**
رشيد ( فوزي ) مصباح
**
ليس بذاك المستوى الأخلاقي الكبير الذي يجعلني أتعلّق به ، فهو واحد من بين عشرات الأشخاص الذين كان للصّدفة وبعض الظّروف النّصيب الأوفر في معرفتهم. وللأسف فإن للواقع وما تمليه ظروف الحياة اليومية ثلث أرباع العلاقات التي تربطنا بأمثال بعض من الذين يجيدون القفز على مشاعر النّاس؛ صاحبي نافخ الكير هذا كالحلزون، يقضي جلّ أوقاته في دكّان مظلم بين الغازات السّامّة والأبخرة، غرّتني فيه ابتسامته الصّفراء كان يخفي من ورائها "وحشه المخيف"، فاخترتُه دون غيره كي ينجر لي هيكل حديد من نوع "المغلون". قدّمتُ له العربون، كتسبيقة بادي ذي بدء، لكنّني حين رأيتُه بتلك الملامح، كثعلب جائع في خمّ دجاج، قد تغيّر لون وجهه، بادرتُه دون تردّد بتقديمي للمبلغ كاملا، ظنّا منّي أن ذلك سيحفّزه، ومن باب " الخير بالخير والبادئ أكرم"، والقاعدة التي تقول [أعطوا الأجيرَ أَجْرَه قبلَ أنْ يجِفَّ عرَقُه.]. لكن وكما قال الشّاعر قديما: [ إذا أنتَ أكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ -- وَإنْ أنتَ أكرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا ] فصاحبي نافخ الكير هذا، لا توجد لديه نيّة حسنة ولا أخلاق، ولا حتّى مجرّد روح مهنيّة، وتبيّن وأنّه من النّوع الذي تربّى في الجوع والحرمان، ومن شبّ على شيء شاب عليه. وكما هو الشّائع بين الناس؛ فإن الذي تربّي في الخير لا يشعر بالجوع أربعين عاما. بيد أن الذي نشأ في الفقر والجوع والتّهميش يبقى حاملا للعدوان وحبّ الانتقام. وفي حياتنا اليومية توجد أمثلة كثيرة لأشخاص نعرفهم بسيماهم. تعرّضتُ من طرف صاحبنا، نافخ الكير هذا، للشّتم والطّرد من المحل، في حين لم يكن ذلك ضروريا ونحن في مثل هذا الشّهر الفضيل. وقابلني بوجه مغاير تماما للّذي تعوّدتُ عليه، وأنا بصدد إلقاء السّلام والمحبّة عليه، لا لشيء سوى لأنّني ربما جئته في الموعد المحدّد. وتفاجأتُ بوقاحته الزّائدة عن اللّزوم، وعبثا حاولتُ تذكيره بفضائل الصيّام ونحن في الشّهر الكريم، متبسّما في وجهه العبوس، والشرّ يتطاير من عينيه الخضراوين كعيني الحنش. يا لسذاجتي كم كنتُ مغترّا بتلك الابتسامة الصّفراء اا ولطالما أخفتْ من ورائها طبعه اللّئيم. ولكنّني أردتُ تذكيره فقط، فالذكرى تنفع المؤمنين، واعتقادًا منّي وأن [ المسلم كالشّجر يُرمى بالحَجر فيُلقِي بأطيب الثّمر ].بعض من الوجوه وللأسف، لا يمكن التأكّد من حقيقة أصحابها ولا من طبعهم اللّئيم إلاّ في مثل هكذا ظروف، والزّمن كشّاف - كما يقول المثل -.كانت تلك، الكلمة الجارحة، والوقاحة والسّلوك الشّنيع، هي التي تعبّر حقيقة عن طبعه اللّئيم، وليس القناع الذي تعوّدتُ على رؤيته وهو بتلك الابتسامة المخادعة التي تخفي من ورائها الخبث والنّفاق.انتظرتُ صاحبي نافخ الكير هذا، يوما، ويومين، بعد كل فطور... لعلّه يأتي ويقدّم الاعتذار ولم أيأس من طول الانتظار، لأنّني أحب المسامحة والصّفح الجميل.
تعليق