(زمبريطو)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصباح فوزي رشيد
    يكتب
    • 08-06-2015
    • 1272

    (زمبريطو)

    لم يكن يعرِف شيئا عن هذا الكهل الغريب، الذي جاء من مكان ما ليستأجر دكّانا ظلّ طيلة أعوام يُعلّم فيه القرآن لأبناء الحي العتيق. بمرور الأيّام صار المكان مألوفا لدى الكبار والصّغار. (زمبريطو)، هذا الرّجل الغامض الذي أقام بالحي منذ فترة، أخذت سمعته في الانتشار، حتّى أن النّاس صاروا يتفادون مجرّد الاقتراب من بيته خشية من أن يلحق بهم أذى أو مكروه. وفي إحدى المرّات سمع الولد صراخ ابن عمّته يطلع من داخل هذا البيت، يستجير ويحلف بالله أنّه لن يعود؟ وانتشر الخبر بسرعة عجيبة : " أكيد أن ابن العمّة كان يتجسّس عليه ". دفع الفضول بابن العمّة، فراح يريد معرفة ما يحدث بالدّاخل من ثقبة في الباب، فوقع في قبضة (زمبريطو). أولا يعلم هذا الولد الأبله أن البيت تحرسه العفاريت؟ا
    زادت الحادثة من مهابة (زمبريطو)، فصار الكل يهابه ويخشاه، وخاصّة الأطفال الذين تناولوا الخبر بحذر شديد.
    المعروف عن (الزمبريطو) في الجزائر، هو شراب المدمنين المشرّدين، من الذين لا يجدون زجاجة خمر تطفئ لهيبهم، فيقومون بخلط الكحول الطبّي أو الإيثيل مع الماء أو الليموناضة أو أيّ سائل آخر، وينتشون به.
    '
    لا يستطيع الولد أن يتخلّص من التخيّلات والأوهام العجيبة '. هذا ما يقول عنه بعض كبار السن من الأقارب، ولكنّهم في الحقيقة لا يرون ما يراه، بالرغم من القصص والمرويات التي يتبادلونها أطراف اللّيل والنهار عن الأرواح والأشباح التي تسكن البيوت وتخرج ليلا لترعب الأطفال. أحيانا تتطيّر والدته بما يقوله لها حين يخبرها بما في بالها فتحتار، لكنها مع ذلك لاتريد أن تفشي سرّه، ولو لأقرب الأقربين. وأحيانا لا يجد الولد تفسيرا لتلك النّظرات التي تتغزّل به، وهو طفل صغير؟ا وتحرّش صبايا الحيّ به وتعرّض بعض من النّساء الكبار له؟ا. هواجس صارت تؤرّقه؛ لكن مجرّد كلمات عن الحب والجمال، وهو لا يعرف معنى الحب والجمال الذي يتغنّين به؟ا وأهم شيء لديه هو تناول فطور الصّباح والنّهم من الحليب الذي في الطّاوة*، كأس واحدة لا تكفيه، ثم الفرار من البيت مسرعا إلى الخارج، كعصفور أُطلق سراحه من قفص، أو كجلمود حطّه السيل من علٍ، حيث لا حدود للجري والصّراخ، ولا يرجعه إلى البيت سوى الجوع والعطش. ليستغني بذلك عن القيل والقال وكثرة الخوض في الكلام . ومن ذا يلوم طفلا بلا قيد مثله في هذه السِّنِّ؟ سوى أن يكون كلاما عن بيت مسكون وروح تخرج للأطفال ليلا، أو جن أو سحر، كما يُروى عمّا يجري في الأسواق.
    في هذه الأثناء، قرّرت الجدّة أن تزور(زمبريطو)، بعدما وصل إليها خبره عن قدراته العجيبة في فكّه للسّحر وكشفه عن الغيب، فقرّرت أن تزوره وشدّت إليه الرّحال. هو فقط من سيشفي غليلها من الكنّات، ومن سيخبرها عن كيدهن وما يقمن به في الخفاء. كما أن للجدّة سرّها الذي لم تحدّث به منذ رحيل الجد المرحوم. وتريد كذلك أن تعرف أيضا ماذا دسّت لها إحدى الكنّات التي تغار منها في طبق الزريرة الذي أهدته لها ذات يوم؟ ومنذ ذلك الحين فقدت الجدة سيطرتها عليها. وتريد منه كذلك أن يشفيها من الرّعاش الذي بسببه راحت تسخر منها الكنائن... ضاقت الجدّة بالأسئلة، فقرّرت أن تطرق باب (زمبريطو) صاحب المعضلات، صاحب الاسم المرعب، الذي لا يعرف سكّان الحي عنه سوى أنّه عارف بشؤون الغيب، قاهر العفاريت والجنيّات، الذي لا يستطيع أحد الاقتراب من بابه، خاصّة الأطفال منهم، لأن البيت تسكنه عفاريت وروحانيات، ومع ذلك يتزاحمون على بابه.
    صاحب الملامح الغريبة، الذي لا يُرى له خيال خارج البيت، لديه بنت مراهقة تقوم على خدمته وولد صغير، لا يُعرف لهما أصل ولافصل ولا نسب، ولا يشبهانه في شيء، ولا تسمع ولا ترى لهما " بأسا ولا رهقا "، رغم حالة البؤس التي يبدوان عليها.
    لا يستطيع أحد أن يجزم بأن (زمبريطو) مدمن على شرب الكحول الطبّي أو الأثيل، سوى الرّائحة النفّاثة التي تؤجّج المكان. وكل الذين يزورونه من أجل أن يفكّ سحرهم أو يشفيهم من مرض ما، أو حتّى يكشف لهم عن الغيب، لايلتفتون إلى ما يقوله عنه الآخرون، لحاجتهم إليه، ورغبتهم في تحقيق غاياتهم، المعلنة والخفيّة، وخوفهم الشّديد منه ومن كيده، فباستطاعته ربطهم جميعا في لحظة واحدة، كما فعل ذلك بابن العمّة الذي استصرخهم ولم يستطيعوا مجرّد الاقتراب من عتبة الباب لتحريره. سلب عقول الأطفال والرّجال، والنّسوة اللاّتي يبحثن عن البخت للسّيطرة على أزواجهن؛ كل واحدة منهن تريد أن تحصل منه على " حرز " أو حجاب تكتّف به زوجها حتّى لا ينظر إلى غيرها من النّساء، إلّا الجدّة المسكينة لا تبحث سوى عن الشّفاء من الرّعاش ودفع كيد الكنّات. ومنذ مات المرحوم وهي تعاني من المرض والتهميش. تعاني الجدّة من الرّعاش لكنّها لا تريد أن تسمع كلاما عن الكبر، فهي أقل من جارتها ولم تبلغ التّسعين بعد مثل جارتها التي لا تزال بصحّة جيّدة، لكن الجدّة المغبونة لا تعرف مدى الدلال الذي تحظى به جارتها وكنّاتها اللاّتي يوقّرنها.
    " كل واحدة وسعدها "، تتنهّد الجدّة المغبونة عندما ترى كنّة جارتها، هكذا أصبحت تكرّر الجملة أمام كنائنها. صارت تشكّ فيهن لدرجة أنّها قرّرت أن تذهب إلى (زمبريطو). هو فقط من يستطيع الكشف عن السرّ ومنح البرهان. لا تريد المسكينة أن تبدو ضعيفة أمام الكنّات. تريد فقط رؤية (زمبريطو)، هذا الرّجل الغامض، بملامحه الغريبة، وعينيه البراقتين، ونظره الثّاقب الذي يدل على معرفته الكبيرة بالأسرار الخطيرة. عندما أخرج بيضة الدّجاج وكسرها أمامها، سقطت منها خصلة الشّعر تتدلّى، صاحت الجدّة المسكينة حين رأت ذلك بعينيها الغائرتين، وعادت إليها قوّتها الغائبة فجأة، وتوقّفّت يداها عن الرّعاش، وصرخت بكل قواها :
    " عرفتها ". وراحت تكرّر :" هي ..عرفتها.. قلت لكم هي".
    تنحنح عندها" فكّاك الرّموز" صاحب البرهان القويّ، وهزّ كتفيه قليلا، والتفت إلى من حوله، في إشارة لتأكيد قوّته.
    لم يعد هناك مجال للرّيب أو الشك، لقد نال المنقذ (زمبريطو) مراده من الجميع، وشاهد الحاضرون بأمّ أعينهم كيف قام بإخراج السّحر من البيضة.
    تقاطر النّاس على صاحب السر الأعظم حين سماعهم بالخبر، وانهالت عليه القرابين والقربات والهدايا من كل جانب.
    وفي أحد الأيام خرجت أم الولد المدلّل تنادي عن ابنها الوحيد فلم تجده، فالتجأت إلى أحد أصدقائه لعلّه يعثر له على أثر. خرج الصّديق ثم عاد إليها مسرعًا ليخبرها بأن ابنها في الأسر. لقد تمكّن(زمبريطو) من الولد وسلبه عقله، وأقنعه بالبقاء عنده حتّى يسخّر له جنيّة من الجنيّات التي عنده، واقتنع الولد وفرح كثيرا، وراح يستحضر صورة الجنية التي وعده بها، كيف سيكون شكلها ولونها؟ وهل ستكون ظلّه الذي لا يفارقه أبدا؟ ورفيقته الدّائمة التي ستحميه من كل أذى؟ وهل ستلبّي له كل المطالب التي كان يحلم بها...؟ تعب الولد من الأحلام الكبيرة فنام في أحضان (زمبريطو) مستسلما، وماهي إلاّ دقائق معدودة حتّى دقّ الباب وسُمعت أصوات تنادي على الولد باسمه.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
    * تأصيل :
    أصل كلمة طاوة تاوة
    تستعمل العاميات العربية لفظة طاوة أو تاوة بمعنى مقلاة أو نحوها. وأصلها من الفارسية تاوه وربما دخلت بعضَ العاميات من خلال التركية العثمانية تاوه (بالتركية tava).
    وترتبط الفارسية تاوه وتابه بتعريب آخر قديم من تابك، يذكره أصحاب المعاجم، يقول ابن سيده (ت 458هـ) في المحكم: "والطابَق: ظرف يطْبخ فِيهِ، فَارسي مُعرب". كما ذكروا أنه اسم ما يخبز عليه من الحديد ونحوه. [شرح الفصيح لابن هشام اللخمي]
    https://tathil.blogspot.com/2019/03/...aaq-tabaq.html

    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 09-11-2019, 08:14.
    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
يعمل...
X