الذي لن يأتي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مناف بن مسلم
    أديب وكاتب
    • 19-09-2013
    • 72

    الذي لن يأتي

    الذي لن يأتي
    ( انّه لم يتعرّف على أيّ أحد منّا) قالت فاطمة لنفسها وهي واقفة خلف نافذة غرفتها , تراقب عبدالله الجالس تحت شجرة الزيتون . فمنذ عودته من الأسر إعتاد كل صباح بعد إنهاء فطوره الجلوس على الكرسي المصنوع من جريد النخل , لا يفعل شيئا غير التدخين بشراهة , والاستغراق في عالم لا يعرفه أحد غيره . كل يوم يمر عليه يزداد فيه إحساسه بالغربة . ولم يعرف كيف يتواصل مع إخوته وجميع أفراد عائلته . وكلّما سأله أحد – أيّ أحد - عن تلك الأيّام العصيبة التي قضّاها في الأسر راح يسرد بانفعال وبتفاصيل مملّة عن كل ما هو غريب وغير إنساني حدث له ولزملائه , خلف أسوار المعسكرات الموبوءة بالأمراض الخبيثة والنفاق والخيانة , وكل رذيلة عرفتها الإنسانية . تناثرت أعقاب السّجائر بين قدميه مثلما تناثرت سنوات عمرها الماضية تحت هذه الشجرة نفسها , مع كل ورقة سقطت يَبَسَتْ وتفتَّتَتْ .عبر كل هذه السنين التي رحلت وصارت مجرد خيالات ضبابية في العدم . كانت تواسي نفسها رغم انّها قد شعرت بالإهانة . نعم لقد أحستها بعمق وانكسر قلبها لذلك . أتعبها المرض فعلاً , فلم تعد تستطيع أن تتحمل مثل تلك المشاعر التي تجعل قلبها الضعيف ينعصر بشدة ويضطرب فتتسارعُ أو تتباطؤ ضرباته . لقد وقفت أمامه عدة مرّات منذ عودته , وحاولت أن تكلّمه , أن تصرخ بوجهه معلنة عن وجودها . تمنت أن تخبره عن كل ألم أحسته طيلة تلك السنين التي أمضتها تترقب عودته بلهفة الطّفل الذي فقد إمّه . وان تدفن رأسها في صدره كي ترتاح من كل كابوس أقض مضجعها وتركها هشة مثل ورقة خريف تناثرت في هبوب الرّيح . وأن تشكو له معاناتها , ففي السنوات الأخيرة اشتد مرضها , صار قلبها ضعيفا جدا لا يتحمل الصدمات , لا يتحمل الانفعالات المفاجئة سواءً كانت مفرحة أو حزينة . ببساطة تمنت أن تكون معه ويكون معها , يواسيها وتواسيه , تبكي في أحضانه ويبكي في أحضانها , يمسح على رأسها وتمسح على رأسه . كانت تريده بشِدة وتتمنى أن تدخل الى عالمه التي تجهله الآن , وتُزيل عنه كل أسباب الحزن الذي لا يفارق وجهه منذ عودته . وتمسح من ذاكرته كل تلك الآلام والعذابات التي تعرّض لها وتركتْ في نفسه اثراً مسح الكثير من ذكرياته المحبوبة . لكنّه في كل مرّة كان يخيب أملها , ولا يشعر بوجودها . يبقى مستغرقا بدخان سجائره , غائبا في الملكوت الإلهي لذي تمنت ان تكون جزءاً منه.
    دخان سجائره الكثيف يرسم له وجه فاطمة لوحات هلامية تأخذه حيث مرارة الذكريات تعتصر رأسه . لكنّه رغم ذلك لم يزل يلاحق كل صورة , كل خيال , كل تأثير منها ليتأمله ثانية ويعيشه , مثلما يفعل كل يوم ... فيراها لم تزل واقفة خلف نافذة غرفتها المطلة على حديقة المنزل , تنظر إليه , يعتصر قلبها الألم , وانفاسها ثقيلة جدا . لكنّ خيال أبيها أنساها هذا الألم الحاد الذي يترك فيها إحساساً بالموت القريب , وأعاد إليها فرحها الطفولي الهادئ والحزن العميق المتأصل بجذوره نحو الأعماق السحيقة . تعيش كل هذا الالهام الالهي , تتلاشى في ضباب ذهبي يأخذها بعيداً وترتفع أعلى وأعلى , في سماء الماضي البعيد , متأملةً الفرحة التي يعيشها أباها في تلك اللّيلة من ليالي أيلول المشرقة بوجه القمر , محتفلاً بيوم ولادتها , آخر بناته الخمسة وأبنائه الأربعة , يزرع وسط حديقة المنزل شجرة الزيتون التي كبرت وتفرّعت أغصانها مثلما كبرت فاطمة وترعرعت في البيت الكبير . وحينما أخبرها أبوها بعد خمسة سنوات من ولادتها , وتحديداً في ذكرى يوم ميلادها , أنّ عمرها يوازي عمر شجرة الزيتون , فرحت كثيراً . أخذت تلعب قربها وهي صغيرة , وتعتني بها وتسقيها عندما كبرت وأصبحت بنت يافعة . صارت جزء منها , فلم تنسَ يوما العناية بها ولا الجلوس تحت ظلها الوارف . تنصت الى زقزقة العصافير المحلقة بين أغصانها . لكنّها منذ ذلك اليوم الذي أخبرها فيه أبوها انّه سوف يزوجها من ابن عمها عبدالله , فتسارعت ضربات قلبها وسرت بجسمها رجفة مفاجئة , أحست انّ شيئا ما قد تغير فيها . فرحاً مكبوتاً ربما , أو خوفاً من المجهول ربما , أو ربما هي مزيج من المشاعر المضطربة التي لا تعرف كيف تعبر عنها ، تغير شيء ما في داخلها تجهل كنهه . تجلس أوقاتاً طويلة تحت شجرة الزيتون . تطيل النظر للسماء , كأنّها تبحث عن غيمة تحملها الى حقول خضراء لم يطأ أرضها أحد . كل شيء حدث ضبابياً كالأحلام , في تلك اللّيلة المعتمة دون قمر ، كانت جالسة على الكرسي الهزاز في غرفتها مغمضة عينيها رافعة رأسها للأعلى متخيلة القمر في ليلة ساطعة , وكثير من الورد الأحمر ينزل من السّماء كالمطر.. استنشقت رائحته , رائحة الزيتون الأسود . فتحت عينيها لكنّها لم ترَهُ , لم ترَ شيئا سوى ظلام حالك . واعتقدت إنّها تشعر بسحر ما مجهول , ينتشلها من كل هذا الاضطراب والفرح غير المبرر . تجربة لطيفة كانت , شيء ما يمكن أن تفعله الأحلام البريئة . ثم نظرت حولها بتوجس , هنا وهناك فرأته يخرج من تلك الظلمة الداكنة , ببدلته العسكرية قادماً اليها من معسكر التدريب . تتطاير من حوله الكثير من الفراشات الملونة , وتتساقط عليه الكثير من الورد الأحمر . ثم غاب في الضباب البارد الكثيف , وتلاشى برائحة الزيتون الأسود . فسألته ببراءة الأطفال لماذا رائحتك تملؤني . لكنّه لم يجبها , فقد صار رائحة تُستَنشَقُ في كلّ أرجاء المنزل الكبير .
    عندما عقدا قرانهما , انتظرا اليوم الذي ينهي خدمته العسكرية كي يحتفلا بزواجهما . لكن اندلاع الحرب قد أنهت كل أحلامه وأمنياته . ولم يتخيّل يوما أنّه سوف يبتعد كل تلك السنين عن فاطمة , فاطمة التي ما أن أخبره أبوه في تلك اللّيلة من ليالي أيلول , أنّه سوف يخطبها له حتى صارت كل أحلامه وامنياته الصغيرة . كان يرى فاطمة رقيقة جدا , لدرجة أن التعامل معها يشبه التعامل مع خيوط الحرير . أمّا فاطمة فأنّها لم تتصور انّ الحرب سوف تكون بكل تلك الشراسة والهمجية . ولم تتخيل - عندما كانت تلتقي به للمرّة الأولى بلهفة الأطفال الصغار - انّ الانتظار سوف يسرق منها سنوات عمرها ويتركها تذبل مثل وردة في صحراء قاحلة . لكنّها لم تنسَ ذلك الصباح القارص البرودة عندما ودعته عند التحاقه الى وحدته العسكرية . لقد قرأت في عيونه ألماً أعتصر قلبها وجعل دموعها تنساب على خدودها المتوردة من البرد ربما , أو ربما من الخجل الذي لا تستطيع التخلّص منه . تمنت أن تمتلك الشجاعة لكي تخبره بأنّه قد أستحوذ على قلبها , وانّها سوف تنتظر عودته بفارغ الصبر , لكنّها لم تفعل ذلك . خيم عليها الصمت عندما أمسك يديها وقبّل جبهتها ثم مسح دموعها . فاستسلمت للمرة الأولى , يغمرها الفرح , تاركة نفسها تذوب مثل ندفة الثلج في الرّياح , شاعرة بارتباك مفرط , مما جعلها لا تعرف كيف تصف له مشاعرها المضطربة . حاولت أن ترسم ابتسامة على شفتيها كي يتذكرها هناك بعد رحيله عنها , لكنّها ودون أن تدري ارتسم على وجهها حزن عميق , عميق جداً , حمله معه هناك طيلة العشرين سنة في معسكرات الأسرى .
    عندما عاد عبدالله من الأسر , لم يتوقع اللّقاء مع أفراد عائلته سوف يكون بهذه الصعوبة . كانت المفاجئة صاعقة عليه وعليهم , لا أحد منهم يعرف انّه مازال على قيد الحياة طيلة هذه السنين الطويلة , بالرغم من إنّهم لم يستلموا جثته كي يتأكدوا من موته , لكنّهم كذلك لم يستلموا رسالة منه ولم يسمعوا اي خبر عنه . خلال هذه السنين فاطمة لا تفعل شيئاً سوى الانتظار . رغم إنّ الانتظار قد جعلها منطوية على نفسها , تاركاً فيها حزناً عميقاً جداً , كتمته عن الآخرين . صارت تذبل أمام الجميع , يوم بعد يوم , لكنّهم لم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئا . وكلّما حاولوا أن يتحدثوا معها لتخفيف حدة الألم ازدادت انغلاقا على نفسها . حتى تمكن منها المرض والضعف , مثل شجرة سقطت أوراقها وصارت أغصاناً يابسة . كل يوم بعد الغداء تجلس بجانب النّافذة المطلّة على شجرة الزيتون . تراقب أولاد اخوانها وهم يلعبون في حديقة المنزل , ثم تجد نفسها مثل كل يوم تتلاشى في الذكريات الأليمة التي كلّما عاشتها أحست بألم يعتصر قلبها . ان الجلوس وحدها يخلق منها شخصاً آخرَ لا يمكن فهمه .
    أجتمع كل أفراد اسرته , اخوته وابناؤهم وبناتهم وأخواته وأبنائهن وبناتهن واعمامه وعماته وابناؤهم وبناتهم وأحفادهم في الصالة الكبيرة . ملتفين حوله ينصتون بلهفة لكل كلمة يقولها , بينما امتنعت فاطمة عن الحضور وبقيت تصارع اضطرابها وخوفها في غرفتها وحيدة . منصتةً لكلامه وتحاول ان تمنع نفسها من البكاء , لكن الدموع كانت تنزل رغم عنها . محتجزاً كان في أقسى المعسكرات وأشدها ظروفا . لم يكن يعرف لماذا لم يعود عند نهاية الحرب مثل أقرانه من الأسرى . وبقي محتجزا هناك مع ما تبقى من الأسرى المنسيين . سنين طويلة مضت تعرض خلالها للاضطهاد والجوع ولكل أنواع الذل . فقد الأمل بالعودة الى أهله . وعندما حضروا إخوته لاستلامه لم يستطيعوا التعرف عليه ولم يستطع أن يتعرف عليهم . ظل جامداً في مكانه يحدق في الوجوه الكثيرة المختلفة و الغريبة عنه , علّه يرى وجه أبيه الحزين أو وجه امّه المحبوبة . ليال طويلة مرّت عليه في معسكرات الأسر موحشة جداً , يحلم بهما , بلقائهما , في أن يدفن رأسه في صدر أبيه ويبكي , يبكي كثيراً , كثيراً جداً , مستسلماً لأبيه وهو يمسح بيده الحنونة على رأسه . أمّا الآن وهو يبحث في الوجوه كالتائه , تمنّى أن يرمي نفسه في حضن امّه بلهفة كبيرة , تشبه لهفة الأطفال الصغار الراكضين عائدين من المدرسة . لكنّه استسلم أخيراً لأخوته عندما تأكد المسؤلون من تطابق أسماء الأب والأم في بطاقاتهم الشخصية . ((هذه المعسكرات تدفعك ، قلبك ، عقلك وروحك إلى بعد آخر ووجود آخر. إنّها تغير تفكيرك عن الطريقة التي طالما أردت أن تشعر بها مع أحبائك ، ومن دون تردد أو سبب ، ولكنّك لا تعرف متى تكون هناك . يمكن أن يكون الأمر محرجاً للغاية عندما تحاول توضيح ذلك لشخص آخر لا يشعر بكل هذا الذل داخل نفسه ، ولا لأي شخص آخر . إنّه شعور خاص , خاص جدا ، لذلك أميل الى الانطواء والتوحد , إنّه شعور يرفعك رغم ألمه الى سماء العزلة فتكون متعال جداً ووحيداً جداً , فتشعر بأنّك سوف يقتلك الظّمأ في صحراء قاحلة )) قال بانفعال شديد ورذاذ لعابه يتطاير في الهواء , محاولة منه كي يجعل الجالسين من حوله منصتين له , أن يتخيلوا جزءاَ من عذاباته هناك , في معسكرات الأسرى . طيلة العشرين سنة التي قضاها متنقلاً من معسكر الى آخر , حتى وصل الى ذلك المكان النَّائِي , في أقصى الشمال , حيث الجوع والعطش والبرد القارص الذي يلتهم الأجساد الضعيفة تاركاً فيها أثراً لا يمكن نسيانه أبدا , أثراً لا تضمده العقاقير , لكنّها تزيده التهاباً . لم يكن يشعر إنّه جالس بين افراد عائلته . تغيروا جميعهم , الصغار كبروا , والكبار ازدادوا كبراً . ينظر إليهم الواحد تلو الآخر محاولاً أن يتعرف على واحد منهم , لكنّه عبثا يحاول . ازداد إحساسه بالغربة . ارتبك كثيرا . أحس بخيبة أمل , خاصة وإنّه لم يجد بينهم أباه ولا امّه اللّذين لم يتحملا حقيقة غيابه عنهما . أضناهما الانتظار تاركاً فيهما وجع الفراق . لقد مات أبوه أولاً , ثم بعد ثلاثة أشهر فقط ماتت امّه . بعد أن يأسا من عودته حيّاً , بعد أن بكيا كثيراً واعتصرا ألمهما دون أن يشعر بهما أحد . اختلطت دموعه مع قطرات العرق النازلة من صلعته على تجاعيد وجهه الشاحب . ضم وجهه بكفيه وراح يبكي وجسمه كله يرتجف . ثم قال بصوت متحشرج ((أكيد سوف يأتي غدا , كنت أقول لنفسي هناك , في كل معسكر جديد أُنقل اليه . أواسيها , وأصبرها على ما بلاها . وليس هناك شيء يمكنني القيام به كي اوقف هذا السيل الجارف من الأفكار المريضة التي ترسم مخاوفي وانتكاساتي هناك , كي أكون صلبا أمام كل وسائل التعذيب والترهيب التي مارسوها معنا نحن الأسرى العزل , الذين لا نملك الا أن نكون تحت رحمتهم , ان كان هناك رحمة . وكل ذلك الشر القادم الذي لا أحد يستطيع الوقوف أمامه كي يتصدى له , ويبعده عنا , عن عقولنا وأفكارنا , كي نشفى من هذا الوباء القاتل , ورغم الألم , ورغم الوحشة التي كانت تسكن قلبي , كنت أحدق كالمذهول - عندما كانوا ينقلوننا من معسكر الى آخر- للزهور الجميلة , الطيور المحلقة عاليا , المراعي المفروشة باللون الأخضر , البساتين البراقة بألوانها , اشعة الشمس الذهبية , المياه العذبة المتدفقة من أعالي الجبال الى الوديان , وكل شيء جميل وساحر في الطبيعة , وأسأل نفسي لماذا لا نكون جزءاً منها , لماذا يفصلنا الألم عن كل ما هو جميل ومتألق ولا نشعر به أبدا)).
    نفث دخان آخر رمق من سيجارته فتشكلت صورة أخرى لفاطمة وهي واقفة أمام باب الصالة الكبيرة , فيما هو هناك في الداخل منفعل بحديثه . مترددة لا تستطيع أن تتحرك خطوة واحدة , مرتبكة . ضربات قلبها سريعة جدا . وكلما تسارعت ضربات قلبها كلما ازداد الألم فيه . تتحاشى النظر الى عبدالله . تسمع صوته الذي افتقدته كل تلك السّنين مرتفعاً في الداخل لكنّها لم تستطع ان تنظر اليه . رفضت ان تدخل بالبداية , خائفة أن يصاب بخيبة أمل عندما يراها الآن , بعد كل تلك اللّيالي الطويلة من الانتظار المتعب , بعد كل تلك الشهور والسنين التي سرقت عمرها وحفرت في وجهها كل هذه التجاعيد التي لا تسطيع أن تخفيها الآن . صار وجهها شاحبا جدا , وجسمها نحيفاً . وهي الآن مريضة بالقلب , وليست بتلك الحيوية والنضارة التي كانت تشعر بها عندما ودعته فجر ذلك اليوم القارص البرودة , تاركاً لها رائحته التي تشبه رائحة الزيتون . أغمضت عينيها مستنشقة رائحته الزكية ، أخذتها الأحلام والذكريات الى تلك الّلقاءات القليلة معه , الى حديثه الشيق , الى طيبته وحنانه , الى لمسات أصابعه المرتجفة . في كل مرّة كان الارتباك يسرق منهما فرحة لقائهما معا . لكنّها رغم ذلك لم تنس كل تلك الانفعالات والمشاعر المحبوبة , التي تحسها عندما تكون جالسة قربه . دخلت بعد أن أربكها التردد والحيرة . متوترة وتشعر بجسمها كله يرتجف . أختنق صوتها عندما حاولت أن تسلم عليه . لكن لا أحد منهم التفت أو انتبه اليها . كانوا منصتين لعبدالله الذي ما زال مسترسلا بالحديث , حديث مشوش , مضطرب , وبين فترة وأخرى تخنقه العبرة ويبكي رغما عنه . عيناه مفتوحتان لكنّه لم يكن يبصر أحداً . كان مستغرقا في اعماق نفسه , محاولاً أن يتذكر كلّ شيء حدث معه خلال العشرين سنة التي أمضاها هناك . وصلت فاطمة منتصف الصالة ونظرت اليه , خرجت من فمها شهقة لم تستطع أن تكتمها وسقطت مغميا عليها . شعرت بالرعب عندما رأته . لم تتخيل ولو للحظة إنّها سوف تراه بهذه الهيئة . منكسراً , ذليلاً . تساقط شعره وصار أصلعا . وجهه شاحب جدا , أضناه مرض السكري . جسمه ضعيف جدا كأنّه هيكل عضمي . كان شخصا آخر يختلف كل الاختلاف عن ذلك الشاب المفعم بالحيوية والذي قبّلها على جبهتها ومسح دموعها عندما ودعته قبل عشرين سنة فجر ذلك اليوم القارص البرودة .
    مشت بخطوات ثقيلة جدا , وبين خطوة وأٌخرى تتوقف لتأخذ نفساً عميقاً يخفف قليلا من الثقل الذي تحسه في صدرها , ذاهبة باتجاهه , حيث كان جالساً تحت شجرة الزيتون , مصممةً على شيء ما لا يمكنها التراجع عنه . أتعبها التفكير طيلة سبعة الليالي السابقة التي مرّت عليها كأنّها دهراً كاملاً وليست اسبوعاً فقط , منذ رجوعه من الأسر ولحد الآن . أحست بدنو الموت منها . لم تعد تفكر بشيء سوى أن تكون معه , حتى وإن نسيها . أحست بالمسافة طويلة جدا لدرجة انّها اعتقدت أن لن تصل اليه أبداً . لكّنها رغم حركتها الثقيلة لم تفكر لحظة بالتراجع . اتخذت قرارها بتصميم وانتهى الأمر الآن . تذكرت وصيّة أبيه وامّه لها قبل أن يفارقا الحياة . تذكرت أبوعبدالله عندما كان يأتي لزيارتها كلّما اشتد حنينه لأبنه وكلّما أحس بحاجة ماسة للبكاء . يجلس في غرفتها ساعات طويلة يحكي لها عن طفولة عبدالله , عن أول يوم ذهب فيه عبدالله الى المدرسة , عن اعجاب معلّم مادة الرسم برسومات عبدالله والتي كان دائماً يكتب له في دفتر الرّسم (يا فنّان المستقبل) , عن أول مرّة ذهب أبوه الى المدرسة كيّ يحضر اجتماع الآباء وعندما سأل المعلم قال له (لا تسأل عن عبدالله فأنّه من الطلاب المتميزين) , عن مواقف كثيرة حدثت لعبدالله في البيت أو في الشارع أو في المدرسة أو في أماكن أخرى متفرقة , عن فرحة عبدالله عندما وافق عمه أن يزوجه فاطمة . وأخيرا يخبرها انه كل ليلة يحلم به , ولهذا يجد نفسه متعباً جدا , ولا يستطيع أن ينام نوماً طبيعياً , ثم تخنقه العبرة , فيبكي وتبكي معه حتى وان حاولت أن تمنع نفسها من البكاء . فيقوم محني الظهر ويذهب تاركاً لها غصة وذكريات تأخذ شكل أحلام وكوابيس لليالي الشتاء الطويلة . أمّا امّه فقد كانت تقول لها دائما أنّها تسّمعه يناديها أينما تذهب . وعندما تنصت اليه خاصة في مناماتها يخبرها انّه لم يمت لكنّه يتألم كثيراً , في مكان بعيد جداً , موحش وبارد , يرتجف من البرد , جائعاً , مريضاً , يطلب الصلاة والدعاء من أجله .. لم تعد ترى أمامها شيئا ًسوى الصور المزدحمة في رأسها . لكنّها رغم ذلك رأته . لا يزال غارقا في الصمت , لا يرى أحداً ولا يحسّ بخطواتها التي صارت قريبة جداً منه . الكثير من الفراشات الملونة كانت تحلق فوق رأسه , ويتساقط عليه الكثير من الورد الأحمر , وتنتشر حوله رائحة الزيتون الأسود .
    نفث آخر مرّة الدّخان بعد أن رمى عقب السيجارة فثقلت ضربات قلبه حينما ارتسمت آخر صورة لفاطمة في مخيلته . فدوت صرخة احدى بنات إخوانها ، كلّ أفراد العائلة ركضوا بسرعة , تجمعوا في حديقة المنزل , رَأوْا البنت ترتجف من الخوف لا تعرف ماذا تقول , لكنّهم عرفوا ما الذي أخافها الى هذا الحد . لقد رأت عمتها فاطمة جالسة على الأرض أمام عبدالله الجالس على الكرسي المصنوع من جريد النخل , واضعة رأسها في حجره مثل طفلة أتعبها البكاء في حجر أبيها . وعبدالله واضعا رأسه فوق رأسها , يداه ملتفتان حولها بحنان افتقدته كل تلك السّنين العجاف . ساد الصمت والخوف على الموجودين , كباراً وصغاراً . وقفوا مذهولين أمام هذا اللقاء الحزين الذي لم يتصوره أي واحد منهم منذ رجوع عبدالله من الأسر وحتى هذه اللّحظة . أخيراً تقدم أخوها الكبير بحذر شديد جداً ووضع يده فوق ظَهْرهِا بتوجس , حركها بهدوء فسقطت على الأرض ثم سقط عبدالله بجانبها . كانا ميتين ولا أحد يعرف كيف كان لقاؤهما.
    حين استيقظوا رفاقه في معسكر الأسر صباح ذلك اليوم الشتائي القارص البرودة وجدوه الحرس ميتا في زنزانته المنفردة ، وقد احترقت فروة رأسه من أوهام الذكريات واعقاب السجائر المحترقة .

    مناف بن مسلم
    العراق
يعمل...
X