أول الأمر بكاء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ابلاهموا
    أبو معاذ
    • 20-04-2008
    • 53

    أول الأمر بكاء

    إن المتأمل في فلسفة الابتلاء في حياة الفرد، يدرك يقينا أن هناك صيرورة أبدية، تسري في أوصال حياته، تقابله بها لأنه مـأمور بتشكّلِها والتناغم مع أحداثها،فتنقشع عنه فصولا يتهادى بينها. تذيقه تارة لمسة من ربيع اللذة، وأخرى لفحة من فيح الشدة،بينهما تسقط الأماني في خريف البلاء، داخل محرابه وهو يستمطر مدد السماء. هذا هو حاله وهو يطوي مسافة الدنيا تاليا قول ربه عزوجل: (لَقَدْ خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ فِ? كَبَدٍ
    أو حاديا بقول التهامي:
    طُبِعت على كدرٍ وأنت تريدُها صفواً من الأقذاء والأكدار
    ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار

    فمنذ ظهوره الأول على هذا الكون وبأول إطلالة له
    تقابله الحياة بعَرَض البكاء إيذانا ببدء معركة مكابدة مهَامِه الشقاء، ومصارعة فيافي البلاء.
    وتتم مرحلة التشبع الفطري والتحقق من غاية الاستخلاف، بتهيئة زاد الرحلة ،وربط الأرض بالسماء.

    إن السائر إلى الله وهو يمتطي جناح اليقين ،قد تعترضه مكاره تقطع طريقه ،ومغريات تعيق سيره ، لاينجيه منها إلا قوة مناعة إيمانه ،وصدق تسليمه لقضاء الله وقدره.
    فكم من سائر يخال نفسه سالكة سبيل الصادقين ،لكن ما إن رميت بأول سهم من سهام البلاء،حتى أصبحت جراحها تثغب هلعا وفزعا، وأنفاسها تتصاعد فرقا وخوفا.

    إن ما أصاب هذه النفوس اليوم، هو فقرها من زاد اليقين ،وجفاف روحها من مناجاة البساط الأقدس.
    فرسبت عند أول اختبار في سلك سبيل اليقين .

    لقد جاء هذا الابتلاء اليوم ليبرز معادن القلوب، ويصلح المرء مع نفسه ،وينصب للمخدوعين مرايا يبصرون فيها كم هو بعيد قعر الانساية في قلوبهم.

    جاء هذا الابتلاء ليطهر النفوس التي كانت تسبح في خواء المادة الجافة، ويغمسها في ينبوع روح الاخوة الصافي.
    جاء هذا الابتلاء ليدرك المزكومون أنهم مصابون بنزلة برد الغباء ،لا لقاح لها إلا في محاريب المعرفة والالتجاء.
    من جمال الابتلاء في حياة الافراد أنه يظهر جوهر الانسان ويبرز فيه معاني إيمانه بميراث النبوة،

    من جمال الابتلاء أنه ينفض عن النفس ماعلق بنفاسة معدنها من صدإ الوحشة والبعد عن رحاب خالقها،
    من جمال الابتلاء أنه يلين الاكباد ويطهرها من شوائب الغلظة والقسوة
    وكأن البلاء خيط رفيع يلامس في الانسانية كل معاني الرحمة والشفقة والايثار وبذل المعروف
    يقال:إذا أردت أن تختبر أخلاق شخص فأثر غضبه.
    هذا الجانب من الحقيقة النسبية من هذه الحكمة يكاد يكون هو الحقيقة المطلقة في اختبار البلاء الذي تمر منه البشرية ،وتكافح لدرئه بكل السبل.

    لقد أثارت هذه الجائحة غضب المجتمعات والافراد فأفرزت لنا حقائق وسلوكيات ماكانت لتظهر لولا شدة وقع الجائحة على طبائع النفوس فنضح كل إناء بما فيه.
    لقد أزاحت الجائحة الستار عن حقيقة الوعي والادراك الذي يتغنى به في كل ناد، وعرت عن غباء (ممكيج)مخبوءٍ وراء حواسيب وهواتف ذكية بعقول متعلقة بالقشور من المعرفة وبالسراب من نور الحقيقة
    إن الانسان يقتطع زمن هذه الدنيا وهو مطمئن النفس أنه على السبيل الأقوم، فيأتيه سوط الابتلاء ليعيده إلى ضرورة إعادة تشكل صحيح، وإعادة معرفة نفسه بنفسه.

    (اِنَّا خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ


    إذ لابد للنفس من هذا الامتحان، تعود فيه لصفائها ،بإصلاح ماعلق بها من أدران الغفلة والتيه في مناكب الحياة ،ولتعد لسهام القدر أترَاسَ الرضا واليقين ،بأن هذه الفانية هذا هو حالها.

    سأل رجل علي ابن طالب رضي الله عنه فقال له: صف لنا الدنيا؟
    فقال:ماذا أصف لك من دار أولها بكاء، وأوسطها عناء ،وآخرها فناء.
    فلايضير السالك والسائر ماترميه بها، إذا علم أن أول الأمر بكاء.


    • إبراهيم شكور
    • المغرب
    sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
    كان عبد الأيـام
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    #2
    شكراً للأستاذ إبراهيم شكور على هذه الخاطرة الرزينة المستوحاة من واقع البشرية اليوم. بالفعل إنه ابتلاء و لكن الكيّس من دان نفسه و اغتنمها فرصة لمراجعة الذات و إعادة ترتيب الأوراق.

    طابت أوقاتكم بكل خير

    م.ش.

    تعليق

    • ابلاهموا
      أبو معاذ
      • 20-04-2008
      • 53

      #3
      شكرا على المرور الكريم أستاذي تقبل تحياتي مشفوعة بكثير من الاجلال والاحترام
      sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
      كان عبد الأيـام

      تعليق

      • منيره الفهري
        مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
        • 21-12-2010
        • 9870

        #4
        شكرا للأستاذ الفاضل ابراهيم شكور لهذا النص القيم
        فعلا أول الأمر بكاء
        تحياتي لك أستاذنا و أهلا و سهلا بك و بمواضيعك المثرية

        تعليق

        • ابلاهموا
          أبو معاذ
          • 20-04-2008
          • 53

          #5
          استاذتي الكريمة لك كامل الشكر والاحترام على المرور الكريم بوركت سيدتي ننثر على ممشاك الورد والريحان تحياتي
          sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
          كان عبد الأيـام

          تعليق

          • جلال داود
            نائب ملتقى فنون النثر
            • 06-02-2011
            • 3893

            #6
            الاخ ابراهيم
            تحايا سامقة

            *

            فمنذ ظهوره الأول على هذا الكون وبأول إطلالة له
            تقابله الحياة بعَرَض البكاء إيذانا ببدء معركة مكابدة مهَامِه الشقاء، ومصارعة فيافي البلاء.
            وتتم مرحلة التشبع الفطري والتحقق من غاية الاستخلاف، بتهيئة زاد الرحلة ،وربط الأرض بالسماء.

            لا فض فوك
            مقال رائع يمسك بتلابيب معنى هذه الفانية

            دمتم

            تعليق

            • ابلاهموا
              أبو معاذ
              • 20-04-2008
              • 53

              #7
              تحايا عطرة أستاذ
              مرورك بين سطور هذه الخاطرة تنحني احتراما وتضوع مسكا
              دمتم
              sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
              كان عبد الأيـام

              تعليق

              • ناريمان الشريف
                مشرف قسم أدب الفنون
                • 11-12-2008
                • 3454

                #8
                نعم ، أول الأمر بكاء دلالة على كبد الحياة
                وآخره صمت جوارح وتصلب جسد وسكينة روح


                الله أكبر ما أبهى هذا النص !!
                مقالة فلسفية بقالب ديني قريب من القلب
                أحسنت ورب الكعبة
                ملاحظة / سأنقل هذا النص مذيلاً باسمك إلى مقتنياتي الخاصة
                تحية طيبة ... ناريمان
                sigpic

                الشـــهد في عنــب الخليــــل


                الحجر المتدحرج لا تنمو عليه الطحالب !!

                تعليق

                • ابلاهموا
                  أبو معاذ
                  • 20-04-2008
                  • 53

                  #9
                  السلام عليك سيدتي
                  زادني وقع حرفك عزا وتشريفا
                  الله أكبر منك أنحني لها تعظيما وتقديرا
                  ولك الامر في النقل والتصرف سيدتي
                  تحياتي واحترامي
                  sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
                  كان عبد الأيـام

                  تعليق

                  • أشجان الجهني
                    عضو الملتقى
                    • 03-09-2021
                    • 39

                    #10
                    نعم نبكي

                    عند البلاء ونعلم بأننا ضعفاء
                    ولكن لانلبث كثيراً إلا أن نقوى
                    نتعلم من بلاءنا بأن الله أكبر وأن الله أرحم وأن الله هو القوي العزيز

                    نعم ننسى
                    ولعلنا نتوب


                    تحياتي أستاذي
                    ربي ليس لي أمن ولا أمان إلا بك 🌸

                    تعليق

                    • ابلاهموا
                      أبو معاذ
                      • 20-04-2008
                      • 53

                      #11
                      الكريمة اشجان الجهني
                      اسعدني مرورك الكريم وتذكيرك إياي بهذه المسلمات اليقينية
                      من هذا الضعف ننثر رماد الفشل ومن رحمة ربنا نبني دعائم الأمل
                      شكرا لمرورك المبارك سيدتي
                      sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
                      كان عبد الأيـام

                      تعليق

                      • م.سليمان
                        مستشار في الترجمة
                        • 18-12-2010
                        • 2080

                        #12
                        يا لفخامة العربية هنا، في تناسق كلماتها وتوازن عباراتها، يا للألفاظ والمعاني، يا للإطناب الخطابي، يا له من نثر فني، وما فيه من روعة الإيقاع الفني والنغم الموسيقي !

                        هنا ينحني القارئ، الذواقة للأدب، للنص ولكاتب النص.
                        تحيتي ومحبتي، الأستاذ الفاضل ابلاهموا (إبراهيم شكور)
                        وشكرا جزيلا على هذه المقاسمة الرائعة.
                        sigpic

                        تعليق

                        • ابلاهموا
                          أبو معاذ
                          • 20-04-2008
                          • 53

                          #13
                          استاذي م.سليمان
                          كان هذا النص محاولة مني لتسلق جدران الكتابة فوقعت هذه الكلمات متناثرة هنا
                          الى أن جاء مرورك فجمع اشتاتها وزادها توقيعك شرفا
                          هي كلمات لاتقبل من الالماس الانحناء ولكن من حقكم عليها أن تنثر في ممشاكم المسك والرياحين
                          دمتم استاذي سالما معافى
                          sigpicمن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام
                          كان عبد الأيـام

                          تعليق

                          يعمل...
                          X