محاكمة خيال!
عَدَّتْ - المسكينة - نزغة قلبي جريمة، وصولة خيالى جريرة، وأخذتني بإثم لم يخرج عن مكنون النية، ولم يرقَ لما يتعدَّى وسوسات النفس،وليس ثمَّة جريمة - فيم أعلم - دون شِقّها المادي.
فهل يعدُّ براح الذهن مسرح جريمة؟ وحوار الضمير نص اعتراف؟ وفضفضات الخيال دليل إدانة؟ وحرز الجريمة محض هراء؟
وكيف يكون ممثل الادعاء خَصْماً وحَكَماً؟ ألا يعد ذلك فتقاً رهيباً في ثوب عدالتها المهتريء، يُنْبِيء عن عورةٍ وعَوار؟!
هكذا أثارتْ زوجتي الدنيا ولم تُسكنها، وأقامتْ معتور دعواها بعدما اتهمتني بالخيانة، زاعمةً بأن ثمة امرأة دونها في حياتي! وعبثاً حاولتُ - دون جدوى - تعديل الاتهام من "امرأة في حياتي" إلى "امرأة في خيالي".
وأما موجبات دعواها، وأدلة إدانتها فحافظة منسلَّة من أوراقي، مستلبة من خِزانتي، تحوي بعض يوميات، وبضع ذكريات، وحُزمة رسائل بلا تأريخ أو عنوان، إلى غير ذي اسم أو رسم...
بدا أوار غضبها يتلظى حمما في محجريها، وودتْ لو استبقتْ المحاكمة بالمِشنقة، فهدرتْ وأرغتْ وأزبدتْ... وزأرتْ بلا تعقُّل كَلَبُوءَةٍ مهيضة:
* منذ متى تمارس خيانتك، وأين، ولم، وكيف، ومن...؟
فقاطعتها معترضاً استرسالها الأهوج؛ فقد أصدرتْ حكمها بِنَزَقٍ قبل تكييف اتهامٍ، واستماع دفوعٍ، ومثول شهودٍ...
ــ حسناً! إن أردتِيها محاكمة فتحلَّى بالإنصاف، ولا يجرمنَّكِ الكيْدُ لحرق المراحل، وتلطيخ وجه العدالة.
* إن ما بحوزتي من مضبوطات واضحةٌ في مدلولها، ناصعةٌ في مضمونها لا يدع مجالا للإنكار أو الطَّعن؛ بل يجعل المحاكمة تضييعاً للوقت وتمييعاً للجُرم.
ــ كأنَّكِ لم تكتفي باستباق المحاكمة وإصدار حكمكِ؛ بل تجاوزتِ إلى تدبيج وسيلة لذبحي وسلخي؛ تشفياً لوهمٍ ركب رأسكِ، وغيظٍ ضاق به صدركِ..
* لن يفلح سعيُكَ للتشكيك في نزاهة محاكمتي مهما سحرتَ ودجَّلتَ بما حُبِيتَ من منطقٍ وبيان.
ــ إنَّ ما تدَّعِين أنَّها أدلة قاطعة، وبراهين ناصعة لزلَّاتي وخياناتي لا تعدو أن تكون بضع وريقاتٍ تضِجُّ بأحلامي وخيالاتي.
* سئمتُ إدعاءات إبداعِكَ، وخيالكَ...كمشاجبَ سابقة التجهيز تعلِّق عليها أحكام براءتِكَ، أو كأنفاق هروبٍ محفوظةِ المسار تبرِّر بها زلَّتَكَ.
ــ ما أوهام ظنونِكِ إلا محض خيالٍ! فَلِمَ تعتقدين في خيالٍ، وتُشكِّكين في خيال؟
* إنَّ حاسَّتي كامرأةٍ لا يُشقُّ لها غبار! فما عاينتُهُ من عشقٍ وغزلٍ في أوراقِكَ المشئومة لا ينِدُّ عن كاتبٍ، بل عن مُتيَّمٍ عاشق.
ــ لعلِّي صدقتُ فتماهيْتُ مع شخصية عاشقي المُبتدَعة، وأجدتُّ في نَحْتِ عاشقتي المُختَلَقة.
* إن كنتَ بحقٍّ تعدُّ ذلك صدقاً في الإبداع فقد أنفقتُ عمري معكَ في غشٍ وخداع؛ فلا أذكر أنَّني لمستُ منكَ في واقعِكَ كالذي عاينتُهُ في خيالِكَ!
ــ أياً كان ما لمسْتِ أو عاينْتِ، فما اتَّهمتِنِي به وهم خيالٍ رتقتُ به مفتوقَ منقوصاتي ومفقوداتي.
* إذاً هو تأكيدٌ لصدق حَدْسِي! وتبريرٌ لتسويغ جرمِكَ!
ــ بل وأزيدُكِ من القصيد بيتاً تجنبتُ - لبقيةٍ من مروءةٍ - إعلامَكِ إيَّاه بأنَّ أمرأة خيالي التي استعضُّتُ بها عنكِ، ولُذتُ بها منكِ استنطقها يراعي، واختلقتُها من وحي أحلامي، واصطنعتُها على عيني، ووهبتُها إقامةً في موئلِ روحي؛ حتى أَفِيءَ إليها كلما لفحتْنِي سياطُ لأْوائِكِ، وجَلَدتْني هبَّاتُ تنْغيصِكِ.
* وبعد ذا كلِّه ألا تعتقدُ بأن ما اقترفتَهُ في حقي خيانةً؟
ــ بلى؛ لأنَّ ما استقرَّ من قانون الواقع لا يصح أن ينسحبَ على زلَّاتِ النوايا، وانحرافات الخيال.
* ألا لعنَ الله خيالاً اجْترَّ علىَّ بضلاله وبالاً!
ــ دخان اللَّعن وإنْ عكَّر صفواً فلا يغيِّر واقعاً حقاً.
* فإذا كانت عِلَّةُ الجُرم بقدر ما يسبِّب من أذى وضررٍ، فقد تحققتْ لديَّ عِلة الضرر، ولحقني ما لا يخفى من الأذى.
ــ أقسم غير حانثٍ أنَّكِ من سبب لنفسهِ الأذى، وألحق بها الضرر
* لا أحسبُنِي- والله- فعلتُ!
ــ أًلم تنْبشي دون حقٍ في خِزانتي؟ وتدلفي دون إذنّ إلى قَعْر نيَّتي؟
* مارستُ حقَّي كزوجة، وأخذتُك بما أضمرتَ من جُرم.
ــ تباً لجهلِكِ! وقد منحتِ نفسَكِ ما ليس لكِ؛ فربُّ الناس لا يُؤاخِذُ بمُضمَرِ الجُرم ما لم يُسفِر بقبحه للعلن.
* فهبني كُنْتُكَ واصطنعتُ عشيقاً في خيالي! أكنت تقبلُها؟
ـــ بالطبع لا، ما كنتُ لأَقبل.
* فلٍمَ تُنكرُ عليَّ ما تبيحُ لنفسِكَ؟
ــ لأنني لم أجسر على أقتحام السرائر، ولم أهتك - بٍنَزَقي- أستار الضمائر.
* ربما نزغني - على غير وعيٍ - شيطانُ الفُضُول.
ــ بل بِمَلْكِكِ، لا غِرة ولا عُنْوة، فلا سلطانَ له عليكِ ولا سبيل.
* أما وقد كان؟
ــ تبقي تَبِعَةُ صرفِهِ بعدما استحضرتِيهِ عليكِ وحدكِ، وما أحسبُهُ منصرفاً.
* بربِّكَ لا تُضيِّقْ واسعاً.
ــ لا تتعلقي بمهتَرٍيءِ الأماني، ولا تشبَّثِي ببعيد المنال.
* ما يزال أمامنا متَّسعٌ لتطبيبِ الجرح.
ــ قد يجدي التطبيب فيبرأ الجرح؛ لكن يسيتبقى أثراً وندوباً
* تعني أنَّكَ لن تغفرها لي؟
ــ تلزمُكِ الكفارة!
* وما كفَّارتي؟
ــ تُقَاسِمِي فِيَّ شريكاً أثيراً إليَّ فتحظَي بواقعي، ويظفرُ منِّي بالخيال!!!
شقَّتْ بصرختِها جدران الكون:
* تعني ضُرَّةَ الخيال؟
ــ أجل، هو ذا!
* َألا من كفارةٍ أخرى؟
ــ رُفِعتْ الجلسةُ، ونفذَ الحكم يا امراة!
تعليق