عبور الصراط
ها أنت تفكر يا عبد الودود؛ تعد للقادم ألف افتراض وتخمين كي لا يبعثر سوء تقديرك الأمل المنشود .... حدثته نفسه أن يغازل اللحظة بكل ما أوتي من الأحلام الوردية لنسيان الهم .لكن هيهات ؛ لا شيء بحوزتك وأنت اليوم على استعداد لتعبر الصراط ...جمع وثائقه في ملف بئيس وزج به مضغوطا في حقيبته الجلدية التي طالها البلى ثم انطلق كالسهم نحو بيت القصيد _ إنه الإدارة التي تدير شؤونه _ لم يدر كم قضى من الوقت كي يجد نفسه في بهوها . يرمق تصرف السيد المدير بنظرات غريبة كعادته في مثل هذه المواقف الحرجة في انتظار الدور . والسيد المدير يعرف من نظراته أنه حرك الماء العكر الذي يسبح فيه منذ التاسعة صباحا حتى تضوع المكان برائحة " الارتشاء "
ماذا يملك غير حدة البصر ودقته كالنسر الجارح ؛ وهو المغرم بالتقاط التفاصيل في كل الأشياء المعتمة ؛ وكثيرا ما تنادي عليه زوجته فطومة أن يخرج لها الخيط من ثقب الإبرة في الظروف الصعبة عندما تهم بخياطة قميصه الممزق على ضوء فانوس زيتي .
يرى سيده قد بسط يده المخضبة بداء البرص نحو عميله فتطاولت على " المائة درهم " المدسوسة بين وثائق مرتبة بانتظام ؛ وسحبت أصابعه المترهلة الورقة النقدية ؛ والتفت عليها كما ينقض الأخطبوط على فريسته حتى سمع لها صوت صفيحة مدهوسة بحذاء لعين. برزت عندئذ من كمه ساعة مستديرة الحجم بأرقام صارخة تشير إلى الرابعة مساءا بالتوقيت المحلي ؛ والمكان خاليا إلا من أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع ، كل واحد منهم ينتظر دوره ؛ لكنهم جميعا يغوصون في بحر شاشاتهم الصغيرة ويمخرون عباب عالمهم الافتراضي .إلا عبد الودود الذي تسمر في مكانه ونفض يديه من كل شيء وتابع شريط الأحداث بتطفل لا نظير له حتى انزعج العميل نفسه من عينيه الثاقبتين ....لم تنته المعركة . بعد اقتتال شرس يظاهر عبد الودود بفلي أوراقه وترتيبها استعدادا للدور ؛ وارتفع منسوب الحوار بين العميل والسيد المدير الذي طغى على كل شيء ؛ تلفه عبارات شكر وثناء والنتائج المحسومة للملف بالقبول والمصادقة عليه . تبادل الطرفان ابتسامات عريضة توحي بذنب يرثي لحال الوضع ؛ فالعميل متلعثم بشكل ارتجالي ؛ ثيابه البالية تحمل ألف دلالة من صور الإشفاق.
بعد حلحلة الموقف للخروج من عنق الزجاجة . ضغط المدير البدين على دفتي الكرسي ليستجمع قواه بظهر محدب ويصافح العميل بمجاملة لا تخل من نفاق قائلا : " مع السلامة....." ثم أقعى على مرفقيه كالكلب المترصد يرمق عبد الودود ؛ وصاح قائلا :" تفضل ...." ثقلت قدما عبد الودود ...ماذا عساه أن يصنع في مثل هذا الموقف الحرج ؟؟ النتيجة صارخة بأعلى صوتها في غياب " الورقة النقدية " تساءل : لماذا الدخول إلى النفق المسدود بلا جدوى ؛ لكن سمع صوتا منبعثا من الأعماق يقول : كسر حاجز الخوف واصرخ ...لا تنتظر الصدى الكئيب الذي نجني ثماره ..كن شجاعا.. هيا.. تقدم .ودبت في جسده المنهوك قشعريرة فاختفى بصيص الأمل في قبضة الغيم ؛ وطالت المسافة أمامه كما لو أن السراب يفصح عن مسيرة عام . استجمع قواه الكليلة مرة أخرى وتقدم متظاهرا بالبراءة التي تعلو تعبيرات ملامح وجهه فسلم المدير ملفه الوثائقي
. دحرج نضارته السميكة على هرم أنفه الأفطس ؛ وتفحص الأوراق ثم رفع رأسه وحدق في عبد الودود :
منذ كم وأنت هنا .
منذ الساعة التاسعة صباحا.
مطالبك؟!.
رخصة صيد.
ومطالبي...؟
أعرف سيدي المدير أنت السابق وأنا اللاحق .
ثم طاف به ما يشبه الدوار لأنه لم يع ما يقول وسمع صوتا خفيا يؤنبه إن لم يصرخ بالحقيقة التي يلوكها في أحشائه بطعم الحنظل. فقال بصوت جهور تردد صداه في بهو القاعة :
أنت السابق إلى النار؛ وأنا اللاحق إلى الجنة .
لم يكد المدير يصدق ما يسمع ويرى ؛ فارتجت فرائسه وثار كثور هائج؛ وانتفخت أوداجه صائحا في وجه عبد الودود .
اغرب عن وجهي ...هيا اغرب
اشتعل كيانه كمرجل يغلي على النار، ثم رن الهاتف وحمل السماعة ليخبره أحدهم أن بيته اشتعل نارا حتى تفحم كل ما فيه ومن فيه ....
استرجع عبد الودود أدراجه لم يلو على شيء ، لكنه ترك خلفه زوبعة دخان كانت موضوعا دسما لأخبار الصحافة .
تعليق