عرفان
جمع أوراقه وبعض التحاضير ولملم كتبه في محفظته وهو ينظر إلى ما تبقى من فلول الصغار وهم يغادرون الساحة متجهين للبوابة حيث وقف الحارس ينظر إليم بعينين يكاد الشرر يتطاير منها .. كثيرا ما راودته فكرة التحدث إلى الرجل ليرأف بتلك العصافير البريئة ويتجنب نهرهم وأحيانا ضربهم .. لكنه كان يخشى الدخول معه في جدال عقيم ويتهمه بالتدخل في شؤونه .
اتجه الى اقرب مكتبة ليقتني بعض القصص والأناشيد الغنائية للصغار وعرج على دكان الأكلات الخفيفة وقد هده التعب فلم يدخل البيت إلا عند آذان العشاء .. لاحظ في نظرات زوجته لوما صامتا وتساءل عن الصغير فأومأت له إلى السرير .
كان يعرف أنها على حق . فقد شغله عمله في الآونة الأخيرة عما حوله وانصب اهتمامه على توفير الأنشطة التربوية لتلاميذه حتى يساهم في الرفع من مستواهم وفي إنجاح الأسبوع الثقافي للمؤسسة .
جلس منهكا وأكل في صمت ما أعدته زوجته التي عادت إلى مكانها قبالة التلفاز تشاهد الأخبار .. كالعادة .. حروب وصراعات ودماء ومظاهرات وقصص تهريب المخدرات والتحرش والجرائم ..
لفت انتباهه موضوع العنف بالمؤسسات التعليمية .. آراء حول العنف المسلط على التلاميذ داخل فصول الدراسة .. مداخلات كل الفئات الاجتماعية .. "اللهم إن هذا منكر" .. قال أحد المتسكعين وقد علت سحنته المغبرة علامة إدمانه .. ثم تصريح مسؤول كبير في الوزارة الوصية وقد جلس بعجرفة يتحدث عن الآفاق التعليمية والتخطيط وكلامه مبطن بالوعيد لمن "يمس فلذات الأكباد الذين هم في عهدة الحكومة التي يبقى أطرها جنودا مجندين لحماية الصغار من أي عنف أو تحرش " ، قبل أن تختتم المذيعة النشرة الإخبارية بنداء إلى الأسر كي لا تتردد في الإبلاغ عن أية حالة عنف تمس فردا من أفرادها بالمدرسة ..
ابتسم في سره بينما زوجته تتأمله حينا وتلتفت الى التلفاز حينا آخر .
- كان عليك ان تلتحق بالمغادرين الطوعيين .. لم يعد ما تفعله هناك .
- لا تبالي .. هم ينهقون ولا أحد يعير اهتماما لما يقولونه .
- تريد أكثر من هذا ؟ .. كل هذا الكلام المشحون ولا أحد يعير اهتماما ؟ .. هؤلاء لا خير فيهم وسترى كيف سيردون إليك الجميل .. هل رأيت ذلك المدمن ؟ ..
- وهذا دليل على صحة قولي .. الأغلبية الواعية لا تشاطرهم رأيهم .
- حسنا لندع هذا .. لا زلت تذكر حتما ما لقيته من البعض يوم حرست امتحان الباكالوريا حتى صرت أمامهم كـ"الجفاف" .. كادوا يفترسونك لولا عناية الله ، فقط لأنك قمت بواجبك لمنع الغش .. ولم تنس أيضا تهجم تلك السيدة عليك في الفصل لمجرد انك نبهت ابنتها إلى ضرورة الالتزام بالزي المدرسي وعدم ارتداء تلك التنورة الفاضحة ..
- أوه .. هذه أشياء تحدث في أي زمان ومكان ..
- أنا من رأيي أن تقتصر على عملك فقط .. الكل يشهد بجديتك فلم كل هذا التعب الإضافي ؟
- وما ذنب الصغار ؟ .. لم ألمس منهم إلا الحب والاحترام ..
- لا أنكر ذلك .. لكن الأسر الآن صارت أكثر عدوانية وهي المستهدف مما يقدم على وسائل الاعلام التي تجعلها تنفس عن معاناتها اليومية باستهدافكم .. ثم لا تنس أن الصغير محتاج إليك ويفتقدك كثيرا .
تنهد وأغمض عينيه وقد سرحت أفكاره بعيدا .. كل ما تقوله لا يجانب الصحة .. لكن ما العمل ؟ .. صار مدمنا على توفير كل الشروط لكي يقدم الجديد لتلامذته والتضحية بوقته من أجل الرفع من مستواهم .. بل والاعتناء بأشياء خارجة عن نطاق التدريس .. ولن ينسى ذلك الصغير الذي أتاه يشكو إليه عنف زوج أمه واحتياجه لبعض الأدوات المدرسية فأخذ بيده وحدث والدته عما يقاسيه من إهمال . ففوجئ بها تشتكي إليه من ظروف الأسرة واضطرارها للعمل لسبتة طول النهار بسبب بطالة زوجها . وآخر لاحظ سهومه أثناء الدرس فسأله ليعلم ان طلاق والديه أثر عليه وأنه كان آخر من يعلم بعد أن أحس بنظرات سكان الحي تتابعه .. إلى غير ذلك من القصص التي عجت بها مسيرته التربوية ، فكان عليه أن ينصح هذا ويساعد ذاك في همة ونشاط دائبين .
سيتذكر كل هذا ولكنه سوف يذكر كيف كانت صدمته كبيرة حين دخل الفصل في آخر يوم قبل العطلة الصيفية ليجمع كتبه وأدواته من الخزانة وينظر الى السبورة حيث كتبت أبشع عبارات السب والشتم في حقه .. هز كتفيه وهو يفكر في بعض الكسالى الذين نالوا بعض العقاب منه .
لكن مفاجأته كانت اكبر وهو يخرج من المؤسسة ليجد سيارته مهشمة الزجاج وقد كتب عليها بالطلاء كلمات تفوق ما كتب على السبورة من شتائم وفحش ..
- هل صدقت كلامي الآن ؟ .. لم تصغ إلي ولم تأخذ العبرة مما حدث لك من قبل ولا بما يعرض على التلفزة من شحن للصدور وغسل للأدمغة .. وغدا لن يقتصر الأمر على السب والشتم وتخريب ما تمتلكه .. سنكون نحن عرضة للخطر .. وسيكون الأوان قد فات .. ولن تجد أحدا يقف بجانبك .
هكذا واجهته زوجته وهو يحكي لها ما حصل ..
- من فضلك عزيزتي .. دعيني أستريح قليلا .. لست على ما يرام .
جمع أوراقه وبعض التحاضير ولملم كتبه في محفظته وهو ينظر إلى ما تبقى من فلول الصغار وهم يغادرون الساحة متجهين للبوابة حيث وقف الحارس ينظر إليم بعينين يكاد الشرر يتطاير منها .. كثيرا ما راودته فكرة التحدث إلى الرجل ليرأف بتلك العصافير البريئة ويتجنب نهرهم وأحيانا ضربهم .. لكنه كان يخشى الدخول معه في جدال عقيم ويتهمه بالتدخل في شؤونه .
اتجه الى اقرب مكتبة ليقتني بعض القصص والأناشيد الغنائية للصغار وعرج على دكان الأكلات الخفيفة وقد هده التعب فلم يدخل البيت إلا عند آذان العشاء .. لاحظ في نظرات زوجته لوما صامتا وتساءل عن الصغير فأومأت له إلى السرير .
كان يعرف أنها على حق . فقد شغله عمله في الآونة الأخيرة عما حوله وانصب اهتمامه على توفير الأنشطة التربوية لتلاميذه حتى يساهم في الرفع من مستواهم وفي إنجاح الأسبوع الثقافي للمؤسسة .
جلس منهكا وأكل في صمت ما أعدته زوجته التي عادت إلى مكانها قبالة التلفاز تشاهد الأخبار .. كالعادة .. حروب وصراعات ودماء ومظاهرات وقصص تهريب المخدرات والتحرش والجرائم ..
لفت انتباهه موضوع العنف بالمؤسسات التعليمية .. آراء حول العنف المسلط على التلاميذ داخل فصول الدراسة .. مداخلات كل الفئات الاجتماعية .. "اللهم إن هذا منكر" .. قال أحد المتسكعين وقد علت سحنته المغبرة علامة إدمانه .. ثم تصريح مسؤول كبير في الوزارة الوصية وقد جلس بعجرفة يتحدث عن الآفاق التعليمية والتخطيط وكلامه مبطن بالوعيد لمن "يمس فلذات الأكباد الذين هم في عهدة الحكومة التي يبقى أطرها جنودا مجندين لحماية الصغار من أي عنف أو تحرش " ، قبل أن تختتم المذيعة النشرة الإخبارية بنداء إلى الأسر كي لا تتردد في الإبلاغ عن أية حالة عنف تمس فردا من أفرادها بالمدرسة ..
ابتسم في سره بينما زوجته تتأمله حينا وتلتفت الى التلفاز حينا آخر .
- كان عليك ان تلتحق بالمغادرين الطوعيين .. لم يعد ما تفعله هناك .
- لا تبالي .. هم ينهقون ولا أحد يعير اهتماما لما يقولونه .
- تريد أكثر من هذا ؟ .. كل هذا الكلام المشحون ولا أحد يعير اهتماما ؟ .. هؤلاء لا خير فيهم وسترى كيف سيردون إليك الجميل .. هل رأيت ذلك المدمن ؟ ..
- وهذا دليل على صحة قولي .. الأغلبية الواعية لا تشاطرهم رأيهم .
- حسنا لندع هذا .. لا زلت تذكر حتما ما لقيته من البعض يوم حرست امتحان الباكالوريا حتى صرت أمامهم كـ"الجفاف" .. كادوا يفترسونك لولا عناية الله ، فقط لأنك قمت بواجبك لمنع الغش .. ولم تنس أيضا تهجم تلك السيدة عليك في الفصل لمجرد انك نبهت ابنتها إلى ضرورة الالتزام بالزي المدرسي وعدم ارتداء تلك التنورة الفاضحة ..
- أوه .. هذه أشياء تحدث في أي زمان ومكان ..
- أنا من رأيي أن تقتصر على عملك فقط .. الكل يشهد بجديتك فلم كل هذا التعب الإضافي ؟
- وما ذنب الصغار ؟ .. لم ألمس منهم إلا الحب والاحترام ..
- لا أنكر ذلك .. لكن الأسر الآن صارت أكثر عدوانية وهي المستهدف مما يقدم على وسائل الاعلام التي تجعلها تنفس عن معاناتها اليومية باستهدافكم .. ثم لا تنس أن الصغير محتاج إليك ويفتقدك كثيرا .
تنهد وأغمض عينيه وقد سرحت أفكاره بعيدا .. كل ما تقوله لا يجانب الصحة .. لكن ما العمل ؟ .. صار مدمنا على توفير كل الشروط لكي يقدم الجديد لتلامذته والتضحية بوقته من أجل الرفع من مستواهم .. بل والاعتناء بأشياء خارجة عن نطاق التدريس .. ولن ينسى ذلك الصغير الذي أتاه يشكو إليه عنف زوج أمه واحتياجه لبعض الأدوات المدرسية فأخذ بيده وحدث والدته عما يقاسيه من إهمال . ففوجئ بها تشتكي إليه من ظروف الأسرة واضطرارها للعمل لسبتة طول النهار بسبب بطالة زوجها . وآخر لاحظ سهومه أثناء الدرس فسأله ليعلم ان طلاق والديه أثر عليه وأنه كان آخر من يعلم بعد أن أحس بنظرات سكان الحي تتابعه .. إلى غير ذلك من القصص التي عجت بها مسيرته التربوية ، فكان عليه أن ينصح هذا ويساعد ذاك في همة ونشاط دائبين .
سيتذكر كل هذا ولكنه سوف يذكر كيف كانت صدمته كبيرة حين دخل الفصل في آخر يوم قبل العطلة الصيفية ليجمع كتبه وأدواته من الخزانة وينظر الى السبورة حيث كتبت أبشع عبارات السب والشتم في حقه .. هز كتفيه وهو يفكر في بعض الكسالى الذين نالوا بعض العقاب منه .
لكن مفاجأته كانت اكبر وهو يخرج من المؤسسة ليجد سيارته مهشمة الزجاج وقد كتب عليها بالطلاء كلمات تفوق ما كتب على السبورة من شتائم وفحش ..
- هل صدقت كلامي الآن ؟ .. لم تصغ إلي ولم تأخذ العبرة مما حدث لك من قبل ولا بما يعرض على التلفزة من شحن للصدور وغسل للأدمغة .. وغدا لن يقتصر الأمر على السب والشتم وتخريب ما تمتلكه .. سنكون نحن عرضة للخطر .. وسيكون الأوان قد فات .. ولن تجد أحدا يقف بجانبك .
هكذا واجهته زوجته وهو يحكي لها ما حصل ..
- من فضلك عزيزتي .. دعيني أستريح قليلا .. لست على ما يرام .
تعليق