بعد مُضي شهور عُجاف ،عاد الأب يحملُ بين شباكه المهترئة، نصف آيل بري ،جزء منه مُكتنز باللحم والدُهن ،والشطر الآخر كومة من العظام المتهالكة . ألقى بصيده قُرب عتبة الباب ،وتحسس ظهره المُثخن بالجراح ،نزع قميصه المٌُسبغ بالدماء والطين ، ثم تهالك فوق أقرب مقعد ،وأطلق زفرات مشبوبة بالألم والغصص. رمق إلى وجه زوجته المكدود معتذراً :أسف يا عزيزتي ،السهول صارت مخبأ للبيض الفاسد ، والفخاخ متناثرة في كل مكان .لم نستطع أن نجمع كمية وافرة من المحصول ،لقد سقط الكثيرُ منا أثناء قطف الثمار..تباً للحرب .لابد أن نرحل عن المدينة قريباً . ثم رمق إلى طفله الملتحف بغشاء من الصوف ، ولثم جبينه بقبلة حارة ،ثم مسد بيده الحانية على خصلات شعره ،ونظر إلى زوجته والدموع تكاد تستنطق من مقلتيه الغائرتين : لابد أن يشعر طفلي المسكينُ بأمان..ليس هُناك وقت ،سأغادر في الصباح ، من أجل بيع ماتبقى من المحصول ،صارت المدينة جحيم لايطاق، ثم أمسك بيدها قائلاً: أعدك أننا سنكون بخير، مادمنا سوياً .وعند حلول الفجر غادر الأب يشق ستائر الظلام، بحثاً عن ما تبقى من المحصول، قبل أن يحترق تحت وطأة القصف الدامى .. ثم أشرقت الشمس من خُدرها ، واستيقظ الطفل ،منهوكاً متأوهاً من لسعات البرد القارص ،شرب قليل من اللبن الدافيء ،ثم دست له والدته شرائح الخبز الجاف المحمص ،المدهون بأقراص العسل والسمن ،داخل حقيبته المهترئة ،وأوصته أن يلوك القليل منه عند الحاجة .وعند عودته من المدرسة ،شعر بعقارب الجوع تنهش أمعائه ، فاقتعد في مكان آمن خلف الصخور ، وشرع في ازدراد القليل من الخبز اليابس، بعدما بلله بالماء في قصعته ، ثم أخرج دميته المصنوعة من الخرق البالية، وأعد لها عُرساً بين ألياف النباتات ، ثم عمد إلى قلمه وخط بين صفحات الكتاب خطوط فوضوية تعبر عن صورة لأنثى ورجل بينهما طفل صغير .. كان يستدفئ بكلمات والدته : لا تتأخر ياعزيزي ،فاليوم ،سأعد لك حسائك اللذيذ المغموس بقطع اللحم الطازج.. فأنت لم تتناول اللحوم منذ شهور ، ثم أخذته غفوة ، ريثما ينتهى أزيز الطائرات، وطنين المحركات ، شعر بالخوف يلف جسده ، ودب الرعب في جوانحه ، والدموع تسح فوق ثيابه ،فظل يستغيث بوالدته ،وينادى على والده،والقصف الوحشي يعتقل كل نسمة تهب من حوله ،لاذ بالفرار والدماء تتهاطل فوق يده المنكفئة على قطعة الخبز المحمص، حتى تبللت دُميته بالدماء القانية.الألم يسري بين شفتيه الورديتين ،شعر بالسكينة تدب في أوصاله ،حتى بردت أطرافه وتحجرت عيناه ،وسقط ميتاً بين أكوام العشب اليابس . ثم نزلت غيمة بيضاء حملت جسده الوضيء وطافت به بين خيوط النور. فلم استبطأ على والدته ،خرجت بسلة الطعام تطوي المدينة بحثاً عنه بين البؤر والمباني المهجورة، ونحيبُها لايفتأُ يُطارد أطياف الليل،وبعد أيام عثُرت على قميصهُ الأبيض مُمدد فوق ضريح من الصخور ،وحذائهُ البالي واقفاً كأنه شاهد قبر ،فأجهشت بالبكاء ،ودست القميص بين حنايا صدرها المُترع بالألم والغصص .وكل صباح تغسل قميص طفلها بدموع الفقد ،ثم تنشره فوق حبال الصبر ،وبمشبك الأمل ،ترنو إلى الشرق، تنتظر عودته.
الدُمية والحرب 1
تقليص
X
-
المشاركة الأصلية بواسطة ناريمان الشريف مشاهدة المشاركةذات المشهد يتكرر في حلب في صنعاء في فلسطين
يخرج الطفل ولا يعود ..
يبدو انه سيغدو لوناً من ألوان الأدب العربي
سرد موفق ولافت لآخر السطور
حتى بت أنتظر مع أمه عودته
باركك الله
قراءة جيدة..
لما وراء النهر من غوامض وكوامن خفية..
شكراً لكالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركةسرني اني كنت مع هذا السرد والاحساس الجميل بالرغم من الالم والوجع بين السطور
هي الحروب تسرق منا أجمل أشياؤنا
تسرق أحلام الأطفال..
وتقتل فينا كل أمل قريب..
شكراً لك سيدتىالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة البكري المصطفى مشاهدة المشاركةأيتها الإنسانية التي التفت في عباءة الخيال. وجرعتنا الوهم طوال السنين تحت مظلة .حقوق الطفل وحقوق .....ماذنب هذا الطفل الذي زهقت نفاسه في المهد.؟؟؟ سرد جميل والفكرة قاسية
مودتي.
الإنسانية ذهبت مع الريح ،عندما سقط الإنسان وقت صعود الشر
شكراً لكالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة احمد نور مشاهدة المشاركةلقد انزلت دموعنا
تكررت هذه الحوادث كثيرا
راح ضحيتها المئات
من اب وام وولد
لقدتالمت كثيرا والله
احمد عيسى نور
العراق الجريح
كن بخير اينما كنتالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 66347. الأعضاء 5 والزوار 66342.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 409,257, 10-12-2024 الساعة 06:12.
Powered by vBulletin® Version 6.0.7
Copyright © 2025 MH Sub I, LLC dba vBulletin. All rights reserved.
Copyright © 2025 MH Sub I, LLC dba vBulletin. All rights reserved.
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش-1. هذه الصفحة أنشئت 14:15.
يعمل...
X
😀
😂
🥰
😘
🤢
😎
😞
😡
👍
👎
☕
تعليق