وفاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    وفاء

    وفاء تبدو متألقة .. وفاء ترفل في حلتها القشيبة كالفراشة .. وفاء توزع الابتسامات و ترد على الإشارات فتتمايل قلوب وتتلهف أخرى .. تعالي يا وفاء .. من فضلك يا وفاء .. شكرا يا وفاء ..
    وفاء نجمة الليلة بدون منازع .. تتطلع الأنظار إلى شعرها المعقوص وزينتها التي جمعت بين الأناقة والبساطة وتتابعها العيون بين هائم عاشق وحاسد غيور ومعجب فخور .. لكن وفاء لا تنسى أن الليلة هي ليلة الآخر ، القادم من بعيد بعد طول انتظار، ولا تنسى العناية بأمه القابعة وسط ثلة من جاراتها اللواتي جئن يهنئنها بعودة الابن الأصغر وقد أنهى دراسته و تخرج بكل تفوق ..
    يبلغ الحماس أوجه حين يأتي من يعلن عن وصول يوسف .. فيكاد قلب الأم ينخلع و يرتمي خارجا ليحضن الولد ..لكن داخلها كان يهتف .."أهلا بطفلي العزيز .. لم تخيب ظني فيك .. لم تخيب أمل أخيك فيك .. الحمد لله .. الحمد لله ."
    ترقب نجلها البكر وهو يدخل محملا بالحقائب ، ثم يعود ليأتي بأخرى وقد تصبب عرقا .. تحس بوخزة ألم .. " لماذا لم يكن حظه كأخيه ؟ .. ولم اضطر للتضحية بمستقبله ويتوظف حتى يكمل الآخر دراسته وينأى عن الأسرة شبح الفقر ؟.. ألم يكن من حقه الوصول إلى درجات أعلى كأخيه هذا ؟.. تلك أقدار الله .. ولا راد لقدره .."
    يدخل يوسف وقد علا محياه الارتباك والأنظار مصوبة نحوه ، ناظرا إلى أقصى الحجرة حيث جلست أمه بكل أناقتها التي ورثها عنها .. يخيل إليه أن قلبيهما تعانقا قبل أن تقوم و تحضنه بين ذراعيها .. أزعجته زغرودة إحدى الجارات وسط ضحكات الفتيات اللائي اشرأبت أعناقهن لرؤية هذا الفتى المدلل الذي تحدثت عنه أمهاتهن بشيء غير قليل من التنهد .. عن وسامته و رفعة مركزه .. لكن لا أحد يملك نفسه من الالتفات إلى وفاء وقد علت وجنتيها حمرة وزادت عيناها لمعانا ..
    يستسلم يوسف لحضن أمه ثم يلتفت إلى خالته وبعض النسوة القريبات منه فيحييهن ويزيد ارتباكه فيعانق من جديد أخاه رغم أنه كان أول من استقبله عند وصوله إلى المحطة .
    وحين ينصرف الجميع مهنئين مازحين وملمحين ، يخلو الجو للأسرة الصغيرة ولا تبقى سوى الخالة التي فضلت المبيت عند أختها .. ويظل يوسف بجانب أمه وراحته في راحتها .. يجيب دون ملل على أسئلتها التي لا تنتهي ، ملتفتا بين الفينة والأخرى إلى أخيه متسائلا عما تخفيه تلك النظرة الحزينة التي لا تفارق عينيه . هل يتحسر على ضياع فرصته في الدراسة و التحصيل ؟.. لعن الشيطان في نفسه ثم أقبل بكل كيانه يعانق أمه ويشبعها قبلات .. تتأمله وتقول ضاحكة :
    - صرت الآن تشبه تماما المرحوم أباك .. نفس الشعر ..نفس الحاجبين .. نفس الغمازتين .. لكنك أخذت عني عيني ..
    وفي لحظة اختلائه بنفسه في حجرته الصغيرة .. تنهال عليه الذكريات حلوة ، عذبة . لا ينغصها سوى رحيل الأب المبكر. وحتى هذا الحادث لم يترك في نفسه أثرا بحكم صغر سنه وعدم إلمامه بكل ما يحدث آنذاك ، إضافة إلى أن أمه عوضته عن ذلك بحنو ورعاية مضاعفين .
    يفتح النافذة المطلة على الزقاق وينظر إلى الشرفة المقابلة .. يتخيل وفاء وهي في أبهى أناقتها وسط الأهل و الجيران .. لم تخف عليه نظرتها وابتسامتها منذ وصوله . ولم تفته أيضا ضحكات رفيقاتها ولا غمزاتهن .. ولم يكن مفاجئا له أن يجدها في السطح لوحدها تنتظره حين صعد لكي يتفقد حمامه .. لا شك أنها علمت بقرب صعوده فسبقته إلى هناك ..
    تصنعت المفاجأة وهي تعود للنظر إلى الزقاق ..
    - الحمد لله على سلامتك ..
    - الله يسلمك ..
    - يبدو أن الحمام افتقدك .
    - أنا أيضا افتقدته ..
    تكلما كثيرا و تحدثا عن أشياء ، ثم انتبها – أو على الأصح – انتبهت إلى أنهما يجب أن ينهيا هذه الخلوة حتى لا يدعا مجالا للقيل والقال. لكنها حرصت على أن يكون دخولهما معا حيث تجمع الأهل والجيران. ما أجملها وما أعذب منطقها ..لكن ما بالها تغيرت بمجرد تواجدهما مع الآخرين ؟ ولم ذاك الجفاء المصطنع والسخرية من كل ما يقوله أو يفعله ؟.. ربما كان ذلك نابعا من حرصها على ألا تبدي شيئا من عواطفها أمام الغير ؟.. لكن معاملتها في ما تلا ذلك من أيام لم تستقر على حال .. فتارة تلقاه هاشة باشة ، وتودعه بابتسامة ونظرة تأخذان بمجامع قلبه وتارة تتجاهل حتى وجوده ولا تمنحه فرصة للحديث ، فيعود مغتما ، ليجد أمه في مكانها المعتاد ، بسبحتها وإشراقة محياها ..
    - يبدو أن يوسف قد مل القعود دون عمل .. أو أن شيئا آخر يشغل باله ..
    - نعم يا خالتي .. انتظر بكل شوق اليوم الذي أبدأ فيه عملي ..
    التفتت الخالة إلى أمه كمن ينتظر موافقة أو تأييدا وقالت :
    - لكن .. فكر في أننا يجب أن نفرح بك ..
    قهقه طويلا و أجاب :
    - يا خالتي الحبيبة .. ألا يمكنني العيش بحرية قليلا ؟
    - ومن قال إننا سنحبسك ؟ .. ثم إن العروس ليست غريبة ..
    - آه .. يبدو أنك اخترت لي العروس..
    - يا لك من ذئب .. أنت الذي اخترت ولسنا نحن ...
    صمت مبتسما فاستدركت الخالة متحمسة :
    - احمد الله على أنها لم تفلت من يدك ..
    نظر إليها و قد علت البغتة محياه وقال :
    - هيه .. هل تقدم أحد يريدها ؟ ..
    انتبه إلى أمه وهي ترمق أختها مقطبة .. يسود الصمت .. وحين لا يسمع أي توضيح ينهض مستأذنا ويخرج ونظرات المرأتين تتابعه في حيرة .. وتظل الأم مطرقة برهة .. هي تعلم أنها لن تصمد طويلا أمام إلحاحه .. وأن عليها إخباره بكل شيء .. لأنها لا تستطيع إخفاء أمر ما ، طالما هو يستمع إليها محدقا فيها بعينيه النجلاوين .
    - الزواج يا بني قسمة و نصيب .. والمختار أخوك تتمناه كل فتاة .. لكن كل شيء بأوانه ومقدر عند ربنا .. لا شيء يتم بالإكراه والبنت حرة في اختيار من يناسبها .. سأنتقي ما يناسبه .. له أن يشير فقط وأنا أنفذ ما يريد .
    تتزاحم الأفكار في رأسه و تنهال عليه الذكريات من جديد .. لكنها هذه المرة أكثر وضوحا .. أيام الدراسة .. الفقر وضيق الحال ورحيل الأب ثم اضطرار المختار للاشتغال كموظف مباشرة بعد الباكالوريا وتشجيعه ورعايته ، حتى أنه لم يحس بمرارة فقد الأب .. وسيعلم في ما بعد أن المختار كان يستغني عن اقتناء بذلة جديدة حرصا على توفير المال اللازم للدراسة بالنسبة لأخيه ..
    وتتمثل له العينان الحزينتان فلا يستطيع محوهما من مخيلته .. ويحس بغصة وانقباض .. يذرع الأزقة على غير هدى وهو عرضة لمشاعر شتى ، حتى يتناهى إليه صوت المؤذن يدعو لصلاة العشاء ، فيلج المسجد ويتوضأ ثم يصلي الفرض والشفع والوتر .. ويمكث قليلا مستندا على أحد أعمدة المسجد يحدق في السقف المزخرف ..
    يخرج من المسجد أكثر اطمئنانا وهدوءا ..ويعود إلى البيت حيث يجد الأسرة في انتظاره لتناول العشاء .. و تمضي ساعات الليل والسمر لا ينتهي .. وربما كانت الليالي المتتالية متشابهة .. ضحك وسمر وذكريات ..حتى المختار بدا و كأنه تخلص من سحنته المتجهمة وصار أكثر تحمسا للحديث عن زواج أخيه . وحين يذكره يوسف أنه الأولى في اتخاذ هذه الخطوة ، يقهقه و يقول :
    - لا عليك .. سوف أتزوج عاجلا أو آجلا .. لا تخافوا .. لن أترهب ..
    - أخي .. لا تدعني أقسم على عدم الزواج حتى أراك كذلك ..
    - يا حبيبي .. فرحتي وسعادتي أن حلمنا تحقق بحصولك على شهادتك العليا .. أما في ما عدا ذلك فالخير في ما اختاره الله .
    تنظر الأم إليهما دامعة العين .. وتتمتم بدعوات في سرها .. وتلحظ في عيني يوسف بريقا لم تعهده من قبل وسيمر وقت طويل قبل أن تفيق من المفاجأة وهي تعي ما يقوله بنبرة لا تقبل الجدل :
    - حسنا .. سألتحق بعملي غدا .. ربما لن أراكم في المستقبل القريب .. لكني سوف أتصل بكم طبعا .. أمي ارضي علي ..
    و أردف ضاحكا :
    - ولا تنسي أن تختاري لي عروسا كما تفكرين بالنسبة للمختار أخي ..
    - كيف ؟ ...و ..؟
    - سوف نقيم معا إن شاء الله .. أليس كذلك ؟ و الآن تصبحان على خير ..
    ظلت الأم تنظر لحظة إلى باب الحجرة الموصد ، ثم التفتت إلى المختار وفي عينيها تساؤل عريض ، فوجدته لا يقل حيرة عنها وقالت :
    - ماذا يعني هذا كله ؟
    لكنها ومع وقع المفاجأة ، لم تستطع كبت ابتسامة ارتسمت على شفتيها وغمغمت وهي تخفي دمعها :
    - الله يرضي عليك يا طفلي العزيز .. لم يخب ظني فيك أبدا .. الهه يرضي عليكما و يرحم الفقيد .."









  • منيره الفهري
    مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
    • 21-12-2010
    • 9870

    #2
    و في الأخير هل كانت وفاء من نصيب يوسف؟
    أعجبتني القصة كثيرا و استمتعت و انا أفتتح بها قراءاتي هذا الصباح...
    شكرا لهذا الإبداع رشيد الميموني الأديب و المترجم متعدد المواهب

    تعليق

    • رشيد الميموني
      مشرف في ملتقى القصة
      • 14-09-2008
      • 1533

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة منيره الفهري مشاهدة المشاركة
      و في الأخير هل كانت وفاء من نصيب يوسف؟
      أعجبتني القصة كثيرا و استمتعت و انا أفتتح بها قراءاتي هذا الصباح...
      شكرا لهذا الإبداع رشيد الميموني الأديب و المترجم متعدد المواهب
      العزيزة منيرة حياك الله ..
      من خلال قراءتي لما افضى به يوسف أخيرا إلى أمه حول العروس وطلبه إياها باختيار عروس له بدا لي أنه صرف النظر عن وفاء لاعتبارات شتى .
      شكرا لمرورك البهي .

      تعليق

      • منيره الفهري
        مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
        • 21-12-2010
        • 9870

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة رشيد الميموني مشاهدة المشاركة
        العزيزة منيرة حياك الله ..
        من خلال قراءتي لما افضى به يوسف أخيرا إلى أمه حول العروس وطلبه إياها باختيار عروس له بدا لي أنه صرف النظر عن وفاء لاعتبارات شتى .
        شكرا لمرورك البهي .
        كنت متأكدة أنه سيصرف عنها النظر..مسكينة..انتظرته طويلا....
        تلك هي الحياة...

        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #5
          سعيد بتجاوبك وقراءتك المتمعنة لقصتي .
          بارك الله فيك منيرة .
          خالص مودتي

          تعليق

          يعمل...
          X