو يحتضن طفلا صغيرا لا يكاد يبين . ومن جديد ، وجدت نفسي أمام رسم متقن يخيل للناظر إليه أنه أخذ بواسطة آلة تصوير.
نظر إلي برهة وكأنه يسبر أغوار نظراتي ، فلم يجد فيهما غير الجد بينما علت شفتي ابتسامة رضا . ثم تابعت الحديث عن الصورة ودلالاتها دون أن اعبر عما كنت أستشفه منها ومن مغزاها .
ودق الجرس فانطلق الصغار في صباح جنوني . بدا لي وليد يتلكأ في الخروج لينفرد بي . ناديته وسألته عن بعض شؤونه فلمست منه تحفظا لكني لم ألح عليه . أبديت إعجابي برسمه ونبهته إلى أنني انتظر تعليقا على ذلك العصفور حتى يكون الإنشاء مكتملا ، وأنني سوف احتفظ برسمه حين يعلق عليه .. طأطأ رأسه وهم بالانصراف فاستبقيته لحظات وسألته :
- يبدو انك تحب الرسم .. لم لا تدرسه ؟
- أين أستاذ ؟ وكيف ؟
- هناك معهد الفنون الجميلة .. عندك موهبة ويجب أن تصقلها .
- لكن أستاذ أنت تعلم ...
- لا تهتم .. التسجيل لا يتطلب مبلغا كبيرا .. سوف أقوم بهذه المهمة .. لكن عدني أن تعتني بالمطالعة . أسلوبك ليس ضعيفا لكنه يحتاج لمطالعة مكثفة .
- وهل تظنني قادرا على تطوير أسلوبي أستاذ ؟
- بالتأكيد .. هذا يعتمد على همتك .
خرج وفي عينيه بريق لم أعهده فيهما من قبل . وانتفت نظرة التمرد والسخرية التي لازمتهما لمدة طويلة .
المؤسسة تعيش على فوهة بركان ، وهناك شبه احتقان يطبع سيرها . فخبر الرسم المثير شاع بين التلاميذ حتى وصل إلى مكتب المدير بل تعدى أسوار المؤسسة ليصل إلى بعض الأسر ومنها أسرة خصم وليد . لتصحو الإعدادية ذات صباح على صراخ وجدال ووعيد . كان أب التلميذ يرغي ويزبد متوعدا وليدا بأقسى عقاب ، بل إنه اندفع نحو الفصل والتلاميذ لم يأخذوا بعد مقاعدهم ليحييني باقتضاب ويطلب مني إخراج التلميذ بإيعاز من المدير . لكني أجبته بهدوء :
- لا يمكن سيدي .. حين تنتهي الحصة يمكن للسيد المدير وحده أن يتصرف . والآن ممكن الابتعاد عن الفصل حتى لا يتم التشويش على التلاميذ ؟ .. من فضلك .
جن جنون الرجل ولاحت على محياه إمارات الاستنكار . والتفت الى المدير وكأنه يحثه على اتخاذ ما يلزم من إجراءات فكان الأخير في موقف لا يحسد عليه . فلا هو قادر على ردع الرجل وكبح جماحه ولا على ثنيي عن عزمي الاحتفاظ بالتلميذ بالقسم حتى نهاية الحصة . ويبدو أن الرجل اقتنع بألا طائل من اللجاج بعد أن همس المدير في أذنيه ببعض الكلمات. وانصرف وهو يواصل وعيده ناظرا إلى حيث قبع وليد الذي لم يبد على ملامحه أي تعبير .
وفي الوقت الذي كانت الأمور تنحى منعطفا تصعيديا خطيرا ، كان سير الدراسة عاديا في الفصل وكأننا نعيش في عالم آخر بعيد عما يحدث من حولنا . بل إن التلاميذ كانوا يفاجأون في كل مرة بجديد . فلأول مرة يحصل وليد على المعدل . هو نفسه لم يصدق ونظر إلي مستفهما فقلت وحديثي موجه إلى الجميع :
- صحيح أنك لم تكتب شيئا في البداية ، لكن رسمك يدل على سعة خيالك ولهذا منحتك فرصة التعليق . وجاء تعليقك مناسبا للصورة ويضاهيها جمالا . هل تريدون أن أقرأ عليكم ما كتب وليد ؟ فصاح التلاميذ بصوت واحد : "نعم .. نعم ."
"احتجت إلى الكثيرين فلم أجد أحدا .. لكني وجدت الحنان عند من أصطاده ."
كانت هناك أخطاء نحوية وإملائية صححتها له قبل أن أقرأ التعليق . فنهض أحد رفاقه الملازمين له وصفق ، وحين لم أعترض تبعه الباقون وخاصة بعض المعجبات وهن يبتسمن له في ود وشغف . لم يبد عليه أية رد فعل أو انفعال . فقط نظر إلي مليا وأطرق برأسه . خلته يخشى أن يلحظ أحد دمعه فطلبت من التلاميذ إخراج كتاب المطالعة .
تداعيات الرسم جعلت مجلس الانضباط يعقد من جديد وأستدعى شخصيا للإدلاء بشهادتي . وخاطبت الحاضرين أن الأمر لا يستحق كل هذه الضجة . مما أثار جدلا ولغطا من طرف مؤيدي أب التلميذ ، فقال أحدهم وهو يشغل منصب رئيس جمعية آباء التلاميذ :
- لا ينبغي أن تمر هذه النازلة بدون عقاب . وإلا تجرأ آخرون على فعل ذلك . ذاك تلميذ خبيث تأكدنا مرارا من تمرده وسوء أخلاقه ولا يمكن السكوت عنه .
ورغم معارضة البعض ، كان النقاش يوحي بأن مصير التلميذ قد حسم وأن مآله الطرد النهائي . وقبل أن يتم التصويت على القرار النهائي طلبت الكلمة فقبلت على مضض :
- اسمحوا لي أن أذكركم أن الأمر يتعلق بصبي لم يبلغ الحلم بعد . والكل يعرف ظروفه العائلية كما أعتقد . أما ما قام به فلا أحد يدعي انه شاهده يقوم به . ثانيا ، إذا سلمنا بأنه الفاعل الحقيقي ، فعلينا ألا نهمل ما يكتب يوميا على الطاولات من كلمات بذيئة ورسومات تخدش الحياء وإلا لكانت المؤسسة فارغة من نصف تلامذتها . أنا من ناحيتي لا أحبذ فكرة الطرد ولا حتى العقاب . يمكن الاستماع إلى أقواله حتى يعطى لكل حق حقه .
ويبدو أن كلامي لم يرق للكثيرين ، لكنه كان منطقيا ولم يستطع أحد مقارعته بأية حجة . ولم ينتظر المدير لحظة ، ونادى على الحارس طالبا منه استدعاء التلميذ مع أني كنت أحبذ ان يتم ذلك على انفراد . وجاء الصبي هادئا كعادته فبادره رئيس الجمعية :
- تقدم يا فتى .. هل تعلم لم أنت هنا ؟
لم يحر الطفل جوابا ونظر إلي فابتسمت له مشجعا بينما أردف الآخر قائلا :
- لقد قمت بعمل بشع أساء إلى زميلك وإلى أبويه ، وهذا دليل على أن أبويك لم يربياك جيدا .
ولأول مرة تتقلص قسمات وجه وليد ويزم شفتيه ثم ينفجر باكيا ويغادر مكتب المدير ليعود اللغط من جديد . وفي الحصة الموالية التي غاب عنها وليد لم يكن يتردد على الألسن سوى جملة واحدة :"وليد يبكي " .. وكان حدثا أن يبكي وليد .
وتحل نهاية السنة الدراسية وتعلن النتائج . لم يكن ألأمر يقتضي أي إجراء تأديبي ضد وليد لفصله عن الدراسة . فنقطه في أغلب المواد كانت لا تسمح له بالانتقال بل حتى بالتكرار لاستيفائه كل السنوات الاحتياطية . فنصحته بملء مطبوع الاستعطاف لكنه رفض فورا . واستطعت بجهد جهيد وبمعية بعض الزملاء على أن يقبل الاستعطاف بالمديرية مع السماح له بمتابعة دراسته في مؤسسة أخرى ، فكان ذلك بمثابة نصر بين رغم بعد تلك المؤسسة عن مقر سكناه .
في يوم توقيع محضر الخروج ، وقبل أن أحزم حقائبي قاصدا الشاطئ للاستجمام ، لمحت وليدا وأنا في طريقي إلى المنزل. كان واقفا أمام مكتبة يتأمل بشغف الكتب المتراصة في الرفوف .
كان وليد من النوع المتمرد وهو يناهز الثالثة عشرة من عمره ، بل كان التمرد بعينه . في نظراته المفعمة ذكاء وفي تصرفانه ما يشي بذلك . عيناه السوداوان اللتان ورثهما عن أمه كانتا تجذبان الناظر إليهما مما كان يحدث في نفسه توجسا وريبة خاصة ما كان يتناهى إليه من أخبار بقايا الفتوات الذين كانوا يصطادون بعض الغلمان ويرغمونهم على مرافقتهم إلى الوادي تحت أنظار رفقائهم وبعض سكان الحي . لقد ولى ذاك الزمان لكن نظرات بعض الباعة لم تكن تخلو من رغبة صامتة . أسرته الفقيرة لم تكن تكترث لنزقه فصار حرا طليق مذ انفصل والداه وحضنته جدته لأمه ، فصار يتنقل بين المنازل حسب ما تمليه عليه نزواته ، فتارة يلوذ بجدته حين يلقى من أمه اعتراضا على طيشه وغيابه الطويل رفقة زمرة من رفاقه الشغوفين باصطياد العصافير. وتارة أخرى يقيم عند والده الذي لم يكن يراه إلا لماما لانشغال الرجل بالتنقل اليومي إلى سبتة .
نظرات زميلاته كانت تلاحقه لوسامته رغم إهماله لمظهره ولا مبالاته بهندامه ورغم ضعف مستواه البين خاصة في اللغات . وكان يقابل هذا الإعجاب بالاستخفاف والسخرية ويصدم تعامل الإناث ، وخاصة الموسرات منهن ، بفظاظة ، معرضا عن مزاحهن وتقربهن ، مما أثار حفيظة البعض واستياء البعض الآخر ، بل ونقمة الكثيرين ممن رأوا في تصرفاته سلوكا أرعن ينم عن شعور دفين بالدونية وحقد على من يحظين بمركز اجتماعي متميز . لكن هذه النقمة لم تكن لتنال منه ومن اعتزازه بنفسه بسبب عدم تجرؤ المناوئين له على الجهر بها وأيضا لاستهتاره بما يصله من أصداء النيل منه في غيابه وما يتعداه من التعريض به وبأسرته . بل إنه لم تبد منه أية رد فعل حين وصله نعته باللقيط من بعض الولهين بمعجباته وما لاكته الألسن عن كون أبيه انفصل عن أمه لشكه في أبوته له .
أما إعراضه عن الأكل بمطعم المؤسسة رغم حاجته لذلك فكانت مثار السخرية والشفقة التي امتزجت بالشماتة لوضعه العائلي المزري . لكن المقربين إليه كانوا يتناقلون بحذر ما كان يردده عن القائمين على المطعم وعن القسم الداخلي وينعتهم باللصوص ، وفي ذلك تعريض ضمني ببعض آباء زملائه الموسرين . غير أن تلك السخرية لم تصل الى درجة استهزاء أقرانه بمستواه المتدني خاصة في اللغتين العربية والفرنسية . وكان لضعفه هذا أثر في تمرده أثناء الحصة بحيث كان يعرضه ذلك للعقاب والطرد ، فصار لا يحضر حصة إلا ليتغيب في حصص أخرى . وكان أشد ما يضحك زملاءه ويثير نقمة مدرسيه عليه تعامله المثير مع موضوع الإنشاء . فتارة يكتفي بجملة واحدة حين يتعلق الأمر بوصف نزهة نهاية الأسبوع ، فيجيب باقتضاب :"بقيت في الدار ولم أخرج." ، أو يسرد ما فعله أثناء العطلة بقوله :"لم أفعل شيئا سوى النوم." ، ثم يذيل ورقته برسم من رسوماته التي كانت تأخذ بلبه ، خاصة العصافير . وغالبا ما كان يخلط الفصحى بالدارجة .
صادف التحاقي المتأخر بالمؤسسة انتهاء فترة العقوبة التي ألزمته بالتغيب لمدة أسبوع بسبب شنآن وقع له مع ابن أحد الأعيان وكان محط الأنظار رغم شغف التلاميذ بالتعرف على هذا المدرس الجديد الذي جاء ليعوض مدرستهم الحامل التي أخذت رخصة الولادة . وهذا يعني أننا سنقضي بقية الموسم معا . وقد أحطت بموضوع وليد قبل أن ألج القسم بحيث أسر لي المدير بوضعه وتمرده ثم ما تلا ذلك من تحذير بعض زملائي من عدوانيته واستهتاره .
تطلعت العيون إلي بعد أن طرقت على المكتب وقدمت نفسي ، ثم أخبرتهم أن الحصة هي حصة للتعارف ووضع خطة للعمل في ما تبقى من السنة الدراسية . كان هناك شبه همس وإشارات إلى السبورة ، وكأن الجميع كان يدعوني للنظر إليها . لكني حدست أن شيئا ما غير لائق كتب أو رسم على السبورة فلم ألتفت ، بل توجهت إليهم طالبا منهم أن يكتبوا فقرة عن انطباعهم عن العام عن المرسم الدراسي وما ينوون فعله بعد انتهاء الامتحانات مع التركيز على هواياتهم المفضلة .
كان الجو مشحونا . فنظرات وليد إلى زميله الذي تسبب في عقوبته لم تخف على أحد . لكنه ظل هادئا متوجسا من هذا المدرس الجديد الذي لم يبد عن شخصيته وطباعه . واغتنمت فرصة انشغال الصغار بالكتابة واختلست نظرة إلى السبورة العريضة حيث رسم بإتقان جسدان عاريان لرجل وامرأة وتحتهما كتب : "هذا أبو وأم فلان ." . ولم أحتج لأجهد فكري كي أعرف الفاعل والمقصود بالرسم . لكن ما جذب انتباهي هو دقة الرسم وكأنه صنعة نحات . تأملته قليلا ثم مسحته دون أن أثير انتباه التلاميذ .
جمعت الأوراق وكلي لهفة في الاطلاع على ما كتبه وليد . بل إن كل الأعناق اشرأبت لمعرفة ما تحويه الورقة وما ستكون عليه ردة فعلي . وبعد صمت خيل للجميع انه دام دهرا ، ابتسمت قائلا :
- تأكد لي ما قيل لي عن هذا القسم وسعة خياله . فعلا شيء رائع .
وانبرى أحدهم يقول في خبث :
- كل الأوراق .. أستاذ ؟
- كل الأوراق .. وبدون استثناء .
ساد الصمت من جديد .. لا احد صدق ما تفوهت به . وليد أيضا ، عقدت الدهشة لسانه وبانت الحيرة على وجهه . ربما كان ينتظر أن أفصح عن الحقيقة ويكون الاستثناء . لكني قطعت شك الجميع باليقين وأنا أقول بهدوء :
- سأختار كل يوم ورقة لأعطي حقها من التقدير .. اليوم سآخذ ورقة ... وليد . أين هو وليد ؟
رفع يده باحتشام بينما التفتت إليه الوجوه في ذهول .
- يمكنني أن أقول أن من أجمل ما قرأته من تعبير هو ما وضعته في ورقتك .. فقط كان محتاجا لبعض كلمات ليكتمل الموضوع .
في الحقيقة ، لم يكتب وليد شيئا على ورقته بل اكتفى برسم شجرة ضخمة وعليها عصفور كبير مفردا أحد جناحيه وهو يحتضن طفلا صغيرا لا يكاد يبين . ومن جديد ، وجدت نفسي أمام رسم متقن يخيل للناظر إليه أنه أخذ بواسطة آلة تصوير.
نظر إلي برهة وكأنه يسبر أغوار نظراتي ، فلم يجد فيهما غير الجد بينما علت شفتي ابتسامة رضا . ثم تابعت الحديث عن الصورة ودلالاتها دون أن اعبر عما كنت أستشفه منها ومن مغزاها .
ودق الجرس فانطلق الصغار في صباح جنوني . بدا لي وليد يتلكأ في الخروج لينفرد بي . ناديته وسألته عن بعض شؤونه فلمست منه تحفظا لكني لم ألح عليه . أبديت إعجابي برسمه ونبهته إلى أنني انتظر تعليقا على ذلك العصفور حتى يكون الإنشاء مكتملا ، وأنني سوف احتفظ برسمه حين يعلق عليه .. طأطأ رأسه وهم بالانصراف فاستبقيته لحظات وسألته :
- يبدو انك تحب الرسم .. لم لا تدرسه ؟
- أين أستاذ ؟ وكيف ؟
- هناك معهد الفنون الجميلة .. عندك موهبة ويجب أن تصقلها .
- لكن أستاذ أنت تعلم ...
- لا تهتم .. التسجيل لا يتطلب مبلغا كبيرا .. سوف أقوم بهذه المهمة .. لكن عدني أن تعتني بالمطالعة . أسلوبك ليس ضعيفا لكنه يحتاج لمطالعة مكثفة .
- وهل تظنني قادرا على تطوير أسلوبي أستاذ ؟
- بالتأكيد .. هذا يعتمد على همتك .
خرج وفي عينيه بريق لم أعهده فيهما من قبل . وانتفت نظرة التمرد والسخرية التي لازمتهما لمدة طويلة .
المؤسسة تعيش على فوهة بركان ، وهناك شبه احتقان يطبع سيرها . فخبر الرسم المثير شاع بين التلاميذ حتى وصل إلى مكتب المدير بل تعدى أسوار المؤسسة ليصل إلى بعض الأسر ومنها أسرة خصم وليد . لتصحو الإعدادية ذات صباح على صراخ وجدال ووعيد . كان أب التلميذ يرغي ويزبد متوعدا وليدا بأقسى عقاب ، بل إنه اندفع نحو الفصل والتلاميذ لم يأخذوا بعد مقاعدهم ليحييني باقتضاب ويطلب مني إخراج التلميذ بإيعاز من المدير . لكني أجبته بهدوء :
- لا يمكن سيدي .. حين تنتهي الحصة يمكن للسيد المدير وحده أن يتصرف . والآن ممكن الابتعاد عن الفصل حتى لا يتم التشويش على التلاميذ ؟ .. من فضلك .
جن جنون الرجل ولاحت على محياه إمارات الاستنكار . والتفت الى المدير وكأنه يحثه على اتخاذ ما يلزم من إجراءات فكان الأخير في موقف لا يحسد عليه . فلا هو قادر على ردع الرجل وكبح جماحه ولا على ثنيي عن عزمي الاحتفاظ بالتلميذ بالقسم حتى نهاية الحصة . ويبدو أن الرجل اقتنع بألا طائل من اللجاج بعد أن همس المدير في أذنيه ببعض الكلمات. وانصرف وهو يواصل وعيده ناظرا إلى حيث قبع وليد الذي لم يبد على ملامحه أي تعبير .
وفي الوقت الذي كانت الأمور تنحى منعطفا تصعيديا خطيرا ، كان سير الدراسة عاديا في الفصل وكأننا نعيش في عالم آخر بعيد عما يحدث من حولنا . بل إن التلاميذ كانوا يفاجأون في كل مرة بجديد . فلأول مرة يحصل وليد على المعدل . هو نفسه لم يصدق ونظر إلي مستفهما فقلت وحديثي موجه إلى الجميع :
- صحيح أنك لم تكتب شيئا في البداية ، لكن رسمك يدل على سعة خيالك ولهذا منحتك فرصة التعليق . وجاء تعليقك مناسبا للصورة ويضاهيها جمالا . هل تريدون أن أقرأ عليكم ما كتب وليد ؟ فصاح التلاميذ بصوت واحد : "نعم .. نعم ."
"احتجت إلى الكثيرين فلم أجد أحدا .. لكني وجدت الحنان عند من أصطاده ."
كانت هناك أخطاء نحوية وإملائية صححتها له قبل أن أقرأ التعليق . فنهض أحد رفاقه الملازمين له وصفق ، وحين لم أعترض تبعه الباقون وخاصة بعض المعجبات وهن يبتسمن له في ود وشغف . لم يبد عليه أية رد فعل أو انفعال . فقط نظر إلي مليا وأطرق برأسه . خلته يخشى أن يلحظ أحد دمعه فطلبت من التلاميذ إخراج كتاب المطالعة .
تداعيات الرسم جعلت مجلس الانضباط يعقد من جديد وأستدعى شخصيا للإدلاء بشهادتي . وخاطبت الحاضرين أن الأمر لا يستحق كل هذه الضجة . مما أثار جدلا ولغطا من طرف مؤيدي أب التلميذ ، فقال أحدهم وهو يشغل منصب رئيس جمعية آباء التلاميذ :
- لا ينبغي أن تمر هذه النازلة بدون عقاب . وإلا تجرأ آخرون على فعل ذلك . ذاك تلميذ خبيث تأكدنا مرارا من تمرده وسوء أخلاقه ولا يمكن السكوت عنه .
ورغم معارضة البعض ، كان النقاش يوحي بأن مصير التلميذ قد حسم وأن مآله الطرد النهائي . وقبل أن يتم التصويت على القرار النهائي طلبت الكلمة فقبلت على مضض :
- اسمحوا لي أن أذكركم أن الأمر يتعلق بصبي لم يبلغ الحلم بعد . والكل يعرف ظروفه العائلية كما أعتقد . أما ما قام به فلا أحد يدعي انه شاهده يقوم به . ثانيا ، إذا سلمنا بأنه الفاعل الحقيقي ، فعلينا ألا نهمل ما يكتب يوميا على الطاولات من كلمات بذيئة ورسومات تخدش الحياء وإلا لكانت المؤسسة فارغة من نصف تلامذتها . أنا من ناحيتي لا أحبذ فكرة الطرد ولا حتى العقاب . يمكن الاستماع إلى أقواله حتى يعطى لكل حق حقه .
ويبدو أن كلامي لم يرق للكثيرين ، لكنه كان منطقيا ولم يستطع أحد مقارعته بأية حجة . ولم ينتظر المدير لحظة ، ونادى على الحارس طالبا منه استدعاء التلميذ مع أني كنت أحبذ ان يتم ذلك على انفراد . وجاء الصبي هادئا كعادته فبادره رئيس الجمعية :
- تقدم يا فتى .. هل تعلم لم أنت هنا ؟
لم يحر الطفل جوابا ونظر إلي فابتسمت له مشجعا بينما أردف الآخر قائلا :
- لقد قمت بعمل بشع أساء إلى زميلك وإلى أبويه ، وهذا دليل على أن أبويك لم يربياك جيدا .
ولأول مرة تتقلص قسمات وجه وليد ويزم شفتيه ثم ينفجر باكيا ويغادر مكتب المدير ليعود اللغط من جديد . وفي الحصة الموالية التي غاب عنها وليد لم يكن يتردد على الألسن سوى جملة واحدة :"وليد يبكي " .. وكان حدثا أن يبكي وليد .
وتحل نهاية السنة الدراسية وتعلن النتائج . لم يكن ألأمر يقتضي أي إجراء تأديبي ضد وليد لفصله عن الدراسة . فنقطه في أغلب المواد كانت لا تسمح له بالانتقال بل حتى بالتكرار لاستيفائه كل السنوات الاحتياطية . فنصحته بملء مطبوع الاستعطاف لكنه رفض فورا . واستطعت بجهد جهيد وبمعية بعض الزملاء على أن يقبل الاستعطاف بالمديرية مع السماح له بمتابعة دراسته في مؤسسة أخرى ، فكان ذلك بمثابة نصر بين رغم بعد تلك المؤسسة عن مقر سكناه .
في يوم توقيع محضر الخروج ، وقبل أن أحزم حقائبي قاصدا الشاطئ للاستجمام ، لمحت وليدا وأنا في طريقي إلى المنزل. كان واقفا أمام مكتبة يتأمل بشغف الكتب المتراصة في الرفوف .
تعليق