الإنسان العربي والسُّلطوية (مقالة تحليلية).

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسين ليشوري
    طويلب علم، مستشار أدبي.
    • 06-12-2008
    • 8016

    الإنسان العربي والسُّلطوية (مقالة تحليلية).


    الإنسان العربي والسُّلطوية (مقالة تحليلية).
    الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.

    ثم أما بعد، تدخل هذه المقالة في مشروع محاولة فهم الإنسان العربي المعاصر، وهي محاولة، أو مغامرة، شاقة ومؤلمة لما حال إليه هذا الإنسان من أحوال سيئة صيرته من باني الحضارة إلى كائن يرفل في الخسارة، كائنٍ لا يهمه سوى العلف والتلف والترف ولا يبالي بما سلف له من شأن في الحياة؛ وقد سبق لي نشر عدد من المقالات يمكن لمن أراد الاطلاع عليها أن ينظرها في قائمة مواضيعي المختلفة، وقد يسرت عليه المئُونة [المؤونة] فوضعتها له أسفل هذه المقالة(1)؛ وهذه المقالة لا تدعي الإحاطة بالموضوع المعالج وإنما هي محاولة، كغيرها من المحاولات، لفهم هذا الإنسان العربي المعاصر الغريب والعجيب في الوقت نفسه.

    وقبل الغوص في موضوعنا هنا أرى ضرورة تحليل كلمة "سلطوية" من حيث اشتقاقُها ودلالتُها، ويبدو، والله أعلم ثم علماء اللغة العربية، متنِها وصرفِها، أن لا وزن، من حيث الصرف، لهذه الكلمة المستحدثة إلا كونها مصدرا صناعيا مشتقا من "السلطة"(2) وهي الولاية على شخص، أو أشخاص، وأراها منقولة من اللغات الأعجمية الغربية "autoritarisme" الإفرنجية، أو "Authoritarianism" الإنجليزية، وتحمل معنى "أيديولوجيا" سلبيا سيئا مؤكدا.

    و"السلطوي" هو الشخص المتسلط على غيره لسبب من الأسباب المعلنة أو المكتومة، إذ يتميز "السلطوي" بنزعة استبداد كامنة في نفسه يعبر عنها من خلال تصرفاته "المعقولة" (!) ظاهرا مصدرها آلية الدفاع عن الأنا كما قررها "س.فرويد" في "آليات الدفاع عن الأنا" وهي آلية "العقلنة" (mécanismes de défense du moi = la rationalisation)، حتى تبدو تصرفات الشخص "معقولة" له أولا ثم للآخرين ثانيا.

    ولو تأنينا قليلا وبحثنا عن هذه النزعة الكامنة في أعماق النفس البشرية لوجدناها تتجلى بامتياز في شخصية فرعون كما نص عليه القرآن الكريم في الآية {(...)
    قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: #29)، ولا تقتصر هذه النزعة السلطوية في الحكام فقط، وإن كانت فيهم أظهر وأوضح، بل هي مستشرية في نفس الإنسان العربي في أي منصب كان: زوج، أب، رئيس مصلحة، مدير، رئيس فوج عمل، قائد من أي نوع كان، وهكذا...إلى ما لا نهاية من المناصب التي تتيح فرصة التسلط على الناس، حقيقيةً كانت أو وهميةً وحتى افتراضيةً.

    يبدو، والله أعلم، أن مصدر هذه النزعة الكامنة إنما هو "روح الأبوية" المتجذرة في الذكور عموما، وحتى في بعض الإناث "المستذكرات"، من الذُّكُورة وليس من التَّذكُّر الذي هو نقيض النسيان، أي المسترجلات (les femmes phalliques)، وما أكثرهن، فتجد الواحد من هؤلاء السلطويين "يلعب" (!) دور الأب المتعاقل إرضاء لشهوة التسلط الكامنة فيه لا يستيطع لها مقاومة ولا دفعا ولا تهذيبا وإن عُبِّر عن هذه النزعة عند النساء بغريزة الأمومة وليست هي وإن بُرِّرَتْ بها.

    فإن أردنا أن نحلل هذه النزعة من حيث مظاهرها "الجميلة" المعلنة علينا أن نبحث عن جذورها في "كهوف" النفس البشرية المظلمة القاتمة والتي قد يجهلها المتسلط نفسه أو ينكرها أو يجحدها أو يتمرد عليها إن واجهها أو إن جُوبِه بها.

    والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن: هل إلى علاج هذه الزعة السلبية من سبيل؟ تكون الإجابة: نعم، بالطبع، إذ لا يوجد داء إلا وجد معه الدواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، هكذا ببساطة مدهشة، المهم معرفة الداء ثم محاولة علاجه بفهمه أولا ثم بالأزم أو بالحمية أو بالكي أو بالبتر إن عجزت العلاجات الأولية اللطيفة، الهينة اللينة.


    هذا، وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى، إن كان في العمر بقية، وقراءة ممتعة لمن يهمه الموضوع طبعا.

    البُلَيْدَة، في صبيحة يوم الخميس 28 صفر 1442 الموافق 15 أكتوبر 2020.

    (2) لمزيد من البيان عن المصدر الصناعي يُفضل العودة إلى موضوعي "الشَّرْنَقِيَّةُ نَزعةٌ عصريَّةٌ" حيث بينته بقولي: "والمصدر الصناعي عجيبة من عجائب اللغة العربية الكثيرة، هذه اللغة الشريفة، يمنح الكاتب حرية كحرية الفراشة في انطلاقها ليعبر عن أفكاره وخواطره في فضاء الخاطر الرحب الفسيح؛ ولو يوظف علماء اللغة والباحثون المصدرَ الصناعيَّ لوجدوا بواسطته الأسماء العربية لمخترعات العصر ولما حاروا في ترجمة المصطلحات العلمية الحديثة ولاسيما في عالم الأفكار عموما وفي العلوم الإنسانية خصوصا ولما اضطروا إلى نقل مصطلحات غيرهم إلى العربية كما هي في لغاتهم؛ و قد درج علماء النحو، أو الصرف، على تسمية الياء التي يُصاغ منها هذا المصدر العجيب "ياءَ النسبة"، أو "ياءَ النزعة"، وأنا أميل إلى تسميتها ياءَ النزعة بدلا من ياء النسبة وأنحو في هذا منحى الباحث الجزائر الكبير الأستاذ الدكتور عبد الملك مرتاض وما ينزع إليه من تسمية هذه الياء، وأنا أفضل "النزعة" على "النسبة" ففي "النزعة" حريّة واختيار بينما "النسبة" فيها فرض وإجبار" اهـ بنصه وفصه، ولله الحمد والمنة.
    sigpic
    (رسم نور الدين محساس)
    (رسّام بجريدة المساء الجزائرية 1988)

    "القلم المعاند"
    (قلمي هذا أم هو ألمي ؟)
    "رجوت قلمي أن يكتب فأبى، مُصِرًّا، إلاَّ عِنادا
    و بالرَّفض قابل رجائي و في الصَّمت تمــادى"

يعمل...
X